الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1000
- " إن الله مع الدائن (أي المديون) حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله ".
أخرجه الدارمي (2 / 263) وابن ماجه (2 / 75) والحاكم (2 / 23) وأبو
نعيم في " الحلية "(3 / 204) وابن عساكر (9 / 36 / 1) من طريق محمد بن
إسماعيل بن أبي فديك: حدثنا سعيد بن سفيان مولى الأسلميين عن جعفر بن محمد عن
أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم....
وزادوا إلا الحاكم: " قال: وكان عبد الله بن جعفر يقول لخازنه: اذهب فخذ
لي بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلا والله معي، بعد ما سمعت من رسول الله صلى
الله عليه وسلم " فذكر الحديث وقال الحاكم: " صحيح الإسناد " ووافقه الذهبي
. وقال في الزوائد: " إسناده صحيح ". وقال المنذري (3 / 36) : " إسناده
حسن ": كذا قالوا! ورجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سفيان قال الذهبي في
" الميزان ": " لا يكاد يعرف، قواه ابن حبان
" وقال الحافظ في التقريب ".
" مقبول ". أي عند المتابعة.
ولم أقف له على متابع بهذا المتن أو السند، وإن كان له شواهد، فهو لذلك
صحيح المعنى، فانظر الحديث الآتي (1029) بلفظ:" من أخذ دينا.... ".
الاستدراكات
1-
508- (يا نعايا العرب..) .
ثم وجدت له شاهدًا قويًا موقوفًا، أخرجه الحسين المروزي في "زوائد الزهد" (393/1114) قال:
أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن محمود بن الربيع عن شداد بن أوس أنه قال حين حضرته الوفاة: فذكره، وتابعه صالح بن كيسان عن الزهري به.
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(5/333/6829) .
وهذا إسناد صحيح، وهو أصح من المرفوع، وقد أشار إلى ذلك ابن أبي حاتم في "العلل" (2/124/1864) عن أبيه. ولعله من الممكن أن يقال: إنه في حكم المرفوع، وبخاصة أن شدادًا قاله في حضرة وفاته.
والمرفوع عزاه الحافظ في "المطالب العالية" لأبي يعلى من الطريق المتقدمة هناك عن عم عباد بن تميم به.
وليس هو في "مسند أبي يعلى" المطبوع، ولا عزاه إليه الهيثمي في "مجمعه"، فهو إذن في "مسند أبي يعلى الكبير".
ومن هذه الطريق أخرجه البيهقي في "الشعب"(5/332/6824) . ثم رواه (6825) من طريق إسحاق بن إبراهيم بن جوتي: نا عبد الملك بن عبد الرحمن الذَّماري: نا سفيان الثوري عن ابن أبي ذئب عن الزهري به.
واسحاق هذا من شيوخ الطبراني، وهو منكر الحديث كما قال ابن عدي رحمه الله تعالى.
2-
528- (لا تَلعن الريحَ، فإنها مأمورةٌ..) .
لقد أشكل على بعض الطلبة تصحيح هذا الحديث من الحفاظ المذكورين هناك، مع قول شعبة:"لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أحاديث.." فذكرها، وليس هذا منها.
وجوابًا عليه أقول: إن هذا الحصر غير مسلم به عند العلماء؛ لأنه يخالف الواقع، فقد سمع منه حديثين آخرين:
أحدهما: رؤيته صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام ليلة المعراج؛ عند البخاري (3396) ومسلم (1/105) .
والآخر: دعاء الكرب، وهو في "الصحيحين" أيضًا، وصرح فيه بالتحديث في رواية لمسلم (8/85) وأحمد (1/339) . وراجع "تهذيب التهذيب" و"فتح الباري"(11/145-146) .
3-
548- (لعن الله العقرب لا تدع مصليًا..) .
