المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بينه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرم أمته أو زوجته أو متاعه - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٥

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصولٌ(1)في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في أقضيته وأحكامه

- ‌فصلٌفي حكمه فيمن قَتَل عبدَه

- ‌فصلفي حُكمه في المحاربين

- ‌فصلفي حُكمه بين القاتل ووليّ المقتول

- ‌فصلفي حُكمه بالقوَد على من قتل جاريةً، وأنه يُفعَل به كما فَعَل

- ‌فصلفي حُكمه صلى الله عليه وسلم فيمن ضرب امرأة حاملًا فطرحها

- ‌فصلفي حُكمه صلى الله عليه وسلم بالقَسَامة(3)فيمن لم يُعرف قاتلُه

- ‌فصلفي حُكمه صلى الله عليه وسلم في أربعة سقطوا في بئر فتعلّق بعضُهم ببعض فهَلَكوا

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوّج امرأة أبيه

- ‌فصلفي حُكمه صلى الله عليه وسلم بقتل من اتهم بأم ولده فلما ظهرت براءته أمسك عنه

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في القتيل يوجد بين قريتين

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم بتأخير القصاص من الجرح حتى يندمل

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم بالقصاص في كسر السِّنّ

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن عضّ يدَ رجلٍ فانتزع يدَه من فيهفسقطت ثنيةُ العاضّ بإهدارها

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن اطلع في بيت رجل بغير إذنه فخَذَفه بحصاةأو فقأ عينه فلا شيء عليه

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم على من أقرّ بالزنا

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم على أهل الكتاب في الحدود بحكم الإسلام

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في السارق

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم على مَن اتهم رجلًا بسرقة

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن سَبّه مِن مسلم أو ذمِّي أو معاهَد

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيمن سَمَّه

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الساحر

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في أول غنيمة كانت في الإسلام وأوّل قتيل

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الجاسوس

- ‌فصلفي حُكْمه في الأسرى

- ‌فصل في حُكْمه صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في فتح مكة

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمينثم ظَهَر عليه المسلمون أو أَسْلَم عليه المشركون

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيما كان يُهدى إليه

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الأموال

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الوفاء بالعهد لعدُوِّه، وفي رسلهم أن لا يُقتلوا ولا يُحبَسوا، وفي النَّبْذِ إلى مَن عاهده على سواءٍ إذا خاف منه نقض العهد

- ‌فصلفي حُكْمه في الأمان الصادر من الرجال والنساء

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الجزية ومقدارها وممن تُقبل

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الهدنة وما ينقضها

- ‌ذِكْر أقضيته وأحكامه في النكاح وتوابعه

- ‌فصلفي حُكْمه في الثَّيِّب والبكر يزوِّجهما أبوهما

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في النكاح بلا وليّ

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في نكاح التفويض

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج امرأةً فوجدها في الحَبَلِ

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الشروط في النكاح

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في نكاح الشِّغار، والمحلِّل والمتعة،ونكاح المُحرِم، ونكاح الزانية

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيمن أسلم على أكثر من أربعة نسوة أو على أختين

- ‌فصلفيما حَكَم الله سبحانه بتحريمه من النساء على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الزوجين يُسلم أحدُهما قبل الآخر

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في العَزْل

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في الغَيْل، وهو وطء المرضعة

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في قَسْم الابتداء والدوام بين الزوجات

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في تحريم وطء المرأة الحُبْلى من غير الواطئ

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الرجل يُعتق أمته ويجعل عتقها صَداقها

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في صحة النكاح الموقوف على الإجازة

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم بثبوت الخيار للمعتقة تحت العبد

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في الصّداق بما قلّ وكثر، وقضائه بصحة النكاحعلى ما مع الزوج من القرآن

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أحد الزوجين يجد بصاحبه بَرَصًاأو جُنونًا أو جُذامًا أو يكون الزوج عنّينًا

- ‌فصلفي حُكْم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خدمة المرأة لزوجها

- ‌حُكْم(1)رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزوجين يقع الشقاق بينهما

- ‌حُكْم النبي صلى الله عليه وسلم في الخُلْع

- ‌ذِكْر أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطَّلاق

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق قبل النكاح

- ‌حُكْم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم طلاق الحائض والنفساءوالموطوءة في طُهرها، وتحريم إيقاع الثلاث جملة

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلَّق ثلاثًا بكلمة واحدة

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد يُطلِّق زوجته تطليقتين ثم يَعْتِق بعد ذلك، هل تَحِلُّ له بدون زوج وإصابة

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ الطلاق بيد الزوجِ لا بيد غيرِه

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن طلَّق دون الثلاث،ثم راجعها بعدَ زوج: أنها على بقية الطلاق

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن المطلقة ثلاثًا لا تَحِلُّ للأوّلحتى يطأها الزوج الثاني

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة تُقيم شاهدًا واحدًا على طلاق زوجها والزوج مُنكِر

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخيير أزواجه بين المُقَام معهوبين مفارقتهن له

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بيَّنه عن ربّه تبارك وتعالى فيمن حرَّمَ أمتَه أو زوجتَه أو متاعَه

- ‌فصلالفصل الثَّالث:

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الرجل لأمرته: الْحقي بأهلِكِ

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظِّهاروبيان ما أنزل الله فيه، ومعنى العَوْد الموجب للكفَّارة

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيلاء

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللعان

- ‌فصلالحكم الثَّاني:

- ‌فصلالحكم الثَّالث:

- ‌فصلالحكم الرَّابع:

- ‌فصلالحكم الخامس:

- ‌فصلالحكم السَّادس:

- ‌فصلالحكم السَّابع:

- ‌فصلالحكم الثَّامن:

- ‌فصلالحكم التَّاسع:

- ‌فصلالحكم العاشر:

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في لحوق النَّسب بالزَّوج إذا خالف لونُ ولده لونَه

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش، وأن الأمة تكون فراشًا، وفيمن استلحق بعدَ موتِ أبيه

- ‌فصلالثَّالث: البيِّنة

- ‌فصلالرَّابع: القافة

- ‌ذكر حكمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضائه باعتبار القافة وإلحاقِ النَّسب بها

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في استلحاق ولد الزِّنا وتوريثه

- ‌ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب في الجماعةالذين وقعوا على امرأة في طهرٍ واحد، ثم تنازعوا الولدَ،فأقرعَ بينهم فيه، ثم بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فضحكَ ولم يُنكِره

الفصل: ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بينه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرم أمته أو زوجته أو متاعه

