المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللعان - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٥

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصولٌ(1)في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في أقضيته وأحكامه

- ‌فصلٌفي حكمه فيمن قَتَل عبدَه

- ‌فصلفي حُكمه في المحاربين

- ‌فصلفي حُكمه بين القاتل ووليّ المقتول

- ‌فصلفي حُكمه بالقوَد على من قتل جاريةً، وأنه يُفعَل به كما فَعَل

- ‌فصلفي حُكمه صلى الله عليه وسلم فيمن ضرب امرأة حاملًا فطرحها

- ‌فصلفي حُكمه صلى الله عليه وسلم بالقَسَامة(3)فيمن لم يُعرف قاتلُه

- ‌فصلفي حُكمه صلى الله عليه وسلم في أربعة سقطوا في بئر فتعلّق بعضُهم ببعض فهَلَكوا

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوّج امرأة أبيه

- ‌فصلفي حُكمه صلى الله عليه وسلم بقتل من اتهم بأم ولده فلما ظهرت براءته أمسك عنه

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في القتيل يوجد بين قريتين

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم بتأخير القصاص من الجرح حتى يندمل

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم بالقصاص في كسر السِّنّ

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن عضّ يدَ رجلٍ فانتزع يدَه من فيهفسقطت ثنيةُ العاضّ بإهدارها

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن اطلع في بيت رجل بغير إذنه فخَذَفه بحصاةأو فقأ عينه فلا شيء عليه

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم على من أقرّ بالزنا

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم على أهل الكتاب في الحدود بحكم الإسلام

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في السارق

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم على مَن اتهم رجلًا بسرقة

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن سَبّه مِن مسلم أو ذمِّي أو معاهَد

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيمن سَمَّه

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الساحر

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في أول غنيمة كانت في الإسلام وأوّل قتيل

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الجاسوس

- ‌فصلفي حُكْمه في الأسرى

- ‌فصل في حُكْمه صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في فتح مكة

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمينثم ظَهَر عليه المسلمون أو أَسْلَم عليه المشركون

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيما كان يُهدى إليه

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الأموال

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الوفاء بالعهد لعدُوِّه، وفي رسلهم أن لا يُقتلوا ولا يُحبَسوا، وفي النَّبْذِ إلى مَن عاهده على سواءٍ إذا خاف منه نقض العهد

- ‌فصلفي حُكْمه في الأمان الصادر من الرجال والنساء

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الجزية ومقدارها وممن تُقبل

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الهدنة وما ينقضها

- ‌ذِكْر أقضيته وأحكامه في النكاح وتوابعه

- ‌فصلفي حُكْمه في الثَّيِّب والبكر يزوِّجهما أبوهما

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في النكاح بلا وليّ

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في نكاح التفويض

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج امرأةً فوجدها في الحَبَلِ

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الشروط في النكاح

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في نكاح الشِّغار، والمحلِّل والمتعة،ونكاح المُحرِم، ونكاح الزانية

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم فيمن أسلم على أكثر من أربعة نسوة أو على أختين

- ‌فصلفيما حَكَم الله سبحانه بتحريمه من النساء على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الزوجين يُسلم أحدُهما قبل الآخر

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في العَزْل

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في الغَيْل، وهو وطء المرضعة

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في قَسْم الابتداء والدوام بين الزوجات

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في تحريم وطء المرأة الحُبْلى من غير الواطئ

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الرجل يُعتق أمته ويجعل عتقها صَداقها

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في صحة النكاح الموقوف على الإجازة

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم بثبوت الخيار للمعتقة تحت العبد

- ‌فصلفي قضائه صلى الله عليه وسلم في الصّداق بما قلّ وكثر، وقضائه بصحة النكاحعلى ما مع الزوج من القرآن

- ‌فصلفي حُكْمه صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أحد الزوجين يجد بصاحبه بَرَصًاأو جُنونًا أو جُذامًا أو يكون الزوج عنّينًا

- ‌فصلفي حُكْم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خدمة المرأة لزوجها

- ‌حُكْم(1)رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزوجين يقع الشقاق بينهما

- ‌حُكْم النبي صلى الله عليه وسلم في الخُلْع

- ‌ذِكْر أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطَّلاق

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق قبل النكاح

- ‌حُكْم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم طلاق الحائض والنفساءوالموطوءة في طُهرها، وتحريم إيقاع الثلاث جملة

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلَّق ثلاثًا بكلمة واحدة

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد يُطلِّق زوجته تطليقتين ثم يَعْتِق بعد ذلك، هل تَحِلُّ له بدون زوج وإصابة

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ الطلاق بيد الزوجِ لا بيد غيرِه

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن طلَّق دون الثلاث،ثم راجعها بعدَ زوج: أنها على بقية الطلاق

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن المطلقة ثلاثًا لا تَحِلُّ للأوّلحتى يطأها الزوج الثاني

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة تُقيم شاهدًا واحدًا على طلاق زوجها والزوج مُنكِر

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخيير أزواجه بين المُقَام معهوبين مفارقتهن له

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بيَّنه عن ربّه تبارك وتعالى فيمن حرَّمَ أمتَه أو زوجتَه أو متاعَه

- ‌فصلالفصل الثَّالث:

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الرجل لأمرته: الْحقي بأهلِكِ

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظِّهاروبيان ما أنزل الله فيه، ومعنى العَوْد الموجب للكفَّارة

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيلاء

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللعان

- ‌فصلالحكم الثَّاني:

- ‌فصلالحكم الثَّالث:

- ‌فصلالحكم الرَّابع:

- ‌فصلالحكم الخامس:

- ‌فصلالحكم السَّادس:

- ‌فصلالحكم السَّابع:

- ‌فصلالحكم الثَّامن:

- ‌فصلالحكم التَّاسع:

- ‌فصلالحكم العاشر:

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في لحوق النَّسب بالزَّوج إذا خالف لونُ ولده لونَه

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش، وأن الأمة تكون فراشًا، وفيمن استلحق بعدَ موتِ أبيه

- ‌فصلالثَّالث: البيِّنة

- ‌فصلالرَّابع: القافة

- ‌ذكر حكمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضائه باعتبار القافة وإلحاقِ النَّسب بها

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في استلحاق ولد الزِّنا وتوريثه

- ‌ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب في الجماعةالذين وقعوا على امرأة في طهرٍ واحد، ثم تنازعوا الولدَ،فأقرعَ بينهم فيه، ثم بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فضحكَ ولم يُنكِره

الفصل: ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللعان

‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللعان

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ} [النور: 6 - 9].

وثبت في «الصَّحيحين»

(1)

من حديث سهل بن سعدٍ: أنَّ عُويمرًا العجلاني قال لعاصم بن عدي: أرأيتَ لو أنَّ رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فسَلْ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ وعابَها، حتَّى كبُرَ على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمَّ إنَّ عُويمرًا سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:«قد نزلَ فيك وفي صاحبتِك قرآن؛ فاذهبْ فأْتِ بها» ، فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فرغا قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها. فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزُّهريُّ: فكانت تلك سنَّةَ المتلاعنينِ.

قال سهل

(2)

: وكانت حاملًا، فكان ابنها [يُدعَى]

(3)

إلى أمِّه، ثمَّ جرت السُّنَّة أن يرِثَها وترِثَ منه ما فرض الله لها.

وفي لفظٍ

(4)

: فتلاعنا في المسجد، ففارقها عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النَّبيُّ

(1)

أخرجه البخاري (423، 4745، 5259، 5308، 7304)، ومسلم (1492/ 1).

(2)

عند مسلم (1492/ 2).

(3)

ليست في النسخ. والزيادة من «صحيح مسلم» . وفي المطبوع: «ينسب» .

(4)

عند مسلم (1492/ 3).

ص: 495

- صلى الله عليه وسلم: «ذاكم التَّفريقُ بين كلِّ متلاعنينِ» .

وقول سهل: وكانت حاملًا إلى آخره، هو عند البخاريِّ من قول الزُّهريِّ

(1)

.

وللبخاريِّ

(2)

: ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا، فإن جاءت به أسحَم أدعجَ العينين عظيمَ الأَلْيتين خَدَلَّج السَّاقين

(3)

، فلا أحسبُ عويمرًا إلا قد صدقَ عليها، وإن جاءت به أُحيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ

(4)

، فلا أحسبُ عويمرًا إلا قد كذبَ عليها». فجاءت به على النَّعت الذي نعتَ

(5)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر.

وفي لفظٍ

(6)

: «وكانت حاملًا فأنكرَ حمْلَها» .

وفي «صحيح مسلم»

(7)

من حديث ابن عمر أنَّ فلان بن فلانٍ قال: يا رسول اللَّه، أرأيتَ لو وجدَ أحدنا امرأته على فاحشةٍ كيف يصنع؟ إن تكلَّم تكلَّم بأمر عظيمٍ، وإن سكت سكت على مثل ذلك

(8)

؟ فسكت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم

(1)

برقم (5309).

(2)

برقم (4745).

(3)

أي ممتلئهما.

(4)

الوحرة: وزغة تكون في الصحارى على شكل سامِّ أبرص، وهي بيضاء منقَّطة بحمرة، وهي قذرة عند العرب.

(5)

بعدها في المطبوع: «به» . وليست في النسخ والرواية.

(6)

عند البخاري (4746).

(7)

برقم (1493/ 4).

(8)

د: «سكت عن أمر عظيم» خلاف بقية النسخ والرواية.

ص: 496

فلم يُجِبه. فلمَّا كان بعد ذلك أتاه فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النُّور:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [6 - 9]، فتلاهنَّ عليه ووعظَه وذكَّره، وأخبره أنَّ عذاب الدُّنيا أهونُ من عذاب الآخرة، قال: لا والَّذي بعثك بالحقِّ ما كذبتُ عليها. ثمَّ دعاها فوعظها وذكَّرها وأخبرها أنَّ عذاب الدُّنيا أهونُ من عذاب الآخرة، قالت: لا والَّذي بعثك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ. فبدأ بالرَّجل، فشهد أربع شهاداتٍ بالله إنَّه لمن الصَّادقين، والخامسة أنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثمَّ ثنَّى بالمرأة، فشهدتْ أربع شهاداتٍ بالله إنَّه لمن الكاذبين، والخامسة أنَّ غضبَ الله عليها إن كان من الصَّادقين. ثمَّ فرَّق بينهما.

وفي «الصَّحيحين»

(1)

عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: «حسابُكما على الله، أحدكما كاذبٌ، لا سبيلَ لك عليها» . قال: يا رسول الله، مالي؟ قال:«لا مالَ لك، إن كنتَ صدقتَ عليها فهو بما استحللتَ من فرجها، وإن كنت كذبتَ عليها فهو أبعدُ لك منها» .

وفي لفظٍ لهما

(2)

: فرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين وقال: «والله [يعلم]

(3)

أنَّ أحدكما كاذبٌ، فهل منكما تائبٌ؟».

وفيهما

(4)

عنه: أنَّ رجلًا لاعنَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وألحقَ الولدَ بأمِّه.

(1)

أخرجه البخاري (5312، 5350)، ومسلم (1493/ 5).

(2)

أخرجه البخاري (5311، 5312، 5349)، ومسلم (1493/ 6).

(3)

الزيادة من «الصحيحين» .

(4)

أخرجه البخاري (4748، 6748)، ومسلم (1494) واللفظ له.

ص: 497

وفي «صحيح مسلم»

(1)

من حديث ابن مسعودٍ في قصَّة المتلاعنين: فشهد الرَّجل أربع شهاداتٍ بالله إنَّه لمن الصَّادقين، ثمَّ لعن الخامسة أنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فذهبتْ لِتلْتَعِن

(2)

، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«مَهْ» ، فأبتْ فلعنتْ. فلمَّا أدبر

(3)

قال: «لعلَّها أن تجيءَ به أسودَ جَعْدًا» . فجاءت به أسودَ جَعْدًا.

وفي «صحيح مسلم»

(4)

من حديث أنس بن مالكٍ: أنَّ هلال بن أمية قذفَ امرأته بشَرِيك ابن سَحْماء، وكان أخا البراء بن مالكٍ لأمِّه، فكان أوَّلَ رجلٍ لاعنَ في الإسلام، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أبصِرُوها، فإن جاءت به أبيضَ سَبِطًا

(5)

قَضِيءَ العينين

(6)

فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أكحلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقين

(7)

فهو لشَرِيك ابن سَحْماء». قال: فأُنبِئتُ أنَّها جاءت به أكحلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقين.