ثم رأيت الحديث في "مصنف ابن أبي شيبة" المطبوع في الهند (ج 10/418/9850) مرسلًا كما كنت نقلته عن مخطوطة الظاهرية، لكن محقق المطبوعة زاد في السند بين معكوفتين:[عن علي] . وأحال فيها على تعليق له على الحديث نفسه تقدم (ج 7/40/3604) ، وذكر هناك أن الزيادة وردت في "الكنز/كتاب الطب" برمز (ش) وغيره عن علي.
فرجعت إلى "الكنز" فوجدته في المجلد العاشر صفحة (107 حديث 28544) عزاه لـ (ش، هب، والمستغفري في "الدعوات" وأبو نعيم في "الطب" عن علي) . وفي مكان آخر قريب (109/28548) عزاه لـ (طس وابن مردويه وأبو نعيم
في "الطب" عنه) . ثم رأيته قد ذكره في "كتاب القصاص"(ج 15/45/40015) عزاه مختصرًا دون القصة لـ (هب) عنه.
وبناء عليه؛ كان لا بد لي من التحقيق في صحة نسبة هذه الزيادة إلى ابن أبي شيبة أولًا، ثم صحة ثبوتها عن عبد الرحيم بن سليمان ثانيًا، فرأيت الحديث في "كتاب الطب" لأبي نعيم (ق 97/2) و"شعب الإيمان" للبيهقي (2/518/2575) أخرجاه من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة: ثنا عمي أبو بكر: ثنا عبد الرحيم بن سليمان بزيادة: "عن علي".
فانكشف لي أن هذه الزيادة لا تصح عنهما؛ لأن محمد بن عثمان بن أبي شيبة -وهو ابن أخي أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة مؤلف "المصنف"- مع كونه من الحفاظ؛ فقد اختلف فيه اختلافًا شديدًا، فمن موثق، وقائل:"لا بأس به"، ومن مكذب له، وقائل:"كان يضع الحديث"! وله ترجمة مبسطة في "الميزان" و"اللسان" و"سير الأعلام"(14/21-23)، وقد أورده الذهبي في "الضعفاء" وقال:
"حافظ، وثقه جزرة، وكذبه عبد الله بن أحمد".
قلت: وهو إلى هذا قد خالف الإِمام الحافظ الثقة الأجل بقي بن مخلد راوي "المصنف" عن ابن أبي شيبة، ولذلك فزيادته عليه منكرة لا تصح، فبقي الحديث عن ابن الحنفية مرسلًا، يتقوى بمسند ابن مسعود المخرج هناك، وبالله تعالى التوفيق.
4-
704- (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام..) .
يلحق بآخر البحث الوارد تحته المتعلق برد السلام على الذمي ما يأتي:
ثم قرأ علي أحد إخواننا من كتاب "أحكام أهل الذمة" لابن قيم الجوزية (1/ 199-200) ما يوافق تمامًا هذا الذي قلته من الرد على أهل الكتاب بالشرط المذكور، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
5-
717- (كان إذا اعتم سدل..) .
يلحق بالصفحة (335) بعد السطر (15) :
وقد خالفهما أبو أسامة فقال: حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع قال:
كان ابن عمر يعتم ويرخيها بين كتفيه.
قال عبيد الله: أخبرنا أشياخنا أنهم رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعتمون ويرخونها بين أكتافهم.
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/427/5028) ، ومن طريقه البيهقي في "الشعب"(رقم 6249) بسند صحيح.
6-
764- (إن آل أبي فلان..) .
يُلحق بآخر التخريج:
ثم وجدت لمحمد بن عبد الواحد متابعًا آخر عند أبي عوانة في "صحيحه"(1/96) من طريقين عن أبي العاصي -من ولد سعيد بن العاص- قال: حدثني عنبسة بن عبد الواحد به.