جعل للحاكم أن يُطلِّق على الزَّوج في مواضع بطريق النِّيابة عنه. فإذا وكَّل الزَّوج مَن يُطلِّق عنه أو يخالع، لم يكن في هذا تغييرٌ لحكم اللَّه ولا مخالفةٌ لدينه، فإنَّ الزَّوج هو الذي يُطلِّق، إمَّا بنفسه وإمّا بوكيله، وقد يكون أتمَّ نظرًا للرَّجل من نفسه، وأعلمَ بمصلحته، فيفوِّض إليه ما هو أعلمُ بوجه المصلحة فيه منه. وإذا جاز التَّوكيل في العتق والنِّكاح والخلع والإبراء وسائر الحقوق: من المطالبة بها، وإثباتها، واستيفائها، والمخاصمة فيها= فما الذي حرَّم التَّوكيل في الطَّلاق؟ نعم، الوكيلُ يقوم مقامَ الموكِّل فيما يملكه من الطَّلاق وما لا يملكه، وما يحلُّ له منه وما يحرم، ففي الحقيقة لم يُطلِّق إلا الزَّوجُ، إمَّا بنفسه وإمّا بوكيله. وبالله التوفيق.

‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بيَّنه عن ربّه تبارك وتعالى فيمن حرَّمَ أمتَه أو زوجتَه أو متاعَه

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2]. ثبت في «الصَّحيحين»

(1)

: أنَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

شرب عسلًا في بيت ميمونة

(3)

، فاحتالت عليه عائشة وحفصة حتَّى قال:«لن أعود له» . وفي لفظٍ: «وقد حلفتُ» .

(1)

أخرجه البخاري (4912، 5267، 6691)، ومسلم (1474)، من حديث عائشة.

(2)

«أنه صلى الله عليه وسلم» ليست في م.

(3)

كذا في جميع النسخ، والذي في «الصحيحين» أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش، وفي بعض الروايات: حفصة بنت عمر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن شرب العسل كان عند سودة. ولم يرد في شيء من الروايات أنها ميمونة. انظر: «فتح الباري» (9/ 376).

ص: 426

وفي «سنن النَّسائيِّ»

(1)

عن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمةٌ يطؤها، فلم تزَلْ به عائشة وحفصة حتَّى حرَّمها، فأنزل الله عز وجل {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} .

وفي «صحيح مسلم»

(2)

عن ابن عبَّاسٍ قال: إذا حرَّم الرَّجل امرأته فهي يمينٌ يكفِّرها، وقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].

وفي «جامع التِّرمذيِّ»

(3)

عن عائشة قالت: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرَّم، فجعل الحرام حلالًا، وجعل في اليمين كفَّارةً.

هكذا رواه مسلمة بن علقمة عن داود عن الشَّعبيِّ عن مسروق عن عائشة، ورواه عليُّ بن مسهرٍ وغيره [عن داود]

(4)

عن الشَّعبيِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وهو أصحُّ. انتهى كلام أبي عيسى.

وقولها: «جعلَ الحرامَ حلالًا» ، أي جعل الشَّيء الذي حرَّمه ــ وهو العسل أو الجارية ــ حلالًا بعد تحريمه إيَّاه.

وقال اللَّيث بن سعدٍ: عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن عبد الله بن هُبيرة،

(1)

برقم (3959) وفي «الكبرى» (8907)، وكذا الحاكم (2/ 493) من طرق عن ثابت عن أنس، وقال الحاكم: على شرط مسلم، وصحح الحافظ إسناده في «الفتح» (9/ 376).

(2)

برقم (1473)، وبنحوه عند البخاري (4911، 5266).

(3)

برقم (1201)، وكذا ابن ماجه (2072) من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة، وسيذكر المصنف الاختلافَ في وصله وإرساله. وفي سنده مسلمةُ بن علقمة؛ من رجال مسلم، إلا أن له أوهامًا، وقد عدَّ الذهبيُّ في «الميزان» (4/ 109) حديثَه هذا من مناكيره، وصححه ابن حبان (4278)، ويشهد له ما قبله.

(4)

الزيادة من الترمذي.

ص: 427

عن قَبِيصة بن ذُؤيبٍ، قال: سألت زيد بن ثابتٍ وابن عمر عمَّن قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرامٌ، فقالا جميعًا: كفَّارة يمينٍ

(1)

.

وقال عبد الرزاق

(2)

: عن ابن عُيينة، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهد، عن ابن مسعودٍ قال في التَّحريم: هي يمينٌ يكفِّرها.

قال ابن حزمٍ

(3)

: ورُوي ذلك عن أبي بكرٍ الصِّديق

(4)

وعائشة أمِّ المؤمنين

(5)

. وقال الحجَّاج بن منهالٍ: ثنا جرير بن حازمٍ قال: سألتُ نافعًا مولى ابن عمر عن الحرام أطلاقٌ هو؟ قال: لا، أَوَليس قد حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريتَه، فأمره الله عز وجل أن يُكفِّر عن يمينه، ولم يُحرِّمها عليه

(6)

.

(1)

أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 125)، وصحح إسنادَه الحافظ في «التلخيص» (3/ 467).

(2)

في «المصنف» (11366)، ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (9632) وابن حزم في «المحلى» (10/ 125)، وسنده صحيح.

(3)

في «المحلى» (10/ 126). وفي د: «ابن جرير» ، تحريف.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة (18507)، وسعيد بن منصور (1695) من طريق الضحاك: أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا: من قال لامرأته: (هي عليه حرام)؛ فليست عليه بحرام، وعليه كفارة يمين. قال الحافظ في «التلخيص» (3/ 468):«وهذا ضعيف، ومنقطع أيضًا» . في سنده جويبر؛ وهو ضعيف جدًا، والضحاك لم يدركهم؛ بل قيل لم يدرك أحدًا من الصحابة. وعزاه إليه في «الفتح» (9/ 372)، و «المغني» (10/ 396).

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (18498)، والدارقطني (4057)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 351) من طريق مطر الوراق عن عطاء عنها أنها قالت:«في الحرام يمين تكفّر» ، وسنده صحيح.

(6)

أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 126) عن الحجاج معلقًا، وهو في «الاستذكار» (6/ 22) معلقًا.

ص: 428

وقال عبد الرزاق

(1)

: عن معمر، عن يحيى بن أبي كثيرٍ وأيُّوب السَّختيانيِّ، كلاهما عن عكرمة، أنَّ عمر بن الخطَّاب قال: هي يمينٌ، يعني التَّحريم.

