الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذِكْر أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطَّلاق
ذِكْر حُكْمه
(1)
صلى الله عليه وسلم في طلاق الهازل وزائل العقل والمكره والتَّطليق في نفسه.
في «السُّنن»
(2)
: من حديث أبي هريرة: «ثلاثٌ جِدُّهنَّ جدٌّ وهزلهنَّ جدٌّ: النِّكاح والطَّلاق والرَّجعة» .
وفيها
(3)
عنه من حديث عائشة
(4)
: «إنَّ الله وضعَ عن أمَّتي الخطأ
(1)
ب: «هديه وأحكامه» .
(2)
أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039)، وفي سنده عبد الرحمن بن حبيب، قال النسائي:«منكر الحديث» ، وجهّله ابنُ القطان، ووثقه ابن حبان والحاكم، وليَّنه الذهبي وابن حجر، والحديث حسنه الترمذي، والحافظ، وصححه ابن الجارود (712)، والحاكم:(2/ 197)، وله طريق آخر ضعيف، وله شاهدان عن عُبادة وأبي ذر بسندٍ ضعيف، وعن الحسن مرسلًا، وعن عمر وعلي رضي الله عنهما موقوفًا. انظر:«نصب الراية» : (3/ 294)، و «التلخيص»:(3/ 448)، و «الإرواء» (1597).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2045)، والطحاوي في «معاني الآثار»:(3/ 95)، والدارقطني في «السنن» (4351)، من طريق عطاء بن أبي رباح عن عُبيد بن عمير عن ابن عباس، وقد أسقط الوليدُ بن مسلم عبيدًا في رواية ابن ماجه، فأُعِلَّ الحديث بالانقطاع، لكن أَثْبتَه غيرُه، فلعل عطاءً سمعه على الوجهين، أو هو من أوهام الوليد. وتفرَّد أبو حاتم فأعلَّه بالانقطاع بين الأوزاعي وعطاء، والحديث صححه ابن حبان (7219)، والحاكم:(2/ 198)، وحسَّنه النووي، وأقره ابن حجر. وله شواهد عن أبي هريرة، وأبي ذر، وابن عمر، وعقبة، وأبي بكرة، وثوبان، وأم الدرداء. ولم تخل جميعًا من مقال. وصححه الألباني بمجموع طرقه وشواهده. ينظر:«التلخيص» : (1/ 674)، و «الإرواء» (82).
(4)
كذا في الأصول الخطية وط الهندية؛ وهو سبق قلم، والصواب: ابن عباس، كما سبق في تخريجه.
والنِّسيان وما اسْتُكْرِهوا عليه».
وفيها
(1)
: عنه صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق في إغلاقٍ»
(2)
.
وصحَّ عنه أنَّه قال للمقرِّ بالزِّنا: «أبِكَ جنونٌ؟»
(3)
.
وثبت عنه أنَّه أمر به أن يُسْتَنْكَه
(4)
.
وذكر البخاريُّ في «صحيحه»
(5)
عن عليّ أنَّه قال لعمر: «ألم تعلم أنَّ
(1)
في «سنن أبي داود» (2193)، وابن ماجه (2046)، وكذا عند أحمد (26360) من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها ، وفي سنده محمد بن عبيد بن أبي صالح، ضعفه أبو حاتم وابن حجر، ووثقه ابن حبان، وقد توبع عند الدارقطني (3989) بسند ضعيف، وذكره البخاري في «التاريخ»:(1/ 172) من طريقٍ آخر عن عطاء عن عائشة، لكن قال أبو حاتم كما في «العلل»:(4/ 110): «حديث صفية أشبه» ، والحديث صححه الحاكم:(2/ 198)، وتعقَّبه الذهبي، وحسَّنه بمجموع طرقه الألباني في «الإرواء» (2047).
(2)
كذا في الأصول وط الهندية بدون قوله: «ولا عتاق» وكذا جاء في عدد من كتب المؤلف كـ «أعلام الموقعين» : (3/ 512)، و «روضة المحبين» (ص 230)، و «المدارج»:(1/ 226). وزِيدت «ولا عتاق» في طبعة الفقي والرسالة.
(3)
أخرجه البخاري (6815)، ومسلم (1691) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(4)
ثبت الأمر بالاسْتِنكاه عند البزار (4458) والطبراني في «الأوسط» (4843) بسند صحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه . وأصله عند مسلم (1695/ 22) من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه
…
».
(5)
معلَّقًا عند حديث (5269)، وقد اختلف في رفعه ووقفه، فوصله موقوفًا البغويُّ في «الجعديات» (741)، وأبو داود (4399)، من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس. وأخرجه مرفوعًا ابن ماجه (2042) وأبو داود (4401، 4402) والترمذي (1423) من طرقٍ مُعلَّة عن عليّ، وصحح المرفوعَ ابنُ خزيمة (1003)، وابنُ حبان (143)، والحاكم:(1/ 258)، ورجح الوقفَ النسائيُّ في «الكبرى»:(7307)، والدارقطنيُّ في «العلل»:(1/ 371)، وجعل له الحافظ حكمَ الرفع في «الفتح»:(12/ 121). وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وأبي قتادة وثوبان وشدَّاد رضي الله عنه .
القلمَ رُفِعَ عن ثلاثٍ: عن المجنون حتَّى يفيق، وعن الصَّبيِّ حتَّى يدرك، وعن النَّائم حتَّى يستيقظ».
وفي «الصَّحيح»
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله تجاوز لأمَّتي عمَّا حدَّثَتْ به أنفسَها ما لم تكَلَّمْ أو تعمل به» .
فتضمَّنت هذه السُّنن: أنَّ ما لم ينطق به اللِّسان من طلاقٍ أو عتاقٍ أو يمينٍ
(2)
أو نذرٍ ونحو ذلك= عفوٌ غير لازمٍ بالنِّيَّة والقصد، وهذا قول الجمهور، وفي المسألة قولان آخران:
أحدهما: التَّوقُّف فيها، قال عبد الرزاق
(3)
عن معمر: سُئل ابن سيرين عمَّن طلَّق في نفسه؟ فقال: أليس قد علم الله ما في نفسك؟ قال: بلى. قال: فلا أقول فيها شيئًا.
والثَّاني: وقوعه إذا جزم عليه، وهذا رواية أشهب عن مالك
(4)
، وروي
(1)
أخرجه البخاري (2528)، ومسلم (127) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2)
في النسخ: «أو نهي» والظاهر أنه تصحيف، ووقوعه بين «نهي» و «يمين» قريب. والمثبت من ط الهندية وغيرها، وانظر:«أعلام الموقعين» : (3/ 582 وما بعدها، 4/ 476 - 483).
