الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَن شمَّر عن ساق عزمِه، وحام حولَ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها، والتَّحاكم إليها بكلِّ همَّةٍ.
وإذا كان غيرَ عاذرٍ لمُنازِعه في قصوره ورغبته عن هذا الشَّأن البعيد، فليعَذُرْه منازِعُه في رغبته عمَّا ارتضاه لنفسه مِن محض التَّقليد، ولينظر مع نفسه أيُّهما هو المعذور، وأيُّ السَّعيين أحقُّ بأن يكون هو السَّعي المشكور. والله المستعان وعليه التُّكلان، وهو الموفِّق للصَّواب، الفاتح لمن أمَّ بابَه طالبًا لمرضاته مِن الخير كلَّ بابٍ.
فصل
في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلَّق ثلاثًا بكلمة واحدة
قد تقدَّم
(1)
حديث محمود بن لَبيدٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجلٍ طلَّق امرأته ثلاث تطليقاتٍ جميعًا، فقام غضبان، ثمَّ قال: أيُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!»، وإسناده على شرط مسلم، فإنَّ ابن وهب قد رواه عن مَخْرمة بن بُكير بن الأشج، عن أبيه قال: سمعتُ محمودَ بن لبيدٍ فذكره، ومخرمة ثقةٌ بلا شكٍّ، وقد احتجَّ مسلم في «صحيحه»
(2)
بحديثه عن أبيه.
والَّذين أعلُّوه قالوا: لم يسمع منه، وإنَّما هو كتابٌ.
قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبلٍ عن مَخْرمة بن بُكير؟ فقال: هو ثقةٌ، ولم يسمع من أبيه، إنَّما هو كتاب [أبيه. وقال أبو الحسن الميموني:
(1)
(ص 316).
(2)
ينظر الأحاديث رقم (232، 240، 295، 303 وغيرها).
سمعت أبا عبد الله يقول أخذ مالكٌ كتابَ]
(1)
مَخرمة بن بُكير، فنظر فيه، [كلُّ] شيءٍ يقول:«بلغني عن سليمان بن يسارٍ» ، فهو من كتاب مَخْرمة
(2)
.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معينٍ يقول: مخرمة بن بكير الأشج وقع إليه كتاب أبيه، ولم يسمعه. وقال في رواية عبَّاسٍ الدُّوريِّ: هو ضعيفٌ، وحديثه عن أبيه كتابٌ، ولم يسمعه منه.
وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا، حديثَ الوتر.
وقال سعيد بن أبي مريم عن خاله موسى بن سلَمة: أتيتُ مخرمة فقلت: حدَّثك أبوك؟ فقال: لم أدرك أبي، ولكن هذه كتبه
(3)
.
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنَّ كتاب أبيه كان عنده محفوظًا مضبوطًا، فلا فرق في قيام الحجَّة بالحديث بين ما حدَّثه به، أو رآه في كتابه، بل الأخذ عن النُّسخة أحوط إذا تيقَّن الرَّاوي أنَّها نسخة الشَّيخ بعينها، وهذه طريقة الصَّحابة والسَّلف، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث كتبَه إلى الملوك، وتقوم عليهم بها الحجَّة، وكتبَ كتبَه إلى عمَّاله في بلاد الإسلام، فعملوا بها واحتجُّوا بها،
(1)
ما بين المعكوفين سقط من الأصول، وهو انتقال نظر، وقد يكون من المؤلف حينما نقل الأقوال من «تهذيب الكمال»:(27/ 325 - 326)، وبه يزول التداخل بين الروايتين عن الإمام.
(2)
ينظر: «الجرح والتعديل» : (8/ 363)، وبقية أقوال الإمام أحمد في مخرمة في «موسوعة أقوال الإمام أحمد»:(3/ 333). وما بين المعكوفين من المصادر.
(3)
ينظر «تهذيب الكمال» : (27/ 324 - 328).
ودفع الصِّدِّيق كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
إلى أنس بن مالكٍ، فحملَه وعملت به الأمَّة، وكذلك كتابه إلى عمرو بن حزم وكتابه
(2)
في الصَّدقات الذي كان عند آل عمرٍو، ولم يزل السَّلف والخلف يحتجُّون بكتاب بعضهم إلى بعضٍ، ويقول المكتوب إليه: كتب إليَّ فلانٌ أنَّ فلانًا أخبره، ولو بطل الاحتجاجُ بالكتب لم يبق بأيدي الأمَّة إلا أيسر اليسير، فإنَّ الاعتماد إنَّما هو على النُّسَخ لا على الحفظ، والحفظ خوَّانٌ، والنُّسخةُ لا تخون. ولا يُحفَظ في زمنٍ من الأزمان المتقدِّمة أنَّ أحدًا من أهل العلم ردَّ الاحتجاجَ بالكتاب، وقال: لم يشافهني به الكاتب، فلا أقبله، بل كلُّهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صحَّ عنده أنَّه كتابه.
الجواب الثَّاني: أنَّ قول من قال: «لم يسمع من أبيه» معارَضٌ بقول من قال: سمع منه، ومعه زيادةُ علمٍ وإثباتٌ، قال عبد الرَّحمن بن أبي حاتمٍ
(3)
: سُئل أبي عن مَخْرمة بن بُكير؟ فقال: صالح الحديث. قال: وقال ابن أبي أويسٍ: وجدت في ظهر كتاب مالك: سألتُ مَخْرمة عمَّا يحدِّث به عن أبيه، سَمِعها من أبيه؟ فحلف لي: وربِّ هذه
(4)
البنيَّة ــ يعني المسجد ــ سمعتُ مِن أبي.
وقال عليُّ بن المدينيِّ: سمعتُ مَعْن بن عيسى يقول: مَخْرمة سمع من أبيه، وعرضَ عليه ربيعةُ أشياءَ مِن رَأْي سليمانَ بنِ يسارٍ، قال علي: ولا أظنُّ
(1)
زاد بعدها في ط الفقي والرسالة: «في الزكاة» ولا وجود لها في النسخ.
(2)
سقطت من طبعتي الفقي والرسالة.
(3)
«الجرح والتعديل» : (8/ 364).
(4)
من ح، ز، و «الجرح والتعديل» .
مَخْرمة سمع من أبيه كتابَ سليمان، لعلَّه سمع
(1)
الشَّيءَ اليسير، ولم أجد أحدًا بالمدينة يخبرني عن مخرمة بن بُكير أنَّه كان يقول في شيءٍ من حديثه: سمعت أبي
(2)
. ومخرمة ثقةٌ
(3)
. انتهى.
ويكفي أنَّ مالكًا أخذ كتابَه، فنظر فيه واحتجَّ به في «موطَّئه»
(4)
، وكان يقول: حدَّثني مخرمة، وكان رجلًا صالحًا. وقال أبو حاتم: سألت إسماعيل بن أبي أويسٍ، قلت: هذا الذي يقول مالك بن أنسٍ: حدَّثني الثِّقة، مَن هو؟ قال: مخرمة بن بكير. وقيل لأحمد بن صالح المصري: كان مخرمة من ثقات الناس
(5)
؟ قال: نعم. وقال ابنُ عَديٍّ: عن ابن وهب ومعن بن عيسى عن مخرمة: أحاديثُ حِسانٌ مستقيمةٌ، وأرجو أنَّه لا بأس به
(6)
.
وفي «صحيح مسلم»
(7)
قول ابن عمر للمطلِّق ثلاثًا: حَرُمَتْ عليك حتَّى
(1)
ن، ط الهندية:«سمع منه» .
(2)
ينظر «الكامل» : (6/ 428)، و «تهذيب الكمال»:(27/ 327).
(3)
هذه الرواية مختصرة من سياق أطول وليست تابعة للرواية السابقة. ينظر المصادر السابقة.
(4)
ينظر رقم (380، 2449، 2767) وليس فيها التصريح باسمه وإنما يقول مالك: «عن الثقة عن بكير بن عبد الله» . قال ابن عبد البر في «الاستذكار» : (5/ 442): «أكثر ما يقول مالك: «حدثني الثقة» فهو مخرمة بن بكير بن الأشج، وقال أصحاب مالك ابن وهب وغيره: كل ما أخذه مالك من كتب بكير فإنه يأخذها من مخرمة ابنه فينظر فيها»، وانظر «التمهيد»:(24/ 202).
(5)
المطبوع: «الرجال» خلاف النسخ.
(6)
ينظر «الجرح والتعديل» و «الكامل» و «تهذيب الكمال» وسبقت الإحالة إليها.
(7)
سبق تخريجه.
تنكح زوجًا غيرك، وعصيتَ ربَّك فيما أمركَ به من طلاق امرأتك. وهذا تفسيرٌ منه للطَّلاق المأمور به، وتفسير الصَّحابيِّ حجَّةٌ. وقال الحاكم
(1)
: هو عندنا مرفوعٌ.
ومن تأمَّل القرآنَ حقَّ التَّأمُّل، تبيَّن له ذلك، وعرف أنَّ الطَّلاق المشروع بعد الدُّخول هو الطَّلاق الذي يملك به الرَّجعة، ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثَّلاث جملةً واحدةً البتَّة، قال تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، ولا تعقل العربُ في لغتها وقوع المرَّتين إلا متعاقبتين، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَن سبَّح الله دُبُر كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وحَمِدَه
(2)
ثلاثًا وثلاثين، وكبَّره أربعًا وثلاثين»
(3)
ونظائره، فإنَّه لا يُعْقَل من ذلك إلا تسبيحٌ وتحميدٌ وتكبيرٌ متوالٍ يتلو بعضُه بعضًا، فلو قال:«سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين، والله أكبر أربعًا وثلاثين» بهذا اللَّفظ؛ لكان ثلاث مرَّاتٍ فقط.
وأصْرَح من هذا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]، فلو قال: أشهد بالله أربع شهاداتٍ إنِّي لمن الصَّادقين؛ كانت مرَّةً
(4)
. وكذلك قوله: {(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ} [النور: 8]، فلو قالت: أشهدُ أربع شهاداتٍ بالله إنَّه لمن الكاذبين؛ كانت واحدةً.
(1)
«معرفة علوم الحديث» (ص 149).
(2)
د، ص، ب:«وحمد الله» .
(3)
سبق تخريجه، وهذا لفظ مسلم (597).
(4)
ب زيادة: «واحدة» .