وقال إسماعيل بن إسحاق: ثنا المقدَّمي، ثنا حمَّاد بن زيدٍ، عن صخر

(2)

بن جُويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الحرام يمينٌ

(3)

.

وفي «صحيح البخاريِّ»

(4)

: عن سعيد بن جبيرٍ أنَّه سمع ابن عبَّاسٍ يقول: إذا حرَّم امرأتَه ليس بشيءٍ، لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ. فقيل: هذا روايةٌ أخرى عن ابن عبَّاسٍ. وقيل: إنَّما أراد أنَّه ليس بطلاقٍ وفيه كفَّارة اليمين، ولهذا احتجَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الثَّاني أظهر.

وهذه المسألة فيها عشرون مذهبًا للنَّاس، ونحن نذكرها، ونذكر وجوهها ومآخذَها، والرَّاجحَ منها

(5)

، بعون الله وتوفيقه.

(1)

في «المصنف» (11360)، وعنه في «المحلى» (10/ 125). وكذا رواه أحمد (1976)، وسعيد بن منصور (1701)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 350)، وسنده ضعيف؛ عكرمة لم يدرك عمر، وله طرق أخرى ضعيفة.

(2)

ز: «صخرة» ، خطأ.

(3)

أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 125) معلَّقًا من طريق إسماعيل بن إسحاق به، ورجاله ثقات.

(4)

برقم (5266).

(5)

ذكرها المؤلف في «أعلام الموقعين» (3/ 532 وما بعدها) أيضًا، واعتمد فيهما على «المحلى» (10/ 124 وما بعدها) اعتمادًا كبيرًا، وتصرَّف في ترتيب المذاهب.

ص: 429

أحدها: أنَّ التَّحريم لغوٌ لا شيء فيه، لا في الزَّوجة ولا في

(1)

غيرها، لا طلاق ولا إيلاء ولا ظهار ولا يمين. روى وكيعٌ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن الشَّعبيِّ عن مسروق: ما أبالي حرَّمتُ امرأتي أو قَصْعةً من ثَرِيدٍ

(2)

.

وذكر عبد الرزاق

(3)

عن الثَّوريِّ، عن صالح بن مسلم، عن الشَّعبيِّ، أنَّه قال في تحريم المرأة: لهي أهونُ عليَّ من نعلي.

وذكر

(4)

عن ابن جريجٍ، أخبرني عبد الكريم، عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن، أنَّه قال: ما أبالي حرَّمتُها ــ يعني امرأته ــ أو حرَّمتُ ماء النَّهر.

وقال قتادة: سأل رجلٌ حُميد بن عبد الرَّحمن الحميريَّ عن ذلك، فقال: قال الله عز وجل: {(6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ} [الشرح: 7 - 8]، وأنت رجلٌ تلعب، فاذهبْ فالعبْ

(5)

.

وهذا قول أهل الظَّاهر كلِّهم.

المذهب الثَّاني: أنَّ التَّحريم في الزَّوجة طلاقٌ ثلاثٌ. قال ابن حزمٍ

(6)

: قاله عليُّ بن أبي طالبٍ وزيد بن ثابتٍ وابن عمر، وهو قول الحسن

(1)

«في» ليست في م.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور (1702)، وابن الجعد (2381)، وابن أبي شيبة (18506)، من طريقين عن الشعبي به. وسنده صحيح.

(3)

في «المصنف» (11378)، وسنده صحيح.

(4)

أي عبد الرزاق (11376).

(5)

أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 127) معلَّقًا من طريق الحجاج عن همام عن قتادة به، ورجاله ثقات.

(6)

في «المحلى» (10/ 124).

ص: 430

ومحمَّد بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، ورُوِي عن الحكم بن عُتَيبة

(1)

.

قلت: الثابت عن زيد بن ثابتٍ وابن عمر ما رواه هو

(2)

من طريق اللَّيث بن سعدٍ عن يزيد بن أبي حبيبٍ عن أبي هريرة

(3)

عن قَبِيصة، أنَّه سأل زيد بن ثابتٍ وابن عمر عمَّن قال لامرأته: أنت عليَّ حرامٌ، فقالا جميعًا: كفَّارة يمينٍ. ولم يصحَّ عنهما خلاف ذلك.

وأمَّا عليٌّ، فقد روى أبو محمد ابن حزم

(4)

من طريق يحيى القطَّان، ثنا إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن الشَّعبيِّ قال: يقول رجالٌ في الحرام هي حرامٌ حتَّى تنكح زوجًا غيره، ولا والله، ما قال ذلك علي، إنَّما قال علي: ما أنا بِمُحِلِّها ولا بمُحرِّمِها عليك، إن شئتَ فتقدَّمْ، وإن شئتَ فتأخَّرْ.

وأمَّا الحسن، فقد روى أبو محمد

(5)

من طريق قتادة عنه أنَّه قال: كلُّ

(1)

م: «عيينة» ، تصحيف. أما علي وزيد وابن عمر والحسن فسيأتي تخريج أقوالهم قريبًا. وأما ابن أبي ليلى والحكم فحكاه عنهما ابن المنذر في «الإشراف» (5/ 200)، وابن عبد البر في «الاستذكار» (6/ 17)، والحافظ في «الفتح» (9/ 372).

(2)

أي ابن حزم في «المحلى» (10/ 125).

(3)

كذا في جميع النسخ، والصواب:«عن ابن هُبيرة» كما في «المحلى» . وهو: عبد الله بن هبيرة بن أسعد السبئي المصري، وثقه أحمد وغيره. انظر:«تهذيب التهذيب» (6/ 62).

(4)

في «المحلى» (10/ 126)، وكذا ابن أبي شيبة (18509) من طريق يعلى عن إسماعيل عنه، وسنده صحيح، وصححه المصنِّف في «أعلام الموقعين» (3/ 534).

(5)

في «المحلى» (10/ 126)، وكذا أخرجه عبد الرزاق (11374، 15835) بسند صحيح، من طريق معمر عن قتادة عنه، وعزاه إليه في «الأوسط» (12/ 123) و «الإشراف» (7/ 111).

ص: 431

حلالٍ عليَّ حرامٌ فهي يمينٌ.