(3)
في «المصنف» (11432)، وسنده صحيح.
(4)
ينظر «النوادر والزيادات» : (4/ 154).
عن الزُّهريِّ
(1)
.
وحجَّة هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات»
(2)
، وأنَّ من كَفَر في نفسه، فهو كفر، وقوله تعالى:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، وأنَّ المصرَّ على المعصية فاسقٌ مؤاخذٌ وإن لم يفعلها، وبأنَّ أعمال القلوب في الثَّواب والعقاب كأعمال الجوارح، ولهذا يُثاب على الحبِّ والبغض والموالاة والمعاداة في اللَّه، وعلى التَّوكُّل والرِّضى والعزم على الطَّاعة، ويعاقَب على الكبر والحسد والعُجْب والشَّكِّ والرِّياء وظنِّ السَّوء بالأبرياء.
ولا حجَّة في شيءٍ من هذا على وقوع الطَّلاق والعتاق بمجرَّد النِّيَّة من غير تلفُّظٍ.
أمَّا حديث «الأعمال بالنِّيَّات» فهو حجَّةٌ عليهم؛ لأنَّه أخبر فيه أنَّ العمل مع النِّيَّة هو المعتبر، لا النِّيَّة وحدها.
وأمَّا من اعتقد الكفرَ بقلبه أو شكَّ، فهذا
(3)
كافرٌ لزوال الإيمان الذي هو عَقْد القلب مع الإقرار، فإذا زال العقد الجازم كان نفس زواله كفرًا، فإنَّ الإيمان أمرٌ وجوديٌّ ثابتٌ قائمٌ بالقلب، فما لم يقم بالقلب حصل ضدُّه وهو الكفر، وهذا كالعلم والجهل إذا فُقِد العلم حصل الجهل، وكذلك كلُّ
(1)
ذكره الخطابي في «المعالم» : (3/ 248)، والبغوي في «شرح السنة»:(9/ 213)، والحافظ في «الفتح»:(9/ 394) من غير إسناد.
(2)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(3)
المطبوع: «فهو» .
نقيضين زالَ أحدُهما خلَفَه الآخر.
وأمَّا الآية فليس فيها أنَّ المحاسبةَ بما يخفيه العبدُ إلزامه بأحكامه في الشَّرع
(1)
، وإنَّما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه، ثمَّ هو مغفورٌ له أو معذَّبٌ، فأين هذا من وقوع الطَّلاق بالنِّيَّة؟!
وأمَّا أنَّ المصرَّ على المعصية فاسقٌ مؤاخَذٌ، فهذا إنَّما هو فيمن عَمِل المعصيةَ ثمَّ أصرَّ عليها، فهنا عملٌ اتَّصل به العزم على معاودته، فهذا هو المصرُّ، وأمَّا مَن عزم على المعصية ولم يعملها فهو بين أمرين: إمَّا أن لا تُكْتَب عليه، وإمَّا أن تُكتَب
(2)
له حسنة إذا تركها لله عز وجل.
وأمَّا الثَّواب والعقاب على أعمال القلوب فحقٌّ، والقرآنُ والسُّنَّة مملوءان به، ولكنَّ وقوع الطَّلاق والعتاق بالنِّيَّة من غير تلفُّظٍ أمرٌ خارجٌ عن الثَّواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإنَّ ما يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاصٍ قلبيَّةٌ يستحقُّ العقوبة عليها، كما يستحقُّه على المعاصي البدنيَّة إذ هي منافيةٌ لعبوديَّة القلب، فإنَّ الكبر والعُجْب والرِّياء وظنَّ السَّوء محرَّماتٌ على القلب، وهي أمورٌ اختياريَّةٌ يمكن اجتنابها، فيستحقُّ العقوبة على فعلها، وهي أسماءٌ لمعاني
(3)
مسمَّياتُها قائمةٌ بالقلب.
وأمَّا الطَّلاق والعتاق فاسمان لمسمَّيين قائمين باللِّسان، أو ما ناب عنه من إشارةٍ أو كتابةٍ، وليسا اسمين لما في القلب مجرَّدًا عن النُّطق.
(1)
في المطبوع: «بالشرع» خلاف النسخ.
(2)
ح، م:«يكتب» في الموضعين.
(3)
م: «لها معاني» .
وتضمَّنت
(1)
أنَّ المكلَّف إذا هَزَل بالطَّلاق أو النِّكاح أو الرَّجعة لزمه ما هَزَل به، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام الهازل معتبرٌ وإن لم يُعتَبَر كلام النَّائم والنَّاسي وزائل العقل والمُكْرَه، والفرق
(2)
بينهما: أنَّ الهازل قاصدٌ للَّفظ غير مريدٍ لحكمه، وذلك ليس إليه، فإنَّما
(3)
إلى المكلَّف الأسباب، وأمَّا ترتُّب مسبَّباتها وأحكامها فهو إلى الشَّارع قصَدَه المكلَّفُ أو لم يقصِدْه، والعبرة بقصده للسبب اختيارًا في حال عقله وتكليفه، فإذا قصَدَه رتَّبَ الشَّارعُ عليه حكمَه جَدَّ به أو هَزَل، وهذا بخلاف النَّائم والمُبَرْسَم
(4)
والمجنون والسَّكران وزائل العقل، فإنَّهم ليس لهم قصدٌ صحيحٌ، وليسوا مكلَّفين، فألفاظهم لغوٌ بمنزلة ألفاظ الطِّفل الذي لا يعقل معناها ولا يقصده.
وسرُّ المسألة: الفرق بين من قصَدَ اللَّفظ وهو عالمٌ به ولم يُرِد حكمَه، وبين مَن لم يقصد اللَّفظَ ولم يعلم معناه، فالمراتب التي اعتبرها الشَّارعُ أربعةٌ:
إحداها: أن
(5)
يقصد الحكمَ ولم
(6)
يتلفَّظ به.
(1)
متعلّق بقوله (ص 287): «فتضمنت هذه السنن» .
(2)
د: «والمفرق» .
(3)
ب: «وإنما» ، وسقطت «إلى» من ح.
(4)
مَن به مرض البِرسام ــ بكسر الباء ــ معرّب، وهو مرض معروف يصيب الدماغ فيتغير منه عقل الإنسان ويهذي. ينظر «المصباح المنير»:(1/ 41)، و «المطلع» (ص 353).