وأصْرَح من ذلك قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ} [التوبة: 101]، فهذا مرَّةً بعد مرَّةٍ، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى:{نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ثلاثةٌ يؤتون أجرهم مرَّتين»
(1)
، فإنَّ المرَّتين هنا هما الضِّعفان، وهما المِثْلان، وهما مِثْلان في القَدْر، كقوله تعالى:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]، وقوله:{فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265]، أي: ضِعْفَي ما يعذَّب به غيرها، وضِعْفَي ما كانت تُؤتي، ومن هذا قول أنس:«انشقَّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّتين»
(2)
، أي: شقَّتين وفرقتين، كما في اللَّفظ الآخر:«انشقَّ القمر فلقتين»
(3)
.
وهذا أمرٌ معلومٌ قطعًا أنَّه إنَّما انشقَّ
(4)
مرَّةً واحدةً، والفرق معلومٌ بين ما يكون مرَّتين في الزَّمان، وبين ما يكون مِثْلين وجزأين ومرَّتين في المضاعفة.
فالثَّاني يتصوَّر فيه اجتماع المرَّتين
(5)
في آنٍ واحدٍ، والأوَّل لا يتصوَّر فيه ذلك.
وممَّا يدلُّ على أنَّ الله لم يشرع الثَّلاث جملةً: أنَّه تعالى قال:
(1)
أخرجه البخاري (3011)، ومسلم (154) من حديث أبي موسى، وذكرهم:«الرجل تكون له الأمة، فيعلمها فيحسن تعليمها، ويؤدّبها فيحسن أدبها، ثم يعتقها فيتزوجها، ومؤمن أهل الكتاب، الذي كان مؤمنًا، ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، والعبد الذي يؤدي حق الله وينصح لسيده» .
(2)
أخرجه البخاري (3637) ومسلم (2802) واللفظ له.
(3)
عند مسلم (2800) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
(4)
في المطبوع زيادة: «القمر» وليست في النسخ.
(5)
ج، م:«اجتماعٌ لمرتين» .
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى أن قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، فهذا يدلُّ على أنَّ كلَّ طلاقٍ بعد الدُّخول فالمطلِّق أحقُّ فيه بالرَّجعة سوى الثَّالثة المذكورة بعد هذا، وكذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:1 - 2]، فهذا هو الطَّلاق المشروع، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسامَ الطَّلاق كلَّها في القرآن، وذَكَر أحكامها، فذكر الطَّلاق قبل الدُّخول، وأنَّه لا عِدَّة فيه، وذكر الطَّلقة الثَّالثة، وأنَّها تُحَرِّم الزَّوجةَ على المطلِّق {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وذَكَر طلاقَ الفداء الذي هو الخُلْع، وسمَّاه فديةً، ولم يحسبه من الثَّلاث كما تقدَّم
(1)
، وذَكَر الطَّلاق الرَّجعيَّ الذي المطلِّق أحقُّ فيه بالرَّجعة، وهو ما عدا هذه الأقسام الثَّلاثة.
وبهذا احتجَّ أحمدُ والشَّافعيُّ
(2)
وغيرهما على أنَّه ليس في الشَّرع طلقةٌ واحدةٌ بعد الدُّخول بغير عوضٍ بائنةٌ، وأنَّه إذا قال لها:«أنتِ طالقٌ طلقةً بائنةً» كانت رجعيَّةً، ويلغو وصفها بالبينونة، وأنَّه لا يملك إبانتها إلا بِعِوَضٍ.
وأمَّا أبو حنيفة
(3)
، فقال: تَبِينُ بذلك لأنَّ الرَّجعة حقٌّ له، وقد أسقطها، والجمهور يقولون: وإن كانت الرَّجعة حقًّا له لكن نفقة الرَّجعيَّة وكسوتها
(1)
(ص 279).
(2)
ينظر «الأم» : (6/ 469)، و «المحلى»:(10/ 216)، و «الحاوي الكبير»:(10/ 384)، و «المغني»:(10/ 367).
(3)
ينظر «المبسوط» : (6/ 18)، و «بدائع الصنائع»:(2/ 92 - 93).
حقٌّ عليه، فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها، وبذلها العِوَض، أو سؤالها أن تفتديَ نفسَها منه بغير عِوَضٍ في أحد القولين، وهو جواز الخُلْع بغير عوضٍ.
وأمَّا إسقاط حقِّها من الكسوة والنَّفقة بغير سؤالها ولا بذلها العِوَض، فخلاف النَّصِّ والقياس.
قالوا: وأيضًا فاللَّه سبحانه شرَعَ الطَّلاقَ على أكمل الوجوه وأنفعها للرَّجل والمرأة، فإنَّهم كانوا يطلِّقون في الجاهليَّة بغير عددٍ، فيطلِّق أحدُهم المرأةَ كلَّما شاء، ويراجعها، وهذا وإن كان فيه رفقٌ بالرَّجل، ففيه إضرارٌ بالمرأة، فنسَخَ سبحانه ذلك بثلاثٍ، وقصَرَ الزَّوجَ عليها، وجعلَه أحقَّ بالرَّجعة ما لم تنْقَضِ عدَّتُها، فإذا استوفى العددَ الذي مُلِّكَه، حَرُمَت عليه، فكان في هذا رفقٌ بالرَّجل إذ لم تَحْرُم عليه بأوَّل طلقةٍ، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاثٍ.
فهذا شرعُه وحكمتُه، وحدودُه التي حدَّها لعباده، فلو حرمت عليه بأوَّل طلقةٍ يطلِّقها كان خلاف شرعه وحكمته، وهو لم يُمَلَّك إيقاع الثَّلاث جملةً، بل إنَّما مُلِّكَ واحدةً، فالزَّائد عليها غير مأذونٍ له فيه.
قالوا: وهذا كما أنَّه لم يُمَلَّك إبانَتَها بطلقةٍ واحدةٍ، إذ هو خلاف ما شرعه، لم يُمَلَّك إبانَتَها بثلاثٍ مجموعةٍ، إذ هو خلاف شرعه.
ونُكْتة المسألة: أنَّ الله سبحانه لم يجعل للأمَّة طلاقًا بائنًا قطُّ إلا في موضعين:
أحدهما: طلاقُ غيرِ المدخول بها.
والثَّاني: الطَّلقة الثَّالثة، وما عداه من الطَّلاق، فقد جعل للزَّوج فيه
الرَّجعة، هذا مقتضى الكتاب كما تقدَّم تقريره، وهذا قول الجمهور، منهم: الإمام أحمد، والشَّافعيُّ، وأهل الظَّاهر
(1)
، قالوا: لا يملك إبانَتَها بدون الثَّلاث إلا في الخُلْع.
ولأصحاب مالك ثلاثة أقوالٍ
(2)
فيما إذا قال: «أنتِ طالقٌ طلقةً لا رجعةَ لي فيها» :
أحدها: أنَّها ثلاثٌ، قاله ابن الماجشون؛ لأنَّه قطعَ حقَّه من الرَّجعة، وهي لا تنقطع إلا بثلاثٍ، فجاءت الثَّلاث ضرورةً.
الثَّاني: أنَّها واحدةٌ بائنةٌ، كما قال، وهذا قول ابن القاسم؛ لأنَّه يملك إبانتها بطلقةٍ بعوضٍ، فملكها بدونه، والخُلْع عنده طلاقٌ.
الثَّالث: أنَّها واحدةٌ رجعيَّةٌ، وهذا قول ابن وهب، وهو الذي يقتضيه الكتاب والسُّنَّة والقياس، وعليه الأكثرون.
* * *
(1)
ينظر «المغني» : (10/ 367)، و «المحلى»:(10/ 216).
(2)
ينظر مذاهبهم في «المحلى» : (10/ 216) والمؤلف صادر عنه.
فصل
وأمَّا المسألة الثَّانية، وهي وقوع الثَّلاث بكلمةٍ واحدةٍ، فاختلف النَّاس فيها على أربعة مذاهب:
أحدها: أنَّها تقع، وهذا قول الأئمَّة الأربعة، وجمهور التَّابعين، وكثيرٍ من الصَّحابة.
الثَّاني: أنَّها لا تقع، بل تُردُّ لأنَّها بدعةٌ محرَّمةٌ، والبدعة مردودةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»
(1)
. وهذا المذهب حكاه أبو محمَّد بن حزمٍ
(2)
، وحُكِي للإمام أحمد فأنكره، وقال: هذا قول الرَّافضة.
الثَّالث: أنَّه يقع به واحدةٌ رجعيَّةٌ، وهذا ثابتٌ عن ابن عبَّاسٍ، ذكره أبو داود عنه
(3)
. قال الإمام أحمد: وهذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السُّنَّةَ فيُردُّ إلى السُّنَّة
(4)
، انتهى. وهو قول طاوسٍ
(5)
وعكرمة
(6)
، وهو
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
في «المحلى» (10/ 167).
(3)
في «السنن» إثر حديث (2197)، وذكر فيه الاختلاف على أيوب في وقفه على ابن عباس أو جعله مقطوعًا من كلام عكرمة. وسيأتي بيان الآثار المرويَّة عنه.
(4)
كذا ذكر عنه المؤلف في «إغاثة اللهفان» (1/ 507).
(5)
أخرج عبد الرزاق (11080، 11081) وابن أبي شيبة (18177، 18179) عنه عدَّة آثار، صحَّ منها الأثر الآتي بعدُ، وكلها تدلُّ على تفريقه بين البِكر وغيرها، وهو ما حكاه عنه ابن المنذر في «الإشراف» (5/ 188)، و «الأوسط» (9/ 155).
(6)
حكاه عنه أبو داود إثر حديث (2197) من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، لكن أخرج عبد الرزاق (11081) عن معمر عن ابن طاوس قال: سئل عكرمة
…
فقال: «إن كان جمعها لم تحل له .. ، وإن كان فرقها
…
فقد بانت بالأولى، وليست الثنتان بشيء، قال: فذكرت ذلك لأبي، فقال:«سواء، هي واحدة على كل حال» .
اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة
(1)
.
الرَّابع: أنَّه يُفرَّق بين المدخول بها وغيرها، فتقع الثَّلاث بالمدخول بها، وتقع بغيرها واحدةٌ، وهذا قول جماعةٍ من أصحاب ابن عبَّاسٍ، وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه محمَّد بن نصرٍ المروزيُّ في كتاب «اختلاف العلماء»
(2)
.
فأمَّا من لم يُوقِعها جملةً، فاحتجُّوا بأنَّه طلاق بدعةٍ محرَّمٌ، والبدعة مردودةٌ، وقد اعترف أبو محمَّد بن حزمٍ
(3)
بأنَّها لو كانت بدعةً محرَّمةً لوجب أن تُردَّ وتُبطل، ولكنَّه اختار مذهب الشَّافعيِّ أنَّ جمع الثَّلاث جائزٌ غير محرَّمٍ. وسيأتي حجَّة هذا القول وما فيه.
