الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
الحكم الثَّالث:
أنَّ هذه الفرقة توجب تحريمًا مؤبَّدًا لا يجتمعان بعدها أبدًا. قال الأوزاعيُّ: حدَّثنا الزبيدي، حدَّثنا الزُّهريُّ، عن سهل بن سعدٍ، فذكر قصَّة المتلاعنين وقال: ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: «لا يجتمعانِ أبدًا»
(1)
.
وذكر البيهقي
(2)
من حديث سعيد بن جبيرٍ عن ابن عمر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «المتلاعنان إذا تفرَّقا لا يجتمعان أبدًا» .
قال
(3)
: وروِّينا عن علي وعبد الله بن عبَّاسٍ
(4)
قالا: مضت السُّنَّة في
(1)
طريق الأوزاعي هذه أخرجها البيهقي في «الكبرى» (7/ 400، 410) بسند صحيح، وأخرج أبو داود أيضًا (2250) من طريق عياض الفهري عن ابن شهاب عن سهل:«فمضت السنة بعدُ في المتلاعنَين أن يفرَّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدا» ، وقد جاء التفريق الأبديُّ أيضًا من حديث ابن عمر وابن مسعود وعلي بأسانيد جيِّدة. انظرها في «الصحيحة» (2465).
(2)
في «الكبرى» (7/ 409) عن محمد بن زيد عن سعيد بن جبير معلَّقًا، ورجاله ثقات، ويشهد له ما قبله وما بعده.
(3)
في «الكبرى» (7/ 410)، وكذا أخرجه عبد الرزاق (12434، 12436) ومن طريقه الطبراني في «المعجم الكبير» (9661) عن قيس بن الربيع عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله، وعن عاصم عن زِرٍّ عن علي، وسنده حسن؛ قيس بن الربيع صدوق تغيَّر. ويشهد للحديث ما قبله وما بعده. وله حكم الرفع هنا؛ كما هو مقرر في الأصول.
(4)
كذا في الأصل؛ ونصُّه عند البيهقي: (عن علي وعبد الله) مطلقًا هكذا من غير نسبة، والظاهر أنه ابن مسعود، لا ابن عباس كما قال المصنِّف؛ جريًا على القاعدة المشهورة عند إطلاق (عبد الله) في طبقة الصحابة؛ إذ الراوي عنه أبو وائل، وهو كوفيٌّ، ويقطع النِّزاع مجيئه من هذا الطريق نفسِه عن ابن مسعود مصرَّحًا باسمه، عند عبد الرزاق والطبراني، كما مرَّ آنفًا.
المتلاعنين أن لا يجتمعان أبدًا. قال: وروي عن عمر بن الخطَّاب أنَّه قال: يُفرَّق بينهما ولا يجتمعان أبدًا
(1)
. وإلى هذا ذهب أحمد والشَّافعيُّ ومالك والثَّوريُّ وأبو عبيد وأبو يوسف.
وعن أحمد روايةٌ أخرى: أنَّه إن
(2)
أكذبَ نفسَه حلَّت له وعاد فراشه بحاله، وهي روايةٌ شاذَّةٌ شذَّ بها حنبل عنه. قال أبو بكر: لا نعلم أحدًا رواها غيره. وقال صاحب «المغني»
(3)
: وينبغي أن تُحمل هذه على ما إذا لم يُفرِّق الحاكمُ بينهما، فأمَّا مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجهَ لبقاء النِّكاح بحاله.
قلت: الرِّواية مطلقةٌ، ولا أثرَ لتفريق الحاكم في دوام التَّحريم، فإنَّ الفُرقة الواقعة بنفس اللِّعان أقوى من الفرقة الحاصلة بتفريق الحاكم، فإذا كان إكذابُ
(4)
نفسِه مؤثِّرًا في تلك الفرقة القويَّة رافعًا للتَّحريم النَّاشئ منها، فلَأن
(5)
يُؤثِّر في الفرقة التي هي دونها ويرفع تحريمَها أولى.
وإنَّما قلنا: إنَّ الفرقة بنفس اللِّعان أقوى من الفرقة بتفريق الحاكم؛ لأنَّ
(1)
أخرجه عبد الرزاق (12433) والبيهقي في «الكبرى» (7/ 410) من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي عنه. وسنده ضعيف للانقطاع، فإبراهيم لم يدرك عمر. لكن يشهد له ما قبله.
(2)
د: «إذا» . وسقطت من ز.
(3)
(11/ 149).
(4)
م: «أكذب» .
(5)
م، د، ز:«فلا» ، خطأ.