ولعلَّ أبا محمد غلِطَ على علي وزيد وابن عمر، من مسألة الخليَّة والبريَّة والبتَّة، فإنَّ أحمد حكى عنهم أنَّها ثلاثٌ، وقال

(1)

: هو عن علي وابن عمر صحيحٌ. فوهم أبو محمد وحكاه في «أنت عليَّ حرامٌ» ، وهو وهمٌ ظاهرٌ، فإنَّهم فرَّقوا بين التَّحريم فأفتوا فيه بأنَّه يمينٌ، وبين الخليَّة فأفتوا فيها بالثَّلاث، ولا أعلم أحدًا قال إنَّه ثلاثٌ بكلِّ حالٍ.

المذهب الثَّالث: أنَّه ثلاثٌ في حقِّ المدخول بها لا يُقبل منه غيرُ ذلك، وإن كانت غيرَ مدخولٍ بها وقع ما نواه من واحدةٍ واثنتين وثلاثٍ، فإن أطلق فواحدةٌ. فإن قال: لم أُرِدْ طلاقًا، فإن كان قد تقدَّم كلامٌ يجوز صرفُه إليه قُبِل منه، وإن كان ابتداءً لم يُقبَل، وإن حرَّم أَمتَه أو طعامَه أو متاعَه فليس بشيءٍ. وهذا مذهب مالك.

المذهب الرَّابع: أنَّه إن نوى الطَّلاق كان طلاقًا، ثمَّ إن نوى به الثَّلاث فثلاثٌ، وإن نوى دونها فواحدةٌ بائنةٌ، وإن نوى يمينًا فهو يمينٌ فيها كفَّارةٌ، وإن لم ينوِ شيئًا فهو إيلاءٌ فيه حكم الإيلاء. فإن نوى الكذب صُدِّق في الفتيا، ولم يكن شيئًا، ويكون في القضاء إيلاءً، وإن صادف غيرَ الزَّوجة كالأَمة والطَّعام وغيره فهو يمينٌ، فيه كفَّارتها. وهذا مذهب أبي حنيفة.

المذهب الخامس: أنَّه إن نوى به الطَّلاق كان طلاقًا، ويقع ما نواه، فإن أطلق وقعتْ واحدة، وإن نوى الظِّهار كان ظهارًا، وإن نوى اليمين كان يمينًا، وإن نوى تحريمَ عينها من غير طلاقٍ ولا ظهارٍ فعليه كفَّارة يمينٍ، وإن لم ينو

(1)

كما في «المغني» (10/ 365). وسيأتي تخريج الأثرين عنهما.

ص: 432

شيئًا ففيه قولان، أحدهما: لا يلزمه شيءٌ، والثَّاني: يلزمه كفَّارة يمينٍ. وإن صادف جاريةً فنوى عِتقَها وقع العتق، وإن نوى تحريمَها لزِمَه بنفس اللَّفظ كفَّارة يمينٍ، وإن نوى الظِّهارَ منها لم يصحَّ، ولم يلزمه شيءٌ، وقيل: يلزمه كفَّارة يمينٍ، وإن لم ينْوِ شيئًا ففيه قولان، أحدهما: لا يلزمه شيءٌ. والثَّاني: عليه كفَّارة يمينٍ. وإن صادف غيرَ الزَّوجة والأَمةِ لم يَحْرُم، ولم يلزمه به شيءٌ. وهذا مذهب الشَّافعيِّ.

المذهب السَّادس: أنَّه ظهارٌ بإطلاقه، نواه أو لم ينْوِه، إلا أن يصرفه بالنِّيَّة إلى الطَّلاق أو اليمين، فينصرف إلى ما نواه، هذا ظاهر مذهب أحمد. وعنه روايةٌ ثانيةٌ أنَّه بإطلاقه يمينٌ إلا أن يصرفه بالنِّيَّة إلى الظِّهار أو الطَّلاق، فينصرف إلى ما نواه. وعنه روايةٌ أخرى ثالثةٌ أنَّه ظهارٌ بكلِّ حالٍ ولو نوى غيره. وفيه روايةٌ رابعةٌ حكاها أبو الحسين

(1)

في «فروعه» أنَّه طلاقٌ بائنٌ. ولو وصله بقوله: «أعني به الطَّلاق» فعنه فيه روايتان، إحداهما: أنَّه طلاقٌ، فعلى هذا هل تلزمه الثَّلاث أو واحدةٌ؟ على روايتين. والثَّانية: أنَّه ظهارٌ أيضًا، كما لو قال: أنتِ عليَّ كظهر أمِّي، أعني به الطَّلاق. هذا تلخيص مذهبه

(2)

.

المذهب السَّابع: أنَّه إن نوى ثلاثًا فهي ثلاثٌ، وإن نوى واحدةً فواحدةٌ بائنةٌ، وإن نوى يمينًا فهي يمينٌ، وإن لم ينو شيئًا فهي كذبةٌ لا شيء فيها. وهذا

(1)

هو ابن أبي يعلى صاحب «الطبقات» (ت 526). له «المجموع في الفروع» ، ويقال له «الفروع» أيضًا. اعتمد عليه المرداوي كثيرًا في «الإنصاف» ، وابن مفلح في «الفروع» ، وابن قندس في «حواشيه على الفروع» . ولم يصل إلينا.

(2)

انظر: «الفروع» لابن مفلح (9/ 44 وما بعدها)، و «الإنصاف» (8/ 486 وما بعدها).

ص: 433

مذهب سفيان الثَّوريِّ، حكاه أبو محمد

(1)

.

المذهب الثَّامن: أنَّه طلقةٌ واحدةٌ بائنةٌ بكلِّ حالٍ، وهذا مذهب حمَّاد بن أبي سليمان.

المذهب التَّاسع: أنَّه إن نوى ثلاثًا فثلاثٌ، وإن نوى واحدةً أو لم ينْوِ شيئًا فواحدةٌ بائنةٌ. وهذا مذهب إبراهيم، حكاه أبو محمد ابن حزم

(2)

.

المذهب العاشر: أنَّه طلقةٌ رجعيَّةٌ، حكاه ابن الصبَّاغ وصاحبه أبو بكرٍ الشَّاشيُّ، عن الزُّهريِّ عن عمر بن الخطَّاب.

المذهب الحادي عشر: أنَّها حرمت عليه بذلك فقط، ولم يذكر هؤلاء طلاقًا ولا ظهارًا ولا يمينًا، بل ألزموه موجَب تحريمه. قال ابن حزمٍ

(3)

: صحَّ هذا عن عليِّ بن أبي طالبٍ، ورجالٍ من الصَّحابة لم يسمَّوا، وعن أبي هريرة

(4)

. وصحَّ عن الحسن وخِلاس بن عمرٍو وجابر بن زيدٍ وقتادة أنَّهم أمروه باجتنابها فقط.