وأمَّا من جعلها واحدةً، فاحتجَّ بالنَّصِّ والقياس:
أما النَّصُّ فما رواه معمر وابن جريجٍ عن ابن طاوس عن أبيه: أنَّ أبا الصهباء قال لابن عبَّاسٍ: ألم تَعلمْ أنَّ الثَّلاث كانت تُجعل واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ قال: نعم. رواه مسلم في «صحيحه»
(4)
.
(1)
من مسائله المشهورة التي انتصر لها وكتب فيها كثيرًا، انظر:«مجموع الفتاوى» (ج 33)، و «جامع المسائل» (ج 1).
(2)
(ص 246).
(3)
في «المحلى» (10/ 167).
(4)
برقم (1472).
وفي لفظٍ
(1)
: ألم تعلم أنَّ الثَّلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر تردُّ إلى الواحدةٍ؟ قال: نعم.
وقال أبو داود
(2)
: حدَّثنا أحمد بن صالحٍ، حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريجٍ قال: أخبرني بعض بني أبي رافعٍ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، قال: طلَّق عبدُ يزيد ــ أبو رُكانةَ وإخوتِه ــ أمَّ رُكانة، ونكح امرأةً من مُزَينة، فجاءت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يُغنِي عنِّي إلا كما تُغنِي هذه الشَّعرة، لِشعرةٍ أخذتْها من رأسها، ففرِّقْ بيني وبينه، فأخذَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حميَّةٌ، فدعا بِرُكانةَ وإخوته، ثمَّ قال لجلسائه: «أتَرون
(3)
أنَّ فلانًا يُشبِه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلانًا منه كذا وكذا؟»، قالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد:«طلِّقْها» ، ففعلَ. قال:«راجِعْ امرأتَك أمَّ ركانةَ وإخوتِه» ، فقال: إنِّي طلَّقتُها ثلاثًا يا رسول اللَّه، قال:«قد علمتُ، راجِعْها» ، وتلا:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1].
وقال الإمام أحمد
(4)
: حدَّثنا سعد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدَّثني داود بن الحُصين، عن عكرمة مولى ابن عبَّاسٍ، عن عبد الله بن عبَّاسٍ قال: طلَّق رُكانة بن عبد يزيد أخو بني المطَّلب امرأته ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ، فحزِن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف طلَّقتَها؟» ، قال: طلَّقتُها ثلاثًا، قال: فقال: «في مجلسٍ واحدٍ؟» ،
(1)
عند أبي عوانة في «مستخرجه» (4532) بسند صحيح.
(2)
برقم (2196)، وقد تقدم.
(3)
في المطبوع: «ألا ترون» خلاف النسخ و «السنن» .
(4)
برقم (2387)، وقد تقدم.
قال: نعم، قال: «فإنَّما تلك
(1)
واحدةٌ، فارجِعْها إن شئت»، قال: فراجعَها. فكان ابن عبَّاسٍ يرى أنَّما الطَّلاق عند كلِّ طهرٍ.
قالوا: وأمَّا القياس، فقد تقدَّم أنَّ جمع الثَّلاث محرَّمٌ وبدعةٌ، والبدعة مردودةٌ؛ لأنَّها ليست على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وسائر ما تقدَّم في بيان التَّحريم يدلُّ على عدم وقوعها جملةً.
قالوا: ولو
(2)
لم يكن معنا إلا قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]، وقوله:{(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ} [النور: 8]. قالوا: وكذلك كلُّ ما يُعتبر له التَّكرار من حلفٍ أو إقرارٍ أو شهادةٍ. وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَحلِفون خمسينَ يمينًا، وتَستحقُّون دمَ صاحبِكم»
(3)
، فلو قالوا: نحلف بالله
(4)
خمسين يمينًا إنَّ فلانًا قتلَه، كانت يمينًا واحدةً.
قالوا: وكذلك الإقرار بالزِّنا، كما في الحديث أنَّ بعض الصَّحابة قال لماعزٍ: إن أقررتَ أربعًا رجمَكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
، فهذا لا يُعقَل أن تكون الأربع فيه مجموعةً بفمٍ واحدٍ.
(1)
د، ص، ح:«تملك» ، خطأ.
(2)
«لو» ليست في ز. وجواب الشرط محذوف، وهو مفهوم من السياق، أي: لكان كافيًا.
(3)
تقدم تخريجه في حديث القسامة.
(4)
«بالله» ليست في د.
(5)
لم أجده بهذا اللفظ، لكن جاء عند أحمد (41) وأبي يعلى في «المسند» (40) وغيرهما من حديث أبي بكر الصديق أنه قال له:«إن اعترفتَ الرابعة رَجَمَكَ» ، ومداره على جابر الجعفي، وهو ضعيف. وأصله عند الشيخين، كما سبق.
وأمَّا الذين فرَّقوا بين المدخول بها وغيرها، فلهم حجَّتان:
إحداهما: ما رواه أبو داود
(1)
بإسنادٍ صحيحٍ عن طاوسٍ، أنَّ رجلًا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السُّؤال لابن عبَّاسٍ، قال
(2)
: أما علمتَ أنَّ الرَّجل كان إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ [قال ابن عباس: بلى]
(3)
، فلمَّا رأى عمر النَّاس قد تَتايعوا
(4)
فيها، قال: أَجِيزوهنَّ عليهم.
الحجَّة الثَّانية: أنَّها تَبِينُ بقوله: أنت طالقٌ، فيُصادِفُها ذكرُ الثَّلاث وهي بائنٌ، فتلغو.
ورأى هؤلاء أنَّ ذِكْر إلزام عمر بالثَّلاث هو في حقِّ المدخول بها، وحديث أبي الصهباء في غير المدخول بها. قالوا: ففي هذا التَّفريق موافقةُ المنقول من الجانبين، وموافقةُ القياس. وقال بكلِّ قولٍ من هذه الأقوال جماعةٌ من أهل الفتوى، كما حكاه أبو محمَّد بن حزمٍ وغيره، ولكن عدم الوقوع جملةً هو مذهب الإماميَّة، وحكوه عن جماعةٍ من أهل البيت.
(1)
برقم (2199)، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى»:(7/ 338) من طرق عن طاوس به، وأُعل باختلاط أبي النعمان محمد بن الفضل السدوسي، وقد خولف في سنده ومتنه، ولذا ضعفه الألباني في «الضعيفة» (1134). وأصله في مسلم (1472) وغيره كما سبق؛ لكن دون قوله:«قبل أن يدخل بها» ؛ فهي زيادة شاذة.
(2)
في المطبوع: «قال له» خلاف النسخ و «السنن» .
(3)
زيادة من «السنن» ليستقيم السياق، فيكون ما بعدها من كلام ابن عباس.
(4)
د، ز:«تتابعوا» . وكذا في بعض نسخ «السنن» . ومعناها بالياء: المتابعة والتوارد على الوقوع في الشر من غير فكرٍ ولا روية. وانظر: «شرح النووي على صحيح مسلم» (10/ 72).
قال الموقعون للثَّلاث
(1)
: الكلام معكم في مقامين، أحدهما: تحريم جمع الثَّلاث. والثَّاني: وقوعها جملةً ولو كانت محرَّمةً. ونحن نتكلَّم معكم في المقامين.
فأمَّا الأوَّل، فقد قال الشَّافعيُّ وأبو ثورٍ وأحمد بن حنبلٍ في إحدى الرِّوايات عنه وجماعةٌ من أهل الظَّاهر: إنَّ جمع الثَّلاث سنَّةٌ، واحتجُّوا عليه بقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، ولم يُفرِّق بين أن تكون الثَّلاث مجموعةً أو مفرَّقةً، ولا يجوز أن يُفرَّق بين ما جمع الله بينه، كما لا يُجمَع بين ما فرَّق بينه. وقال تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، ولم يفرِّق. وقال:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية [البقرة: 236]، ولم يفرِّق. وقال:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، ولم يفرِّق.
قالوا: وفي «الصَّحيحين»
(2)
أنَّ عُوَيمرًا
(3)
العَجْلاني طلَّق امرأته ثلاثًا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلَ أن يأمره بطلاقها. قالوا: فلو كان جمع الثَّلاث معصيةً لما أقرَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخلو طلاقها أن يكون قد وقع وهي امرأته، أو حين حرمت عليه باللِّعان. فإن كان الأوَّل فالحجَّة منه ظاهرةٌ، وإن كان الثَّاني فلا شكَّ أنَّه طلَّقها وهو يظنُّها امرأتَه، فلو كان حرامًا لبيَّنها له رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت قد حرمتْ عليه.
(1)
د، ص:«الثلاث» .
(2)
أخرجه البخاري (5295، 5308) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد.
(3)
د، ص:«عويمر» .
قالوا: وفي «صحيح البخاريِّ»
(1)
من حديث القاسم بن محمَّدٍ عن عائشة أم المؤمنين أنَّ رجلًا طلَّق ثلاثًا، فتزوَّجتْ، فطَلَّق
(2)
، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحلُّ للأوَّل؟ قال: «لا، حتَّى يذوقَ عُسيلتهَا كما ذاقَ الأوَّل» . فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا يدلُّ على إباحة جمع الثَّلاث، وعلى وقوعها، إذ لو لم تقع لم يُوقِّف رجوعَها إلى الأوَّل على ذوق الثَّاني عُسَيلتَها.
قالوا: وفي «الصَّحيحين»
(3)
من حديث أبي سلمة بن عبد الرَّحمن أنَّ فاطمة بنت قيس أخبرتْه أنَّ زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلَّقها ثلاثًا، ثمَّ انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفرٍ، فأتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين، فقالوا: إنَّ أبا حفص طلَّق امرأته ثلاثًا، فهل لها من نفقةٍ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ليس لها نفقةٌ، وعليها العدَّة» .
وفي «صحيح مسلم»
(4)
في هذه القصَّة: قالت فاطمة: فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كم طلَّقكِ؟» قلت: ثلاثًا، فقال:«صدقَ، ليس لك نفقةٌ» .
وفي لفظٍ له
(5)
: أنها قالت: يا رسول اللَّه، إنَّ زوجي طلَّقني ثلاثًا، وأنا أخاف أن يُقْتَحَم عليَّ.
(1)
برقم (5261)، وبنحوه أخرجه مسلم (1433).
(2)
كذا في النسخ والبخاري، وغيّر في المطبوع إلى «طلّقت» . والمعنى واضح من السياق، أي: طلَّقها زوجها الثاني.
(3)
هو بهذا السياق عند مسلم (1480/ 38)، واقتصر البخاري (5321) على مسألة النفقة.
(4)
برقم (1480/ 48).