(5)
ن، ب، م:«أحدها» . وزاد في طبعة الفقي والرسالة: «أن [لا] يقصد» ، وهو خطأ وخلاف النسخ.
(6)
ن، و ط الهندية:«ولا» .
الثَّانية: أن لا يقصد اللَّفظَ ولا حكمَه.
الثَّالثة: أن يقصد اللَّفظَ دون حكمِه.
الرَّابعة: أن يقصد اللَّفظَ والحكَم.
فالأوليان لغوٌ، والآخرتان معتبرتان
(1)
. هذا الذي استفيد من مجموع نصوصه وأحكامه، وعلى هذا فكلام المكره كلُّه لغوٌ لا عبرةَ به، وقد دلَّ القرآنُ على أنَّ مَن أُكْرِه على التَّكلُّم بكلمة الكفر لا يكفر، ومَن أُكْرِه على الإسلام لا يصير به مسلمًا، ودلَّت السُّنَّة على أنَّ الله سبحانه تجاوز عن المكره فلم يؤاخِذْه بما أكره عليه، وهذا يراد به كلامه قطعًا.
وأمَّا أفعاله، ففيها تفصيلٌ، فما أبيح منها بالإكراه فهو متجاوَزٌ عنه كالأكل في نهار رمضان، والعمل في الصَّلاة، ولبس المخيط في الإحرام، ونحو ذلك. وما لا يباح بالإكراه فهو مؤاخذٌ به كقتل المعصوم وإتلاف ماله. وما اخْتُلف فيه كشرب الخمر والزِّنا والسَّرقة هل يُحَدُّ به أو لا؟ فللاختلاف
(2)
هل يباح ذلك بالإكراه أو لا؟ فمَن لم يبحه حدَّه به، ومن أباحه بالإكراه لم يحدَّه، وفيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام
(3)
أحمد
(4)
.
والفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه: أنَّ الأفعال إذا وقعت لم ترتفع مفسدتُها، بل مفسدتها معها، بخلاف الأقوال فإنَّها يمكن إلغاؤها وجعلها
(1)
ز، ب:«والأخريان معتبران» ، وط الهندية:«والاخيران معتبران» .
(2)
ح، ب:«فالاختلاف» . وفي هامش م: «لعله: فكالاختلاف» .
(3)
ليست في ح، م، ن، ط الهندية.
(4)
ينظر «الفروع» : (10/ 61)، و «المبدع»:(9/ 65).
بمنزلة أقوال النَّائم والمجنون، فمفسدة الفعل الذي لا يباح بالإكراه ثابتةٌ بخلاف مفسدة القول، فإنَّها إنَّما تثبت
(1)
إذا كان قائله عالمًا به مختارًا له.
وقد روى وكيعٌ، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عُتَيبة
(2)
، عن خيثمة بن عبد الرحمن، قال: قالت امرأةٌ لزوجها: سمِّني فسمَّاها الظَّبية
(3)
، فقالت: ما قلتَ شيئًا، قال: فهاتِ ما أسمِّيكِ به، قالت: سمِّني خليَّة طالق
(4)
، قال: فأنتِ خليَّةٌ طالقٌ، فأتت عمر بن الخطَّاب فقالت: إنَّ زوجي طلَّقني، فجاء زوجها فقصَّ عليه القصَّة، فأوجعَ عمرُ رأسَها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها
(5)
.
فهذا الحكم من أمير المؤمنين بعدم الوقوع لمَّا لم يقصد الزَّوجُ اللَّفظَ الذي يقع به الطَّلاق، بل قصد لفظًا لا يريد به الطَّلاق، فهو كما لو قال عن أمَتِه
(6)
أو غلامه: إنِّها حرَّةٌ. وأراد أنَّها ليست بفاجرةٍ، أو قال لامرأته: أنتِ مسرَّحةٌ أو سرَّحتك. ومراده تسريح الشَّعر ونحو ذلك، فهذا لا يقع عتقُه ولا
(1)
د: «ثبتت» .
(2)
ح: «سفيان بن عيينة» ، تصحيف.
(3)
تصحفت في ز، ص، م، ن:«الطيبة» ، وهي على الصواب في ب، د، ح ومصادر الحديث الآتية.
(4)
كذا في جميع النسخ و «المحلى» : «طالق» بالرفع، وفي ط الهندية وغيرها «طالقًا» وهو الوجه إلا إن حملناه على لغة ربيعة.
(5)
أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 200) والمؤلف صادر عنه، وأخرجه سعيد بن منصور (1192)، وأبو عبيد في «غريب الحديث»:(3/ 379)، ومن طريقه البيهقي:(7/ 341)، وفي إسناده ابن أبي ليلى متكلم فيه.
(6)
ن، ط الهندية: «قال لأمته
…
».
طلاقُه بينه وبين الله تعالى، وإن قامت قرينةٌ أو تصادقا في الحكم لم يقع به.
فإن قيل: فهذا من أيِّ الأقسام؟ فإنَّكم جعلتم المراتب أربعةً، ومعلومٌ أنَّ هذا ليس بمكْرَهٍ، ولا زائل العقل، ولا هازلٍ، ولا قاصدٍ لحكم اللَّفظ؟
قيل: هذا متكلِّمٌ باللَّفظ مريدٌ به
(1)
أحدَ معنييه، فلزمه حكم ما أراده بلفظه دون ما لم يرده، فلا يُلزَم بما لم يرده باللَّفظ إذا كان صالحًا لما أراده، وقد استحلف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رُكانة لمَّا طلَّق امرأته البتَّة فقال:«ما أردْتَ؟» . قال: واحدةً. قال: «آللَّه» . قال: آللَّه. قال: «هو ما أردت»
(2)
.
فقبل منه نيَّته في اللَّفظ المحتمل. وقد قال مالك: إذا قال: أنتِ طالقٌ البتَّة، وهو يريد أن يحلف على شيءٍ، ثمَّ بدا له فترك اليمين فليست طالقًا؛ لأنَّه لم يرد أن يطلِّقها
(3)
، وبهذا أفتى اللَّيث بن سعدٍ
(4)
والإمام أحمد، حتَّى
(1)
ب: «يريد» .