فرقة اللِّعان تستند إلى حكم الله ورسوله، سواءٌ رضي الحاكم والمتلاعنانِ التَّفريقَ أو أَبَوه، فهي فُرقةٌ من الشَّارع بغير رضا أحدٍ منهم ولا اختياره، بخلاف فرقة الحاكم، فإنَّه إنَّما يفرِّق باختياره.
وأيضًا فإنَّ اللِّعان يكون قد اقتضى بنفسه التَّفريقَ؛ لقوَّته وسلطانه عليه، بخلاف ما إذا توقَّف على تفريق الحاكم، فإنَّه لم يَقْوَ بنفسه على اقتضاء الفرقة، ولا كان له سلطانٌ عليها.
وهذه الرِّواية هي مذهب سعيد بن المسيِّب، قال: إن أكذبَ نفسه فهو خاطبٌ من الخُطَّاب
(1)
، ومذهب أبي حنيفة ومحمد، وهذا على أصله اطَّردَ؛ لأنَّ فُرقة اللِّعان عنده طلاقٌ. وقال سعيد بن جبيرٍ
(2)
: إن أكذبَ نفسَه رُدَّت إليه ما دامت في العدَّة.
والصَّحيح القول الأوَّل، الذي دلَّت عليه السُّنَّة الصَّحيحة الصَّريحة وأقوال الصَّحابة، وهو الذي يقتضيه حكمة اللِّعان، ولا يقتضي سواه، فإنَّ لعنة الله عز وجل وغضبه قد حلَّ بأحدهما لا مَحالةَ، ولهذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عند الخامسة:«إنَّها المُوجِبة»
(3)
أي الموجبة لهذا الوعيد، ونحن لا نعلم
(1)
أخرجه عبد الرزاق (12440، 12443) من طريق معمر عن داود بن أبي هند عن ابن المسيب قال: «إذا تاب الملاعن واعترف بعد الملاعنة، فإنه يُجلد، ويلحق به الولد، وتطلق امرأته تطليقة بائنة، ويخطبها مع الخطاب، ويكون ذلك متى أكذب نفسه» . وصحح الحافظ إسنادَه في «الفتح» (9/ 459).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور (1585) والطحاوي في «مشكل الآثار» (13/ 303) من طريقين عن خصيف عنه. وسنده صحيح.
(3)
هذا اللفظ أخرجه الطبري في «التفسير» (19/ 112) من طريق عباد بن منصور قال: سمعت عكرمة عن ابن عباس. وعباد يكتب حديثه، وليس بالقوي، وقد صرَّح هنا بالسماع فانتفت شبهة تدليسه، وقد توبع؛ إلا في ألفاظ يسيرة خولف فيها. كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
عينَ من حلَّت به يقينًا، ففرَّق بينهما خشية أن يكون هو الملعون الذي قد وجبت عليه لعنة الله وباءَ بها، فيعلو امرأةً غير ملعونةٍ، وحكمة الشَّرع تأبى هذا، كما أبتْ أن يعلو الكافر مسلمةً والزَّاني عفيفةً.
فإن قيل: فهذا يوجب أن لا يتزوَّج غيرها لِما ذكرتم بعينه؟
قيل: لا يوجب ذلك؛ لأنَّا لم نتحقَّق أنَّه هو الملعون، وإنَّما تحقَّقنا أنَّ أحدهما كذلك، وشككنا في عينه، فإذا اجتمعا لزمه أحدُ الأمرين ولا بدَّ: إمَّا هذا، وإمَّا إمساكُه ملعونةً مغضوبًا عليها قد وجب عليها غضب الله وباءت به، فأمَّا إذا تزوَّجت بغيره أو تزوَّج بغيرها لم يتحقَّق هذه المفسدة فيهما.
وأيضًا فإنَّ النُّفرة الحاصلة من إساءة كلِّ واحدٍ منهما إلى صاحبه لا تزول أبدًا، فإنَّ الرَّجل إن كان صادقًا عليها فقد أشاع فاحشتَها، وفضَحَها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقامَ الخِزْي، وحقَّق عليها الخزيَ والغضبَ، وقطع نسبَ ولدها. وإن كان كاذبًا فقد أضاف إلى ذلك بَهْتَها بهذه الفرية العظيمة، وإحراقَ قلبها بها. والمرأة إن كانت صادقةً فقد أكذبتْه على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه لعنة اللَّه. وإن كانت كاذبةً فقد أفسدتْ فراشَه، وخانتْه في نفسها، وألزمتْه العارَ والفضيحة، وأحوجتْه إلى هذا المقام المُخزِي، فحصل لكلِّ واحدٍ منهما من صاحبه من النُّفرة والوحشة وسوء الظَّنِّ به ما لا يكاد يلتئم معه شَمْلُهما
(1)
أبدًا، فاقتضت حكمةُ من شرْعُه كلُّه
(1)
د، م:«شملها» .