(5)
مسلم (1482).
وفي لفظٍ له
(1)
عنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في المطلَّقة ثلاثًا: «ليس لها سُكنى ولا نفقةٌ» .
قالوا: وقد روى عبد الرزاق في «مصنَّفه»
(2)
عن يحيى بن العلاء، عن عبيد الله
(3)
بن الوليد الوصَّافي، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، [عن داود بن عبادة بن الصامت]
(4)
، قال: طلَّق جدِّي امرأةً له ألفَ تطليقةٍ، فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما اتَّقى الله جدُّك، أمَّا ثلاثٌ فله، وأمَّا تسعمائةٍ وسبعٌ وتسعون فعدوانٌ وظلمٌ، إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء غفر له» .
ورواه بعضهم
(5)
عن صدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم بن عبيد الله بن
(1)
مسلم (1480/ 44).
(2)
برقم (11339)، وكذا الطبراني كما في «جامع المسانيد» لابن كثير (5677)، وبنحوه روى ابن عدي في «الكامل» (5/ 522)، والدارقطني في «السنن» (3934)، وقال:«رواته مجهولون وضعفاء» ، وقد أُعلَّ الحديث بيحيى وكان كذابًا، وبعبيد الله، وهو ضعيف جدًا، وشيخه مجهول، وسيأتي كلام المصنف فيه. وانظر:«مجمع الزوائد» (4/ 338).
(3)
ز، ب:«عبد الله» ، خطأ.
(4)
زيادة من «المصنف» . وفي ب: «عن أبيه عن جده» . وسيأتي بيان الاضطراب في إسناده.
(5)
رواه الدارقطني في «السنن» (3943)، وسبق تخريجه، وقد اضطرب عبيد الله في إسناد هذا الحديث: فرواه مرة عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة بن الصامت كما عند عبدالرزاق، وقد سبق، ورواه أيضًا عن داود بن إبراهيم عن عبادة بن الصامت، عند ابن عدي، ورواه عن إبراهيم بن داود عن عبادة بن الصامت، كما عند الطبراني، ورواه من وجه آخر عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، عند الطبراني والدارقطني، ووافقه عليه صدقة بن أبي عمران، كما هنا.
عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدِّه قال: طلَّق بعض آبائي امرأته، فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللَّه! إنَّ أبانا طلَّق أمَّنا ألفًا، فهل له من مَخرجٍ؟ فقال:«إنَّ أباكم لم يتَّقِ اللَّه فيجعل له مخرجًا، بانتْ منه بثلاثٍ على غير السُّنَّة، وتسعمائةٍ وسبعٌ وتسعون إثمٌ في عنقه» .
قالوا: وروى محمد بن شاذان، عن معلَّى
(1)
بن منصورٍ، عن شُعيب بن رُزَيق
(2)
، أنَّ عطاء الخراسانيَّ حدَّثهم عن الحسن، قال: حدَّثنا عبد الله بن عمر أنَّه طلَّق امرأته وهي حائضٌ، ثمَّ أراد أن يتبعها بتطليقتين أُخريينِ عند القُرأينِ الباقيينِ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا ابن عمر، ما هكذا أمرك اللَّه، أخطأتَ السُّنَّة
…
» وذكر الحديث، وفيه: فقلت: يا رسول اللَّه، لو كنتُ طلَّقتها ثلاثًا أكان لي أن أجمعها، قال:«لا، كانت تَبِينُ، وتكون معصيةً»
(3)
.
قالوا: وقد روى أبو داود في «سننه»
(4)
عن نافع بن عُجَير بن عبد يزيد بن رُكانة، أنَّ رُكانة بن عبد يزيد طلَّق امرأته سُهَيمة البتَّةَ، فأَخبر
(1)
في النسخ: «يعلى» ، تحريف.
(2)
في النسخ والمطبوع: «زريق» بتقديم الزاي، وهو تصحيف، انظر:«الإكمال» (4/ 50).
(3)
أخرجه الدارقطني في «السنن» (3974)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 330) من طرق عن شعيب بن رزيق به، وقد أُعلَّ بعنعنة عطاء الخراساني وهو يدلس ويرسل، وبشعيبِ بن رزيق وقد ضعفه ابن حزم، وقال ابن حبان: يعتبر حديثه من غير روايته عن عطاء الخراسانى، ووثقه الدارقطني، وأعلَّه ابن حبان بالانقطاع، ولا يسلَّم له. والحاصل: أن الحديث أصله صحيح كما سبق، لكنه منكر بهذا السياق، وفيه زيادة ليست في غيره، كما قال البيهقي، وهي قوله: «فقلت: يارسول الله
…
»، وسيأتي تضعيف المصنف لها. وانظر:«التنقيح» (4/ 402)، و «نصب الراية» (3/ 220).
(4)
برقم (2206). وقد سبق.
النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: والله ما أردتُ إلا واحدةً
(1)
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«واللهِ ما أردتَ إلا واحدةً؟» ، فقال ركانة: واللهِ ما أردتُ إلا واحدةً
(2)
، فردَّها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلَّقها الثَّانيةَ في زمن عمر، والثَّالثة في زمن عثمان.
وفي «جامع الترمذي»
(3)
: عن عبد الله
(4)
بن علي بن يزيد بن رُكانة، عن أبيه، عن جدِّه أنَّه طلَّق امرأته البتَّةَ، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ما أردتَ؟» ، قال: واحدةً، قال:«آللهِ؟» ، قال: آللَّهِ. قال: «هو على ما أردت» . قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمَّدًا عن هذا الحديث فقال: فيه اضطرابٌ.
ووجه الاستدلال بالحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم أَحْلفَه أنَّه أراد بالبتَّة واحدةً، فدلَّ على أنَّه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده، ولو لم يفترق الحال لم يُحلِفه.
قالوا: وهذا أصحُّ من حديث ابن جريجٍ عن بعض بني أبي رافع، عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ أنَّه طلَّقها ثلاثًا. قال أبو داود
(5)
: لأنَّهم ولدُ الرَّجل، وأهلُه أعلمُ به أنَّ ركانة إنَّما طلَّقها البتَّة.
قالوا: وابن جريجٍ إنَّما رواه عن بعض بني أبي رافع. فإن كان عبد الله
(6)
فهو ثقةٌ معروفٌ، وإن كان غيره من إخوته فمجهول العدالة، لا تقوم به حجَّةٌ.
(1)
«وقال: والله ما أردت إلا واحدة» ساقطة من المطبوع.
(2)
«فقال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة» ساقطة من ز.
(3)
برقم (1177). وقد سبق.
(4)
ص، ب:«عبيد الله» ، خطأ.
(5)
عقب الحديث رقم (2196).
(6)
ص، ب، المطبوع:«عبيد الله» ، خطأ.
قالوا: وأمَّا طريق الإمام أحمد، ففيها ابن إسحاق، والكلام فيه معروفٌ، وقد حكى الخطابي
(1)
أنَّ الإمام أحمد كان يضعِّف طرق هذا الحديث كلَّها.
قالوا: وأصحُّ ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن عبَّاسٍ، وقد قال البيهقي
(2)
: هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاريُّ ومسلم، فأخرجه مسلم وتركه البخاريُّ، وأظنُّه تركَه لمخالفته
(3)
سائر الرِّوايات عن ابن عبَّاسٍ. ثمَّ ساق الرِّوايات عنه بوقوع الثَّلاث، ثمَّ قال: فهذه رواية سعيد بن جبيرٍ
(4)
، وعطاء بن أبي رباحٍ
(5)
، ومجاهد
(6)
، وعكرمة
(7)
، وعمرو بن
(1)
في «معالم السنن» (3/ 122). وناقشه المؤلف في «تهذيب السنن» (1/ 526 - 528).
(2)
في «السنن الكبرى» (7/ 337). وينظر: «معرفة السنن والآثار» (5/ 463).
(3)
ص، ز:«بمخالفة» .
(4)
سيأتي تخريجها قريبًا.
(5)
أخرجها عبد الرزاق (11348) والبيهقي (7/ 337) بسند جيِّد عن ابن جريج، عن عبدالحميد بن رافع، عن عطاء: أن رجلًا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة، فقال ابن عباس:«يأخذ من ذلك ثلاثًا، ويدع سبعًا وتسعين» . وأخرجه ابن أبي شيبة (18176) من وجه آخر عنه.
(6)
أخرجها أبو داود (2197) والنسائي في «الكبرى» (5556)، وكذا عبد الرزاق (11352) والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 58) والدارقطني في «السنن» (3926) والبيهقي في «الكبرى» (7/ 331) من طرق عن مجاهد عن ابن عباس، وصحح الحافظ في «الفتح» (9/ 362) إسناد أبي داود، وفيه: أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثًا
…
فقال: «عصيت ربك، وبانت منك امرأتك
…
».
(7)
سيأتي تخريجها قريبًا.
دينارٍ
(1)
،
ومالك بن الحارث
(2)
، ومحمد بن إياس بن البُكَير
(3)
ــ قال: وروِّيناه عن معاوية بن أبي عيَّاش الأنصاري
(4)
ــ كلُّهم عن ابن عبَّاسٍ أنَّه أجاز الثَّلاث وأمضاهنَّ.
وقال ابن المنذر
(5)
: فغير [جائزٍ]
(6)
أن يُظَنَّ بابن عبَّاسٍ أنَّه يحفظ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئًا ثمَّ يفتي بخلافه.
وقال الشَّافعيُّ
(7)
: فإن كان معنى قول ابن عبَّاسٍ: «إنَّ الثَّلاث كانت تُحْسَب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدةً، يعني أنَّه بأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فالَّذي يُشِبه ــ والله أعلم ــ أن يكون ابن عبَّاسٍ قد علم أنَّه كان شيئًا فنُسِخ.
(1)
أخرجها ابن أبي شيبة (17813) والبيهقي في «الكبرى» (7/ 337) بسند صحيح عن ابن علية عن أيوب عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم، فقال:«إنما يكفيك رأس الجوزاء» ..
(2)
أخرجها عبد الرزاق (10779) وسعيد بن منصور (4/ 61) وابن أبي شيبة (18088) والطحاوي في «معانى الآثار» (3/ 57) والقاضي إسماعيل بن إسحاق في «أحكام القرآن» (ص 238) والبيهقي في «الكبرى» (7/ 337) من طرق عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، قال:«جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى الله فأندمه الله، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا» ، وسنده صحيح.
(3)
سيأتي تخريجها قريبًا.
(4)
روايته هي رواية محمد بن إياس المشار إليها آنفًا، فقد شهد معاوية القصة حين جاء محمد بن إياس يسأل عن طلاق الثلاث، وسيأتي تخريجها قريبًا.