المذهب الثَّاني عشر: التَّوقُّف في ذلك، ولا يُحرِّمها المفتي على الزَّوج ولا يُحِلُّها له، كما رواه الشَّعبيُّ عن علي أنَّه قال: ما أنا بمُحِلِّها ولا مُحرِّمها

(1)

في «المحلى» (10/ 125). ورواه عبد الرزاق (11390).

(2)

في المصدر السابق (10/ 125). ورواه عبد الرزاق (11370).

(3)

في المصدر السابق (10/ 124، 125).

(4)

أخرج الإمام أحمد كما في «العلل» (3/ 378) من طريق حماد عن عطاء بن السائب عن أبي البختري وميسرة أن عليًّا قال في الحرام: هي عليَّ حرام كما قال. وإسناده صحيح، ولا يضر اختلاط عطاء؛ فسماع حماد بن زيد منه كان قبل الاختلاط، وميسرة أدرك عليًّا.

ص: 434

عليك، إن شئتَ فتقدَّمْ، وإن شئتَ فتأخَّرْ

(1)

.

المذهب الثَّالث عشر: الفرق بين أن يُوقِع التَّحريم منجَّزًا أو معلَّقًا تعليقًا مقصودًا، وبين أن يُخرِجه مُخرَجَ اليمين، فالأوَّل ظهارٌ بكلِّ حالٍ، ولو نوى به الطَّلاق، ولو وصله بقوله: أعني به الطَّلاق. والثَّاني: يمينٌ يلزمه به كفَّارة يمينٍ. فإذا قال: أنتِ عليَّ حرامٌ، أو إذا دخل رمضان فأنتِ عليَّ حرامٌ= فظهارٌ، وإذا قال: إن سافرتُ، أو إن أكلتُ هذا الطَّعام، أو كلَّمتُ فلانًا، فامرأتي عليَّ حرامٌ= فيمينٌ مكفَّرةٌ. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

.

فهذه أصول المذاهب في هذه المسألة، وتتفرَّع إلى أكثر من عشرين مذهبًا.

فصل

فأمَّا من قال: التَّحريم كلُّه لغوٌ لا شيء فيه، فاحتجُّوا بأنَّ الله سبحانه لم يجعل للعبد تحريمًا ولا تحليلًا، وإنَّما جعل له تَعاطِيَ الأسباب التي تَحِلُّ بها العين وتَحْرُم، كالطَّلاق والنِّكاح والبيع والعتق، وأمَّا مجرَّد قوله: حرَّمتُ كذا، وهو عليَّ حرامٌ، فليس إليه. قال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]. فإذا كان سبحانه لم يجعل لرسوله أن يحرِّم ما أحلَّ الله له، فكيف يجعل لغيره التَّحريم؟

(1)

سبق تخريجه.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (33/ 58 - 61، 74 - 75).

ص: 435

ثمَّ قالوا: وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»

(1)

، وهذا التَّحريم كذلك، فيكون ردًّا باطلًا.

قالوا: ولأنَّه لا فرقَ بين تحريم الحلال وتحليل الحرام، وكما أنَّ هذا الثَّاني لغوٌ لا أثر له، فكذلك الأوَّل.

قالوا: ولا فرقَ بين قوله لامرأته: أنتِ عليَّ حرامٌ، وبين قوله لطعامه: هو

(2)

حرامٌ.

قالوا: وقوله: أنت عليَّ حرامٌ، إمَّا أن يريد به إنشاءَ تحريمها أو الإخبارَ عنها بأنَّها حرامٌ، وإنشاءُ التحريم محالٌ، فإنَّه ليس إليه، إنَّما هو إلى من أحلَّ الحلال وحرَّم الحرام وشرع الأحكام، وإن أراد الإخبار فهو كذبٌ، فهو إمَّا خبرٌ كاذبٌ أو إنشاءٌ باطلٌ، وكلاهما لغوٌ من القول.

قالوا: ونظرنا فيما سوى هذا القول، فرأيناها أقوالًا مضطربةً متعارضةً، يردُّ بعضها بعضًا، فلم نُحرِّم الزَّوجة بشيءٍ منها بغير برهانٍ من الله ورسوله، فنكون قد ارتكبنا أمرين: تحريمها على الأوَّل، وإحلالها لغيره، والأصل بقاء النِّكاح حتَّى تُجمِع الأمَّة أو يأتي برهانٌ من الله ورسوله على زواله، فيتعيَّن القول به. فهذا حجَّة هذا الفريق

(3)

.

فصل

وأمَّا من قال: إنَّه ثلاثٌ بكلِّ حالٍ، إن ثبت هذا عنه فيُحتَجُّ له بأنَّ

(1)

سبق تخريجه.

(2)

في المطبوع بعدها: «عليَّ» ، وليست في النسخ.

(3)

د: «هذه الفرق» .

ص: 436

التَّحريم جُعِل كنايةً في الطَّلاق، وأعلى أنواعه تحريم الثَّلاث، فيُحمَل على أعلى أنواعه احتياطًا للأبضاع.

وأيضًا فإنَّا تيقَّنَّا التَّحريم بذلك، وشككنا: هل هو تحريمٌ تُزِيله الكفَّارة كالظِّهار، أو يُزِيله تجديد العقد كالخلع، أو لا يُزِيله إلا زوجٌ وإصابةٌ كتحريم الثَّلاث؟ وهذا متيقَّنٌ، وما

(1)

دونه مشكوكٌ فيه، فلا يحلُّ بالشَّكِّ.

قالوا: ولأنَّ الصَّحابة أفتوا في الخليَّة والبريَّة بأنَّها ثلاثٌ. قال الإمام أحمد

(2)

: هو عن علي

(3)

وابن عمر

(4)

صحيحٌ. ومعلومٌ أنَّ غاية الخليَّة والبريَّة أن تصير إلى التَّحريم، فإذا صرَّح بالغاية فهي أولى لأن تكون ثلاثًا. ولأنَّ المُحرِّم لا يسبق إلى وهمه تحريمُ امرأته بدون الثَّلاث، فكأنَّ هذا اللَّفظ صار حقيقةً عرفيَّةً في إيقاع الثَّلاث.

وأيضًا فالواحدة لا تُحرِّم إلا بعوضٍ، أو قبل الدُّخول، أو عند تقييدها بكونها بائنةً عند من يراه، فالتَّحريم بها مقيَّدٌ. فإذا أطلق التَّحريم ولم يقيِّد انصرف إلى التَّحريم المُطْلَق، الذي يثبت قبل الدُّخول وبعده، وبعوضٍ وغيره، وهو الثَّلاث.

