الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمَّة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن لم يكن هناك ولدٌ نُفِي نسَبُه حُدَّ قاذِفُها، وإن كان هناك ولدٌ نُفِي نسبُه لم يُحَدَّ قاذفها، والحديث إنَّما هو فيمن لها ولدٌ نفاه الزَّوج. والَّذي أوجب له هذا الفرق أنَّه متى نُفِي نسبُ ولدها فقد حُكِمَ بزناها بالنِّسبة إلى الولد، فأثَّر ذلك شبهةً في سقوط حدِّ القذف.
فصل
الحكم التَّاسع:
أنَّ هذه الأحكام إنَّما ترتَّبت على لعانهما معًا وبعدَ أن تمَّ اللِّعانانِ، فلا يترتَّب شيءٌ منها على لعان الزَّوج وحده. وقد خرَّج أبو البركات ابن تيميَّة
(1)
على المذهب انتفاءَ الولد بلعان الزَّوج وحده، وهو تخريجٌ صحيحٌ، فإنَّ لعانه كما أفاد سقوط الحدِّ وعارِ القذف عنه من غير اعتبار لعانها، أفاد سقوطَ النَّسب الفاسد عنه وإن لم تلاعنْ هي، بل بطريق الأَولى، فإنَّ تضرُّرَه بدخول النَّسب الفاسد عليه أعظم من تضرُّره بحدِّ القذف، وحاجتُه إلى نفيه عنه أشدُّ من حاجته إلى دفع الحدِّ، فلعانه كما استقلَّ بدفع الحدِّ استقلَّ بنفي الولد، والله أعلم.
فصل
الحكم العاشر:
وجوب النَّفقة والسُّكنى للمطلَّقة والمتوفَّى عنها إذا كانتا حاملينِ
(2)
، فإنَّه قال
(3)
: «من أجلِ أنَّهما يفترقانِ عن
(4)
غير طلاقٍ ولا
(1)
في «المحرر» (2/ 99).
(2)
ص، ز، ب:«حاملتين» .
(3)
في أثر ابن عباس السابق.
(4)
د: «من» .
متوفَّى عنها»، فأفاد ذلك أمرين: أحدهما: سقوط نفقة البائن وسكناها إذا لم تكن حاملًا من الزَّوج. والثَّاني: وجوبهما لها وللمتوفَّى عنها إذا كانتا حاملينِ من الزَّوج.
فصل
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أبصِرُوها، فإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشَرِيك ابن سَحْماء»
(1)
إرشادٌ منه صلى الله عليه وسلم إلى اعتبار الحكم بالقافة، وأنَّ للشَّبه مدخلًا في معرفة النَّسب، وإلحاق الولد بمنزلة الشَّبه، وإنَّما لم يُلْحَق بالملاعن لو قدِّر أنَّ الشَّبه له لمعارضة اللِّعان الذي هو أقوى من الشَّبه له، كما تقدَّم.
فصل
وقوله في الحديث: «لو أنَّ رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه به»
(2)
دليلٌ على أنَّ من قتل رجلًا في داره وادَّعى أنَّه وجده مع امرأته أو حريمِه قُتِل به، ولا يُقبَل قوله، إذ لو قُبِل قوله لأُهدِرت الدِّماء، وكان كلُّ من أراد قتلَ رجلٍ أدخلَه دارَه وادَّعى أنَّه وجده مع امرأته.
ولكن هاهنا مسألتان يجب التَّفريق بينهما، إحداهما: هل يسعه فيما بينه وبين الله أن يقتله أم لا؟ والثانية: هل يُقبل قوله في ظاهر الحكم أم لا؟ وبهذا التَّفريق يزول الإشكال فيما نُقل عن الصَّحابة رضي الله عنهم في ذلك، حتَّى جعلها بعض العلماء مسألةَ نزاعٍ بين الصَّحابة، وقال: مذهب عمر أنَّه لا يُقتَل به،
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
ومذهب علي: أنَّه يُقتَل به. والَّذي غَرَّه ما رواه سعيد بن منصورٍ في «سننه»
(1)
: أنَّ عمر بن الخطَّاب بينا هو يومًا يتغدَّى إذ جاء رجلٌ يعدو، وفي يده سيفٌ ملطَّخٌ بدمٍ، ووراءه قومٌ يَعْدُون، فجاء حتَّى جلس مع عمر، فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنَّ هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر: ما تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنِّي ضربتُ فخذَيِ امرأتي، فإن كان بينهما أحدٌ فقد قتلتُه، فقال عمر: ما تقولون؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنَّه ضربَ بالسَّيف فوقع في وسط الرَّجل وفخذَي المرأة، فأخذ عمر سيفَه فهَزَّه، ثمَّ دفعه إليه وقال: إن عادوا فعُدْ. فهذا ما نُقِل عن عمر رضي الله عنه .