(5)
في «الأوسط» (9/ 158).
(6)
«جائز» ليست في النسخ، وزيدت من «الأوسط» ليستقيم الكلام.
(7)
في «اختلاف الحديث» مع كتاب «الأم» (10/ 257).
قال البيهقي
(1)
: ورواية عكرمة عن ابن عبَّاسٍ فيها تأكيدٌ لصحَّة هذا التَّأويل. يريد البيهقي ما رواه أبو داود والنَّسائيُّ
(2)
من حديث عكرمة في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية [البقرة: 228]، وذلك أنَّ الرَّجل كان إذا طلَّق امرأته فهو أحقُّ برجعتها، وإن طلَّقها ثلاثًا، فنُسِخ ذلك، فقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229].
قالوا: فيحتمل أنَّ الثَّلاث كانت تُجعل واحدةً من هذا الوقت، بمعنى أنَّ الزَّوج كان يتمكَّن من المراجعة بعدها، كما يتمكَّن من المراجعة
(3)
بعد الواحدة، ثمَّ نُسِخ ذلك.
وقال ابن سُرَيج
(4)
: يمكن أن يكون ذلك إنَّما جاء في نوعٍ خاصٍّ من الطَّلاق الثَّلاث، وهو أن يُفرِّق بين الألفاظ، كأنه يقول: أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر النَّاسُ على صدقهم وسلامتهم، لم يكن فيهم الخبُّ والخداع، فكانوا يُصدَّقون أنَّهم أرادوا به
(1)
في «السنن الكبرى» (7/ 338).
(2)
أخرجه أبو داود (2195، 2282) والنسائي في «المجتبى» (3554) وفي «الكبرى» (5717) من طريق علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، وقد اختلف في وصله وإرساله، فوصله علي بن الحسين كما هنا، وأرسله يحيى بن واضح عند ابن جرير في «تفسيره» (4/ 527)؛ فجعله من قول عكرمة والحسن، ويحيى أوثق من عليٍّ؛ ففي حفظ علي وأبيه مقالٌ يسير، وقد صحح الموصولَ الضياء في «المختارة» (345)، والألباني في «الإرواء» (2080) بشواهده.
(3)
«بعدها كما يتمكن من المراجعة» ساقطة من ص، ب.
(4)
ص، ز، ب:«ابن جريج» ، تحريف. وانظر كلامه في «معالم السنن» (3/ 127).
التَّأكيد، ولا يريدون به الثَّلاث، فلمَّا رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أمورًا ظهرت وأحوالًا تغيَّرت، منع من حمل اللَّفظ على التَّكرار، وأَلزَمهم الثَّلاثَ.
وقالت طائفةٌ: معنى الحديث أنَّ النَّاس كانت عادتُهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاعَ الواحدة، ثمَّ يَدَعُها حتَّى تنقضي عدَّتها، ثمَّ اعتادوا الطَّلاق الثَّلاثَ جملةً، وتتابعوا فيه. ومعنى الحديث على هذا: كان الطَّلاق الذي يُوقِعه
(1)
المطلِّق الآن ثلاثًا يُوقِعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدةً، فهو إخبارٌ عن الواقع لا عن المشروع.
وقالت طائفةٌ: ليس في الحديث بيانُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يجعل الثَّلاث واحدةً، ولا أنَّه أعلم
(2)
بذلك فأقرَّ عليه، ولا حجَّة إلا فيما قاله أو فعلَه أو عَلِمَ به فأقرَّ عليه
(3)
، ولا نعلم صحَّة واحدةٍ من هذه الأمور في حديث أبي الصهباء.
قالوا: وإذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا إلى ما عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم أعلم بسنَّته، فنظرنا فإذا الثَّابت عن عمر بن الخطَّاب الذي لا يثبت عنه غيره: ما رواه عبد الرزاق
(4)
عن سفيان الثَّوريِّ، عن سلمة بن كُهَيلٍ، ثنا زيد بن وهبٍ، أنَّه رُفِع إلى عمر بن الخطَّاب رجلٌ طلَّق امرأته ألفًا، فقال له عمر: أطلَّقتَ امرأتك؟ فقال: إنَّما كنتُ ألعب، فعلاه عمر بالدِّرَّة،
(1)
د: «أوقعه» .
(2)
ص: «علم» .
(3)
«ولا حجة إلا فيما قاله أو فعله أو علم به فأقرَّ عليه» ساقطة من د، ص، ز، ب.
(4)
برقم (11340)، وكذا ابن أبي شيبة (18100)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 334)، من طريق سفيان وشعبة عن سلمة بن كهيل به، وسنده صحيح.
وقال: إنَّما يكفيك من ذلك ثلاثٌ.
وروى وكيعٌ
(1)
عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، قال: جاء رجلٌ إلى عليِّ بن أبي طالبٍ، فقال: إنِّي طلَّقت امرأتي ألفًا، فقال له علي: بانت منك بثلاثٍ، واقْسِمْ سائرهنَّ بين نسائك.
وروى وكيعٌ
(2)
أيضًا عن جعفر بن بُرْقان، عن معاوية بن أبي يحيى، قال: جاء رجلٌ إلى عثمان بن عفَّان، فقال: طلَّقتُ امرأتي ألفًا، قال: بانت منك بثلاثٍ.
وروى عبد الرزاق
(3)
عن سفيان الثَّوريِّ، عن عمرو بن مُرَّة، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: قال رجلٌ لابن عبَّاسٍ: طلَّقت امرأتي ألفًا، فقال له ابن عبَّاسٍ: ثلاثٌ تُحرِّمها عليك، وبقيَّتها عليك وِزْرٌ، أتَّخذتَ آيات الله هزوًا؟!
(1)
أخرجه عنه ابن أبي شيبة (18101)، والدارقطني في «السنن» (3946)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 335)، وسنده ضعيف؛ للانقطاع بين حبيب وعلي رضي الله عنه ، وحبيب ثقة فقيه جليل لكنه كثير الإرسال والتدليس.
(2)
أخرجه عنه ابن أبي شيبة (18104) بنحوه، وذكره في «المحلى» (9/ 399) معلَّقًا، وسنده ضعيف؛ معاوية بن أبي يحيى لم يرو عنه غير جعفر، ولم أقف على من ترجمه سوى ابن حبان في «الثقات» (7/ 468)، وقال:«يروي المراسيل» ، ولعل هذا منها؛ فإنه لم يعرف له سماعٌ من عثمان، وتلميذُه مات نحو سنة 150، وأكبر شيوخه: عكرمة وعطاء ونافع ومَن في طبقتهم، وهؤلاء روايتهم عن عثمان مرسلة.
(3)
برقم (11353)، وأخرجه ابن أبي شيبة (18103)، والطحاوي في «معاني الآثار» (4481)، والدارقطني في «السنن» (3925، 3928)، من طريقين عن عمرو بن مرة، به. وتابع عمرًا عكرمةُ بن خالد، عند عبد الرزاق (11350) والدارقطني (3924)، والبيهقي (7/ 337)، وسنده صحيح على شرط الشيخين.
وروى عبد الرزاق
(1)
أيضًا عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: جاء رجلٌ إلى ابن مسعودٍ، فقال: إنِّي طلَّقتُ امرأتي تسعًا وتسعين، فقال له ابن مسعودٍ: ثلاثٌ تُبِينُها [منك]
(2)
، وسائرهنَّ عدوانٌ.
وذكر أبو داود في «سننه»
(3)
عن محمد بن إياس، أنَّ ابن عبَّاسٍ وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم سُئلوا عن البِكر يُطلِّقها زوجها ثلاثًا، فكلُّهم قال: لا تحلُّ له حتَّى تنكح زوجًا غيره.
قالوا: فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تسمعون قد أوقعوا الثَّلاث جملةً، ولو لم يكن فيهم إلّا
(4)
المحدَّث المُلْهَم وحده لكفى، فإنَّه لا يُظَنُّ به تغيير ما شرعه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من الطَّلاق الرَّجعيِّ، فيجعله محرَّمًا، وذلك يتضمَّن تحريمَ فرْجِ المرأة على من لم تحرم عليه، وإباحتَه لمن لا تحلُّ له، ولو فعل ذلك عمر لما أقرَّه عليه الصَّحابة، فضلًا عن أن يوافقوه، ولو كان عند ابن عبَّاسٍ حجَّةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الثَّلاث واحدةٌ لم يخالفْها ويفتي
(5)
(1)
برقم (11343)، وكذا سعيد بن منصور (1063)، وابن أبي شيبة (18097، 18098، 18099)، والطبراني في «الكبير» (9630)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 332) من طرقٍ عن الأعمش به. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 338):«رجاله رجال الصحيح» ، وسيأتي قول ابن حزم:«هذا خبر في غاية الصحة» .
(2)
«منك» ليست في النسخ، وزيدت من «المصنف» .
(3)
برقم (2198)، وكذا أخرجه مالك في «الموطأ» (2110)، ومن طريقه الشافعي في «المسند» (ص 271)، وعبد الرزاق (11071)، وابن أبي شيبة (18159)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 335،355) من طرق عن محمد بن إياس به، وسنده صحيح.
(4)
بعدها «عمر» في المطبوع، وليس في النسخ.
(5)
كذا في النسخ بإثبات الياء، والصواب حذفها، فهي معطوفة على الفعل المجزوم.
بغيرها موافقةً لعمر، وقد عُلِم مخالفتُه له في العَوْل، وحجْبِ الأمِّ بالاثنين من الإخوة والأخوات، وغير ذلك.
قالوا: ونحن في هذه المسألة تَبَعٌ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أعلمُ بسنَّته وشرعه، ولو كان مستقرًّا من شريعته أنَّ الثَّلاث واحدةٌ، وتوفِّي والأمر على ذلك= لم يَخْفَ عليهم، ويعلَمْه مَن بعدهم، ولم يُحْرَموا الصَّوابَ فيه، ويُوفَّقْ له مَن بعدهم، ويَروي حبر الأمَّة وفقيهها خبرَ كون الثَّلاث واحدةً ويخالفه.