(2)
أخرجه أبو داود (2208)، والترمذي (1177)، وابن ماجه (2051)، من طريق الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده، وفيه أربع علل: جهالة علي بن يزيد، وضعف عبد الله بن علي، والزبيرِ بن سعيد، والاضطراب كما نقله الترمذي عن البخاري. وله طريق آخر عند أبي داود (2206، 2207)، وسنده ضعيف؛ لجهالة نافع بن عجير. وقد ضعف الحديثَ أحمدُ وقال:«طرقه كلها ضعيفة» ، والبخاريُّ، وابن حزم في «المحلى»:(10/ 191)، وابن تيمية في «الفتاوى»:(32/ 311)، والمصنف كما سيأتي، وفي «تهذيب السنن»:(1/ 526 - 527)، والشوكاني في «النيل»:(7/ 11)، والألباني في «الإرواء» (2063)، وصححه ابن حبان (1321)، والحاكم:(2/ 199)، والنووي في «شرح مسلم»:(10/ 71).
(3)
ذكره في «المدونة» : (2/ 292).
(4)
ذكره ابن حزم في «المحلى» : (10/ 200) عنهما، والمؤلف صادر عنه. وينظر «أعلام الموقعين»:(3/ 528 - 529).
إنَّ أحمد في روايةٍ عنه يقبل منه ذلك في الحكم.
وهذه المسألة لها ثلاث صورٍ:
إحداها
(1)
: أن يرجع عن يمينه ولم يكن التَّنجيز مراده، فهذا
(2)
لا تَطْلُق عليه في الحال ولا يكون حالفًا.
الثَّانية: أن يكون مقصوده اليمين لا التَّنجيز، فيقول: أنت طالقٌ. ومقصوده: إن كلَّمْتِ زيدًا.
الثَّالثة: أن يكون مقصوده اليمين من أوَّل كلامه، ثمَّ يرجع عن اليمين في أثناء الكلام، ويجعل الطَّلاق منجَّزًا، فهذا لا يقع به؛ لأنَّه لم ينو به الإيقاع، وإنَّما نوى به التَّعليق، فكان قاصرًا عن وقوع المنجَّز، فإذا نوى التَّنجيزَ بعد ذلك لم يكن قد أتى في التَّنجيز بغير النِّيَّة المجرَّدة، وهذا قول أصحاب أحمد
(3)
. وقد قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
واللَّغو نوعان:
أحدهما: أن يحلف على الشَّيء يظنُّه كما حلف عليه، فتبيَّن بخلافه.
الثَّاني: أن تجري اليمينُ على لسانه من غير قصدٍ للحلف كـ «لا واللَّه» ، و «بلى والله» في أثناء كلامه، وكلاهما رفعَ الله المؤاخذةَ به لعدم قصد
(1)
ز، ح، ب، م:«أحدها» .
(2)
المطبوع: «فهذه» .
(3)
ينظر «المحرر» : (2/ 62، 73)، و «شرح الزركشي»:(5/ 417 - 418).
الحالف إلى عقد اليمين وحقيقتها. وهذا تشريعٌ منه سبحانه لعباده أن لا يرتِّبوا الأحكامَ على الألفاظ التي لم يقصد المتكلِّمُ بها حقائقَها ومعانِيهَا، وهذا غير الهازل حقيقةً وحكمًا.
وقد أفتى الصَّحابة بعدم وقوع طلاق المكره وإقراره، فصحَّ عن عمر أنَّه قال: ليس الرَّجل بأمينٍ على نفسه إذا أجَعْته
(1)
أو ضربته أو أوثقته
(2)
.
وصحَّ عنه أنَّ رجلًا تدلَّى بحبلٍ ليشتار
(3)
عسلًا، فأتت امرأتُه فقالت: لأقطعنَّ الحبل أو لتطلِّقنِّي، فناشدها الله فأبت فطلَّقها، فأتى عمرَ فذكر ذلك له، فقال له: ارجع إلى امرأتك، فإنَّ هذا ليس بطلاقٍ
(4)
.
وكان عليٌّ لا يجيز طلاق المُكْره
(5)
.
(1)
في ن والمطبوع: «أوجعته» .
(2)
أخرجه عبد الرزاق (11424)، وابن أبي شيبة (28891)، والبيهقي في «الكبرى»:(7/ 358) من طريق علي بن حنظلة عن أبيه عن عمر، وصحح سنده الحافظ في «الفتح»:(12/ 314).
(3)
يشتار العسل: يجنيه.
(4)
أخرجه البيهقي في «الكبرى» : (7/ 357) من طريق عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم، عن أبيه. وهو ضعيف؛ عبد الملك ضعيف، وأبوه مقبول، ولم يدرك عمر، ولذا أَعلَّه ابنُ الملقن في «البدر المنير»:(8/ 117)، والحافظ في «التلخيص»:(3/ 468) بالانقطاع.
(5)
أخرجه عبد الرزاق (11414)، وابن أبي شيبة (18331)، والبيهقي في «الكبرى»:(7/ 357)، من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عنه. وسنده ضعيف؛ إذ لم يصح للحسن سماعٌ من علي رضي الله عنه .
وقال ثابت الأعرج: سألت ابنَ عمر وابنَ الزبير عن طلاق المكره، فقالا جميعًا: ليس بشيءٍ
(1)
.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه الغازِ
(2)
بن جَبَلة، عن صفوان بن عَمرو
(3)
الأصم، عن رجلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ رجلًا جلست امرأتُه على صدره، وجعلت السِّكِّين على حلقه، وقالت له: طلِّقني أو لأذبحنَّك، فناشدها اللهَ فأبَتْ، فطلَّقها ثلاثًا، فذكر ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:«لا قيلولة في الطَّلاق» رواه سعيد بن منصورٍ في «سننه»
(4)
.
(1)
ذكره البخاري تعليقًا عند حديث (6940)، ووصله عبد الرزاق (11411)، والحميدي في «جامعه» ــ كما حكاه في «الفتح»:(12/ 314) ــ والبيهقيُّ في «الكبرى» من طريق عمرو بن دينار عن ثابت الأعرج عنهما، وسنده صحيح.
(2)
كذا في النسخ وط الهندية بزاي مكسورة في آخره، وبه قيّده ابنُ ناصر الدين في «توضيح المشتبه»:(6/ 405) قال: وهو كقاضٍ. وهو كذلك في كتب الرجال، وغُيّر في ط الفقي والرسالة إلى «الغازي» بالياء.
(3)
كذا في عامة الأصول، وفي ن:«عمر» ، ووقع في اسمه اضطراب كثير، ينظر «التاريخ الكبير»:(4/ 306) والتعليق عليه، و «الجرح والتعديل»:(4/ 422)، ووقع في «سنن سعيد بن منصور»:«صفوان بن عمران» ، وفي «المحلى»:«بن عمرو» والمؤلف صادر عنه. وغيّر في ط الفقي والرسالة إلى: «بن عمران» .