لكنّ أبا العاصي هذا لم أعرفه، ولم يذكره الذهبي في كتابه "المقتنى في الكنى"، إلا أنني أخشى أن تكون هي كنية محمد بن عبد الواحد نفسه، فإن عبد الواحد هو من ولد سعيد بن العاص؛ فإنه عنبسة بن عبد الواحد بن أمية بن عبد الله ابن سعيد بن العاص الأموي، فإذا كان هو نفسه لم يصلح أن يكون متابعًا كما هو ظاهر، ولكن هل يخرج من الجهالة بإخراج أبي عوانة له في "صحيحه؟ " موضع نظر.
والله أعلم.
إلا أن الزيادة التي جاء بها -وحاول تضعيفها- هي صحيحة؛ لأن لها شاهدًا من حديث أبى هريرة، رواه مسلم وغيره، وسيأتي تخريجه في هذه السلسلة برقم (3177) .
وقد تغافل عنه الأخ حسان عبد المنان في تعليقه على ما طبع هو من كتاب "رياض الصالحين" للنووي، معللًا إياها بالجهالة المذكورة؛ مقتبسًا إياها من تخريجي المتقدم للحديث دون أن يشير إلى ذلك كما هي عادته، ودون أن يستدرك عليّ ما به تتقوى الزيادة كهذا الشاهد؛ لأن همه تكثير سواد الأحاديث الضعيفة وانتقاد من صححها؛ متشبثًا بما قد يبدو له من علة، ومعرضًا عما قد يقويها من المتابعات والشواهد كما هو الشأن في هذه الزيادة، وهذا أمر ظاهر جلي في "ضعيفته" التي طبعها في آخر طبعته لـ "الرياض"، فقد ضعف فيها عشرات الأحاديث الصحيحة، بعضها في " الصحيحين " أو أحدهما كهذا، والغريب أن الشاهد المذكور هو في طبعته من " الرياض " قبيل هذا الحديث! فهل تعامى عنه قصدًا تظاهرًا بالتحقيق؛ أم كان ذلك عن سهو منه؟ لقد كان المفروض أن نحسن الظن به، ولكن تصرفه السيىء في " ضعيفته " منعنا من ذلك، فقد رأيته ضعف فيها كثيرًا من أحاديث "مسلم" بمثل هذا التعامي، فقد انتقد فيها (558/116) تصحيحي لحديث جابر:"وجنبوه السواد" في "غاية المرام"، فأعله هو -محقًا- بعنعنة أبي الزبير، وأسكنه تعامى أيضًا عن شاهده من حديث أنس الذي أشرت إليه هناك، وقلت فيه:
"وهو مخرج في "الأحاديث الصحيحة" (496) "!
وانظر الاستدراك الآتي (11 و13) فهناك ترى أحاديث أخرى صحيحة ضعفها، وبعضها في "صحيح مسلم" أيضًا!
7-
808- (بعثت في نسم الساعة) .
ثم وقفت على خلافٍ وقع في إسناد الحديث، وذلك على وجهين:
الأول: في اسم راوي الحديث عن أبي جبيرة، فسماه ابن عيينة -كما تقدم هناك- قيس بن أبي حازم.
وخالفه المسعودي فقال: عن إسماعيل عن الشعبي عن أبي جبيرة.
أخرجه ابن جرير الطبري في "تاريخه"(1/8) . لكن المسعودي -واسمه عبد الرحمن بن عبد الله- كان اختلط.
وخالفهما مروان بن معاوية فقال: عن إسماعيل عن شبيل بن عوف عن أبي جبيرة.
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/390-391) من طريق يعقوب ابن حميد: ثنا مروان.. وقال الهيثمي (10/390) :
"رواه الطبراني بإسناد حسن".
قلت: وهو كما قال للخلاف المعروف في يعقوب هذا. وأشار إلى ذلك الحافظ فقال في " التقريب ":
"صدوق، ربما وهم".
قلت: ولكن قد توبع من جمع، فروايته أرجح من رواية اللذين قبله، ولكنهم قد خولفوا جميعًا، وهو الوجه التالي:
والوجه الآخر: أن جمعًا من الثقات قالوا: عن إسماعيل عن شبيل عن أبي جبيرة عن أشياخ من الأنصار قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فزاد: الأشياخ.