قال المانعون من وقوع الثَّلاث: التَّحاكم في هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم الله عز وجل أصدقَ قسمٍ وأبرَّه، أنَّا لا نؤمن حتَّى نُحكِّمه فيما شجر بيننا، ثمَّ نرضى بحكمه، ولا يَلحقُنا فيه حرجٌ، ونُسلِّم تسليمًا، لا
(1)
إلى غيره كائنًا من كان، اللَّهمَّ إلا أن تُجمِع الأمة إجماعًا متيقَّنًا لا نشكُّ فيه على حكمٍ، فهو الحقُّ الذي لا يجوز خلافه، ويأبى الله أن تجتمع الأمَّة على خلاف سنَّةٍ ثابتةٍ عنه أبدًا. ونحن قد أوجدناكم من الأدلَّة ما تَثبتُ المسألة به، بل وبدونه، ونحن نناظركم فيما طعنتم به في تلك الأدلَّة، وفيما عارضتمونا به، على أنَّا لا نحكم على أنفسنا إلا نصًّا عن اللَّه، أو نصًّا ثابتًا عن رسوله، أو إجماعًا متيقَّنًا لا شكَّ فيه، وما عدا هذا فعُرْضةٌ للنِّزاعٍ، وغايته أن يكون سائغَ الاتِّباع لا لازمَه، فلتكن هذه المقدِّمة سَلفًا لنا عندكم، وقد قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. وقد تنازعنا نحن وأنتم في هذه المسألة، فلا سبيلَ إلى ردِّها إلى غير الله ورسوله البتَّةَ، وسيأتي أنَّا أحقُّ بالصَّحابة
(1)
«لا» ليست في د.
وأسعدُ بهم فيها، فنقول:
أمَّا منعُكم لتحريم جمع الثَّلاث، فلا ريبَ أنَّها مسألة نزاعٍ، ولكنَّ الأدلَّة الدَّالَّة على التَّحريم حجَّةٌ عليكم.
أمَّا قولكم: إنَّ القرآن قد دلَّ على جواز الجمع، فدعوى غير مقبولةٍ، بل باطلةٌ، وغايةُ ما تمسَّكتم به إطلاق القرآن للفظ الطَّلاق، وذلك لا يعمُّ جائزَه ومحرَّمَه، كما لا يدخل تحته طلاق الحائض وطلاق الموطوءة في طهرها، وما مَثلكم في ذلك إلا كمثل من عارض السُّنَّة الصَّحيحة في تحريم الطَّلاق المحرَّم بهذه الإطلاقات سواء، ومعلومٌ أنَّ القرآن لم يدلَّ على جواز كلِّ طلاقٍ حتَّى تُحمِّلوه ما لا يطيقه، وإنَّما دلَّ على أحكام الطَّلاق، والمبيِّن عن الله بيَّن حلاله وحرامه، ولا ريبَ أنَّا أسعدُ بظاهر القرآن كما بيَّنَّا في صدر الاستدلال، وأنَّه سبحانه لم يشرع قطُّ طلاقًا بائنًا بغير عوضٍ لمدخولٍ بها إلا أن يكون آخرَ العدد، وهذا كتاب الله بيننا وبينكم، وغاية ما تمسَّكتم به ألفاظٌ مطلقةٌ قيَّدتْها السُّنَّة، وبيَّنتْ شروطها وأحكامها.
وأمَّا استدلالكم بأنَّ الملاعن طلَّق امرأته ثلاثًا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أصحَّه من حديثٍ، وأبعدَه من استدلالكم على جواز الطَّلاق الثَّلاث بكلمةٍ واحدةٍ في نكاحٍ يُقصَد بقاؤه ودوامه. ثمَّ المستدلُّ بهذا إن كان ممَّن يقول: إنَّ الفرقة وقعت عقيبَ لعان الزَّوج وحده، كما يقوله الشَّافعيُّ، أو عقيبَ لعانهما وإن لم يُفرِّق الحاكم، كما يقوله أحمد في إحدى الرِّوايات عنه= فالاستدلال به باطلٌ، لأنَّ الطَّلاق الثَّلاث حينئذٍ لغوٌ لم يُفِدْ شيئًا. وإن كان ممَّن يُوقِف الفرقة على تفريق الحاكم لم يصحَّ الاستدلال به أيضًا، لأنَّ هذا النِّكاح لم يبقَ سبيلٌ إلى بقائه ودوامه، بل هو واجب الإزالة ومؤبَّدُ
التَّحريم، فالطَّلاق الثَّلاث مؤكِّدٌ لمقصود اللِّعان ومقرِّرٌ له، فإنَّ غايته أن يُحرِّمها عليه حتَّى تنكح زوجًا غيره، وفرقة اللِّعان تُحرِّمها عليه على الأبد، ولا يلزم من نفوذ الطَّلاق في نكاحٍ قد صار مستحقَّ التَّحريم على التَّأبيد نفوذُه في نكاحٍ قائمٍ مطلوب البقاء والدَّوام، ولهذا لو طلَّقها في هذا الحال وهي حائضٌ أو نُفَساء أو في طهرٍ جامعها فيه= لم يكن عاصيًا، لأنَّ هذا النِّكاح مطلوبُ الإزالة مؤبَّدُ التَّحريم. ومن العجب أنَّكم تتمسَّكون بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الطَّلاق المذكور، ولا تتمسَّكون بإنكاره وغضبه للطَّلاق الثَّلاث من غير الملاعن، وتسميتِه لعبًا بكتاب الله كما تقدَّم، فكم بين هذا الإقرار
(1)
وهذا الإنكار؟ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين، مُقِرُّون لما أقرَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، منكرون لما أنكره.
وأمَّا استدلالكم بحديث عائشة أنَّ رجلًا طلَّق ثلاثًا فتزوَّجتْ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحلُّ
(2)
للأوَّل؟ فقال: «لا، حتَّى تذوق العُسيلةَ» ، فهذا مما
(3)
لا نُنازعكم فيه، نعم هو حجَّةٌ على من اكتفى بمجرَّد عقد الثَّاني، ولكن أين في الحديث أنَّه طلَّق الثَّلاث بفمٍ واحدٍ؟ بل الحديث حجَّةٌ لنا، فإنَّه لا يقال:«فعل ذلك ثلاثًا» و «قال ثلاثًا» إلا لمن فعلَ وقال مرَّةً بعد مرَّةٍ، هذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال: قذفَه ثلاثًا، وشتَمَه ثلاثًا، وسلَّم عليه ثلاثًا.
(1)
ز: «القرار» .
(2)
في المطبوع: «هل تحل» . والمثبت من النسخ.
(3)
«مما» ليست في المطبوع.
قالوا: وأمَّا استدلالكم بحديث فاطمة بنت قيس، فمن العجب العُجاب، فإنَّكم خالفتموه فيما هو صريحٌ فيه لا يقبل تأويلًا صحيحًا، وهو سقوط النَّفقة والكسوة للبائن، مع صحَّته وصراحته وعدمِ ما يعارضه مقاومًا له، وتمسَّكتم به فيما هو مجملٌ، بل بيانُه في نفس الحديث بما يُبطِل تعلُّقَكم به، فإنَّ قوله:«طلَّقها ثلاثًا» ليس بصريحٍ في جمعها، بل كما تقدَّم، كيف وفي «الصَّحيح»
(1)
في خبرها نفسِه من رواية الزُّهريِّ عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنَّ زوجها أرسل إليها بتطليقةٍ كانت بقيتْ لها من طلاقها. وفي لفظٍ في «الصَّحيح»
(2)
: أنَّه طلَّقها آخرَ ثلاثِ تطليقاتٍ. وهو سندٌ صحيحٌ متَّصلٌ مثل الشَّمس، فكيف ساغ لكم تركُه إلى التَّمسُّك بلفظٍ مجملٍ، وهو أيضًا حجَّةٌ عليكم كما تقدَّم؟
قالوا: وأمَّا استدلالكم بحديث عبادة بن الصَّامت الذي رواه عبد الرزاق، فخبرٌ في غاية السُّقوط؛ لأنَّ في طريقه: يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد الوَصَّافي عن إبراهيم بن عبيد الله، ضعيفٌ عن هالكٍ عن مجهولٍ، ثمَّ الذي يدلُّ على كذبه وبطلانه أنَّه لم يُعرَف في شيءٍ من الآثار ــ صحيحِها ولا سقيمِها، ولا متَّصلِها ولا منقطعِها ــ أنَّ والد عبادة بن الصَّامت أدرك الإسلام، فكيف بجدِّه؟ فهذا محالٌ بلا شكٍّ.
وأمَّا حديث عبد الله بن عمر، فأصله صحيحٌ بلا شكٍّ، لكنَّ هذه الزِّيادة والوصلة التي فيه «فقلت: يا رسول الله، لو طلَّقتُها ثلاثًا أكانتْ تَحِلُّ لي؟» إنَّما جاءت من رواية شعيب بن رُزَيق
(3)
، وهو الشامي، وبعضهم يقلبه
(1)
أخرجه مسلم (1480/ 41).
(2)
أخرجه مسلم (1480/ 40).
(3)
في المطبوع: «زريق» ، خطأ.
فيقول: رُزَيق بن شعيب. وكيفما كان فهو ضعيفٌ، ولو صحَّ لم يكن فيه حجَّةٌ، لأنَّ قوله:«لو طلَّقتُها ثلاثًا» بمنزلة قوله: لو سلَّمتُ ثلاثًا، أو أقررتُ ثلاثًا، ونحوه ممَّا لا يُعقل جمعُه.
وأمَّا حديث نافع بن عُجَير الذي رواه أبو داود: أنَّ ركانة طلَّق امرأته البتَّةَ، فأحلفَه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدةً، فمن العجب تقديم نافع بن عُجَير المجهول الذي لا يُعرف حاله البتَّةَ، ولا يُدرى من هو ولا ما هو، على ابن جريجٍ ومعمر وعبد الله بن طاوس في قصَّة أبي الصهباء، وقد شهد إمام أهل الحديث محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ بأنَّ فيه اضطرابًا، هكذا قال الترمذي في «الجامع»
(1)
. وذكر عنه في موضعٍ آخر
(2)
: أنَّه مضطربٌ. فتارةً يقول: طلَّقها ثلاثًا، وتارةً يقول: واحدةً، وتارةً يقول: طلَّقها البتَّة. وقال الإمام أحمد: طرقُها كلُّها ضعيفةٌ، وضعَّفه أيضًا البخاريُّ، حكاه المنذري
(3)
عنه.
ثمَّ كيف يُقدَّم هذا الحديث المضطرب المجهول روايةً على حديث عبد الرزاق عن ابن جريجٍ لجهالة بعض بني أبي رافع هذا؟ وأولاده تابعيُّون، وإن كان عبيد الله أشهرهم، وليس فيهم متَّهمٌ بالكذب، وقد روى عنه ابن جريجٍ، ومن يَقبل رواية المجهول أو يقول: رواية العدل عنه تعديلٌ له، فهذا حجَّةٌ عنده. فأمَّا أن يُضعِّفه ويُقدِّم عليه رواية من هو مثله من الجهالة أو أشدُّ، فكلَّا! فغاية الأمر أن يتساقط روايتا هذين المجهولين، ويُعدَل إلى غيرهما، وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم، فوجدناه صحيح الإسناد،
(1)
تحت رقم (1177).