وأمَّا علي فسئل عمَّن وجد مع امرأته رجلًا فقتله، فقال: إن لم يأتِ بأربعة شهداء فلْيُعْطَ بِرُمَّته
(2)
. فظنَّ أنَّ هذا خلافٌ
(3)
للمنقول عن عمر، فجعلها مسألة خلافٍ بين الصَّحابة، وأنتَ إذا تأمَّلتَ حكمَيْهما لم تجد بينهما اختلافًا، فإنَّ عمر رضي الله عنه إنَّما أسقط عنه القَوَد لمَّا اعترف الوليُّ بأنَّه كان مع امرأته، وقد قال أصحابنا ــ واللَّفظ لصاحب «المغني»
(4)
ــ: فإن اعترف الوليُّ بذلك فلا قصاصَ ولا ديةَ؛ لما رُوِي عن عمر، ثمَّ ساق القصَّة. وكلامه يعطي أنَّه لا فرقَ بين أن يكون مُحصَنًا أو غير محصَنٍ، وكذلك حكم
(1)
كما في «المغني» (11/ 462، 12/ 535) من طريق هشيم عن مغيرة بن مقسم عن إبراهيم عن عمر؛ وسنده ضعيف؛ للانقطاع؛ إبراهيم لم يدرك عمر.
(2)
أخرجه مالك (2154) ــ وعنه الشافعي في «الأم» (7/ 75، 346) ــ وعبد الرزاق (17915) وابن أبي شيبة (28458) من طريق سعيد بن المسيب عنه، ورجاله ثقات، غير أنَّ في سماع سعيد من عليٍّ خلافًا.
(3)
د، ص، ز، ب:«خلافًا» .
(4)
(11/ 462).
عمر في هذا القتيل. وقوله أيضًا: إنْ عادوا فعُدْ، ولم يفرِّق بين المحصن وغيره. وهذا هو الصَّواب، وإن كان صاحب «المستوعب»
(1)
قد قال: ومن وجد مع امرأته رجلًا ينال منها ما يوجب الرَّجم فقتله، وادَّعى أنَّه قتله لأجل ذلك، فعليه القصاص في ظاهر الحكم، إلا أن يأتي ببيِّنةٍ بدعواه، فلا يلزمه القصاص. قال
(2)
: وفي عدد البيِّنة روايتان؛ إحداهما: شاهدان، اختارها أبو بكر؛ لأنَّ البيِّنة على الوجود دون الزِّنا
(3)
. والأخرى: لا يُقبل أقلُّ من أربعةٍ.
والصَّحيح أنَّ البيِّنة متى قامت بذلك أو أقرَّ به الوليُّ سقطَ القصاص، محصَنًا كان أو غيره، وعليه يدلُّ كلام عليٍّ رضي الله عنه، فإنَّه قال فيمن وجد مع امرأته رجلًا فقتله: إن لم يأتِ بأربعة شهداء فَلْيُعْطَ برُمَّته. وهذا لأنَّ هذا القتل ليس بحدٍّ للزِّنا، ولو كان حدًّا لما كان بالسَّيف، ولَاعْتُبِرَ له شروط إقامة الحدِّ وكيفيَّته، وإنَّما هو عقوبةٌ لمن تعدَّى عليه وهَتَكَ حريمه
(4)
وأفسدَ أهله. وكذلك فعل الزبير لمَّا تخلَّف عن الجيش ومعه جاريةٌ له، فأتاه رجلان فقالا: أعطِنا شيئًا، فأعطاهما طعامًا كان معه، فقالا: خَلِّ عن الجارية، فضربهما بسيفه، فقطعهما بضربةٍ واحدةٍ
(5)
.