وفي «الصَّحيحين»

(8)

من حديث ابن عبَّاسٍ نحو هذه القصَّة، فقال له رجلٌ: أهي المرأة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رجمتُ أحدًا بغير بيِّنةٍ

(1)

برقم (1495).

(2)

كذا في النسخ. وفي «صحيح مسلم» : «لتلعن» .

(3)

كذا في جميع النسخ. وعند مسلم: «أدبرا» .

(4)

برقم (1496).

(5)

أي: مسترسل الشعر.

(6)

أي: فاسدهما بكثرة دمعٍ أو حمرة أو غير ذلك.

(7)

أي: دقيقهما.

(8)

أخرجه البخاري (5310، 6856) ومسلم (1497).

ص: 498

لرجمتُ هذه؟»، فقال ابن عبَّاسٍ: لا، تلك امرأةٌ كانت تُظهِر في الإسلام السُّوءَ.

ولأبي داود

(1)

في هذا الحديث

(2)

: ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أن لا يُدعى ولدُها لأبٍ، ولا تُرمى ولا يُرمى ولدُها، ومن رماها ورمى ولدَها فعليه الحدُّ، وقضى أن لا بيتَ لها عليه ولا قُوتَ، من أجل أنَّهما يتفرَّقان من غير طلاقٍ، ولا متوفًّى عنها. وفي القصَّة: قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر، وما يُدعى لأبٍ.

وذكر البخاريُّ

(3)

أنَّ هلال بن أمية قذفَ امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك ابن سَحْماء، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«البيِّنة أو حدٌّ في ظهرك» ، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البيِّنة؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«البيِّنة وإلَّا حدٌّ في ظهرك» ، فقال الرجل: والَّذي بعثك بالحقِّ إنِّي لصادقٌ، وليُنزِلنَّ الله ما يُبرِّئ ظهري من الحدِّ. فنزل جبريل، وأَنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ

} الآيات، فانصرف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم[فأرسلَ]

(4)

إليها، فجاء هلال فشهد، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله يعلم أنَّ أحدكما كاذبٌ، فهل

(1)

في «السنن» (2256)، وكذا أحمد (2131) من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، وسنده ضعيف؛ للكلام في عباد، ولعنعنته وهو مدلس. نعم تابعه هشام بن حسان، لكن ثَمَّة ألفاظٌ انفرد بها، بل خولف في بعضها، وقد صرح عباد بالسماع عند البيهقي (7/ 394) وغيره، ويشهد لحديثه حديث سهل بن سعد السابق في «الصحيحين» .

(2)

بعدها في المطبوع: «عن ابن عباس» . وليست في النسخ.

(3)

برقم (4747).

(4)

زيادة من البخاري.

ص: 499

منكما تائبٌ؟»، [ثم قامت]

(1)

فشهدت، فلمَّا كانت عند الخامسة وقَّفوها وقالوا: إنَّها مُوجِبةٌ. قال ابن عبَّاسٍ: فتلكَّأتْ ونَكصَتْ حتَّى ظننَّا أنَّها ترجع، ثمَّ قالت: لا أفضَحُ قومي سائرَ اليوم، فمضَتْ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أبصِرُوها، فإن جاءت به أكحلَ العينين سابغَ الأَلْيتينِ خَدَلَّجَ السَّاقين فهو لشَرِيك ابن سَحْماء» ، فجاءت به كذلك، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لولا ما مضى من كتاب الله كان لي ولها شأنٌ» .

وفي «الصَّحيحين»

(2)

أنَّ سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيتَ الرَّجل يجد مع امرأته رجلًا أيقتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، فقال سعد: بلى والَّذي أكرمَكَ

(3)

بالحقِّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اسمعُوا إلى ما يقول سيِّدكم» .

وفي لفظٍ آخر

(4)

: يا رسولَ اللَّه، إن وجدتُ مع امرأتي رجلًا أُمهِلُه حتَّى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نعم» .

وفي لفظٍ آخر

(5)

: لو وجدتُ مع أهلي رجلًا لم أَهِجْهُ حتَّى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» ، قال: كلَّا والَّذي بعثك بالحقِّ

(6)

، إن كنتُ لأعاجلُه بالسَّيف قبل ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعُوا إلى ما يقول

(1)

الزيادة من هامش ز. وكذا الرواية.

(2)

أخرجه البخاري (6846، 7416)، ومسلم (1498/ 14) واللفظ له.

(3)

في المطبوع: «بعثك» خلاف النسخ والرواية.

(4)

عند مسلم (1498/ 15).

(5)

عند مسلم (1498/ 16) أيضًا، غير أنه قال:(لم أمسَّه) بدل (لم أَهِجْه).

(6)

بعدها في المطبوع: «نبيا» . وليست في النسخ والرواية.

ص: 500

سيِّدكم، إنَّه لغيورٌ، وأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ منِّي».

وفي لفظٍ

(1)

: لو رأيتُ مع امرأتي رجلًا لضربته بالسَّيف غير مُصْفَحٍ

(2)

، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أتعجبون من غيرة سعدٍ؟ فواللَّه لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ منِّي، من أجْلِ ذلك حرَّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن. ولا شخصَ أغيرُ من اللَّه، ولا شخصَ أحبُّ إليه العذرُ من اللَّه، من أجلِ ذلك بعث الله المرسلين مبشِّرين ومنذرين، ولا شخصَ أحبُّ إليه المِدْحةُ من اللَّه، من أجل ذلك وعدَ الله الجنَّة» .

فصل

فاستُفيد من هذا الحكم النَّبويِّ عدة أحكامٍ:

الحكم الأوَّل: أنَّ اللِّعان يصحُّ من كلِّ زوجين، سواءٌ كانا مسلمين أو كافرين، عدلينِ أو فاسقين، محدودينِ في قذفٍ أو غير محدودين أو أحدهما. كذلك قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصورٍ

(3)

: جميع الأزواج يلتعنون؛ الحرُّ من الحرَّة والأمة إذا كانت زوجةً، والعبد من الحرَّة والأمة إذا كانت زوجةً، والمسلم من اليهوديَّة والنَّصرانيَّة. وهذا قول مالك وإسحاق، وقول سعيد بن المسيِّب والحسن وربيعة وسليمان بن يسارٍ

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (7416)، ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة.

(2)

يروى بكسر الفاء وفتحها، والمعنى غير ضاربٍ بصفح السيف وهو جانبه، ومن فتحها جعلها وصفًا للسيف وحالًا منه.

(3)

كما في «المغني» (11/ 122). ولم أجدها في «المسائل» .

(4)

أما الحسن فقوله عند عبد الرزاق (12506) من طريق الثوري عن يونس عنه، وسنده صحيح. وانظر بقية الأقوال في «المغني» (11/ 122).

ص: 501

وذهب أهل الرَّأي والأوزاعيُّ والثَّوريُّ وجماعةٌ إلى أنَّ اللِّعان لا يكون إلا بين زوجين مسلمين عدلين حرَّين غير محدودين في قذفٍ، وهو روايةٌ عن أحمد.

ومأخذ القولين أنَّ اللِّعان يجمع وصفين: اليمين والشَّهادة، وقد سمَّاه الله سبحانه شهادةً، وسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينًا حيث يقول:«لولا الأيمانُ لكان لي ولها شأنٌ»

(1)

، فمن غلَّب عليه حكمَ الأيمان قال: يصحُّ من كلِّ من تَصِحُّ يمينه.

قالوا: ولعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6].

قالوا: وقد سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينًا.

قالوا: ولأنَّه مفتقرٌ إلى اسم الله، وإلى ذكر القسم المؤكَّد وجوابه.

قالوا: ولأنَّه يستوي فيه الذَّكر والأنثى بخلاف الشَّهادة.

قالوا: ولو كان شهادةً لما تكرَّر لفظه، بخلاف اليمين فإنها قد يُشْرَع فيها التَّكرار، كأيمان القسامة.

قالوا: ولأنَّ حاجة الزَّوج التي لا تصحُّ منه الشَّهادة إلى اللِّعان ونفْيِ الولد، كحاجة من تصحُّ شهادته سواءٌ، والأمر الذي ينزل به

(2)

ممَّا يدعو إلى اللِّعان كالَّذي ينزل بالعدل الحرِّ، والشَّريعة لا ترفع ضررَ أحد النَّوعين

(1)

جزء من حديث ابن عباس في اللعان عند أحمد وأبي داود، وقد سبق تخريجه قريبًا؛ إلا أن هذه اللفظة مُعلَّةٌ بمخالفة عبادِ بن منصور هشامَ بن حسان، كما في البخاري (4747)، ولفظه فيه: «لولا ما مضى من كتاب الله

»، وسيأتي بيانه في كلام المصنف.

(2)

«به» ليست في م.

ص: 502

وتجعل له فرجًا ومخرجًا ممَّا نزل به، وتَدَعُ النَّوعَ الآخر في الآصار والأغلال لا فرجَ له ممَّا نزل به ولا مخرجَ، بل يستغيث فلا يُغاث، ويستجير فلا يُجار، إن تكلَّم تكلَّم بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكت سكت على مثله، قد ضاقت عنه الرَّحمة التي وَسِعَتْ من تصحُّ شهادته، وهذا تأباه الشَّريعة الواسعة الحنيفيَّة السَّمْحة.

قال الآخرون: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]. وفي الآية دليلٌ من ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أنَّه سبحانه استثنى أنفسَهم من الشَّهداء، وهذا استثناءٌ متَّصلٌ قطعًا، ولهذا جاء مرفوعًا.

والثَّاني: أنَّه صرَّح بأنَّ الْتِعانهم شهادةٌ، ثمَّ زاد سبحانه هذا بيانًا فقال:{(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ} [النور: 8].

الثَّالث

(1)

: أنَّه جعله بدلًا من الشُّهود، وقائمًا مقامَهم عند عدمهم.

قالوا: وقد روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا لِعانَ بين مملوكينِ ولا كافرينِ» ، ذكره أبو عمر

(2)

في «التَّمهيد»

(3)

.

(1)

ص، د، م، ح:«الثاني» .

(2)

بعده في المطبوع: «بن عبد البر» . وليست في الأصول.

(3)

(6/ 192) وقال إثره: «وهذا حديث ليس دون عمرو بن شعيب من يحتج به» . وقال القرطبي في «المفهم» (4/ 296 - 297) بعد إيراده هذا الحديث وما في معناه: «ولا يصح منها كلها شيء عند المحدثين» .

ص: 503

وذكر الدَّارقطنيُّ

(1)

من حديثه أيضًا عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: «أربعةٌ ليس بينهم لعانٌ؛ ليس بين الحرِّ والأمة لعانٌ، وليس بين الحرَّة والعبد لعانٌ، وليس بين المسلم واليهوديَّة لعانٌ، وليس بين المسلم والنَّصرانيَّة لعانٌ» .

وذكر عبد الرزاق في «مصنَّفه»

(2)

عن ابن شهابٍ قال: من وصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لعتَّاب بن أَسِيد: أن لا لعانَ بين أربعٍ. فذكر معناه.

قالوا: ولأنَّ اللِّعان جُعِل بدل الشَّهادة، وقائمًا مقامها عند عدمها، فلا يصحُّ إلا ممَّن تصحُّ منه، ولهذا تُحَدُّ المرأة بالْتِعان الزَّوج ونُكولِها تنزيلًا للعانه منزلةَ أربعة

(3)

شهودٍ.

قالوا: وأمَّا الحديث: «لولا مَا مضى من الأَيمان لكان لي ولها شأنٌ» ، فالمحفوظ فيه:«لولا ما مضى من كتاب اللَّه» ، هذا لفظ البخاريِّ في «صحيحه»

(4)

. وأمَّا قوله: «لولا ما مضى من الأيمان» فمن رواية عبَّاد بن منصورٍ، وقد تكلَّم فيه غير واحدٍ. قال يحيى بن معينٍ: ليس بشيءٍ. وقال

(1)

في «السنن» (3338)، وكذا البيهقي في «الكبرى» (7/ 396) وفي سنده: عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، وهو متروك الحديث، وبه أعلَّه الدارقطني، وأُعلَّ أيضًا بالوقف؛ فقد رواه ابن جريج والأوزاعي عن عمرو موقوفًا، وروي من طرق أخرى عن عمرو مرفوعًا، وكلها معلَّة، لا تصح. انظر:«التنقيح» (2/ 216)، و «نصب الراية» (3/ 248).

(2)

برقم (12498) من طريق ابن جريج عن عياش عن ابن شهاب، وسنده ظاهر الانقطاع، وله طرق أخرى ضعيفة أيضًا، وقد سبق تضعيف القرطبي له، وسيأتي في كلام المصنف إعلاله أيضًا. وانظر:«نصب الراية» (3/ 248).