(1)

د: «وأما» .

(2)

كما في «المغني» (10/ 365).

(3)

أخرجه أحمد كما في «العلل» (3/ 378)، وعبد الرزاق (11176)، وسعيد بن منصور (1678)، والبيهقي (7/ 344) من طرق كلها منقطعة. وقد سبق تصحيحه عنه من وجه آخر.

(4)

أخرجه مالك في «الموطأ» (1587) ــ وعنه الشافعي في «الأم» (7/ 237) ــ وعبد الرزاق (11184)، وسعيد بن منصور (1679)، وسنده في غاية الصحة والجلالة.

ص: 437

فصل

وأمَّا من جعله ثلاثًا في حقِّ المدخول بها، واحدةً بائنةً في حقِّ غيرها، فحجَّته: أنَّ المدخول بها لا يُحرِّمها إلا الثَّلاث، وغير المدخول بها تُحرِّمها الواحدة، فالزيادة

(1)

عليها ليست من لوازم التَّحريم. فأُورِدَ على هؤلاء أنَّ المدخول بها يملك الزَّوجُ إبانتَها بواحدةٍ بائنةٍ، فأجابوا بما لا يُجدِي عليهم شيئًا، وهو أنَّ الإبانة بالواحدة الموصوفة بأنَّها بائنةٌ إبانةٌ مقيَّدةٌ، بخلاف التَّحريم فإنَّ الإبانة به مطلقةٌ، ولا يكون ذلك إلا بالثَّلاث.

وهذا القدر لا يُخلِّصهم من هذا الإلزام، فإنَّ إبانة التَّحريم أعظمُ تقييدًا من قوله: أنتِ طالقٌ طلقةً بائنةً، فإنَّ غاية البائنة أن تُحرِّمها، وهذا قد صرَّح بالتَّحريم، فهو أولى بالإبانة من قوله: أنتِ طالقٌ طلقةً بائنةً.

فصل

وأمَّا من جعلها واحدةً بائنةً في حقِّ المدخول بها وغيرها، فمأخذ هذا القول: أنَّها لا تفيد عددًا بوضعها، وإنَّما تقتضي بينونةً يحصلُ بها التَّحريم، وهو يملك إبانتَها بعد الدُّخول

(2)

بواحدةٍ بدون عوضٍ، كما إذا قال: أنتِ طالقٌ طلقةً بائنةً، فإنَّ الرَّجعة حقٌّ له، فإذا أسقطَها سقطتْ. ولأنَّه إذا ملك إبانتَها بعوضٍ يأخذه منها ملكَ الإبانةَ بدونه، فإنَّه مُحسِنٌ بتركه. ولأنَّ العوض مستحقٌّ له لا عليه، فإذا أسقطَه وأبانَها فله ذلك.

(1)

في المطبوع: «فالزائدة» . والمثبت من النسخ.

(2)

في المطبوع بعدها: «بها» ، وليست في النسخ.

ص: 438

فصل

وأمَّا من قال: إنَّها واحدةٌ رجعيَّةٌ، فمأخذه: أنَّ التَّحريم يفيد مطلقَ انقطاع الملك، وهو يَصْدُق بالمتيقَّن منه وهو الواحدة، وما زاد عليها فلا تعرُّضَ في اللَّفظ له، فلا يَسُوغُ إثباته بغير موجبٍ، وإذا أمكن إعمالُ اللَّفظ في الواحدة فقد وفَّى بموجبه، فالزِّيادة عليه لا موجِبَ لها.

قالوا: وهذا ظاهرٌ جدًّا على أصل من يجعل الرَّجعيَّة محرَّمةً، وحينئذٍ فنقول: التَّحريم أعمُّ من تحريم رجعيَّةٍ أو تحريم بائنٍ، والدالُّ على الأعمِّ لا يدلُّ على الأخصِّ، وإن شئتَ قلت: الأعمُّ لا يستلزم الأخصَّ، أو ليس الأخصُّ من لوازم الأعمِّ، أو الأعمُّ لا يُنتِج الأخصَّ.

فصل

وأمَّا من قال: يُسأَل عمَّا أراد من ظهارٍ أو طلاقٍ رجعيٍّ أو محرَّمٍ أو يمينٍ، فيكون ما أراد من ذلك، فمأخذه: أنَّ اللَّفظ لم يوضع لإيقاع الطَّلاق خاصَّةً، بل هو محتملٌ للطَّلاق والظِّهار والإيلاء، فإذا صَرفَه إلى بعضها بالنِّيَّة فقد استعملَه فيما هو صالحٌ له وصَرَفَه إليه بنيَّته، فينصرف إلى ما أراده، ولا يتجاوز به ولا يقصر عنه. وكذلك لو نوى عِتْقَ أَمته بذلك عَتَقتْ، وكذلك لو نوى الإيلاء من الزَّوجة واليمينَ من الأمة لزِمَه ما نواه.

قالوا: وأمَّا إذا نوى تحريمَ عينها لزِمَه بنفس اللَّفظ كفَّارةُ يمينٍ، اتِّباعًا لظاهر القرآن وحديثِ ابن عبَّاسٍ الذي رواه مسلم في «صحيحه»

(1)

: إذا حرَّم الرَّجلُ امرأتَه فهي يمينٌ يُكفِّرها، وتلا:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].

(1)

سبق تخريجه.

ص: 439

وهذا يُشبِه ما قال مجاهد في الظِّهار: إنَّه يلزمه بمجرَّد التَّكلُّم به كفَّارةُ الظِّهار

(1)

، وهو في الحقيقة قول الشَّافعيِّ، فإنَّه يوجب الكفَّارة إذا لم يُطلِّق عقيبَه على الفور.

قالوا: ولأنَّ اللَّفظ يحتمل الإنشاء والإخبار، فإن أراد الإخبار فقد استعمله فيما هو صالحٌ له، فيُقبَل منه. وإن أراد الإنشاء سئل عن السَّبب الذي حرَّمها به، فإن قال: أردتُ ثلاثًا أو واحدةً أو اثنتين قُبِل منه، لصلاحية اللَّفظ له واقترانِه بنيَّته. وإن نوى الظِّهار كان كذلك؛ لأنَّه صرَّح بموجب الظِّهار؛ لأنَّ قوله:«أنت عليَّ كظهر أمِّي» مُوجَبه التَّحريم، فإذا نوى ذلك بلفظ التَّحريم كان ظهارًا، واحتمالُه للطَّلاق بالنِّيَّة لا يزيد على احتماله للظِّهار بها. وإن أراد تحريمها

(2)

مُطْلقًا فهو يمينٌ مكفَّرةٌ؛ لأنَّه امتناعٌ منها بالتَّحريم، فهو كامتناعه منها باليمين.