وكذلك
(6)
من اطَّلع في بيت قومٍ من ثُقْبٍ أو شَقٍّ في الباب بغير إذنهم،
(1)
(2/ 406).
(2)
الكلام متصل بما قبله.
(3)
في المطبوع: «لا على الزنا» خلاف النسخ و «المستوعب» .
(4)
ز: «حرمته» .
(5)
رواه الزبير بن بكار في «الموفقيات» (ص 382)، وانظر:«المغني» (11/ 462).
(6)
نقل المؤلف هذه الفقرة وما بعدها من «المستوعب» (2/ 406، 407).
فنظر حرمةً أو عورةً، فلهم حَذْفُه
(1)
وطَعْنُه في عينه، فإن انقلعتْ عينُه فلا ضمانَ عليهم. قال القاضي أبو يعلى: هذا ظاهر كلام أحمد أنَّهم يدفعونه ولا ضمان عليهم، من غير تفصيلٍ.
وفصَّل ابن حامد فقال: يدفعه بالأسهل فالأسهل، فيبدأ بقوله: انصرِفْ واذهَبْ، وإلَّا نفعل بك
(2)
.
قلت: وليس في كلام أحمد ولا في السُّنَّة الصَّحيحة ما يقتضي هذا التَّفصيل، بل الأحاديث الصَّحيحة تدلُّ على خلافه، فإنَّ في «الصَّحيحين»
(3)
عن أنس: أنَّ رجلًا اطَّلع من جُحرٍ في حُجرة
(4)
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمِشْقَصٍ أو بمَشاقِصَ، وجعل يَخْتِلُه ليطعنَه. فأين الدَّفع بالأسهل وهو صلى الله عليه وسلم يَخْتِله أو
(5)
يختبئ له ويختفي ليطعنه؟
وفي «الصَّحيحين»
(6)
أيضًا من حديث سهل بن سعدٍ: أنَّ رجلًا اطَّلع في جُحْرِ بابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي يد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ به
(7)
رأسه، فلمَّا رآه قال: «لو أعلم أنَّك تنظرني لطعنتُ به عينَك
(8)
، إنَّما جُعِل الاستئذان من أجل
(1)
كذا في النسخ بالحاء، وهو بمعنى الرمي مثل الخذف بالخاء.
(2)
بعدها في المطبوع: «كذا» ، وليست في النسخ و «المستوعب» .
(3)
أخرجه البخاري (6900)، ومسلم (2157).
(4)
في المطبوع: «في بعض حجر» خلاف النسخ.
(5)
ص، ب:«أي» .
(6)
د، ص، ز، ب:«الصحيح» ، والمثبت من م. وقد أخرجه البخاري (6901)، ومسلم (2156).
(7)
ز، ب:«بها» .
(8)
م: «عينك بها» .
البصر».
وفيهما
(1)
أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّ امرءًا اطَّلع عليك بغير إذنٍ، فحذَفْتَه بحصاةٍ ففقأتَ عينَه، لم يكن عليك جُناحٌ» .
وفيهما
(2)
أيضًا: «من اطَّلع في بيت قومٍ بغير إذنهم فَفَقَأوا عينَه فلا ديةَ له ولا قصاصَ» .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وقال
(3)
: ليس هذا من باب دفع الصَّائل، بل من باب عقوبة المعتدي المؤذي.
وعلى هذا فيجوز له فيما بينه وبين الله تعالى قتلُ من اعتدى على حريمه، سواءٌ كان محصَنًا أو غير محصَنٍ، معروفًا بذلك أو غيرَ معروفٍ، كما دلَّ عليه كلام الأصحاب وفتاوي الصَّحابة.
وقد قال الشَّافعيُّ وأبو ثورٍ: يَسَعُه قتلُه فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان الزَّاني مُحصَنًا، جعلاه من باب الحدود.
وقال أحمد وإسحاق: يُهدَر دمه إذا جاء بشاهدين، ولم يفصلا بين المحصَن وغيره.
واختلف قول مالك في هذه المسألة، فقال ابن حبيب: إن كان المقتول
(1)
أخرجه البخاري (6902)، ومسلم (2158).