(3)

م، ح:«أربع» .

(4)

برقم (4747).

ص: 504

عليُّ بن الجنيد

(1)

: متروكٌ قدريٌّ. وقال النَّسائيُّ: ضعيفٌ

(2)

.

وقد استقرَّت قاعدة الشَّريعة أنَّ البيِّنة على المدَّعي واليمين على المدَّعى عليه، والزَّوج هاهنا مدَّعٍ، فلعانه شهادةٌ، ولو كان يمينًا لم تُشرع في جانبه.

قال الأوَّلون: أمَّا تسميته شهادةً فلقول الملتعن في يمينه: أشهد باللَّه، فسمِّي ذلك شهادةً، وإن كان يمينًا اعتبارًا بلفظها.

قالوا: كيف وهو مصرَّحٌ فيه بالقسم وجوابه، ولذلك لو قال:«أشهد بالله» انعقدت يمينه بذلك، سواءٌ نَوى اليمينَ أو أطلق، والعرب تَعُدُّ ذلك يمينًا في لغتها واستعمالها، قال قيس

(3)

:

فأشهدُ عند الله أنِّي أُحبُّها

فهذا لها عندي فما عندها ليا

(4)

وفي هذا حجَّةٌ لمن قال: إنَّ قوله «أشهدُ» تنعقد به اليمين ولو لم يقل «بالله» ، كما هو إحدى الرِّوايتين عن أحمد. والثَّانية: لا يكون يمينًا إلا بالنِّيَّة، وهو

(5)

قول الأكثرين. كما أنَّ قوله: «أشهد باللَّه» يمينٌ عند الأكثرين بمطلقه.

قالوا: وأمَّا استثناؤه سبحانه «أنفسهم» من الشُّهداء، فيقال أوَّلًا:«إلا»

(1)

كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «علي بن الحسين بن الجنيد الرازي» . وهو اسمه الكامل.

(2)

انظر: «ميزان الاعتدال» (2/ 376)، و «تهذيب التهذيب» (5/ 103).

(3)

هو المجنون، والبيت من قصيدته اليائية المشهورة، انظر:«ديوانه» (ص 294).

(4)

م، ز، ح:«فما لي عندها ليا» .

(5)

م، ص:«وهي» .

ص: 505

هاهنا صفةٌ بمعنى غير، والمعنى: ولم يكن لهم شهداء غير أنفسهم، فإنَّ «غير» و «إلَّا» تتقارضان

(1)

الوصفيَّة والاستثناء، فيُستثنى بـ «غير» حملًا على «إلَّا» ، ويوصف بـ «إلّا» حملًا على «غير» .

ويقال ثانيًا: إنَّ «أنفسهم» مستثنَيْنَ

(2)

من الشُّهداء، ولكن يجوز أن يكون منقطعًا على لغة بني تميمٍ، فإنَّهم يُبدِلون في الانقطاع كما يُبدِل أهل الحجاز وهم في الاتِّصال.

ويقال ثالثًا: إنَّما استثنى أنفسهم من الشُّهداء؛ لأنَّه نزَّلهم منزلتهم في قبول قولهم، وهذا قويٌّ جدًّا على قول من يرجم المرأة بالْتِعان الزَّوج إذا نَكَلَتْ، وهو الصَّحيح كما يأتي تقريره إن شاء الله.

والصَّحيح أنَّ لعانهم يجمع الوصفين: اليمين والشَّهادة، فهو شهادةٌ مؤكَّدةٌ بالقسم والتَّكرار، ويمينٌ مغلَّظةٌ بلفظ الشَّهادة والتَّكرار؛ لاقتضاء الحال تأكيدَ الأمر، ولهذا اعتبر فيه من التَّأكيد عشرة أنواعٍ:

أحدها: ذكر لفظ الشَّهادة.

الثَّاني: ذكر القسم بأحدِ أسماء الرَّبِّ سبحانه وأجمَعِها لمعاني أسمائه الحسنى، وهو اسمه «الله» جلَّ ذكره.

الثَّالث: تأكيد الجواب بما يُؤكَّد به المُقْسَم عليه من «إنَّ» و «اللَّام» ، وإتيانه باسم الفاعل الذي هو صادقٌ وكاذبٌ دون الفعل الذي هو صدق وكذب.

(1)

في المطبوع: «يتعاوضان» . والمثبت من النسخ هو الصواب. يقال: تقارضا الشيءَ والأمرَ: تبادلاه.

(2)

كذا في النسخ. والصواب: «مستثنَونَ» . وفي المطبوع: «مستثنى» .

ص: 506

الرَّابع: تكرار ذلك أربع مرَّاتٍ.

الخامس: دعاؤه على نفسه في الخامسة بلعنة الله إن كان من الكاذبين.

السَّادس: إخباره عند الخامسة أنَّها الموجبة لعذاب اللَّه، وأنَّ عذاب الدُّنيا أهونُ من عذاب الآخرة.

السَّابع: جعل لعانه مقتضِي

(1)

لحصول العذاب عليها، وهو إمَّا الحدُّ وإما الحبس، وجعل لعانها دارئًا للعذاب عنها.

الثَّامن: أنَّ هذا اللِّعان يوجب العذاب على أحدهما، إمَّا في الدُّنيا وإمَّا في الآخرة.

التَّاسع: التَّفريق بين المتلاعنين وخرابُ بيتها وكسرها بالفراق.

العاشر: تأبيد تلك الفرقة ودوام التَّحريم بينهما.

فلمَّا كان شأن هذا اللِّعان هذا الشَّأن جُعِل يمينًا مقرونًا بالشَّهادة، وشهادةً مقرونةً باليمين، وجُعل الملتعن لقبول قوله كالشَّاهد. فإن نَكَلَت المرأة مضت شهادته وحُدَّت، وأفادت شهادته ويمينه شيئين: سقوط الحدِّ عنه، ووجوبه عليها. وإن التعنت المرأة وعارضتْ لعانَه بلعان آخر منها أفاد لعانُه سقوطَ الحدِّ عنه دون وجوبه عليها، فكان شهادةً ويمينًا بالنِّسبة إليه دونها؛ لأنَّه إن كان يمينًا محضةً فهي لا تُحَدُّ بمجرَّد

(2)

حلفه، وإن كان شهادةً فلا تُحَدُّ بمجرَّد شهادته عليها وحده. فإذا انضمَّ إلى ذلك نكولُها قوِيَ جانب اليمين والشَّهادة في حقِّه بتأكُّده ونكولها، فكان دليلًا ظاهرًا على صدقه،

(1)

كذا في النسخ. والوجه: «مقتضيًا» .

(2)

ص، د، ز:«لمجرد» .

ص: 507

فأسقط الحدَّ عنه وأوجبه عليها. وهذا أحسنُ ما يكون من الحكم، ومَن أحسنُ من الله حكمًا لقوم يوقنون. وقد ظهر بهذا أنَّه يمينٌ فيها معنى الشَّهادة، وشهادةٌ فيها معنى اليمين.

وأمَّا حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه، فما أبينَ دلالتَه لو كان صحيحًا بوصوله إلى عمرو، ولكن في طريقه إلى عمرو مهالكُ ومفاوزُ. قال أبو عمر بن عبد البرِّ

(1)

: ليس دون عمرو بن شعيبٍ من يُحتجُّ به.

وأمَّا حديثه الآخر الذي رواه الدَّارقطنيُّ، فعلى طريق الحديث عثمان بن عبد الرَّحمن الوقَّاصيُّ، وهو متروكٌ بإجماعهم، فالطَّريق به

(2)

مقطوعةٌ.

وأمَّا حديث عبد الرزاق، فمراسيل الزُّهريِّ عندهم ضعيفةٌ لا يُحتجُّ بها، وعتَّاب بن أَسِيد كان عاملًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على مكَّة، ولم يكن بمكَّة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ البتَّةَ حتَّى يوصيه أن لا يلاعنَ بينهما.

قالوا: وأمَّا ردُّكم لقوله: «لولا ما مضى من الأيمان لكان لي ولها شأنٌ» ، وهو حديثٌ رواه أبو داود في «سننه» ، وإسناده لا بأس به. وأمَّا تعلُّقكم فيه على عبَّاد بن منصورٍ فأكثر ما عِيبَ عليه أنَّه قدريٌّ داعيةٌ إلى القدر، وهذا لا يوجب ردَّ حديثه، ففي الصَّحيح الاحتجاجُ بجماعةٍ من القدريَّة والمرجئة والشِّيعة ممَّن عُلِم صدقه. ولا تَنافيَ بين قوله:«لولا ما مضى من كتاب الله» و «لولا ما مضى من الأيمان» ، فيُحتاجَ إلى ترجيح أحد اللَّفظين وتقديمه على

(1)

في «التمهيد» (6/ 192).

(2)

«به» ليست في د، ص، ب.

ص: 508

الآخر، بل الأيمان المذكورة هي في كتاب اللَّه، وكتاب الله عز وجل حكمُه الذي حكم به بين المتلاعنين، وأراد صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من حكم الله الذي فَصَل بين المتلاعنين لكان لي ولها

(1)

شأنٌ آخر.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ قاعدة الشَّريعة استقرَّت على أنَّ الشَّهادة في جانب المدَّعي واليمين في جانب المدَّعى عليه، فجوابه من وجوهٍ:

أحدها: أنَّ الشَّريعة لم تستقرَّ على هذا، بل قد استقرَّت في القَسامة بأن يُبدأ بأيمان المدَّعين

(2)

، وهذا لقوَّة جانبهم باللَّوث، وقاعدة الشَّريعة أنَّ اليمين تكون من جَنْبة أقوى المتداعيين، فلمَّا كان جانب المدَّعى عليه قويًّا بالبراءة الأصليَّة شُرِعت اليمين في جانبه، فلمَّا قوي جانبُ المدَّعي في القسامة باللَّوث كانت اليمين في جانبه، وكذلك على الصَّحيح لمَّا قوي جانبه بالنُّكول صارت اليمين في جانبه، فيقال له: احلِفْ واستحقَّ. وهذا من كمال حكمة الشَّارع

(3)

واقتضائه للمصالح بحسب الإمكان، ولو شُرِعت اليمين في جانبٍ واحدٍ دائمًا لذهبت قوَّة الجانب الرَّاجح هدرًا، وحكمة الشَّارع تأبى ذلك، فالَّذي جاء به هو غاية الحكمة والمصلحة.

وإذا عُرِف هذا، فجانب الزَّوج هاهنا أقوى من جانبها، فإنَّ المرأة تُنكر زناها وتشتهيه

(4)

، والزَّوج ليس له غرضٌ في هَتْك حرمته وإفساد فراشه

(1)

في المطبوع: «لكان لها» .

(2)

م، د، ز، ب:«المدعيين» .

(3)

م: «الشرع» .

(4)

كذا في ص، د، ز، ب. وفي م:«تسبيهه» وفي هامشها: لعلها «وتستره» . وفي المطبوع: «وتبهته» .

ص: 509

ونسبة أهله إلى الفجور، بل ذلك أشْوشُ

(1)

عليه وأكرهُ شيءٍ إليه، فكان هذا لَوْثًا ظاهرًا، فإذا انضاف إليه نكولُ المرأة قوِي الأمر جدًّا في قلوب النَّاس خاصِّهم وعامِّهم، فاستقلَّ ذلك بثبوت حكم الزِّنا عليها شرعًا، فحُدَّت بلعانه، ولكن لمَّا لم تكن أيمانه بمنزلة الشُّهداء الأربعة حقيقةً كان لها أن تعارضها بأيمانٍ أخرى مثلها، يُدرأ عنها بها

(2)

عذابُ الحدِّ المذكور في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، ولو كان لعانُه بيِّنةً

(3)

حقيقةً لما دفعتْ أيمانُها عنها شيئًا.

وهذا يتَّضح بالفصل الثَّاني المستفاد من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أنَّ المرأة إذا لم تَلتعِنْ فهل تُحدُّ أو تُحبس حتَّى تُقِرَّ أو تُلاعِن؟ فيه قولان للفقهاء:

فقال الشَّافعيُّ وجماعةٌ من السَّلف والخلف: تُحَدُّ، وهو قول أهل الحجاز.

وقال أحمد: تُحبس حتَّى تُقِرَّ أو تلاعن، وهو قول أهل العراق. وعنه روايةٌ ثانيةٌ: لا تُحبس ويُخلَّى سبيلها.