أخرجه الطبري في "التاريخ"(1/8-9) عن يزيد -وهو ابن هارون- والطبراني في "المعجم الكبير"(22/391/972) ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية"(4/161) عن معتمر بن سليمان، كلاهما عن إسماعيل به.
وتابعه غيرهما، فقال أبو نعيم عقبه:
"رواه أبو حمزة السكري، ومروان بن معاوية (الذي تقدم في الوجه الأول) وغيرهم عن إسماعيل مثله".
قلت: فهؤلاء الثقات جعلوا الحديث من مسند الأشياخ من الأنصار من رواية
أبي جبيرة عنه، وليس من مسنده هو نفسه. وهذا هو الصحيح لاتفاق الجماعة عليه.
وهو للحديث أقوى؛ للخلاف في صحبة أبي جبيرة كما تقدم ذكره هناك.
8-
839- (أتاني جبريل فقال: يا محمد..) .
ثم رأيت في "تاريخ أبي زرعة الدمشقي"(1/442/1094) أنه قال للحافظ أحمد بن صالح المصري الطبري: ما تقول في مالك بن الخير الزبادي؟ قال: "ثقة".
قلت: وهذه فائدة عزيزة -خلت منها كتب التراجم المعروفة- أطلعني عليها الأخ علي الحلبي، تولاه الله وجزاه خيرًا.
9-
866- (بئس مطية الرجل زعموا) .
ثم وقفت على تخريج الشيخ شعيب لهذا الحديث في تعليقه على "مشكل الآثار"(1/173-174) ؛ تبنى فيه قول الحافظ بأنه منقطع، يعني: بين أبي قلابة وأبي مسعود، وبينه وبين حذيفة، وبين وفاة هذين (68) سنة. وبناء على ذلك توقف الشيخ عن قبول تصريح أبي قلابة في إسناد الطحاوي بالتحديث، زاعمًا أن التصريح بالتحديث لم يرد في المصادر الأخرى التي وقف هو عليها، ثم ختم كلامه بتوهيمي بإيرادي الحديث في "الصحيحة".
وجوابي عليه من وجوه:
أولًا: بطلان زعمه المذكور؛ لأنه قائم على إنكار الواقع الذي لم يحط به علمه، فقد كنت ذكرت هناك من مصادر الحديث مخطوط "المعرفة" لابن منده؛ مع ذكر المجلد والورقة والوجه! وسقت إسناده مسلسلًا بالتحديث من الوليد بن مسلم إلى أبي قلابة قال: نا أبو عبد الله. فهذا مصدر غير "مشكل الطحاوي"، وفيه فائدة مهمة جدًا، وهي تصريح الوليد بالتحديث في الإِسناد في كل طبقاته، فَأمِنَّا بذلك تدليسه تدليس التسوية أولًا، وتحققنا من صحة سماع أبي قلابة من أبي عبد الله حذيفة
للحديث ثانيًا، ولذلك فتغاضي الشيخ شعيب عن هذه الحقيقة مما يتنافى مع الأمانة العلمية؛ لما يترتب عليه من قلب الحقائق، وإظهار الحديث الصحيح بمظهر الحديث المعلول!
ثانيًا: لا يجوز -في نقدي- تقديم نفي السماع على إثباته لمخالفته القاعدة المتفق عليها: "المثبت مقدم على النافي"، ولا سيما والنافي ليس عنده إلا تاريخ الوفاة التي لا سند لها إلا أقوال معلقة، والمثبت معه السند الصحيح! وكأنه لذلك أشار الحافظ المزي في "تهذيبه" إلى تضعيف الانقطاع المذكور، فقال -وقد ذكر رواية أبي قلابة عن حذيفة-:
"وقيل: لم يسمع منه".