(4)
(1130)، والعقيلي في «الضعفاء»:(3/ 125)، من طريق صفوان الأصم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في وصله وإرساله، ومداره على الغاز بن جبلة وصفوان الأصم، وحديثهما منكر كما قال البخاري، وضعف الحديث أيضًا عبد الحق، وابن الجوزي، وابن القطان، وابن عبد الهادي، والمصنِّف هنا، وذَكَر علله. ينظر:«العلل المتناهية» : (2/ 159)، و «التنقيح»:(4/ 412)، و «بيان الوهم والإيهام»:(2/ 56).
وروى عطاء بن عجلان، عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ الطَّلاق جائزٌ إلا طلاق المعتوه المغلوب
(1)
على عقله»
(2)
.
وروى سعيد بن منصورٍ
(3)
: حدَّثنا فَرَج بن فَضالة، حدَّثني عمرو بن شراحيل المعافري، أنَّ امرأةً استلَّت سيفًا فوضعته على بطن زوجها وقالت: والله لأنفذنَّك أو لتطلِّقنِّي، فطلَّقها ثلاثًا، فرفع
(4)
ذلك إلى عمر بن الخطَّاب فأمضى طلاقها.
وقال عليٌّ: كلُّ الطَّلاق جائزٌ إلا طلاق المعتوه
(5)
.
قيل: أمَّا خبر الغازِ بن جَبَلة ففيه ثلاث عللٍ: أحدها: ضعف صفوان بن
(1)
في جميع النسخ: «المغلوب» بدون واو العطف، وفي المطبوع:«والمغلوب» وهو الذي عند ابن عدي والضياء، ووقع في «المحلى»:(8/ 333) كما في النسخ والمؤلف صادر عنه.
(2)
أخرجه ابن عدي في «الكامل» : (7/ 78)، والضياء في «المنتقى» (950) من طريق عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس. وأخرجه الترمذي (1191) من مسند أبي هريرة، وقال:«هذا حديث غريب، وعطاء ضعيف ذاهب الحديث» ، وبه أعله الحافظ في «الفتح»:(9/ 393)، والمصنف هنا، والمحفوظ وقفُه على علي رضي الله عنه ، كما سيأتي.
(3)
(1129)، وعنه ابن حزم في «المحلى»:(10/ 203) معلَّقًا، وسنده ضعيف؛ لما أعله به المصنف هنا.
(4)
ح، م، وهامش ص:«فرجع» .
(5)
علَّقه عنه البخاري جازمًا به، ووصله سعيد بن منصور (1113، 1115)، والبيهقي في «الكبرى»:(7/ 359) عن أصحاب الأعمش، عنه، عن النخعي، عن عابس بن ربيعة، عن علي موقوفًا. وسنده صحيح. وانظر:«الإرواء» (2042).
عمرٍو، والثَّانية: لِيْن الغازِ بن جَبَلة، والثَّالثة: تدليس بقيَّة الرَّاوي عنه، ومثل هذا لا يحتجُّ به؛ قال أبو محمد ابن حزم
(1)
: وهذا خبرٌ في غاية السُّقوط.
وأمَّا حديث ابن عبَّاسٍ: «كلُّ الطَّلاق جائزٌ» فهو من رواية عطاء بن عجلان، وضَعْفه مشهورٌ، وقد رُمي بالكذب. قال ابنُ حزم
(2)
: وهذا الخبر شرٌّ من الأوَّل.
وأمَّا أثر عمر فالصَّحيح عنه خلافه، كما تقدَّم
(3)
، ولا نعلم معاصرة المعافريّ لعمر، وفَرَج بن فَضالة فيه ضعفٌ.
وأمَّا أثر عليّ، فالَّذي رواه عنه النَّاس أنَّه كان لا يجيز طلاقَ المُكْرَه، وروى عبد الرَّحمن بن مهديٍّ، عن حمَّاد بن سلمة، عن حُميد، عن الحسن: أنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ كان لا يجيز طلاق المكره
(4)
. فإن صحَّ عنه ما ذكرتم فهو عامٌّ مخصوصٌ بهذا.
(1)
في «المحلى» : (10/ 203). ووقع في ب: «قال الوزير الحافظ أبو محمد بن حزم رحمه الله» .
(2)
«المحلى» : (10/ 203).
(3)
(ص 295).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (18331) من طريق وكيع عن حماد بن سلمة به، وذكره ابن حزم في «المحلى»:(10/ 202) من طريق ابن مهدي عن حماد به.
فصل
وأمَّا طلاق السَّكران، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فجعل سبحانه قولَ السَّكران غير معتبرٍ؛ لأنَّه لا يعلم ما يقول. وصحَّ عنه أنَّه أمرَ بالمقرِّ بالزِّنا أن يُسْتَنْكَه
(1)
، ليعتبر قوله الذي أقرَّ به أو يلغى.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(2)
في قصَّة حمزة لمَّا عقَر بعيرَي عليٍّ فجاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقف عليه يلومه، فصعَّد فيه النَّظرَ وصوَّبَه وهو سكران ثمَّ قال: هل أنتم إلا عبيدٌ لأبي، فنكَصَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على عقبيه. وهذا القول لو قاله غير سكران لكان رِدَّةً وكفرًا، ولم يؤاخذ بذلك حمزة.
وصحَّ عن عثمان بن عفَّان أنَّه قال: «ليس لمجنونٍ ولا سكران طلاقٌ» . رواه ابن أبي شيبة
(3)
، عن وكيعٍ، عن ابن أبي ذئبٍ، عن الزُّهريِّ، عن أبان بن عثمان، عن أبيه.
وقال عطاء: طلاق السَّكران لا يجوز
(4)
. وقال ابن طاوس عن أبيه:
(1)
كما في حديث بريدة بن الخصيب، وقد سبق تخريجه (ص 286).
(2)
(2375، 3091، 4003)، وكذا مسلم (1979) من حديث علي رضي الله عنه.
(3)
(18209، 18275) وسنده صحيح، وقد علقه عنه البخاري، جازمًا به. انظر:«الفتح» : (9/ 391).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (18260، 18278) من طريق حجاج بن أرطاة ورباح بن أبي معروف عنه. وسنده صحيح؛ وعزاه إليه البيهقي في «الكبرى» : (7/ 359)؛ لكن المشهور عنه القول بوقوع طلاقه، كما عند عبد الرزاق (12296) عن ابن جريج عنه، وعزاه إليه ابن المنذر في «الأوسط»:(9/ 250)، و «الإشراف»:(5/ 226)، والبغوي في «شرح السنة»:(9/ 223)، والحافظ في «الدراية»:(2/ 70).