قال أهل العراق ومن وافقهم: لو كان لعان الرَّجل بيِّنةً توجب الحدَّ عليها لم تَملِكْ إسقاطَه باللِّعان وتكذيب البيِّنة، كما لو شهد عليها أربعةٌ.

قالوا: ولأنَّه لو شهد عليها مع ثلاثةٍ غيره لم تُحَدَّ بهذه الشَّهادة، فلأن لا تُحَدَّ بشهادته وحدَه أولى وأحرى.

(1)

كذا في عامة النسخ، من التشويش بمعنى الإفساد والتخليط. وفي ب:«أسوأ شيء» .

(2)

بعدها في د، ص:«العذاب» . وليست في بقية النسخ.

(3)

م: «عنه» . والمثبت من بقية النسخ.

ص: 510

قالوا: ولأنَّه أحد اللاعنَيْنِ

(1)

، فلا يُوجِب حدَّ الآخر كما لم يُوجِب لعانُها حدَّه.

قالوا: وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «البيِّنة على المدَّعي»

(2)

، ولا ريبَ أنَّ الزَّوج هاهنا مدَّعٍ.

قالوا: ولأنَّ موجَبَ لعانِه إسقاطُ الحدِّ عن نفسه لا إيجابُ الحدِّ عليها، ولهذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«البيِّنة وإلَّا حدٌّ في ظهرك»

(3)

، فإنَّ موجب قذف الزَّوج كموجب قذف الأجنبيِّ وهو الحدُّ، فجعل الله سبحانه له طريقًا إلى التَّخلُّص منه باللِّعان، وجعل طريقَ إقامة الحدِّ على المرأة أحد أمرين: إمَّا أربعة شهودٍ، أو اعترافٌ أو الحَبَلُ عند من يَحُدُّ به من الصَّحابة، كعمر بن الخطَّاب ومن وافقه، وقد قال عمر بن الخطَّاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: والرَّجم واجبٌ على كلِّ من زنا من الرِّجال والنِّساء إذا كان مُحصَنًا إذا قامت بيِّنةٌ، أو كان الحبل أو الاعتراف

(4)

. وكذلك قال علي رضي الله عنه

(5)

، فجعلا طريق

(1)

م، ح:«اللعانين» .

(2)

أخرجه البيهقي (10/ 252) من حديث ابن عباس، وحسن إسناده الحافظ في «الفتح» (5/ 283)، وأصل الحديث في البخاري (4552) ومسلم (1711) بلفظ:«لو يعطى الناس بدعواهم ادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» . وفي الباب عن عمر، وعبد الله بن عمرو، والأشعث بن قيس. انظر:«الإرواء» (2641).

(3)

أخرجه البخاري (2671، 4747) من حديث ابن عباس.

(4)

أخرجه البخاري (6829، 6830) ومسلم (1691) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

أخرجه الضياء في «المختارة» (606) بسند صحيح، من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد عنه، وأخرجه عبد الرزاق (13353)، وابن الجعد (176)، وابن أبي شيبة (29417) بسند فيه انقطاع وجهالة، من طريق الشعبي وعمرو بن نافع عنه؛ قال: الرجم رجمان: فرجم يرجم الإمام ثم الناس، ورجم يرجم الشهود ثم الإمام ثم الناس. فأما الرجم الذي يبدأ الإمام فالحبَل والاعتراف، ورجم الشهود إذا شهدوا بدؤوا.

ص: 511

الحدِّ ثلاثةً لم يجعلا فيها اللِّعان.

قالوا: وأيضًا فهذه لم يتحقَّق زناها، فلا يجب عليها الحدُّ؛ لأنَّ تحقُّق زناها إمَّا أن يكون بلعان الزَّوج وحده، لأنَّه لو تحقَّق به لم يسقط بلعانها الحدُّ، ولَمَا وجب بعد ذلك حدٌّ على قاذفها، ولا يجوز أن يتحقَّق بنكولها أيضًا؛ لأنَّ الحدَّ لا يثبت بالنُّكول، فإنَّ الحدَّ يُدرأ بالشُّبهات، فكيف يجب بالنُّكول، فإنَّ النُّكول يحتمل أن يكون لشدَّة خَفَرِها

(1)

، أو لعُقْلةِ لسانها، أو لِدَهَشها في ذلك المقام الفاضح المُخْزِي، أو لغير ذلك من الأسباب، فكيف يثبت الحدُّ الذي اعتُبِر في بيِّنته من العدد ضِعفُ ما اعتُبِر في سائر الحدود، وفي إقراره أربع مرَّاتٍ بالسُّنَّة الصَّحيحة الصَّريحة، واعتُبِر في كلٍّ من الإقرار والبيِّنة أن يتضمَّنَ وصفَ الفعل والتَّصريحَ به، مبالغةً في السَّتر، ودفعًا لإثبات الحدِّ إلَّا

(2)

بأبلغ الطُّرق وآكدِها، وتوسُّلًا إلى إسقاط الحدِّ بأدنى شبهةٍ، فكيف يجوز أن يُقضى فيه بالنُّكول الذي هو في نفسه شبهةٌ، لا يُقضى به في شيءٍ من الحدود والعقوبات البتَّةَ، ولا فيما عدا الأموال؟

قالوا: والشَّافعيُّ رحمه الله لا يرى القضاء بالنُّكول في درهمٍ فما دونه، ولا في أدنى تعزيرٍ، فكيف يَقْضِي به في أعظم الأمور وأبعدها ثبوتًا وأسرعها

(1)

الخفر: شدة الحياء. وكتب في هامش م: لعله «نفرها» . وهو خطأ.

(2)

«إلَّا» ليست في المطبوع.

ص: 512

سقوطًا؟

ولأنَّها لو أقرَّت بلسانها ثمَّ رجعتْ لم يجب عليها الحدُّ، فلأن لا يجبَ بمجرَّد امتناعها من اليمين على براءتها أولى، وإذا ظهر أنَّه لا تأثير لواحدٍ منهما في تحقُّق زناها لم يجُزْ أن يقال بتحقُّقه بهما لوجهين:

أحدهما: أنَّ ما في كلِّ واحدٍ منهما من الشُّبهة لا يزول بضمِّ أحدهما إلى الآخر، كشهادة مائة فاسقٍ، فإنَّ احتمال نكولها لفرط حيائها، وهيبةِ ذلك المقام والجمع، وشدَّة الخَفَر، وعَجْزِها عن النُّطق، وعُقْلةِ لسانها= لا يزول بلعان الزَّوج ولا بنكولها.

الثَّاني: أنَّ ما لا يُقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين مع النُّكول كسائر الحقوق.

قالوا: وأمَّا قوله تعالى: {(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ} [النور: 8]، فالعذاب هاهنا يجوز أن يُراد به الحدُّ، وأن يراد به الحبس والعقوبة المطلوبة، فلا يتعيَّن إرادة الحدِّ به، فإنَّ الدَّالَّ على المطلق لا يدلُّ على المقيَّد إلا بدليلٍ من

(1)

خارجٍ، وأدنى درجات ذلك الاحتمال، فلا يثبت الحدُّ مع قيامه، وقد ترجَّح هذا بما تقدَّم من قول عمر وعلي: إنَّ الحدَّ إنَّما يكون بالبيِّنة أو الاعتراف أو الحبل.

ثمَّ اختلف هؤلاء فيما ذا

(2)

يُصنَع بها إذا لم تلاعن، فقال أحمد: إذا أبت المرأة أن تلتعن بعد الْتعانِ الرَّجل أجبرتُها عليه، وهِبتُ أن أحكم عليها

(1)

«من» ليست في ز.

(2)

«ذا» ليست في المطبوع.

ص: 513

بالرَّجم؛ لأنَّها لو أقرَّت بلسانها لم أرجُمْها إذا رجعتْ، فكيف إذا أبت اللِّعان؟ وعنه روايةٌ ثانيةٌ: يُخلَّى سبيلُها، اختارها أبو بكر؛ لأنَّها لا يجب عليها الحدُّ، فيجب تخلية سبيلها كما لو لم تكمل البيِّنة.

فصل

قال الموجبون للحدِّ: معلومٌ أنَّ الله سبحانه جعل الْتعانَ الزَّوج بدلًا عن الشُّهود وقائمًا مقامهم، بل جعل الأزواج الملتعنين شُهداء كما تقدَّم، وصرَّح بأنَّ لعانهم شهادةٌ، وأوضح ذلك بقوله:{(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8]، وهذا يدلُّ على أنَّ سبب العذاب الدُّنيويِّ قد وُجد، وأنَّه لا يدفعه عنها إلا لعانُها، والعذاب المرفوع

(1)

عنها بلعانها هو المذكور في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وهذا عذاب الحدِّ قطعًا، فذكره مضافًا ومعرَّفًا بلام العهد، فلا يجوز أن ينصرف إلى عقوبةٍ لم تُذكر في اللَّفظ، ولا دلَّ عليها بوجهٍ ما من حبسٍ أو غيره، فكيف يُخلَّى سبيلها ويُدرأ عنها العذاب بغير لعانٍ؟ وهل هذا إلا مخالفةٌ لظاهر القرآن؟

قالوا: وقد جعل الله سبحانه لعانَ الزَّوج دارئًا لحدِّ القذف عنه، وجعل لعان الزَّوجة دارئًا لعذاب حدِّ الزِّنا عنها، فكما أنَّ الزَّوج إذا لم يلاعن يُحَدُّ حدَّ القذف، فكذلك الزَّوجة إذا لم تلاعن يجب عليها الحدُّ.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ لعان الزَّوج لو كان بيِّنةً تُوجِب الحدَّ عليها لم تملك هي إسقاطه باللِّعان كشهادة الأجنبيِّ، فالجواب: أنَّ حكم اللِّعان حكمٌ

(1)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «المدفوع» .

ص: 514

مستقلٌّ بنفسه غير مردودٍ إلى أحكام

(1)

الدَّعاوي والبيِّنات، بل هو أصلٌ قائمٌ بنفسه شرَعَه الذي شرع نظيره من الأحكام، وفصَّلَه الذي فصَّلَ الحلال والحرام، ولمَّا كان لعان الزَّوج بدلًا عن الشُّهود لا جَرَمَ نزل عن مرتبة البيِّنة، فلم يستقلَّ وحدَه بحكم البيِّنة، وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره، وحينئذٍ فلا يظهر ترجيح أحد اللِّعانين على الآخر لنا، والله يعلم أنَّ أحدهما كاذبٌ، فلا وجهَ لحدِّ المرأة بمجرَّد لعان الزَّوج. فإذا مُكِّنت من معارضته وإتيانها بما يُبرِّئ ساحتها فلم تفعل ونَكلتْ عن ذلك= عمِلَ المقتضي عملَه، وانضاف إليه قرينةٌ قوَّتْه وأكَّدتْه، وهي نكول المرأة وإعراضها عمَّا يخلِّصها من العذاب ويدرؤه عنها.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّه لو شهد عليها مع ثلاثةٍ غيره لم تُحَدَّ بهذه الشَّهادة، فكيف تُحدُّ بشهادته وحده؟ فجوابه: أنَّها لم تُحدَّ بشهادةٍ مجرَّدةٍ، وإنَّما حُدَّت بمجموع لعانِه خمسَ مرَّاتٍ ونكولِها عن معارضته مع قدرتها عليها، فقام من مجموع ذلك دليلٌ في غاية الظُّهور والقوَّة على صحَّة قوله، والظَّنُّ المستفاد منه أقوى بكثيرٍ من الظَّنِّ المستفاد من شهادة الشُّهود.

وأمَّا قولكم: إنَّه أحد اللِّعانين، فلا يُوجِب حدَّ الآخر كما لم يوجب لعانُها حدَّه، فجوابه: أنَّ لعانها إنَّما شُرِع للدَّفع لا للإيجاب، كما قال تعالى:{(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ} ، فدلَّ النَّصُّ على أنَّ لعانه مقتضٍ لإيجاب الحدِّ، ولعانها دافعٌ ودارئٌ لا مُوجِبٌ، فقياس أحد اللِّعانين على الآخر جمْعٌ بين ما فرَّق سبحانه بينهما، وهو باطلٌ.

(1)

د، ص:«حكم أحكام» .