ويشبه ما فعله الشيخ شعيب بهذا الحديث -إلى حد كبير- ما صنعه أصحابه الحنفية بحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين التي صرح فيها أبو هريرة بأنه كان حاضرها بقوله: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم
…
كما في البخاري (1227) وغيره، فنفوا ذلك! متعلقين بقول الزهري المقطوع: إن ذا اليدين استشهد ببدر، وإسلام أبي هريرة كان بعد بدر بأربع سنين، فلم يشهد القصة، فردوا الصحيح بما لم يصح من قول الزهري، انظر "فتح الباري"(3/96-97) .
على أنه لو فرض ثبوت تاريخ وفاة حذيفة وأبي قلابة فذلك لا يعني الانقطاع؛ إلا لو ثبت مع ذلك تاريخ ولادة أبي قلابة؛ بحيث يقطع أنه لم يدرك حذيفة في وقت التحمل على الأقل، وهيهات! فقد نفى ذلك الذهبي -وهو من أعلم الناس بالتاريخ- فقال في "سير الأعلام" (4/468) :
"ما علمت متى ولد". والله أعلم.
10-
895- (أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي) .
ثم وجدتُ له شاهدًا آخر من حديث أنس مرفوعًا بلفظ:
"إن الله يحب كثرة الأيدي على الطعام".
أخرجه الدولابي في "الكنى"(1/188) بسند ضعيف.
ويبدو لي أن الحديث كان مشهورًا عند السلف؛ فقد رواه الأصبهاني في "ترغيبه"(2/819) عن عطاء مقطوعًا. ورواه البيهقي في "الشعب"(5/76/5837) عن الأوزاعي كذلك.
11-
907- (خيار أئمتكم..) .
هذا الحديث قد أخرجه مع الإِمام مسلم ابن حبان أيضًا (7/55/4570 - الإِحسان) وأبو عوانة (4/482-486) ، وكلهم أخرجوه من طريق مسلم بن قرظة عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
قلت. وهذا الحديث مما جنى عليه المشار إليه في الاستدراك رقم (6)، فأعله فيما علق على ما سماه بـ "رياض الصالحين"! بقوله:
"مسلم بن قرظة مجهول الحال. وانظر الحديث رقم (129) ".
وجهل أن إخراج هؤلاء الثلاثة له في "صحاحهم" إنما هو منهم توثيق له؛ أعني مسلمًا وابن حبان وأبا عوانة، كما أنه تجاهل إيراد ابن حبان إياه في "الثقات"(5/396) ، وجزم الذهبي في "الكاشف" بأنه ثقة، ولذلك لم يسع شيخه شعيبًا الأرناؤوط إلا أن يقول في تعليقه على "الإِحسان" (10/449) :"إسناده قوي على شرط مسلم". وكيف لا والرجل تابعي مشهور كما قال البزار؟! وذكره يعقوب بن سفيان في الطبقة العليا من تابعي أهل الشام في كتابه "المعرفة"(2/333) . ونحوه ما في "تاريخ ابن عساكر"(16/482) عن أبي زرعة الدمشقي أنه ذكره في الطبقة التي تلي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي العليا.
يضاف إلى ذلك أن الإِمام أحمد احتج بهذا الحديث على عدم جواز الخروج على الأئمة، وذكر أنه جاء من غير وجه. كما رواه عنه الخلال في "السنة" (1/3/
629 تحقيق الزهراني) . كل هذا قالوه في ابن قرظة وحديثه، والرجل يعله بجهالته! فهل هو الجهل أو التجاهل؛ أم الأمران معًا؟!
ولم يكتف الرجل بتضعيف هذا الحديث فقط من أحاديث مسلم، بل هناك أحاديث أخرى ضعفها بمثل هذا الجهل والجهالة (!) كما ستأتي الإِشارة إلى ذلك تحت الاستدراك (13)، ولكني أريد هنا أن أبين أن الرقم (129) الذي ذكره في آخر كلمته الآنفة الذكر إنما يشير به إلى حديث أما سلمة:
"إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون.." الحديث، وفيه:"قالوا: ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما أقاموا الصلاة".