(2)
«العلل» (1/ 461).
(3)
في «مختصر السنن» (3/ 134).
وقد زالت علَّة تدليس محمد بن إسحاق بقوله: «حدَّثني داود بن الحصين» ، ولكن رواه أبو عبد الله الحاكم في «مستدركه»
(1)
وقال: إسناده صحيح، فوجدنا الحديث لا علة له
(2)
. وقد احتجَّ أحمد بإسناده في مواضع
(3)
، وقد صحَّح هو وغيره بهذا الإسناد بعينه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ زينب على زوجها أبي العاص بن الرَّبيع بالنِّكاح الأوَّل، ولم يُحدِث شيئًا
(4)
.
وأمَّا داود بن الحصين عن عكرمة، فلم تزل الأئمَّة تحتجُّ به
(5)
، وقد احتجُّوا به في حديث العرايا
(6)
فيما شُكَّ فيه ولم يُجزَم به من تقديرها بخمسة أوسُقٍ أو دونها، مع كونها على خلاف الأحاديث التي نُهِي فيها عن بيع الرُّطب بالتَّمر
(7)
، فما ذنبه في هذا الحديث سوى روايته ما لا يقولون به. وإن قَدَحْتم في عكرمة ــ ولعلَّكم فاعلون ــ جاءكم ما لا قِبَلَ لكم به
(1)
لم أجده في «المستدرك» بهذا الإسناد، وقد عزاه المؤلف في «إغاثة اللهفان» (1/ 507) إلى الضياء المقدسي في «المختارة» ، وهو فيه:(11/ 362، 363)، وقال: إنها أصح من «صحيح الحاكم» .
(2)
«ولكن رواه
…
لا علة له» ساقطة من المطبوع.
(3)
من «مسنده» (2366، 2382، 2387، 14869).
(4)
«المسند» رقم (1876، 2366). وقد سبق تخريجه.
(5)
وقد ضعَّف حديثه عن عكرمة جماعة؛ كابن المديني، وأبي داود، وابن حجر. انظر ترجمته في:«تهذيب الكمال» (8/ 379)، و «تاريخ الإسلام» (3/ 640)، و «تهذيب التهذيب» (3/ 181).
(6)
أخرجه البخاري (2190) ومسلم (1541) من طريق داود بن الحصين عن أبي سفيان عن أبي هريرة، وهو غير الإسناد المذكور.
(7)
منها حديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري (2171، 2205) ومسلم (1542).
من التَّناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمَّة الحديث من روايته، وارتضاء البخاريِّ لإدخال حديثه في «صحيحه» .
فصل
وأمَّا تلك المسالك الوَعِرة التي سلكتموها في حديث أبي الصهباء، فلا يصحُّ شيءٌ منها
(1)
.
أمَّا المسلك الأوَّل، وهو انفراد مسلم بروايته وإعراض البخاريِّ عنه، فتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنه
(2)
عارُها، وما ضرَّ ذلك الحديثَ انفرادُ مسلم به شيئًا. ثمَّ هل تقبلون أنتم أو أحدٌ مثلَ هذا في كلِّ حديثٍ ينفرد به مسلم عن البخاريِّ؟ وهل قال البخاريُّ قطُّ: إنَّ كلَّ حديثٍ لم أُدخِلْه في كتابي فهو باطلٌ، أو ليس بحجَّةٍ، أو ضعيفٌ؟ وكم قد احتجَّ البخاريُّ بأحاديثَ خارجَ «الصَّحيح» ليس لها ذكرٌ في «صحيحه» ، وكم صحَّح من حديثٍ خارجٍ عن «صحيحه» .
فأمَّا مخالفة سائر الرِّوايات له عن ابن عبَّاسٍ، فلا ريبَ أنَّ عن ابن عبَّاسٍ روايتين صحيحتين بلا شكٍّ: إحداهما توافق هذا الحديث، والأخرى تخالفه، فإن أسقطنا روايةً بروايةٍ سَلِمَ الحديثُ، على أنَّه بحمد الله سالمٌ. ولو اتَّفقت الرِّوايات عنه على مخالفته فله أسوةُ أمثالِه. وليس بأوَّل حديثٍ خالفه راويه، فنسألكم: هل الأخذ بما رواه الصَّحابيُّ عندكم أو بما رآه؟ فإن قلتم:
(1)
انظر نقد هذه المسالك عند المؤلف في «إغاثة اللهفان» (1/ 512 - 541)، و «أعلام الموقعين» (3/ 469 وما بعدها).
(2)
في المطبوع: «عنك» خلاف النسخ. وقد اقتبسه المؤلف بتغيير الضمير ليناسب السياق.
الأخذ بروايته، وهو قول جمهوركم بل جمهور الأمَّة على هذا، كَفَيتمونا مؤونةَ الجواب. وإن قلتم: الأخذ برأيه أَريناكم مِن تناقضكم ما لا حيلةَ لكم في دفعه، ولا سيَّما عن ابن عبَّاسٍ نفسه، فإنَّه روى حديث بَرِيرة وتخييرها، ولم يكن بيعها طلاقًا، ورأى بخلافه وأنَّ بيع الأمة طلاقها، فأخذتم ــ وأصبتم ــ بروايته وتركتم رأيه، فهلَّا فعلتم ذلك فيما نحن فيه وقلتم: الرِّواية معصومةٌ، وقول الصَّحابيِّ غير معصومٍ، ومخالفته لما رواه يحتمل احتمالاتٍ عديدةً: من نسيانٍ، أو تأويلٍ، أو اعتقادِ معارضٍ راجحٍ في ظنِّه، أو اعتقادِ أنَّه منسوخٌ أو مخصوصٌ، أو غير ذلك من الاحتمالات، فكيف يَسُوغ ترك روايته مع قيام هذه الاحتمالات؟ وهل هذا إلا تركُ معلومٍ لمظنونٍ بل مجهولٍ؟
قالوا: وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه حديث التَّسبيع من ولوغ الكلب، وأفتى بخلافه
(1)
، فأخذتم بروايته، وتركتم فتواه. ولو تتبَّعنا ما أخذتم فيه برواية الصَّحابيِّ دون فتواه لطال.
قالوا: وأمَّا دعواكم لنسخِ الحديث، فموقوفةٌ على ثبوت معارضٍ مقاومٍ متراخٍ، فأين هذا؟
وأمَّا حديث عكرمة عن ابن عبَّاسٍ في نسخ المراجعة بعد الطَّلاق الثَّلاث، فلو صحَّ لم يكن فيه حجَّةٌ، فإنَّه إنَّما فيه أنَّ الرَّجل كان يُطلِّق امرأته
(1)
حديث التسبيع من ولوغ الكلب أخرجه البخاري (172) ومسلم (279). وأفتى أبو هريرة بالغسل ثلاثًا، وهو عند الدارقطني في «السنن» (196، 197)، والطحاوي في «معاني الآثار» (1/ 23)، والبيهقي في «الخلافيات» (902)، وصحح سنده ابن التركماني في «الجوهر النقي» (1/ 148). وانظر المسألة في «الفتح» (1/ 277).
ويراجعها بغير عددٍ، فنُسِخ ذلك وقُصِر على ثلاثٍ، فبها تنقطع الرَّجعة، فأين في ذلك الإلزامُ بالثَّلاث بفمٍ واحدٍ؟ ثمَّ كيف يستمرُّ المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، لا تعلم به الأمة وهو من أهمِّ الأمور المتعلِّقة بحِلِّ الفروج؟ ثمَّ كيف يقول عمر: إنَّ النَّاس قد استعجلوا في شيءٍ كانت لهم فيه أَناةٌ
(1)
؟ وهل للأمة أناةٌ في المنسوخ بوجهٍ ما؟! ثمَّ كيف يُعارَضُ الحديث الصَّحيح بهذا الذي فيه عليُّ بن الحسين بن واقدٍ، وضعفه معلومٌ؟
وأمَّا حَمْلكم الحديثَ على قول المطلِّق: أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، ومقصوده التَّأكيدُ بما بعد الأوَّل، فسياق الحديث من أوَّله إلى آخره يردُّه، فإنَّ هذا الذي أوَّلتم الحديث عليه لا يتغيَّر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف على عهده وعهد خلفائه، وهلمَّ جرًّا إلى آخر الدَّهر، ومن ينويه في قصد التَّأكيد لا يُفرِّق بين برٍّ وفاجرٍ، وصادقٍ وكاذبٍ، بل يردُّه إلى نيَّته، وكذلك من لا يقبله في الحكم لا يقبله مُطلَقًا برًّا كان أو فاجرًا.
وأيضًا فإنَّ قوله: «إنَّ النَّاس قد استعجلوا وتتايعوا في شيءٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أنَّا أمضيناه عليهم» إخبارٌ من عمر بأنَّ النَّاس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فُسْحةٍ منه، وشرعَه متراخيًا بعضُه عن بعضٍ رحمةً بهم، ورفقًا وأناةً لهم، لئلَّا يندم مُطلِّقٌ، فيذهبَ حبيبُه من يديه من أوَّل وَهْلةٍ، فيَعِزُّ عليه تداركُه، فجعل له أناةً ومهلةً يستعتبه فيها ويُرضيه، ويزول ما أحدثه العَتْب الدَّاعي إلى الفراق، ويراجع كلٌّ منهما الذي عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناةٌ ومهلةٌ، وأوقعوه بفمٍ واحدٍ، فرأى عمر رضي الله عنه أنَّه
(1)
سبق تخريجه.