ص: 515

قالوا: وأمَّا قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «البيِّنة على المدَّعي» ، فسمعًا وطاعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ريبَ أنَّ لعان الزَّوج المذكور المكرَّر بيِّنةٌ، وقد انضمَّ إليها نكولُها الجاري مجرى إقرارها عند قومٍ، ومجرى بيِّنة المدَّعين عند آخرين، وهذا من أقوى البيِّنات. ويدلُّ عليه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:«البيِّنة وإلَّا حدٌّ في ظهرك»

(1)

، ولم يُبطِل الله سبحانه هذا، وإنَّما نقلَه عند عجزه عن بيِّنةٍ منفصلةٍ تُسقِط الحدَّ عنه يَعجِز عن إقامتها، إلى بيِّنةٍ يتمكَّن من إقامتها، ولمَّا كانت دونها في الرُّتبة اعتُبِر لها مقوٍّ منفصلٌ، وهو نكولُ المرأة عن دفعها ومعارضتها مع قدرتها وتمكُّنها.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ موجَبَ لعانه إسقاطُ الحدِّ عن نفسه، لا إيجاب

(2)

الحدِّ عليها

إلى آخره، فإن أردتم أنَّ من موجَبه إسقاطَ الحدِّ عن نفسه فحقٌّ، وإن أردتم أنَّ سقوط الحدِّ عنه

(3)

جميعُ موجَبِه، ولا موجَبَ له سواه، فباطلٌ قطعًا، فإنَّ وقوعَ الفُرقة أو وجوب التَّفريق، والتَّحريمَ المؤبَّد أو المؤقَّت، ونفْيَ الولد المصرَّح بنفيه أو المكتفى في نفيه باللِّعان، ووجوبَ العذاب على الزَّوجة: إمَّا عذاب الحدِّ أو عذاب الحبس= كلَّ ذلك من موجَب اللِّعان، فلا يصحُّ أن يقال: إنَّما يوجِب سقوطَ حدِّ القذف عن الزَّوج فقط.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ الصَّحابة جعلوا حدَّ الزِّنا بأحد ثلاثة أشياء؛ إمَّا البيِّنة أو الاعتراف أو الحبل، واللِّعان ليس منها، فجوابه أنَّ منازعيكم يقولون: إن كان

(1)

سبق تخريجه.

(2)

ص: «لا يجاب» .

(3)

بعدها في المطبوع: «يسقط» . وليست في النسخ، وهي تفسد المعنى.

ص: 516

إيجاب الحدِّ عليها باللِّعان خلافًا لأقوال هؤلاء الصَّحابة، فإنَّ إسقاط الحدِّ بالحبل أدخلُ في خلافهم وأظهرُ، فما الذي سَوَّغ لكم إسقاطَ حدٍّ أوجبوه بالحبل، وصريحَ مخالفتِهم، وحرَّم على منازعيكم مخالفتَهم في إيجاب الحدِّ بغير هذه الثَّلاثة؟ مع أنَّهم أعذرُ منكم لثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أنَّهم لم يخالفوا صريحَ قولهم، وإنَّما هو مخالفةٌ لمفهومٍ سكتوا عنه، فهو مخالفةٌ لسكوتهم، وأنتم خالفتم صريح أقوالهم.

الثَّاني: أنَّ عامَّة

(1)

ما خالفوه مفهومٌ قد خالفه صريحٌ عن جماعةٍ منهم بإيجاب الحدِّ، فلم يخالفوا ما أجمع عليه الصَّحابة، وأنتم خالفتم منطوقًا لا يُعلَم لهم فيه مخالفٌ البتَّة، وهو إيجاب الحدِّ بالحبل، فلا يُحفَظ عن صحابيٍّ قطُّ مخالفة عمر وعلي رضي الله عنهما - في إيجاب الحدِّ به.

الثَّالث: أنَّهم خالفوا هذا المفهوم لمنطوق تلك الأدلَّة التي تقدَّمت، ولمفهوم قوله:{(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ} ، ولا ريبَ أنَّ هذا المفهوم أقوى من مفهوم سقوط الحدِّ بقولهم: إذا كانت البيِّنة أو الحبل أو الاعتراف، فهم تركوا مفهومًا لما هو أقوى منه وأولى، هذا لو كانوا قد خالفوا الصَّحابة، فكيف وقولهم موافقٌ لأقوال الصَّحابة؟ فإنَّ اللِّعان مع نكول المرأة من أقوى البيِّنات كما تقرَّر.

قالوا: وأمَّا قولكم: لم يتحقَّق زناها

إلى آخره، فجوابه: إن أردتم بالتحقُّق

(2)

اليقينَ المقطوع به كالمحرَّمات، فهذا لا يُشتَرط في إقامة الحدِّ،

(1)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «غاية» .

(2)

في المطبوع: «بالتحقيق» خلاف النسخ.

ص: 517

ولو كان هذا شرطًا لما أقيم الحدُّ بشهادة أربعةٍ، إذ شهادتهم لا تَجعل الزِّنا محقَّقًا بهذا الاعتبار. وإن أردتم بعدم التَّحقُّق أنَّه مشكوكٌ فيه على السَّواء بحيث لا يترجَّح ثبوته، فباطلٌ قطعًا، وإلَّا لما وجب عليها العذابُ المدرُوءُ

(1)

بلعانها، ولا ريبَ أنَّ التَّحقُّق المستفاد من لعانه المؤكَّد المكرَّر مع إعراضها عن معارضةٍ ممكنةٍ منه، أقوى من التَّحقُّق بأربع شهودٍ، ولعلَّ لهم غرضًا في قذْفِها وهتكِها وإفسادِها على زوجها، والزَّوج لا غرضَ له في ذلك منها.

وقولكم: إنَّه لو تحقَّق فإمَّا أن يتحقَّق بلعان الزَّوج أو بنكولها أو بهما، فجوابه أنَّه تحقَّق بهما، ولا يلزم من عدم استقلال أحد الأمرين بالحدِّ وضعْفِه عنه عدمُ استقلالهما معًا، إذ هذا شأن كلِّ مفردٍ لم يستقلَّ بالحكم بنفسه، ويستقلُّ به مع غيره لقوَّته به.

وأمَّا قولكم: عجبًا للشَّافعيِّ! كيف لا يقضي بالنُّكول في درهمٍ ويقضي به في إقامة حدٍّ بالغَ الشَّارعُ في سَتْره واعتبر له أكمل بيِّنةٍ، فهذا موضعٌ لا يُنتَصر فيه للشَّافعيِّ ولا لغيره من الأئمَّة، وليس لهذا

(2)

وُضِع كتابنا هذا، ولا قصدنا به نُصرةَ أحدٍ من العالمين، وإنَّما قصدنا به مجرَّدَ هديِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وأقضيته وأحكامه، وما تضمَّن سوى ذلك فتَبعٌ مقصودٌ لغيره فهَبْ أنَّ من لم يقضِ بالنُّكول تناقضَ فماذا يَضُرُّ ذلك هديَ

(3)

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

(1)

في المطبوع: «المدرأ» خلاف جميع النسخ. والمدروء بمعنى المدفوع اسم مفعول من الفعل الثلاثي، ولا يستعمل الفعل الرباعي بهذا المعنى.

(2)

ص، د، ز:«هذا» .

(3)

م: «بهدي» .

ص: 518

وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها

(1)

على أنَّ الشَّافعيَّ رحمه الله لم يتناقض، فإنَّه فرَّق بين نكولٍ مجرَّدٍ لا قوَّة له، وبين نكولٍ قد قارنه التعانٌ مؤكَّدٌ مكرَّرٌ أقيم في حقِّ الزَّوج مقامَ البيِّنة، مع شهادة الحال بكراهة الزَّوج لزِنا امرأته وفضيحتِها، وخرابِ بيته

(2)

، وإقامةِ نفسه وحبِّه في ذلك المقامَ العظيم بمشهد المسلمين، يدعو على نفسه باللَّعنة إن كان كاذبًا بعد حلفه بالله جهدَ أيمانه أربع مرَّاتٍ إنَّه لمن الصَّادقين. فالشَّافعيُّ رحمه الله إنَّما حكم بنكولٍ قد قارنَه ما هذا شأنه، فمن أين يلزمه أن يحكم بنكولٍ مجرَّدٍ؟

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّها لو أقرَّت بالزِّنا ثمَّ رجعت لسقط عنها الحدُّ، فكيف يجب بمجرَّد امتناعها من اليمين؟ فجوابه

(3)

: ما تقرَّر آنفًا.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ العذاب المدروءَ

(4)

عنها بلعانها هو عذاب الحبس أو غيره، فجوابه: أنَّ العذاب المذكور إمَّا عذاب الدُّنيا أو عذاب الآخرة، وحمْلُ الآية على عذاب الآخرة باطلٌ قطعًا، فإنَّ لعانها لا يَدْرؤه إذا وجب عليها، وإنَّما هو عذاب الدُّنيا، وهو الحدُّ قطعًا، فإنَّه عذاب المحدود، وهو فداءٌ له من عذاب الآخرة، ولهذا شرعه سبحانه طُهْرةً وفديةً من ذلك العذاب، كيف وقد صرَّح به في أوَّل السُّورة بقوله:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، ثمَّ أعاده

(1)

صدره: وعيَّرها الواشون أني أحبُّها.

والبيت لأبي ذؤيب الهذلي في «شرح أشعار الهذليين» (1/ 70) وغيره.

(2)

في د، ص، المطبوع:«بيتها» . المثبت من بقية النسخ.

(3)

في المطبوع: «بجوابه» خلاف النسخ.

(4)

في المطبوع: «المدرأ» من الرباعي، وهو خطأ ومخالف للنسخ.

ص: 519

بعينه بقوله: {(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا} [النور: 8]، فهذا هو العذاب المشهود، مَكَّنها مِن دفْعِه بلعانها، فأين هنا عذابٌ غيرُه حتَّى تُفسَّر الآية به؟

وإذا تبيَّن هذا فهذا هو القول الصَّحيح الذي لا نعتقد سواه، ولا نرتضي

(1)

إلا إيَّاه. وباللَّه التَّوفيق.

فإن قيل: فلو نكلَ الزَّوج عن اللِّعان بعد قذْفِه فما حكم نكوله؟

قلنا: يُحَدُّ حدَّ القذف عند جمهور العلماء من السَّلف والخلف، وهو قول الشَّافعيِّ ومالك وأحمد وأصحابهم. وخالف في ذلك أبو حنيفة، وقال: يُحبس حتَّى يُلاعِن أو تُقرَّ الزَّوجة. وهذا الخلاف مبنيٌّ على أنَّ موجِبَ قذف الزَّوج لامرأته هل هو الحدُّ كقذف الأجنبيِّ وله إسقاطُه باللِّعان، أو موجبه اللِّعانُ نفسه؟ فالأوَّل قول الجمهور، والثَّاني: قول أبي حنيفة.

واحتجُّوا عليه بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية:«البيِّنة أو حدٌّ في ظهرك»

(2)

، وبقوله له:«عذابُ الدُّنيا أهونُ من عذاب الآخرة»

(3)

، وهذا قاله لهلال بن أمية قبل شروعه في اللِّعان، فلو لم يجب الحدُّ بقذفه لم يكن لهذا معنًى. وبأنَّه قذفَ حرَّةً عفيفةً يجري بينه وبينها القَوَدُ، فحُدَّ بقذفها كالأجنبيِّ. وبأنَّه لو لاعنها ثمَّ أكذبَ نفسَه بعدَ لعانِه

(4)

(1)

م، د، ب:«يعتقد» و «يرتضى» .

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (1493) من حديث عبد الله بن عمر.

(4)

في المطبوع: «لعانها» خلاف النسخ.

ص: 520

لوجب عليه الحدُّ، فدلَّ على أنَّ قذفه سببٌ لوجوب الحدِّ عليه، وله إسقاطه باللِّعان، إذ لو لم يكن سببًا لما وجب بإكذابه نفسَه بعد اللِّعان.

وأبو حنيفة يقول: قذفُه لها دعوى تُوجِب أحد أمرين: إمَّا لعانه وإمَّا إقرارها، فإذا لم يلاعن حُبِس حتَّى يلاعن، إلا أن تُقِرَّ فيزول موجب الدَّعوى. وهذا بخلاف قذف الأجنبيِّ، فإنَّه لا حقَّ له عند المقذوفة، فكان قاذفًا محضًا.

والجمهور يقولون: بل قذفه جنايةٌ منه على عِرْضها، فكان موجَبُها الحدَّ كقذف الأجنبيِّ، ولمَّا كان فيها شائبةُ الدَّعوى عليها إتلافَها

(1)

لحقِّه وخيانتَها

(2)

فيه= مَلكَ إسقاطَ ما يوجبه القذف من الحدِّ بلعانه، فإذا لم يلاعن مع قدرته على اللِّعان وتمكُّنِه منه= عَمِلَ مقتضى القذف عملَه، واستقلَّ بإيجاب الحدِّ، إذ لا معارضَ له. وباللَّه التَّوفيق.