فصل

وأمَّا من قال: إنَّه ظهارٌ إلا أن ينوي به طلاقًا، فمأخذُ قوله: أنَّ اللَّفظ موضوعٌ للتَّحريم، فهو منكرٌ من القول وزورٌ، فإنَّ العبد ليس إليه التَّحريم والتَّحليل، وإنَّما إليه إنشاءُ الأسباب التي ترتَّب عليها ذلك، فإذا حرَّم ما أحلَّ الله له فقد قال المنكر والزُّور، فيكون كقوله: أنتِ عليَّ

(3)

كظهر أمِّي، بل هذا أولى أن يكون ظهارًا، لأنَّه إذا شبَّهها بمن تَحرُم عليه دلَّ على التَّحريم

(1)

حكاه عنه البغوي في «تفسيره» (5/ 40)، وفي «شرح السنة» (9/ 243).

(2)

م: «تحريمًا» .

(3)

«علي» ليست في د.

ص: 440

باللُّزوم، فإذا صرَّح بتحريمها فقد صرَّح بموجب التَّشبيه في لفظ الظِّهار، فهو أولى أن يكون ظهارًا.

قالوا: وإنَّما جعلناه طلاقًا بالنِّيَّة، فصرفناه إليه بها؛ لأنَّه يصلُح كنايةً في الطَّلاق، فيُصْرَف إليه بالنِّيَّة، بخلاف إطلاقه، فإنَّه ينصرف إلى الظِّهار. وإذا نوى به اليمين كان يمينًا، إذ من أصل أرباب هذا القول أنَّ تحريم الطَّعام ونحوِه يمينٌ مكفَّرةٌ، فإذا نوى بتحريم الزَّوجة اليمينَ نوى ما يصلُح له اللَّفظ، فقُبِل منه.

وأمَّا من قال: إنَّه ظهارٌ وإن نوى به الطَّلاق أو وصَلَه بقوله: أعني به الطَّلاق، فمأخذ قوله: ما ذكرنا من تقرير كونه ظهارًا، ولا يخرج عن كونه ظهارًا بنيَّة الطَّلاق، كما لو قال: أنتِ عليَّ كظهر أمِّي، ونوى به الطَّلاق، أو قال: أعني به الطَّلاق، فإنَّه لا يخرج بذلك عن الظِّهار، ويصير طلاقًا عند الأكثرين إلا على قولٍ شاذٍّ لا يُلتفَت إليه؛ لموافقته ما كان الأمر عليه في الجاهليَّة من جَعْلِ الظِّهار طلاقًا، ونَسْخِ الإسلام لذلك وإبطالِه، فإذا نوى به الطَّلاق فقد نوى ما أبطله الله ورسوله ممَّا كان عليه أهلُ الجاهليَّة عند إطلاق لفظ الظِّهار، وقد نوى ما لا يحتمله شرعًا، فلا تُؤثِّر نيَّتُه في تغيير ما استقرَّ عليه حكم الله الذي حكم به بين عباده.

ثمَّ جرى أحمد وأصحابه على أصله من التَّسوية بين إيقاع ذلك والحلف به كالطَّلاق والعتاق، وفرَّق شيخ الإسلام بين البابين على أصله في التَّفريق بين الإيقاع والحلف، كما فرَّق الشَّافعيُّ وأحمد ومن وافقهما بين البابين في النَّذر: بين أن يحلف به فيكون يمينًا مكفَّرةً، وبين أن يُنجِّزه أو يُعلِّقه بشرطٍ يقصد وقوعه، فيكون نذرًا لازمَ الوفاءِ، كما سيأتي تقريره في الأيمان إن

ص: 441

شاء الله. قال: فيلزمُهم على هذا أن يفرِّقوا بين إنشاء التَّحريم وبين الحلف به، فيكون في الحلف به حالفًا يلزمُه كفَّارة يمينٍ، وفي تنجيزه أو تعليقه بشرطٍ مقصودٍ مظاهرًا يلزمه كفَّارةُ الظِّهار. وهذا مقتضى المنقول عن ابن عبَّاسٍ، فإنَّه مرَّةً جعله ظهارًا

(1)

، ومرَّةً جعله يمينًا

(2)

.

فصل

وأمَّا من قال: إنَّه يمينٌ مكفَّرةٌ بكلِّ حالٍ، فمأخذ قوله: أنَّ تحريم الحلال من الطَّعام والشَّراب واللِّباس يمينٌ، تُكفَّر بالنَّصِّ والمعنى وآثار الصَّحابة، فإنَّ الله سبحانه قال:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2]. ولا بدَّ أن يكون تحريم الحلال داخلًا تحت هذا الفرض؛ لأنَّه سببه، وتخصيصُ مَحلِّ السَّبب من جملة العامِّ ممتنعٌ قطعًا، إذ هو المقصود بالبيان أوَّلًا، فلو خُصَّ لَخَلا سببُ الحكم عن البيان، وهو ممتنعٌ.

وهذا الاستدلال في غاية القوَّة، فسألتُ عنه شيخ الإسلام قدَّس الله روحه، فقال: نعم، التَّحريم يمينٌ، لكنه يمينٌ

(3)

كبرى في الزَّوجة، كفَّارتُها كفَّارة الظِّهار، ويمينٌ صغرى فيما عداها، كفَّارتها كفَّارة اليمين باللَّه. قال:

(1)

أخرجه عبد الرزاق (11385) ــ وبنحوه ابن أبي شيبة (12286)، والدارقطني في «السنن» (7/ 350) ــ من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في الحرام قال:«عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا» . وسنده صحيح على شرط الشيخين.

(2)

أخرجه مسلم (1473).

(3)

«لكنه يمين» ليست في المطبوع.

ص: 442

وهذا معنى قول ابن عبَّاسٍ وغيره من الصَّحابة ومن بعدهم: إنَّ التَّحريم يمينٌ تُكفَّر.

فهذا تحرير المذاهب في هذه المسألة نقلًا، وتقريرها استدلالًا، ولا يخفى ــ على من آثرَ العلمَ والإنصافَ، وجانبَ التَّعصُّبَ ونصرةَ ما ينبني عليه من الأقوال ــ الرَّاجحُ من المرجوح، وباللَّه المستعان.