يلزمهم ما التزموه عقوبةً لهم، فإذا عَلِم المطلِّق أنَّ زوجته وسَكَنَه تَحرُم عليه من أوَّل مرَّةٍ بجمعِه الثَّلاثَ كفَّ عنها، ورجع إلى الطَّلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا من تأديب عمر لرعيَّته لمَّا أكثروا من الطَّلاق الثَّلاث، كما سيأتي مزيدُ تقريرِه عند الاعتذار عن عمر رضي الله عنه في إلزامه بالثَّلاث
(1)
. هذا وجه الحديث الذي لا وجهَ له غيرُه، فأين هذا من تأويلكم المستكره المستبعد الذي لا توافقه ألفاظ الحديث، بل تَنْبُو عنه وتُنافِره؟
وأمَّا قول من قال: إنَّ معناه: كان وقوع الطَّلاق الثَّلاث الآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدةً، فإنَّ حقيقة هذا التَّأويل: كان النَّاس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلِّقون واحدةً، وعلى عهد عمر صاروا يطلِّقون ثلاثًا، والتَّأويلُ إذا وصل إلى هذا الحدِّ كان من باب الإلغاز والتَّحريف، لا من باب بيان المراد. ولا يصحُّ ذلك بوجهٍ، فإنَّ النَّاس ما زالوا يُطلِّقون واحدةً وثلاثًا، وقد طلَّق رجالٌ نساءهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، فمنهم من ردَّها إلى واحدةٍ، كما في حديث عكرمة عن ابن عبَّاسٍ، ومنهم من أَنكر عليه وغضب، وجعلَه متلاعبًا بكتاب اللَّه، ولم يُعرَف ما حَكَم به عليه، ومنهم من أقرَّه لتأكيد التَّحريم الذي أوجبه اللِّعان، ومنهم من ألزمَه بالثَّلاث لكون ما أتى به من الطَّلاق آخرَ الثَّلاثِ. فلا يصحُّ أن يقال: إنَّ النَّاس ما زالوا يُطلِّقون واحدةً إلى أثناء خلافة عمر، فطلَّقوا ثلاثًا، ولا يصحُّ أن يقال: إنَّهم قد استعجلوا في شيءٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فيُمْضِيه عليهم، ولا يلائم هذا الكلامُ الفرقَ بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عهده بوجهٍ ما، فإنَّه ماضٍ منكم على عهده وبعدَ عهدِه.
ثمَّ إنَّ في بعض ألفاظ الحديث الصَّحيحة: «ألم تَعلَمْ أنَّه من طلَّق ثلاثًا
(1)
د: «الثلاث» .
جُعِلت واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟»
(1)
. وفي لفظٍ
(2)
: «أما علمتَ أنَّ الرَّجل كان إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر؟ فقال ابن عبَّاسٍ: بلى، كان الرَّجل إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلمَّا رأى النَّاسَ ــ يعني عمر ــ قد تَتَايَعُوا فيها، قال: أَجْرُوهنَّ
(3)
عليهم». هذا لفظ الحديث، وهو بأصحِّ إسنادٍ، وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التَّأويل بوجهٍ ما، ولكنَّ هذا كلَّه عملُ من جعل الأدلَّة تبعًا للمذهب، فاعتقد ثمَّ استدلَّ. وأمَّا من جعل المذهب تبعًا للدَّليل، واستدلَّ ثمَّ اعتقد، لم يُمكِنْه هذا العمل.
وأمَّا قول من قال: ليس في الحديث بيان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يجعل ذلك، ولا أنَّه عَلِم به وأقرَّ عليه، فجوابه أن يقال: سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ أن يستمرَّ هذا الجَعْلُ الحرام ــ المتضمِّن لتغيير شرع الله ودينه، وإباحةِ الفرج لمن هو عليه حرامٌ، وتحريمِه على من هو عليه حلالٌ ــ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه خيرِ الخلق، وهم يفعلونه ولا يعلمونه، ولا يعلمه هو والوحيُ ينزل، وهو يُقِرُّهم عليه. فهَبْ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمه، وكان الصَّحابة يعلمونه، ويُبدِّلون دينه وشرعه، والله يعلم ذلك، ولا يوحيه إلى رسوله، ولا يُعْلِمه به! ثمَّ يتوفَّى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، فيستمرُّ
(1)
أخرجه مسلم (1472/ 16)، وقد تقدم.
(2)
عند أبي داود (2199)، وقد تقدم تخريجه.
(3)
كذا في النسخ. وعند أبي داود: «أَجِيزُوهنّ» أو «أُجِيزُهنّ» على اختلاف النسخ، انظر طبعة دار القبلة (3/ 75).
هذا الضَّلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدَّة خلافة الصِّدِّيق كلَّها، يُعمَل به ولا يُغيَّر إلى أن فارق الصِّدِّيق الدُّنيا، فاستمرَّ الخطأ والضَّلال المركَّب صدرًا من خلافة عمر، حتَّى رأى عمر بعد ذلك برأيه أن يُلزِم النَّاسَ بالصَّواب! فهل في الجهل بالصَّحابة وما كانوا عليه في عهد نبيِّهم وخلفائه أقبحُ من هذا؟ وتاللَّه لو كان جعْلُ الثَّلاث واحدةً خطأً محضًا لكان أسهلَ من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه، والتَّأويلِ الذي تأوَّلتموه، ولو تركتم المسألة بهيئتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلَّة والأجوبة.
قالوا: وليس التَّحاكم في هذه المسألة إلى مقلِّدٍ متعصِّبٍ، ولا هَيَّابٍ للجمهور، ولا مستوحشٍ من التَّفرُّد إذا كان الصَّواب في جانبه، وإنَّما التَّحاكم فيها إلى راسخٍ في العلم قد طال فيه
(1)
باعُه، ورَحُبَ بنَيْلِه ذراعُه، وفَرَّق بين الشُّبهة والدَّليل، وتلقَّى الأحكامَ من نفس مشكاة الرَّسول، وعرف المراتب، وقام فيها بالواجب، وباشرَ قلبُه أسرارَ الشَّريعة وحِكَمَها الباهرة، وما تضمَّنته من المصالح الباطنة والظَّاهرة، وخاضَ في مثل هذه المضايق لُجَجَها، واستوفى من الجانبين حُجَجَها، والله المستعان، وعليه التُّكلان.
قالوا: وأمَّا قولكم: إذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا فيما عليه الصَّحابة رضي الله عنه ، فنعم واللهِ وحيَّهلا بِيَزَكِ
(2)
الإسلام، وعِصابة الإيمان.
(1)
في المطبوع: «منه» خلاف النسخ.
(2)
في المطبوع: «بيرك» . د: «ينزك» . ز، ب:«بترك» . وكله تصحيف، والمثبت من ص. ويزك كلمة فارسية، معناها: طلائع الجيش. انظر الكلام عليها في التعليق على «النونية» (2/ 571)، و «أعلام الموقعين» (1/ 18).
فلا تَطلَّبْ ليَ الأعواضَ بعدَهُمُ
…
فإنَّ قلبيَ لا يَرضى بغيرِهِمُ
(1)
ولكن لا يليق أن تَدْعُونا إلى شيءٍ، وتكونوا أوَّلَ نافرٍ عنه ومخالفٍ له، فقد توفِّي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أكثر من مائة ألفِ عينٍ كلُّهم قد رآه وسمع منه، فهل صحَّ لكم عن هؤلاء كلِّهم، أو عُشُرِهم، أو عُشُرِ عُشُرِهم، أو عُشُرِ عُشُرِ عُشُرِهم، القولُ بلزوم الثَّلاث بفمٍ واحدٍ؟ هذا، ولو جهدتم كلَّ الجهد لم تُطيقوا نقلَه عن عشرين نفسًا منهم أبدًا مع اختلافٍ عنهم في ذلك، فقد
(2)
صحَّ عن ابن عبَّاسٍ القولان، وصحَّ عن ابن مسعودٍ القول باللُّزوم، وصحَّ عنه التَّوقُّف
(3)
، ولو كاثَرْناكم بالصَّحابة الذين كان الثَّلاث على عهدهم واحدةً لكانوا أضعافَ من نُقِل عنه خلاف ذلك، ونحن نكاثركم بكلِّ صحابيٍّ مات إلى صدرٍ من خلافة عمر، ويكفينا مُقدَّمُهم، وخيرهم وأفضلهم، ومن كان معه من الصَّحابة على عهده، بل لو شئنا لقلنا ولصَدَقْنا: إنَّ هذا كان إجماعًا قديمًا لم يَختلف فيه على عهد الصِّدِّيق اثنان، ولكن لم ينقرِضْ عصر المُجمِعين حتَّى حدث الاختلاف، فلم يستقرَّ الإجماع الأوَّل حتَّى صار الصَّحابة على قولين، واستمرَّ الخلاف بين الأمَّة في ذلك إلى اليوم
(4)
.
(1)
البيت للشريف الرضي في «ديوانه» (2/ 275)، ورواية الشطر الأول فيه:
لا تطلبنَّ لي الأبدالَ بعدهمُ
(2)
«فقد» ليست في د.
(3)
سبق تخريج آثارهما.
(4)
انظر: «تسمية المفتين بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة» للشيخ سليمان العمير، ط. دار عالم الفوائد بمكة المكرمة 1428.
ثمَّ نقول: لم يخالف عمر إجماعَ من تقدَّمه، بل رأى إلزامهم بالثَّلاث عقوبةً لهم لمَّا علموا أنَّه حرامٌ وتتايعوا فيه، ولا ريبَ أنَّ هذا سائغٌ للأئمَّة أن يُلزِموا النَّاس بما ضيَّقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصة الله عز وجل وتسهيلَه ورخصتَه
(1)
، بل اختاروا الشِّدَّة والعسر، فكيف بأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وكمالِ نظره للأمَّة، وتأديبِه لهم! ولكنَّ العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص، والتَّمكُّن من العلم بتحريم الفعل المعاقَب
(2)
عليه وخفائه، وأمير المؤمنين رضي الله عنه لم يقل لهم: إنَّ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هو رأيٌ رآه مصلحةً للأمَّة يَكُفُّهم بها عن التَّسارع إلى إيقاع الثَّلاث، ولهذا قال:«فلو أنَّا أَمضَيناه عليهم» ، وفي لفظٍ:«فأَجِيزوهنَّ عليهم» . أفلا ترى أنَّ هذا رأيٌ منه رآه للمصلحة لا إخبارٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولمَّا علم رضي الله عنه أنَّ تلك الأناة والرُّخصة نعمةٌ من الله على المُطلِّق، ورحمةٌ به، وإحسانٌ
(3)
إليه، وأنَّه قابلها بضدِّها، ولم يقبل رخصةَ اللَّه وما جعلَه له من الأناة= عاقبَه بأن حالَ بينه وبينها، وألزمه ما ألزمه من الشِّدَّة والاستعجال.
وهذا موافقٌ لقواعد الشَّريعة، بل هو موافقٌ لحكمة الله في خلقه قدرًا وشرعًا، فإنَّ النَّاس إذا تعدَّوا حدوده، ولم يقفوا عندها، ضيَّق عليهم ما جعله لمن اتَّقاه من المخرج، وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه من قال من الصَّحابة للمطلِّق ثلاثًا: إنَّك لو اتَّقيتَ الله لجعلَ لك مخرجًا، كما قال ابن مسعودٍ
(1)
«ورخصته» ليست في المطبوع.
(2)
د: «الغالب» ، خطأ.
(3)
في النسخ: «وإحسانًا» .