فصل

ومنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّما كان يقضي بالوحي وبما أراه اللَّه، لا بما رآه هو، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يقْضِ بين المتلاعنين حتَّى جاءه الوحي ونزل القرآن، فقال لعويمرٍ حينئذٍ: «قد نزل فيك وفي صاحبتك

(3)

، فاذهبْ فأْتِ بها»

(4)

،

(1)

كذا في النسخ، وهو مفعول «الدعوى» (مصدر بمعنى الادّعاء). وفي المطبوع:«بإتلافها» .

(2)

ز، ح:«جنايتها» .

(3)

في المطبوع: «صحابتك» ، خطأ.

(4)

أخرجه البخاري (5308)، ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد.

ص: 521

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يسألُني الله عن سنَّةٍ أحدثتُها فيكم لم أُؤْمَرْ بها»

(1)

. وهذا في الأقضية والأحكام والسُّنن الكلِّيَّة، وأمَّا الأمور الجزئيَّة التي لا ترجع إلى أحكامٍ كالنُّزول في منزلٍ معيَّنٍ وتأمير

(2)

رجلٍ معيَّنٍ، ونحو ذلك ممَّا هو متعلَّقُ المشاورة

(3)

المأمور بها بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، فتلك للرَّأي فيها مدخلٌ، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم في شأن تلقيح النَّخل:«إنَّما هو رأيٌ رأيته»

(4)

. فهذا القسم شيءٌ، والأحكام والسُّنن الكلِّيَّة شيءٌ آخر.

(1)

أخرجه ابن أبي خيثمة في «التاريخ» (2/ 612)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/ 287)، وأبو نعيم في «المعرفة» (4/ 1904، 6/ 3069)، وعزاه في «كنز العمال» (9748) للطبراني في «الكبير» والبغوي، بلفظ:«لا يسألني الله عز وجل عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرني بها» . وقد اختلف في إسناد هذا الحديث، وفي اسمِ راويه وصحبتِه على أوجهٍ ذكرها الحافظ في «الإصابة» (3/ 435)، ورجَّح كونه صحابيًّا، وأن اسمه طلحة بن نضيلة، وقال:«هذا هو المعتمد، وما عداه وهم» ، ورجح ابن ناصر الدين إرسالَه في «افتتاح القاري» (ص 320)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 100):«رواه الطبراني في الكبير، وفيه بكر بن سهل الدمياطي ضعفه النسائي ووثقه غيره، وبقية رجاله ثقات» . وأصل الحديث ــ دون هذاللفظ ــ عند أحمد (12591)، والدارمي (2587)، وابن ماجه (2200)، وأبي داود (3451)، والترمذي (1314) من حديث أنس. قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» .

(2)

م: «وتأثير» . والتصحيح في هامشها.

(3)

في المطبوع: «متعلقٌ بالمشاورة» . والمثبت من النسخ ..

(4)

أخرجه بنحوه مسلم (2361، 2362، 2363) ولفظه: «إني إنما ظننتُ ظنًا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل» .

ص: 522

فصل

ومنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمره بأن يأتي بها، فتَلاعَنا بحضرته، فكان في هذا بيان أنَّ اللِّعان إنَّما يكون بحضرة الإمام أو نائبه، وأنَّه ليس لآحاد الرَّعيَّة أن يلاعن بينهما، كما

(1)

ليس له إقامة الحدِّ، بل هو للإمام أو نائبه.

فصل

ومنها: أنَّه يُسَنُّ التَّلاعن بمحضر جماعةٍ من النَّاس يشهدونه، فإنَّ ابن عبَّاسٍ وابن عمر وسهل بن سعدٍ حضروه مع حداثة أسنانهم، فدلَّ ذلك على أنَّه حضره جمعٌ كثيرٌ، فإنَّ الصِّبيان إنَّما يحضرون مثلَ هذا الأمر تبعًا للرِّجال. وقال سهل بن سعدٍ: فتلاعنا وأنا مع النَّاس عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(2)

. وحكمة هذا ــ والله أعلم ــ أنَّ اللِّعان بُنِي على التَّغليظ مبالغةً في الرَّدع والزَّجر، وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك.

فصل

ومنها: أنَّهما يتلاعنان قيامًا، وفي قصَّة هلال بن أمية أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «قُمْ فاشهدْ أربعَ شهاداتٍ

(3)

»

(4)

. وفي «الصَّحيحين»

(5)

في قصَّة المرأة: «ثمَّ

(1)

في المطبوع: «كما أنه» . والمثبت من النسخ.

(2)

أخرجه البخاري (5259، 5308)، ومسلم (1492) من حديث سهل.

(3)

بعدها في المطبوع: «بالله» ، وليست في النسخ.

(4)

روى هذا اللفظ حنبل بن إسحاق في «جزئه» ، كما في التاسع من «فوائد ابن السماك» (61). وعزاه في «الدر المنثور» (6/ 136) للبخاري ومسلم، وهو فيهما دون الأمر بالقيام، كما سبق تخريجه.

(5)

رواه البخاري (4747، 5307) بهذا اللفظ. وهو عند مسلم (1492) دون ذِكر القيام.

ص: 523

قامتْ فشهِدتْ».

ولأنَّه إذا قام شاهدَه الحاضرون، فكان أبلغَ في شهرته، وأوقعَ في النُّفوس. وفيه سرٌّ آخر، وهو أنَّ الدَّعوة التي تُطلَب إصابتُها إذا صادفت المدعوَّ عليه قائمًا نفذتْ فيه، ولهذا لمَّا دعا خُبيبٌ على المشركين حين صلبوه أخذ أبو سفيان معاويةَ فأضجعه، وكانوا يرون أنَّ الرَّجل إذا لَطِئَ بالأرض

(1)

زلَّت عنه الدَّعوة

(2)

.

فصل

ومنها: البُداءة بالرَّجل في اللِّعان، كما بدأ الله ورسوله به

(3)

، فلو بدأتْ هي لم يُعتَدَّ بلعانها عند الجمهور، واعتدَّ به أبو حنيفة. وقد بدأ الله سبحانه في الحدِّ بذكر المرأة فقال:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وفي اللِّعان بذكر الزَّوج، وهذا في غاية المناسبة؛ لأنَّ الزِّنا من المرأة أقبح منه من الرجل

(4)

، لأنَّها تزيد على هَتْك حقِّ الله إفسادَ فراش بَعْلها، وتعليقَ نسبٍ من غيره عليه، وفضيحةَ أهلها وأقاربها، والجنايةَ على محض حقِّ الزَّوج، وخيانتَه فيه، وإسقاطَ حرمته عند النَّاس، وتعييرَه بإمساك البغيِّ، وغيرَ ذلك من مفاسد زناها، فكانت البُداءة بها في الحدِّ أهمَّ. وأمَّا اللِّعان فالزَّوج هو الذي قذفَها وعرَّضها للِّعان، وهتَكَ عِرضَها، ورماها بالعظيمة، وفضحَها

(1)

أي التصق بها.

(2)

انظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 173)، و «المغازي» للواقدي (1/ 359).

(3)

«به» ليست في د، ص، ب.

(4)

في المطبوع: «بالرجل» خلاف النسخ.

ص: 524

عند قومها وأهلها، ولهذا يجب عليه الحدُّ إذا لم يُلاعِن، فكانت البُداءة به في اللِّعان أولى من البداءة بها.

فصل

ومنها: وعظُ كلٍّ

(1)

من المتلاعنين عند إرادة الشُّروع في اللِّعان، فيُوعظ ويُذَكَّر ويقال له: عذاب الدُّنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فإذا كان عند الخامسة أُعِيد ذلك عليهما، كما صحَّت السُّنَّة بهذا وهذا.

فصل

ومنها: أنَّه لا يُقبل من الرَّجل أقلُّ من خمس مرَّاتٍ، ولا من المرأة، ولا يُقبل منه إبدال اللَّعنة بالغضب والإبعاد والسَّخط، ولا منها إبدالُ الغضب باللَّعنة والإبعاد والسَّخط، بل يأتي كلٌّ منهما بما قسم الله له من ذلك شرعًا وقدرًا، وهذا أصحُّ القولين في مذهب أحمد ومالك وغيرهما.

ومنها: أنَّه لا يفتقر

(2)

أن يزيد على الألفاظ المذكورة في القرآن والسُّنَّة شيئًا، بل لا يُستحبُّ ذلك، فلا يحتاج أن يقول: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشَّهادة، الذي يَعلم من السِّرِّ ما يعلم من العلانية، ونحو ذلك، بل يكفيه أن يقول: أشهد بالله إنِّي لمن الصَّادقين، وتقول هي: أشهد بالله إنَّه لمن الكاذبين، ولا يحتاج أن يقولَ: فيما رميتُها به من الزِّنا، وتقولَ هي: إنَّه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزِّنا، ولا يُشترط أن يقول إذا ادَّعى الرُّؤية: رأيتها تزني كالمِرْوَد في المُكْحُلَة، ولا أصلَ لذلك في كتاب الله ولا سنَّة

(1)

بعدها في المطبوع: «واحد» ، وليست في النسخ.

(2)

د: «يقتصر» .

ص: 525

رسوله، فإنَّ الله سبحانه بعلمه وحكمته كفانا بما شرعَه لنا وأمرنا به عن تكلُّفِ زيادةٍ عليه.

قال صاحب «الإفصاح» ــ وهو يحيى بن محمد بن هُبَيرة ــ في «إفصاحه»

(1)

: من الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله «من الصَّادقين» : فيما رميتُها به من الزِّنا، واشترط في نفيها عن نفسها أن تقول: فيما رماني به من الزِّنا. قال: ولا أراه يحتاج إليه؛ لأنَّ الله تعالى أنزل ذلك وبيَّنه، ولم يذكر هذا الاشتراط.

وظاهر كلام أحمد: أنَّه لا يشترط ذكر الزِّنا في اللِّعان، فإنَّ إسحاق بن منصورٍ

(2)

قال: قلت لأحمد: كيف يلاعن؟ قال: على ما في كتاب اللَّه، يقول أربع مرَّاتٍ: أشهد بالله إنِّي فيما رميتُها به لمن الصَّادقين، ثمَّ يُوقَف عند الخامسة فيقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة مثل ذلك.

ففي هذا النَّصِّ أنَّه لا يُشترط أن يقول: من الزِّنا، ولا تقوله هي، ولا يُشترط أن يقول عند الخامسة: فيما رميتُها به، وتقول هي: فيما رماني به. والَّذين اشترطوا ذلك حجَّتهم أن قالوا: ربَّما نَوى: إنِّي لمن الصَّادقين في شهادة التَّوحيد أو غيرِه من الخبر الصَّادق، ونَوتْ: إنَّه لمن الكاذبين في شأنٍ آخر، فإذا ذكرا ما رميت به من الزِّنا انتفى هذا التَّأويل.

قال الآخرون: هَبْ أنَّهما نويا ذلك فإنَّهما لا يَنتفعان بنيَّتهما، فإنَّ الظَّالم لا ينفعه تأويله، ويمينُه على نيَّة خصمه، ويمينُه بما أمر الله به إذا كان مجاهرًا

(1)

لم أجد النصّ في النسخة المطبوعة منه، وهي ناقصة.

(2)

هو الكوسج، انظر:«مسائله» (1/ 405).

ص: 526

فيها بالباطل والكذب موجبةٌ عليه اللَّعنةَ أو الغضبَ، نَوى ما ذكرتم أو لم يَنوِه، فإنَّه لا يُموِّه على من يعلم السِّرَّ وأخفى بمثل هذا.

فصل

ومنها: أنَّ الحمل ينتفي بلعانه، ولا يحتاج أن يقول: وما هذا الحمل منِّي، ولا يحتاج أن يقول: وقد استبرأتُها. هذا قول أبي بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد، وقول بعض أصحاب مالك، وأهل الظَّاهر. وقال الشَّافعيُّ: يحتاج الرَّجل إلى ذكر الولد، ولا تحتاج المرأة إلى ذكره. وقال الخِرَقي وغيره: يحتاجان إلى ذكره. وقال القاضي: يشترط أن يقول: هذا الولد من زنًا، وليس هو منِّي

(1)

. وهو قول الشَّافعيِّ. وقول أبي بكر أصحُّ الأقوال، وعليه تدلُّ السُّنَّة الثَّابتة.