فصل

وقد تبيَّن بما ذكرنا أنَّ من حرَّم شيئًا غير الزَّوجة من الطَّعام أو الشَّراب أو اللِّباس أو أَمته لم يحرم عليه بذلك، وعليه كفَّارة يمينٍ، وفي هذا خلافٌ في ثلاثة مواضع.

أحدها: أنَّه لا يحرم، وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: يحرم تحريمًا مقيَّدًا تُزيله الكفَّارة، كما إذا ظاهرَ من امرأته، فإنَّه لا يحلُّ له وطؤها حتَّى يكفِّر، ولأنَّ الله سبحانه سمَّى الكفَّارة في ذلك تَحِلَّةً، وهي ما يوجب الحلَّ، فدلَّ على ثبوت التَّحريم قبلها، ولأنَّه سبحانه قال لنبيِّه:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ولأنَّه تحريمٌ لما أبيح له، فيحرم بتحريمه كما لو حرَّم زوجته.

ومنازعوه يقولون: إنَّما سُمِّيت الكفَّارة تَحِلَّةً من الحَلِّ الذي هو ضدُّ العَقْد، لا من الحِلِّ الذي هو مقابلَ التَّحريم، فهي تَحُلُّ اليمين بعد عقدها. وأمَّا قوله:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، فالمراد تحريم الأَمة أو العسل، ومنْعُ نفسه منه، وذلك يسمَّى تحريمًا، فهو تحريمٌ بالقول لا إثباتٌ للتَّحريم شرعًا.

ص: 443

وأمَّا قياسه على تحريم الزَّوجة بالظِّهار أو بقوله: أنتِ عليَّ حرامٌ، فلو صحَّ هذا القياس لوجب تقديم التَّكفير على الحنث قياسًا على الظِّهار، إذ كان في معناه، وعندهم لا يجوز التَّكفير إلا بعد الحنث، فعلى قولهم يلزم أحد أمرين ولا بدَّ: إمَّا أن يفعله حرامًا، وقد فرض الله تحلَّة اليمين، فيلزم كونُ المحرَّم مفروضًا أو من ضرورة المفروض؛ لأنَّه لا يصل إلى التَّحلَّة إلا بفعل المحلوف عليه. أو أنَّه لا سبيلَ له إلى فعله حلالًا؛ لأنَّه لا يجوز تقديم الكفَّارة، فيستفيد بها الحلَّ، وإقدامُه عليه وهو حرامٌ ممتنعٌ. هذا ما قيل في المسألة من الجانبين.

وبعدُ، فلها غَورٌ، وفيها دقَّةٌ وغموضٌ، فإنَّ من حرَّم شيئًا فهو بمنزلة من حلف بالله على تركه، ولو حلف على تركه لم يجزْ له هتْكُ حرمة المحلوف به بفعله إلا بالتزام الكفَّارة، فإذا التزمها جاز له الإقدام على فعل المحلوف عليه، فلو عزم على ترك الكفَّارة فإنَّ الشَّارع لا يُبِيحُ له الإقدامَ على فعل ما حلف عليه ويأذنُ له فيه، وإنَّما يأذن له فيه ويُبيحه إذا التزم ما فرض له من الكفَّارة، فيكون إذنُه له فيه وإباحتُه بعد امتناعه منه بالحلف أو التَّحريم رخصةً من الله له

(1)

، ونعمةً منه عليه، بسبب التزامه لحكمه الذي فرض له من الكفَّارة، فإذا لم يلتزمه بقي المنعُ الذي عقدَه على نفسه إصْرًا عليه، فإنَّ الله إنَّما رفع الآصارَ عمَّن اتَّقاه والتزمَ حكْمَه، وقد كانت اليمين في شرْعِ من قبلنا يتحتَّم الوفاء بها، ولا يجوز الحِنثُ، فوسَّع الله على هذه الأمَّة وجوَّز لها الحنثَ بشرط الكفَّارة، فإذا لم يُكفِّر لا قبلُ ولا بعدُ لم يوسَّعْ له في الحنث. فهذا معنى قوله: إنَّه يَحرُم حتَّى يكفِّر.

(1)

«له» ليست في د.

ص: 444

وليس هذا من مفردات أبي حنيفة رحمه الله، بل هو أحد القولين في مذهب أحمد. يُوضِّحه: أنَّ هذا التَّحريم والحلف قد تعلَّق به منْعانِ: منعٌ من نفسه لفعله، ومنعٌ من الشَّارع للحنث بدون الكفَّارة، فلو لم يُحرِّمه تحريمُه أو يمينُه لم يكن لمنعِه نفسَه ولا لمنع الشَّارع له أثرٌ، بل كان غاية الأمر أنَّ الشَّارع أوجب في ذمَّته بهذا المنع صدقةً أو عتقًا أو صومًا لا يتوقَّف عليه حِلُّ المحلوف عليه ولا تحريمُه البتَّةَ، بل هو قبلَ المنع وبعدَه على السَّواء من غير فرقٍ، فلا يكون للكفَّارة أثرٌ البتَّةَ، لا في المنع منه ولا في الإذن، وهذا لا يخفى فساده.

وأمَّا إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيثُ لا يجوز تقديم الكفَّارة، فجوابه: أنَّه إنَّما يجوز له الإقدام عند عزمه على التَّكفير، فعزمُه على التَّكفير مَنَع من بقاء تحريمه عليه، وإنَّما يكون التَّحريم ثابتًا إذا لم يلتزم الكفَّارة، ومع التزامها لا يستمرُّ التَّحريم.

فصل

الثَّاني: أن يلزمه كفَّارةٌ بالتَّحريم، وهو بمنزلة اليمين. وهذا قول من سَمَّينا من الصَّحابة وقول فقهاء الرَّأي والحديث، إلا الشَّافعيَّ ومالكًا، فإنَّهما قالا: لا كفَّارة عليه بذلك.

والَّذين أوجبوا الكفَّارة أسعدُ بالنَّصِّ من الذين أسقطوها، فإنَّ الله سبحانه ذكر تحلَّة الأيمان عقبَ قوله:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، وهذا صريحٌ في أنَّ تحريم الحلال قد فرض فيه تحلَّة الأيمان، إمَّا مختصًّا به وإمَّا شاملًا له ولغيره، فلا يجوز أن يُخلى سبب الكفَّارة المذكورة في السِّياق عن حكم الكفَّارة ويُعَلَّق بغيره، هذا ظاهر الامتناع.

ص: 445