رواه مسلم. فقد أعله الرجل بمثل ما أعل الذي قبله من الجهل؛ فقال (89/6) :
"في صحته نظر، فإن في إسناده ضبة بن محصن، وفيه جهالة حال".
كذا قال هداه الله، فإنه لا يزال ضالعًا في مخالفة الأئمة، راكبًا رأسه، لا يلوي على شيء من العلم، فإن هذا الحديث يقال فيه مثل ما قلنا في الذي قبله وزيادة، فقد قال الحافظ ابن خلفون الأندلسي في ضبة هذا:
"ثقة مشهور".
وقال الذهبي:
"ثقة".
وقال الحافظ: " صدوق ".
وصحح حديثه هذا الترمذي، ولم يضعفه أحد إلا هذا المتأخر، بل يزيده قوة أن له شاهدين؛ أحدهما حديث عوف هذا؛ والآخر حديث أبي هريرة نحوه رواه ابن حبان وغيره بسند صحيح، وسيأتي تخريجه برقم (3007) ، وتحته الرد على هذا المتأخر. والله المستعان على فساد أهل هذا الزمان، وإعجاب كل ذي رأي برأيه،
فوالله الذي لا إله إلا هو لولا أن كثيرًا من الناس يغترون بكل ما يطبع وينشر من أي شخص كان -يحسبون السراب ماء، والعظم لحمًا، وإنما هو كما قيل قديمًا: عظم على وضم- لما سودت سطرًا واحدًا في الرد على هذا وأمثاله كذاك السقاف الآتي بيان بعض ويلاته، ونحوه من الأغرار الذين ليس لهم سابقة في هذا العلم وغيره، ولم يتأدبوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس منا.. من لم يعرف لعالمنا حقه"، ولا هم يقبلون نصيحة العلماء، قال العلامة الشاطبي رحمه الله في كتابه "الاعتصام" -وهو في صدد بيان علامات أهل الأهواء والبدع (3/99) -:
"والعالم (تأملوا لم يقل: طالب العلم!) إذا لم يشهد له العلماء فهو في الحكم باق على الأصل من عدم العلم حتى يشهد فيه غيره، ويعلم هو من نفسه ما شهد له به، وإلا فهو على يقين من عدم العلم أو على شك، فاختيار الإِقدام في هاتين الحالتين على الإِحجام لا يكون إلا باتباع الهوى، إذ كان ينبغي له أن يستفتي في نفسه غيره، ولم يفعل، وكان من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره، ولم يفعل".
هذه نصيحة الإِمام الشاطبي إلى (العالم) الذي بإمكانه أن يتقدم إلى الناس بشيء من العلم، ينصحه بأن لا يتقدم حتى يشهد له العلماء خشية أن يكون من أهل الأهواء، فماذا كان ينصح يا ترى لو رأى بعض هؤلاء المتعلقين بهذا العلم في زمننا هذا؟! لا شك أنه كان يقول له:"ليس هذا عشك فادرجي"، فهل من معتبر؟! وإني والله لأخشى على هذا البعض أن يشملهم قوله صلى الله عليه وسلم:"يُنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويُخلف لها هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء"(1) .
والله المستعان.
12-
925- (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .
أقول: هذا الحديث مع صحته كما تقدم هناك وتلقي الأمة له بالقبول على
(1) مخرج فيما سيأتي برقم (1682) من (المجلد الرابع) .
اختلاف مشاربهم، فقد تجرأ المدعو بـ (حسن السقاف) على إنكاره بكل صفاقة، مخالفًا بذلك سبيل المؤمنين، فصرح في تعليقه على " دفع شبه التشبيه " لابن الجوزي فزعم (ص 62) : أنه حديث ضعيف! ثم غلا فصرح (ص 64) بأنه حديث باطل!!