فإن قيل: فقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لاعنَ بين رجلٍ وامرأته، وانتفى من ولده

(2)

، ففرَّق بينهما، وألحق الولد بالمرأة

(3)

. وفي حديث سهل بن سعدٍ: «وكانت حاملًا، فأنكر حملَها» . وقد حكم صلى الله عليه وسلم بأنَّ الولد للفِراش، وهذه كانت فراشًا له حال كونها حاملًا، فالولد له، فلا ينتفي عنه إلا بنفيه.

قيل: هذا موضع تفصيلٍ لا بدَّ منه، وهو أنَّ الحمل إن كان سابقًا على ما رماها به وعلم أنَّها زنتْ وهي حاملٌ منه، فالولد له قطعًا، ولا ينتفي عنه

(1)

انظر لهذه الأقوال: «المغني» (11/ 180، 181).

(2)

في المطبوع: «ولدها» . والمثبت من النسخ.

(3)

سبق تخريجه، وكذا الحديثان بعده.

ص: 527

بلعانه، ولا يحلُّ له أن ينفيه

(1)

في اللِّعان، فإنَّها لمَّا عَلِقتْ به كانت فراشًا

(2)

، وكان الحمل لاحقًا به، فزِناها لا يُزيل حكمَ لحوقه به. وإن لم يعلم حملها حالَ زناها الذي قذَفَها به فهذا يُنظر فيه؛ فإن جاءت به لأقلَّ من ستَّة أشهرٍ من الزِّنا الذي رماها به فالولد ولده، ولا ينتفي عنه بلعانه، وإن ولدتْه لأكثر من ستَّة أشهرٍ من الزِّنا الذي رماها به نُظِر؛ فإمَّا أن يكون استبرأها قبل زِناها أو لم يستبرئها، فإن استبرأها انتفى الولد عنه بمجرَّد اللِّعان، سواءٌ نفاه أو لم يَنْفِه، ولا بدَّ من ذكره عند من يشترط ذكره، وإن لم يستبرئها فهاهنا أمكن أن يكون الولد منه وأن يكون من الزَّاني، فإن نفاه في اللِّعان انتفى، وإلَّا لَحِقَ به؛ لأنَّه أمكن كونُه منه ولم يَنْفِه.

فإن قيل: فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بعد اللِّعان، ونفى الولدَ بأنَّه إن جاء يُشبِه الزَّوجَ صاحبَ الفراش فهو له، وإن جاء يُشبِه الذي رُمِيَتْ به فهو له، فما قولكم في مثل هذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها، ثمَّ جاء الولد يُشبِهه، هل تُلحِقونه به بالشَّبه عملًا بالقافة، أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملًا بموجب لعانِه؟

قيل: هذا مجالٌ ضَنْكٌ وموضعٌ ضيِّقٌ تَجاذبَ أَعِنَّتَه اللِّعانُ المقتضي لانقطاع النَّسب وانتفاءِ الولد، وأنَّه يُدعى لأمِّه ولا يُدعى لأبٍ، والشَّبه الدَّالُّ على ثبوت نسبه من الزَّوج، وأنَّه ابنه مع شهادة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّها إن جاءت به على شبهه فالولد له، وأنَّه كذب عليها، فهذا مضيقٌ لا يتخلَّص منه إلا المستبصر البصير بأدلَّة الشَّرع وأسراره، والخبير بجمعه وفَرْقه، الذي

(1)

بعدها في المطبوع: «عنه» وليست في النسخ.

(2)

بعدها في المطبوع: «له» وليست في النسخ.

ص: 528

سافرت به همَّتُه إلى مطلعِ الأحكام، والمشكاةِ التي ظهر منها الحلال والحرام.

والَّذي يظهر في هذا ــ والله المستعان وعليه التُّكلان ــ أنَّ حكم اللِّعان قَطَعَ حكم الشَّبه، وصار معه بمنزلة أقوى الدَّليلين مع أضعفهما، فلا عبرةَ للشَّبه بعد مُضيِّ حكم اللِّعان في تغيير أحكامه. والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يُخبِر عن شأن الولد وشَبَهِه ليغيِّر بذلك حكم اللِّعان، وإنَّما أخبر عنه ليتبيَّن الصَّادق منهما من الكاذب، الذي قد استوجب اللَّعنة والغضب، فهو إخبارٌ عن أمرٍ قدريٍّ كونيٍّ يتبيَّن به الصَّادق من الكاذب بعد تقرُّر الحكم الدِّينيِّ، وأنَّ الله سبحانه سيجعل الولد دليلًا على ذلك.

ويدلُّ عليه أنَّه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد انتفائه من الولد وقال: «إن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا صَدقَ عليها، وإن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا كذَبَ عليها» ، فجاءت به على النَّعت المكروه، فعَلِمَ أنَّه صدق عليها، ولم يَعرِض لها، ولم يفسخ حكم اللِّعان، فيحكم عليها بحكم الزَّانية مع العلم بأنَّه صدق عليها، فكذلك لو جاءت به على شَبَه الزَّوج لعَلِمَ

(1)

أنَّه كذب عليها، ولا يُغيِّر ذلك حكمَ اللِّعان فيحدَّ الزَّوج ويلحق به الولد. فليس قوله:«إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية» إلحاقًا له به في الحكم، كيف وقد نفاه باللِّعان، وانقطع نسبه به. كما أنَّ

(2)

قوله: «وإن جاءت به كذا وكذا فهو للَّذي رُمِيَتْ به» ليس إلحاقًا له

(3)

به وجَعْلَه ابنَه، وإنَّما هو إخبارٌ عن الواقع. وهذا

(1)

في المطبوع: «يعلم» .

(2)

د: «وكان» .

(3)

«له» ليست في المطبوع.

ص: 529

كما لو حكم بأيمان القسامة، ثمَّ أظهر الله سبحانه آيةً تدلُّ على كذب الحالفين لم ينتقض حكمُها بذلك، وكذا لو حكم بالبراءة من الدَّعوى بيمينٍ، ثمَّ أظهر الله سبحانه آيةً تدلُّ على أنَّها يمينٌ فاجرةٌ، لم يبطُل الحكم بذلك. والله أعلم.

فصل

ومنها: أنَّ الرَّجل إذا قذف امرأته بالزِّنا برجلٍ بعينه ثمَّ لاعنَها سقط الحدُّ عنه لهما، ولا يحتاج إلى ذكر الرَّجل في لعانه، وإن لم يلاعن فعليه لكلِّ واحدٍ منهما حدٌّ. وهذا موضعٌ اختُلِف فيه

(1)

:

فقال أبو حنيفة ومالك: يلاعن للزَّوجة ويُحَدُّ للأجنبيِّ.

وقال الشَّافعيُّ في أحد قوليه: يجب عليه حدٌّ واحدٌ ويسقط عنه الحدُّ لهما بلعانه، وهو قول أحمد. والقول الثَّاني للشَّافعيِّ: إنَّه يُحَدُّ لكلِّ واحدٍ حدٌّ. فإن ذكرَ المقذوف في لعانه سقط الحدُّ، وإن لم يذكره فعلى قولين، أحدهما: يَستأنِف اللِّعان ويذكره فيه، فإن لم يذكره حدَّ له. والثَّاني: أنَّه يسقط حدُّه بلعانه، كما يسقط حدُّ الزَّوجة.

وقال بعض أصحاب أحمد: القذف للزَّوجة وحدها، ولا يتعلَّق بغيرها حقُّ المطالبة ولا الحدُّ.

وقال بعض أصحاب الشَّافعيِّ: يجب الحدُّ لهما. وهل يجب حدٌّ واحدٌ أو حدَّان؟ على وجهين، وقال بعض أصحابه: لا يجب إلا حدٌّ واحدٌ قولًا واحدًا. ولا خلافَ بين أصحابه أنَّه إذا لاعن وذكر الأجنبيَّ في لعانه أنَّه يسقط

(1)

انظر: «المغني» (11/ 181).

ص: 530

عنه حكمه، وإن لم يذكره فعلى قولين؛ الصَّحيح عندهم أنَّه لا يسقط.

والَّذين أسقطوا حكم قذف الأجنبيِّ باللِّعان حجَّتهم ظاهرةٌ وقويَّةٌ جدًّا، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يَحُدَّ الزَّوجَ بشَرِيك

(1)

ابن سَحْماء، وقد سمَّاه صريحًا.

وأجاب الآخرون عن هذا بجوابين:

أحدهما: أنَّ المقذوف كان يهوديًّا، ولا يجب الحدُّ بقذف الكافر.

والثَّاني: أنَّه لم يطالب به، وحدُّ القذف إنَّما يُقام بعد المطالبة به

(2)

.

وأجاب الآخرون عن هذين الجوابين وقالوا: قول من قال: إنَّه يهوديٌّ باطلٌ، فإنَّه شَريك بن عَبْدة، وأمُّه سَحْماء، وهو حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالكٍ لأمِّه. قال عبد العزيز بن بَزِيزة في «شرحه لأحكام عبد الحق»: قد اختلف أهل العلم في شَريك ابن سَحْماء المقذوف، فقيل: إنَّه كان يهوديًّا. وهو باطلٌ، والصَّحيح أنَّه شريك بن عَبْدة حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالكٍ لأمِّه

(3)

.

وأمَّا الجواب الثَّاني فهو ينقلب حجَّةً عليكم؛ لأنَّه لمَّا استقرَّ عنده أنَّه لا حقَّ له في هذا القذف لم يطالِبْ به ولم يتعرَّض له، وإلَّا فكيف يسكت عن براءة عرضه، وله طريقٌ إلى إظهارها بحدِّ قاذفه، والقوم كانوا أشدَّ حميَّةً وأنفةً من ذلك؟

(1)

م: «لشريك» .

(2)

«به» ليست في المطبوع.

(3)

انظر: «الإصابة» (5/ 119، 120).

ص: 531

وقد تقدَّم أنَّ اللِّعان أُقيم مقامَ البيِّنة للحاجة، وجُعِل بدلًا من الشُّهود الأربعة، ولهذا كان الصَّحيح أنَّه يوجب الحدَّ عليها إذا نَكَلَتْ، فإذا كان بمنزلة الشَّهادة في أحد الطَّرفين كان بمنزلتها في الطَّرف الآخر، ومن المحال أن تُحدَّ المرأة باللِّعان إذا نكلت، ثمَّ يُحدُّ القاذف حدَّ القذف، وقد أقام البيِّنة على صدق قوله. وكذلك إن جعلناه يمينًا، فإنَّها كما درأتْ عنه الحدَّ من طرف الزَّوجة درأتْ عنه من طرف المقذوف، ولا فرقَ؛ لأنَّ به حاجةً إلى قذف الزَّاني لما أفسد عليه من فراشه، وربَّما يحتاج إلى ذكره ليستدلَّ بشَبَه الولد له على صدق قاذفه، كما استدلَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على صدق هلال بشَبَه الولد لشريك ابنِ سحماء، فوجب أن يُسقِط حكمَ قذفه ما أَسقط حكمَ قذفِها، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للزَّوج:«البيِّنة وإلَّا حدٌّ في ظهرك» ، ولم يقل: وإلَّا حدَّان.

هذا، والمرأة لم تطالب بحدِّ القذف، فإنَّ المطالبة شرطٌ في إقامة الحدِّ لا في وجوبه. وهذا جوابٌ آخر عن قولهم: إنَّ شريكا لم يطالب بالحدِّ، فإنَّ المرأة أيضًا لم تطالب به، وقد قال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«البيِّنة وإلَّا حدٌّ في ظهرك» .

فإن قيل: فما تقولون لو قذف أجنبيَّةً بالزِّنا برجلٍ سمَّاه، فقال: زنى بك فلانٌ، أو زنيتَ به؟

قيل: هاهنا يجب عليه حدَّان؛ لأنَّه قاذفٌ لكلِّ واحدٍ منهما، ولم يأتِ بما يُسقِط موجبَ قذفه، فوجب عليه حكمه، إذ ليس هنا بيِّنةٌ بالنِّسبة إلى أحدهما، ولا ما يقوم مقامها.

فصل

ومنها: أنَّه إذا لاعنها وهي حاملٌ وانتفى من حملها انتفى عنه، ولم

ص: 532

يَحتجْ أن يلاعن بعد وضعه، كما دلَّت عليه السُّنَّة الصَّحيحة الصَّريحة. وهذا موضعٌ اختلف فيه:

فقال أبو حنيفة: لا يلاعن لنفيه حتَّى تضع، لاحتمال أن يكون ريحًا فتَنفَّشَ، ولا يكون للِّعان حينئذٍ معنًى. وهذا هو الذي ذكره الخِرقي في «مختصره» فقال

(1)

: وإن نفى الحمل في التعانِه لم ينتفِ حتَّى ينفيه عند وضعها له ويلاعن. وتبعه الأصحاب على ذلك، وخالفهم أبو محمَّدٍ المقدسيُّ كما يأتي كلامه.