طلاق السَّكران لا يجوز
(1)
. وقال القاسم بن محمَّدٍ: لا يجوز طلاقه
(2)
.
وصحَّ عن عمر بن عبد العزيز أنَّه أُتي بسكران طلَّق، فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو: لقد طلَّقها وهو لا يعقل، فحلف، فردَّ إليه امرأته، وضربه الحدَّ
(3)
.
وهو مذهب يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ، وحُمَيد بن عبد الرحمن، وربيعة، واللَّيث بن سعدٍ، وعبيد الله
(4)
بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثورٍ، والشَّافعيِّ في أحد قوليه، اختاره
(5)
المزني وغيره من الشَّافعيَّة
(6)
، ومذهب أحمد في إحدى الرِّوايات عنه، وهي التي استقرَّ عليها مذهبُه،
(1)
أخرجه عبد الرزاق (12309) عن معمر عن ابن طاوس عنه، وسنده صحيح، ورواه ابن أبي شيبة (18279) من وجه آخر عنه.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (18277)، وسعيد بن منصور (1111) بسند صحيح من طريق هشيم عن يحيى بن سعيد عنه، وعزاه إليه ابن حزم في «المحلى» (10/ 210) وغيره. وأخرجه عبد الرزاق (12307) بسند ضعيف، فيه راو مبهم.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور (1110) وكذا ذكره ابن حزم في «المحلى» (10/ 210) بسند صحيح من طريق هشيم عن يحيى بن سعيد عنه. وقد كان عمر يجيز طلاق السكران، حتى حدثه أبان بحديث عثمان فرجع، كما عند ابن أبي شيبة (18275).
(4)
د، م:«عبد الله» ، والمثبت من بقية النسخ و «المحلى» ، وهو عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري قاضي البصرة وعالمها (ت 168)، ترجمته في «الجرح والتعديل»:(5/ 312)، و «تاريخ الإسلام»:(4/ 449).
(5)
ب، وط الهندية:«واختاره» .
(6)
«مختصر المزني» : (8/ 306)، وينظر «المحلى»:(8/ 49، 10/ 210).
وصرَّح برجوعه إليها، فقال في رواية أبي طالب
(1)
: الذي لا يأمر بالطَّلاق إنَّما أتى خَصلةً واحدةً، والَّذي يأمر بالطَّلاق قد أتى خَصلتين؛ حرَّمها عليه، وأحلَّها لغيره، فهذا خيرٌ من هذا، وأنا أتَّقي جميعًا.
وقال في رواية الميموني: قد كنتُ أقول إنَّ طلاق السَّكران يجوز، حتَّى تبيَّنتُه، فغلَبَ عليَّ أنَّه لا يجوز طلاقه؛ لأنَّه لو أقرَّ لم يلزمه، ولو باع لم يَجُزْ
(2)
بيعُه، قال: وألْزِمُه الجنايةَ، وما كان من غير ذلك، فلا يلزمه.
قال أبو بكر عبد العزيز
(3)
: وبهذا أقول.
وهذا مذهب أهل الظَّاهر كلِّهم
(4)
، واختاره من الحنفيَّة أبو جعفرٍ الطَّحاويُّ
(5)
، وأبو الحسن الكرخيُّ
(6)
(7)
.
(1)
«أبي طالب» بياض في ص، م وكُتِب: كذا، وساقطة من ح، ب، ن، وط الهندية، وفي ز بدلًا منها «فصل» ! والمثبت من د، وذكره المؤلف في «الإغاثة» (ص 26)، و «أعلام الموقعين»:(4/ 474).
(2)
ز: «لم نلزمه
…
لم نُجِز
…
».
(3)
في «زاد المسافر» : (3/ 291).
(4)
ينظر «المحلى» : (8/ 49، 10/ 210).
(5)
ينظر «مختصر اختلاف العلماء» : (2/ 431) للجصاص.
(6)
ينظر «المبسوط» : (6/ 315)، و «بدائع الصنائع»:(3/ 99).
(7)
وذكر المؤلف في «إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان» (ص 27) أنه اختيار إمام الحرمين وشيخ الإسلام ابن تيمية. ينظر «مجموع الفتاوى» : (14/ 116 - 117)، و (33/ 102 - 109)، وذكر في «أعلام الموقعين»:(4/ 474) أنه اختيار أبي يوسف وزفر.
والَّذين أوقعوه لهم سبعة مآخذ:
أحدها: أنَّه مكلَّفٌ، ولهذا يؤاخذ بجناياته.
والثَّاني: أنَّ إيقاعَ الطَّلاق عقوبةٌ له.
والثَّالث: أنَّ ترتُّب الطَّلاق على التَّطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها، فلا يؤثِّر فيه السُّكْر.
والرَّابع: أنَّ الصَّحابة أقاموه مُقام الصَّاحي في كلامه، فإنَّهم قالوا: إذا شَرِب سَكِر، وإذا سَكِر هذى، وإذا هذى افترى، وحدُّ المفتري ثمانون
(1)
.
والخامس: حديث: «لا قيلولة في الطَّلاق» ، وقد تقدَّم.
والسَّادس: حديث: «كلُّ طلاقٍ جائزٌ إلا طلاق المعتوه» ، وقد تقدَّم.
والسَّابع: أنَّ الصَّحابة أوقعوا عليه الطَّلاق، فرواه أبو عبيد عن عمر،
(1)
نُسب هذا إلى علي وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما -، أما أثر علي فضعيف كما سيذكره المصنِّف، وقد أخرجه مالك (3117)، وعنه الشافعي في «المسند» (ص 286) و «الأم»:(7/ 448)، وعبد الرزاق (13542) أن عليًّا أشار على عمر به، وسنده منقطع، ووصله النسائي في «الكبرى» (5270)، والدارقطني في «السنن» (3321، 3344) والحاكم: (4/ 375 - 376) عن ابن عباس، من طريقين معلولين بالجهالة، وهو معارضٌ بما ثبت عنه في «مسلم» (1707). انظر:«التلخيص» : (4/ 209)، و «الإرواء» (2378).
وأما عبد الرحمن فلم يثبت عنه بهذا السياق، بل الثابت عنه في «صحيح مسلم» (1706) من حديث أنس: أن عمر استشار في الخمر، فقال عبد الرحمن:«أرى أن تجعلها كأخف الحدود، فجلد عمرُ ثمانين» .