(2)
أخرجه مسلم (2158) من حديث أبي هريرة بلفظ: «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقأوا عينَه» . وأما لفظ المصنف فأخرجه أحمد (8997) والنسائي (4680) من حديث أبي هريرة أيضًا، وسنده صحيح على شرط الشيخين.
(3)
انظر: «مجموع الفتاوى» (15/ 380).
مُحصَنًا وأقام الزَّوج البيِّنةَ فلا شيء عليه، وإلَّا قُتِل به. وقال ابن القاسم: إذا قامت البيِّنة فالمحصن وغير المحصن سواءٌ، ويُهدَر دمُه. واستحبَّ ابن القاسم الدِّية في غير المحصن.
فإن قيل: فما تقولون في الحديث المتَّفق على صحَّته
(1)
عن أبي هريرة: أنَّ سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيتَ الرَّجل يجدُ مع امرأته رجلًا أيقتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا» ، فقال سعد: بلى والَّذي بعثك بالحقِّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اسمعوا إلى ما يقول سيِّدكم» .
وفي اللَّفظ الآخر
(2)
: إن وجدتُ مع امرأتي رجلًا أُمهِلُه حتَّى آتي بأربعة شهداء؟ قال: «نعم» ، قال: والَّذي بعثَك بالحقِّ إن كنتُ لأعاجِلُه بالسَّيف قبل ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اسمعوا إلى ما يقول سيِّدكم، إنَّه لغَيورٌ، وأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ منِّي» .
قلنا: نتلقَّاه بالقبول والتَّسليم والقول بموجبه، وآخرُ الحديث دليلٌ على أنَّه لو قتله لم يُقَدْ به؛ لأنَّه قال: بلى والَّذي أكرمك بالحقِّ، ولو وجب عليه القصاص بقتله لما أقرَّه على هذا الحلف، ولما أثنى على غَيرتِه، ولقال: لو قتلتَه قُتِلتَ به.
وحديث أبي هريرة صريحٌ في هذا، فإنَّ
(3)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتعجبون
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
د، ز:«لأن» .
من غيرة سعد؟ فواللَّه لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ منِّي»، ولم ينكر عليه. ونهيُه
(1)
عن قتله لأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم حكمٌ مُلزِمٌ، وكذلك فتواه حكمٌ عامٌّ للأمَّة، فلو أَذِنَ له في قتله لكان ذلك حكمًا منه بأنَّ دمه هدرٌ في ظاهر الشَّرع وباطنِه، ووقعت المفسدةُ التي درأها الله بالقصاص، وتهالكَ النَّاس في قتل من يريدون قتلَه في دُورهم ويَدَّعون أنَّهم كابَرُوهم
(2)
على حريمهم، فسَدَّ الذَّريعة، وحَمى المفسدة، وصانَ الدِّماء. وفي ذلك دليلٌ على أنَّه لا يُقبل قول القاتل، ويُقَاد به في ظاهر الشَّرع، فلمَّا حلف سعد أنَّه يقتله ولا ينتظر به الشُّهود عجِبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من غيرته، وأخبر أنَّه غَيورٌ، وأنَّه صلى الله عليه وسلم أغيرُ منه، والله أشدُّ غيرةً. وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: إقراره وسكوتُه على ما حلفَ عليه سعد أنَّه جائزٌ له فيما بينه وبين اللَّه، ونهيُه عن قتْلِه في ظاهر الشَّرع، ولا يتناقض أوَّلُ الحديث وآخره.
والثَّاني: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك كالمُنكِر على سعد، فقال:«ألا تسمعون إلى ما يقول سيِّدكم!» يعني: أنا أنهاه عن قتله، وهو يقول: بلى والَّذي أكرمَك بالحقِّ. ثمَّ أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة، وأنَّه شدَّة غيرته، ثمَّ قال:«أنا أغيرُ منه، والله أغيرُ منِّي» . وقد شرع إقامة الشُّهداء
(1)
كذا في عامة النسخ. وفي م: «نِهْيَةً» مضبوطة، ولا معنى لها. وفي المطبوع:«ولا نهاه» عطفًا على ما قبلها، والصواب أنها جملة مستأنفة كما يدل عليه السياق.
(2)
تحرفت في المطبوع إلى: «كانوا يرونهم» . والصواب ما في النسخ. وكابَرَ فلانًا على مالهِ: أخذ منه عنوةً وقهرًا.