وقال جمهور أهل العلم: له أن يلاعن في حال الحمل اعتمادًا على قصَّة هلال بن أمية، فإنَّها صريحةٌ صحيحةٌ في اللِّعان حالَ الحمل ونَفْي الولد في تلك الحال، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إن جاءتْ به على صفةِ كذا وكذا فلا أُراه إلا قد صدقَ عليها» الحديث. قال الشَّيخ في «المغني»

(2)

: وقال مالك والشَّافعيُّ وجماعةٌ من أهل الحجاز: يصحُّ نفْيُ الحمل وينتفي عنه، محتجِّين بحديث هلال، وأنَّه نفى حمْلَها، فنفاه عنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وألحقَه بالأمِّ. ولا خفاء بأنَّه كان حملًا، ولهذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«انظُروها فإن جاءت به كذا وكذا» . قال: ولأنَّ الحمل مظنونٌ بأماراتٍ تدلُّ عليه، ولهذا ثبتَتْ للحامل أحكامٌ تُخالف فيها الحائل: من النَّفقة، والفطر في الصِّيام، وترك إقامة الحدِّ عليها، وتأخير القصاص عنها، وغير ذلك ممَّا يطول ذكره. ويصحُّ استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه. قال: وهذا القول هو الصَّحيح؛ لموافقته ظواهر الأحاديث، وما خالف الحديثَ لا يُعبأ به كائنًا ما كان، وقال أبو بكر: ينتفي

(1)

(ص 116).

(2)

(11/ 161).

ص: 533

الولد بزوال الفراش، ولا يحتاج إلى ذكره في اللِّعان، احتجاجًا بظاهر الأحاديث، حيث لم يُنقَل نفْيُ الحمل ولا تعرّض لنفيه.

وأمَّا مذهب أبي حنيفة فإنَّه لا يصحُّ نفي الحمل واللِّعانُ عليه، فإن لاعنَها حاملًا ثمَّ أتت بالولد لزمه عنده، ولم يتمكَّن من نفيه أصلًا؛ لأنَّ اللِّعان لا يكون إلا بين الزَّوجين، وهذه قد بانت بلعانها في حال حملها.

قال المنازعون له: هذا فيه إلزامه ولدًا ليس منه، وسدُّ باب الانتفاء من أولاد الزِّنا. والله سبحانه قد جعل له إلى ذلك طريقًا، فلا يجوز سَدُّها. قالوا: وإنَّما تعتبر الزَّوجيَّة في الحال التي أضاف الزِّنا إليها فيها؛ لأنَّ الولد الذي تأتي به يلحقه إذا لم ينْفِه، فيحتاج إلى نفيه، وهذه كانت زوجته في تلك الحال فملك نفي ولدها.

وقال أبو يوسف ومحمد: له أن ينفي الحمل ما بين الولادة إلى تمام أربعين ليلةً منها. وقال عبد الملك بن الماجشون: لا يلاعن لنفي الحمل إلا أن ينفيه ثانيةً بعد الولادة. وقال الشَّافعيُّ: إذا علم بالحمل فأمكنه الحاكم من اللِّعان فلم يلاعن لم يكن له أن ينفيه بعدُ.

فإن قيل: فما تقولون لو استلحق الحملَ وقذَفَها بالزِّنا، فقال: هذا الولد منِّي وقد زنَتْ؟ ما حكم هذه المسألة؟

قيل: قد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ:

أحدها: أنَّه يُحَدُّ ويُلحَق به الولد، ولا يُمكَّن من اللِّعان.

والثَّاني: أنَّه يلاعن وينتفي الولد.

والثَّالث: أنَّه يلاعن للقذف ويلحقه الولد.

ص: 534

والثَّلاثة رواياتٌ عن مالك. والمنصوص عن أحمد: أنَّه لا يصحُّ استلحاق الحمل

(1)

كما لا يصحُّ نفيه.

قال أبو محمد

(2)

: وإن استلحق الحملَ، فمن قال: لا يصحُّ نفيه قال: لا يصحُّ استلحاقه، وهو المنصوص عن أحمد. ومن أجاز نفْيَه قال: يصحُّ استلحاقه، وهو مذهب الشَّافعيِّ؛ لأنَّه محكومٌ بوجوده، بدليل وجوب النَّفقة ووقف الميراث، فصحَّ الإقرار به كالمولود، وإذا استلحقه لم يملك نفْيَه بعد ذلك، كما لو استلحقه بعد الوضع. ومن قال: لا يصحُّ استلحاقه قال: لو صحَّ استلحاقه للزمه بترك نفيه كالمولود، ولا يلزمه ذلك بالإجماع، وليس للشَّبه أثرٌ

(3)

في الإلحاق، بدليل حديث الملاعنة، وذلك مختصٌّ بما بعد الوضع، فاختصَّ صحَّة الإلحاق به. فعلى هذا لو استلحقه ثمَّ نفاه بعد وضعه كان له ذلك، فأمَّا إن سكت عنه فلم ينْفِه ولم يستلحقه لم يلزمه عند أحدٍ علمنا قوله؛ لأنَّ تركه محتملٌ؛ لأنَّه لا يتحقَّق وجوده إلا أن يلاعنها، فإنَّ أبا حنيفة ألزمه الولد على ما أسلفناه.

فصل

وقول ابن عبَّاسٍ: ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أن لا يُدعى ولدها لأبٍ ولا تُرمى، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحدُّ، وقضى أن لا بيتَ لها عليه ولا قُوتَ، من أجل أنَّهما يفترقان من غير طلاقٍ ولا متوفَّى عنها

(4)

.

(1)

في المطبوع: «الولد» .

(2)

في «المغني» (11/ 162).

(3)

كذا في جميع النسخ. وفي «المغني» : «ولأنّ للشبه أثرًا» . وهذا يقلب المعنى.

(4)

سبق تخريجه، وكذا الآثار الثلاثة بعده.

ص: 535

وقول سهل: فكان ابنها يُدعى إلى أمِّه، ثمَّ جرت السُّنَّة أنَّه يرِثُها وترِثُ منه ما فرض الله لها.

وقوله: مضت السُّنَّة في المتلاعنينِ أن يُفرَّق بينهما، ثمَّ لا يجتمعان أبدًا.

وقال الزُّهريُّ عن سهل بن سعدٍ: فرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: «لا يجتمعان أبدًا» . وقول الزَّوج: يا رسول الله، مالي؟ قال:«لا مالَ لك؛ إن كنت صدقتَ عليها فهو بما استحللتَ من فرجها، وإن كنت كذبتَ عليها فهو أبعد لك منها» .

فتضمَّنت هذه الجملة عشرة أحكامٍ:

الحكم الأوَّل: التَّفريق بين المتلاعنين، وفي ذلك خمسة مذاهب:

أحدها: أنَّ الفرقة تحصل بمجرَّد القذف. وهذا قول أبي عبيد، والجمهور خالفوه في ذلك، ثمَّ اختلفوا:

فقال جابر بن زيدٍ وعثمان البتِّيُّ ومحمد بن أبي صفرة وطائفةٌ من فقهاء البصرة: لا يقع باللِّعان فرقةٌ البتَّةَ، وقال ابن أبي صفرة: اللِّعان لا يقطع العصمة، واحتجُّوا بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر عليه الطَّلاق بعد اللِّعان، بل هو أنشأ طلاقها، ونزَّه نفسَه أن يمسك من قد اعترف بأنَّها زنت، أو أن يقوم عليه دليل كذبٍ بإمساكها، فجعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فعلَه سنَّةً.

ونازع هؤلاء جمهورُ العلماء وقالوا: اللِّعان يوجب الفُرقة، ثمَّ اختلفوا على ثلاثة

(1)

مذاهب:

أحدها: أنَّها تقع بمجرَّد لعان الزَّوج وحده، وإن لم تلتعن المرأة. وهذا

(1)

د، ص، ز:«ثلاث» .

ص: 536

القول ممَّا تفرَّد به الشَّافعيُّ رحمه الله ، واحتجَّ له بأنَّها فُرقةٌ حاصلةٌ بالقول، فحصلت بقول الزَّوج وحده كالطَّلاق.

المذهب الثَّاني: أنَّها لا تحصل إلا بلعانهما جميعًا، فإذا تمَّ لعانهما وقعت الفرقة، ولا يُعتبر تفريق الحاكم. وهذا مذهب أحمد في إحدى الرِّوايتين عنه، اختارها أبو بكر، وقول مالك وأهل الظَّاهر. واحتُجَّ لهذا القول بأنَّ الشَّرع إنَّما ورد بالتَّفريق بين المتلاعنينِ، ولا يكونان متلاعنينِ بلعان الزَّوج وحده، وإنَّما فرَّق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللِّعان منهما، فالقول بوقوع الفرقة قبله مخالفٌ لمدلول السُّنَّة وفعلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. واحتجُّوا بأنَّ لفظ اللِّعان لا يقتضي فرقةً، فإنَّه إمَّا أيمانٌ على زناها وإمَّا شهادةٌ به، وكلاهما لا يقتضي فرقةً، وإنَّما ورد الشَّرع بالتَّفريق بينهما بعد تمامِ لعانهما لمصلحةٍ ظاهرةٍ، وهي أنَّ الله سبحانه جعل بين الزَّوجين مودَّةً ورحمةً، وجعل كلًّا منهما سَكَنًا للآخر، وقد زال هذا بالقذف، وأقامها مقام الخِزْي والعار والفضيحة، فإنَّه إن كان كاذبًا فقد فضَحَها وبهتَها ورماها بالدَّاء العضال، ونكَّس رأسَها ورؤوس قومها، وهتكَها على رؤوس الأشهاد. وإن كانت كاذبةً فقد أفسدتْ فراشَه، وعرَّضته للفضيحة والخزي والعار بكونه زوجَ بَغِيٍّ وتعليقِ ولدِ غيره عليه، فلا يحصل بعد هذا بينهما من المودَّة والرَّحمة والسَّكَن ما هو مطلوبٌ بالنِّكاح، فكان من محاسن شريعة الإسلام التَّفريقُ بينهما والتَّحريمُ المؤبَّد على ما سنذكره. ولا يترتَّب هذا على بعض اللِّعان، كما لا يترتَّب على بعضِ لعانِ الزَّوج. قالوا: ولأنَّه فسخٌ ثبت بأيمان متحالفينِ، فلم يثبت بأيمان أحدهما، كالفسخ لتحالُفِ

(1)

المتبايعين عند الاختلاف.

(1)

في المطبوع: «لتخالف» .

ص: 537

المذهب الثَّالث: أنَّ الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم. وهذا مذهب أبي حنيفة، وإحدى الرِّوايتين عن أحمد، وهي ظاهر كلام الخِرقي، فإنَّه قال

(1)

: ومتى تلاعنا وفرَّق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدًا. واحتجَّ أصحاب هذا القول بقول ابن عبَّاسٍ في حديثه: ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. وهذا يقتضي أنَّ الفرقة لم تحصل قبله. واحتجُّوا بأن عُويمرًا قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

، وهذا حجَّةٌ من وجهين، أحدهما: أنَّه يقتضي إمكانَ إمساكها. والثَّاني: وقوع الطَّلاق. ولو حصلت الفرقة باللِّعان وحده لما ثبت واحدٌ من الأمرين، وفي حديث سهل بن سعدٍ أنَّه طلَّقها ثلاثًا فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود

(3)

.

قال المُوقِعون للفرقة بتمام اللِّعان بدون تفريق الحاكم: اللِّعان معنًى يقتضي التَّحريم المؤبَّد كما سنذكره، فلم يقف على تفريق الحاكم كالرِّضاع. قالوا: ولأنَّ الفرقة لو وقعت على تفريق الحاكم لساغ تركُ التَّفريق إذا كرهه الزَّوجان، كالتَّفريق بالعيب والإعسار.

قالوا: وقوله: فرَّق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يحتمل أمورًا ثلاثةً؛ أحدها: إنشاء الفرقة. والثَّاني: الإعلام بها. والثَّالث: إلزامه بموجبها من الفرقة الحسِّيَّة.

وأمَّا قوله: «كذبتُ عليها إن أمسكتُها» ، فهذا لا يدلُّ على أنَّ إمساكها بعد

(1)

(ص 116).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

برقم (2250)، وكذا ابن حبان (4284، 4285) من طرق عن ابن شهاب عن سهل بن سعد، وسنده صحيح، وأصله في «الصحيحين» كما مرَّ.

ص: 538