ومعاوية، ورواه غيره عن ابن عبَّاسٍ
(1)
. قال أبو عبيد
(2)
: حدَّثنا يزيد بن هارون، عن جَرير بن حازمٍ، عن الزبير بن الخرِّيت
(3)
، عن أبي لبيدٍ، أنَّ رجلًا طلَّق امرأته وهو سكران، فرُفِع إلى عمر بن الخطَّاب، وشهدَ عليه أربعُ نسوةٍ ففرَّق عمرُ بينهما.
قال
(4)
: وحدَّثنا ابن أبي مريم، عن ناجية بن بكر
(5)
، عن جعفر بن ربيعة عن ابن شهابٍ، عن سعيد بن المسيَّب: أنَّ معاوية أجاز طلاق السَّكران.
(1)
أما أثرا عمر ومعاوية فسيأتي تخريجهما، وأما أثر ابن عباس فقد سبق تخريجه قريبًا.
(2)
ذكره ابن حزم في «المحلى» : (9/ 397، 10/ 209) عن أبي عبيد معلقًا، وأخرجه ابن أبي شيبة (23137) بنحوه من طريق وكيع عن جرير به. وسنده منقطع؛ أبو لبيد لم يلق عمر. انظر:«تهذيب الكمال» : (24/ 251).
(3)
في المطبوع: «الحارث» ، وهو تصحيف!
(4)
يعني أبا عبيد، ذكره ابن حزم في «المحلى» (10/ 209)، وأخرجه البيهقي في «الكبرى»:(7/ 359) من طريق الزهري، عن رجاء بن حيوة، من كتاب معاوية لعمر بن عبد العزيز. وإسناده صحيح.
(5)
كذا في الأصول وط الهندية، ووقع في «المحلى»:(10/ 209): «ناجية بن أبي بكر» ، وغُيِّر في ط الفقي والرسالة إلى:«نافع بن يزيد» دون إشارة؛ لأنهم رأوا أن ابن أبي مريم مشهور بالرواية عن نافع بن يزيد فظنوا ما وقع في الأصول تحريفًا. والصواب ما وقع في الأصول، ولم أجد له ترجمة غير أن الفسوي في «المعرفة والتاريخ»:(1/ 162) ذكر أن يحيى بن بكير (بعد أن سُئل عن جماعة منهم ناجية بن بكر) قال فيهم: «لا بأس بهم، من أهل الورع» . ووجدت ثلاثة قد رووا عنه، وهم: ابن وهب (كما في «تهذيب الكمال»: 16/ 280)، وعُفير (كما في «الولاة»: 1/ 222 للكندي)، وابن أبي مريم (كما في «المحلى»: 10/ 209).
فهذا مجموع
(1)
ما احتجُّوا به، وليس في شيءٍ منه حجَّةٌ أصلًا.
فأمَّا المأخذ الأوَّل، وهو أنَّه مكلَّفٌ، فباطلٌ، إذ الإجماع منعقدٌ على أنَّ شرط التَّكليف العقل، ومَن لا يعقل ما يقول فليس بمكلَّفٍ.
وأيضًا فلو كان مكلَّفًا، لوجب أن يقع طلاقه إذا كان مكرَهًا على شربها، أو غير عالمٍ بأنَّها خمرٌ، وهم لا يقولون به.
وأمَّا خطابه، فيجب حمله على الذي يعقل الخطاب، أو على الصَّاحي، وأنَّه نهي عن السُّكر إذا أراد الصَّلاة، وأمَّا مَن لا يعقل فلا يُؤمر ولا يُنهى.
وأمَّا إلزامه بجناياته، فمحلُّ نزاعٍ لا محلُّ وفاقٍ، فقال عثمان البتَّيُّ
(2)
: لا يلزمه عقدٌ ولا بيعٌ ولا حدٌّ، إلا حدَّ الخمر فقط، وهذا إحدى الرِّوايتين عن أحمد أنَّه كالمجنون في كلِّ فعلٍ يُعتبر له العقلُ
(3)
.
والَّذين اعتبروا أفعاله دون أقواله، فرَّقوا بفرقين، أحدهما: أنَّ إسقاط أفعاله ذريعةٌ إلى تعطيل القصاص، إذ كلُّ من أراد قتل غيره أو الزِّنا أو السَّرقة أو الحراب، سكر وفعل ذلك، فيقام عليه الحدُّ إذا أتى جرمًا واحدًا، فإذا تضاعف جرمُه بالسُّكْر كيف يسقط عنه الحدُّ؟ هذا ممَّا تأباه قواعد الشَّريعة وأصولها، وقال أحمد
(4)
منكرًا على مَن قال ذلك: وبعضُ مَن يرى طلاق
(1)
ط الفقي والرسالة: «هذا جميع» خلاف النسخ.
(2)
ينظر «المحلى» : (10/ 210)، وعنه في «البناية شرح الهداية»:(5/ 300).
(3)
ينظر «مسائل الكوسج» (3303)، و «المغني»:(10/ 348).
(4)
في رواية أبي الحارث، كما في «زاد المسافر»:(3/ 290 - 291) لغلام الخلال.
السَّكران ليس بجائزٍ يزعم أنَّ سكرانًا لو جنى جنايةً، أو أتى حدًّا، أو ترك الصِّيام أو الصَّلاة، كان بمنزلة المُبَرْسَم والمجنون، هذا كلام سوء
(1)
.
والفرق الثَّاني: أنَّ إلغاء أقواله لا يتضمَّن مفسدةً؛ لأنَّ الكلام
(2)
المجرَّد من غير العاقل لا مفسدةَ فيه بخلاف الأفعال، فإنَّ مفاسدها لا يمكن إلغاؤها إذا وقعت، فإلغاء أفعاله ضررٌ محضٌ وفسادٌ منتشرٌ بخلاف أقواله، فإن صحَّ هذان الفَرْقان بطل الإلحاق، وإن لم يصحَّا كانت التَّسوية بين أقواله وأفعاله متعيِّنةً.
وأمَّا المأخذ الثَّاني: وهو أنَّ إيقاع الطَّلاق به عقوبةٌ، ففي غاية الضَّعف، فإنَّ الحدَّ يكفيه عقوبةً، وقد حصل رضى الله سبحانه من هذه العقوبة بالحدِّ، ولا عهد لنا في الشَّريعة بالعقوبة بالطَّلاق، والتَّفريق بين الزَّوجين.
وأمَّا المأخذ الثَّالث: أنَّ إيقاع الطَّلاق به من ربط الأحكام بالأسباب، ففي غاية الفساد والسُّقوط، فإنَّ هذا يوجبُ إيقاعَ الطَّلاق بمن سكر مكرهًا، أو جاهلًا بأنَّها خمرٌ، وبالمجنون والمُبَرْسَم، بل وبالنَّائم. ثمَّ يقال: وهل ثبت لكم أنَّ طلاق السَّكران سببٌ حتَّى يُربط الحكمُ به، وهل النِّزاع إلا في ذلك؟
وأمَّا المأخذ الرَّابع: وهو أنَّ الصَّحابة جعلوه كالصَّاحي في قولهم: إذا شَرِب سَكِر، وإذا سَكِر هذَى. فهو خبرٌ لا يصحُّ البتَّة.
(1)
كذا في د، ص، ب، وفي ح، م، ن، ط الهندية:«سوء أف» وإن كان رسمها «سواف» ، وفي «زاد المسافر»:«سوء أف أو هذا كلام سوء» .
(2)
د، ح، م:«القول» .
قال أبو محمَّدٍ بن حزمٍ
(1)
: وهو خبرٌ مكذوبٌ قد نزَّه الله عليًّا وعبد الرَّحمن عنه، وفيه من المناقضة ما يدلُّ على بطلانه، فإنَّ فيه إيجاب
(2)
الحدِّ على من هذى والهاذي لا حدَّ عليه.
وأمَّا المأخذ الخامس: وهو حديث: «لا قيلولة في الطَّلاق» ، فخبرٌ لا يصحُّ، ولو صحَّ لوجب حملُه على طلاق مكلَّفٍ يعقل دون من لا يعقل، ولهذا لم يدخل فيه طلاق المجنون والمُبْرَسَم والصَّبيِّ.
وأمَّا المأخذ السَّادس: وهو خبر: «كلُّ طلاقٍ جائزٌ إلا طلاق المعتوه» ، فمثله سواءٌ لا يصحُّ، ولو صحَّ لكان في المكلَّف، وجوابٌ ثالثٌ: أنَّ السَّكران
(3)
الذي لا يعقل إمَّا معتوهٌ، وإمَّا ملحقٌ به، وقد ادَّعت طائفةٌ أنَّه معتوهٌ. وقالوا: المعتوه في اللُّغة: الذي لا عقل له، ولا يدري ما يتكلَّم به.
وأمَّا المأخذ السَّابع: وهو أنَّ الصَّحابة أوقعوا عليه الطَّلاق، فالصَّحابة مختلفون في ذلك، فصحَّ عن عثمان ما حكيناه عنه.
وأمَّا أثر ابن عبَّاسٍ
(4)
، فلا يصحُّ عنه، لأنَّه من طريقين، في إحداهما الحجَّاج بن أرطاة، وفي الثَّانية إبراهيم بن أبي يحيى، وأمَّا عمر
(5)
ومعاوية، فقد خالفهما عثمان بن عفَّان.
(1)
في «المحلى» : (10/ 211).
(2)
ليست في ن.
(3)
ص، د:«السُّكْر» .
(4)
تقدم تخريج هذه الآثار قريبًا.
(5)
ز، د، ص، ب:«ابن عمر» . ح، م:«أبو عمر» . وط الهندية: «عمر» وهو الصواب وقد تقدم حديثه (ص 303).
فصل
وأمَّا طلاق الإغلاق
(1)
، فقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل: وحديث عائشة سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طلاقَ ولا عِتاقَ في إغلاقٍ»
(2)
يعني: الغضب.
هذا نصُّ أحمد حكاه عنه الخلال، وأبو بكر في «الشَّافي» ، و «زاد المسافر»
(3)
. فهذا تفسير أحمد.
وقال أبو داود في «سننه»
(4)
: أظنُّه الغضب، وترجم عليه: باب الطَّلاق على غلطٍ.
وفسَّره أبو عبيد وغيره بأنَّه الإكراه، وفسَّره غيرهما بالجنون، وقيل: هو نهيٌ عن إيقاع الطَّلقات الثَّلاث دفعةً واحدةً، فيغلق عليه الطَّلاق حتَّى لا يبقى منه شيءٌ، كغلق الرَّهن، حكاه أبو عبيد الهرويُّ
(5)
.
(1)
انظر الأقوال في معناه في رسالة المؤلف «إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان» (ص 6 - 8، 16 - 19)، وفي «أعلام الموقعين»:(3/ 511 - 513، 4/ 475 - 476).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
(3/ 265) لأبي بكر عبد العزيز غلام الخلال.
(4)
(2193). ووقع في ح، ب، ن:«على غلظ» بالظاء، وأظنها مصحفة عن «غيظ» ، وفي أكثر نسخ «السنن»:«غلط» بالطاء، ووقع في عدة نسخ «غيظ». ينظر «السنن»:(3/ 186) ط التأصيل.
(5)
في «الغريبين» : (4/ 264 - 265).
قال شيخنا
(1)
: وحقيقة الإغلاق أن يغلق على الرَّجل قلبه، فلا يقصد الكلام، أو لا يعلم به، كأنَّه انغلق عليه قصده وإرادته.
قلت: قال أبو العبَّاس المبرِّد
(2)
: الغلق: ضيق الصَّدر، وقلَّة الصَّبر بحيث لا يجد مَخْلَصًا.
قال شيخنا
(3)
: فيدخل
(4)
في ذلك طلاقُ المكره والمجنون، ومَن زال عقلُه بسُكْرٍ أو غضبٍ، وكلُّ من لا قَصْد له ولا معرفة له بما قال.
والغضب على ثلاثة أقسامٍ
(5)
:
أحدها: ما يزيل العقل، فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاعٍ.
الثَّاني: ما يكون في مبادئه بحيث لا يمنع صاحِبَه مِن تصوُّر ما يقول وقصدِه، فهذا يقع طلاقُه.
الثَّالث: أن يستحكم ويشتدَّ به، فلا يزيل عقلَه بالكلِّيَّة، ولكن يحول بينه وبين نيَّته بحيث يندم على ما فرَطَ منه إذا زال، فهذا محلُّ نظرٍ، وعدم الوقوع في هذه الحالة قويٌّ متوجِّه، والله أعلم.
(1)
أي ابن تيمية. ينظر «تنقيح التحقيق» : (4/ 409) لابن عبد الهادي، و «مدارج السالكين»:(1/ 231)، و «تهذيب السنن»:(1/ 524) للمؤلف.
(2)
في «الكامل» : (1/ 24).
(3)
ينظر حاشية رقم (1).
(4)
ح، م، ص:«فدخل» .
(5)
أصل التقسيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، كما ذكر المؤلف في «أعلام الموقعين»:(4/ 476)، وينظر «الإغاثة الصغرى» (ص 20 - 21).