ثم أخذ يرد عليّ تصحيحي إياه لشواهده؛ متحاملًا متجاهلًا لتصحيح من صححه من الحفاظ، مشككًا فيما نقلته عن بعض المخطوطات التي لم ترها عيناه، وما حمله على ذلك إلا جهمية عارمة طغت على قلبه، فلم يعد يفقه ما يقوله العلماء من المتقدمين أو المتأخرين، فذكرت هناك من المصححين: الترمذي والحاكم والذهبي والخِرقى والمنذري والعراقي وابن ناصر الدين الدمشقي، وأضيف الآن إليهم الحافظ ابن حجر في كتابه الذي طبع حديثًا "الإِمتاع" (ص 62-63) حتى قال في معناه شعرًا:
إن من يرحم من في الأرض قد
…
آن أن يرحمه من في السما
فارحم الخلق جميعًا إنما
…
يرحم الرحمن فينا الرحما
ومن المتأخرين الذين صححوا هذا الحديث الشيخان الغماريان: أحمد الغماري في كتابه "فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب"(1/459) وقال:
"وقد رويناه من طرق متعددة".
ونقل تصحيح الترمذي والحاكم وأقرهما.
والغماري الآخر الشيخ عبد الله الذي صحح الحديث في كتابه الذي أسماه "الكنز الثمين"، فإنه أورده فيه برقم (1867) ، وقد ذكر في مقدمته أن كل ما فيه صحيح، وهو أخو الشيخ أحمد الغماري، وهو أصغر منه سنًّا وعلمًا، وهما ممن يُجِلُّهُما السقاف ويقلدهما تقليدًا أعمى، وإذا ذكر أحدهما قال فيه:"سيدي"!
فما عسى أن يقول المسلم المنصف في مثل هذا الرجل الذي يخالف أولئك الحفاظ ويسلك غير سبيلهم، بل ويخالف شيخه وسيده -على حد تعبيره- عبد الله الغماري؟! لا شك أنه {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
هذا أولًا.
وثانيًا: هذا الحديث فيه جملتان مباركتان:
الأولى: "ارحموا من في الأرض"، وشواهده كثيرة جدًا عن جمع من الصحابة، استوعبهم الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في مجلسه المشار إليه هناك عند تخريج الحديث، وقد طبع أخيرًا بتحقيق الأخ الفاضل أبي عبد الله محمود بن محمد الحداد، فراجع فهرس أحاديثه تجد أسماءهم والإِشارة إلى مواضع أحاديثهم منه، وبعضها مما اتفق عليه الشيخان، من ذلك أسامة بن زيد، وهو مخرج في "أحاكم الجنائز" (163-164) بلفظ:
"إنما يرحم الله من عباده الرحماء".
والجملة الأخرى: "يرحمكم من في السماء".
وهي صحيحة كما تقدم، وقد بسط الكلام عليها الأخ الفاضل المشار إليه آنفًا، وهي التي أقامت ذاك المبطل وأقعدته، بل وقصصت ظهره؛ لأن حرف "في" فيها هو بمعناه في الجملة الأولى بداهة؛ أي "على"، لا يجادل في ذلك إلا معاند، فهي تؤكد أن هذا الحرف هو بهذا المعنى نفسه في قوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ؛ أي: على السماء؛ أي: فوق العرش، وبذلك فسرها علماء السلف والخلف -ومنهم ابن عبد البر في "التمهيد"، والبيهقي في كتابيه:"الأسماء" و"الاعتقاد"- وذاك المبطل يعلم هذه الحقيقة ولكنه يكابر، ويبطل الحديث الصحيح ليسمي هذا التفسير تأويلًا، ويسمي تعطيله لمعنى الآية الكريمة تفسيرًا على قاعدة:(رمتني بدائها وانسلت)، فيقول (ص 65) :"أي صاحب العظمة والرفعة والكبرياء وهو الله تعالى..". ويؤكد هذا التعطيل في مكان آخر (ص 139) ، ويضيف إليه فيقول -فض فوه-.
"والآية مؤولة عند المجسمة بـ (من على السماء) .."!
فيا ويله ما أجرأه على نبز السلف بـ "المجسمة"! وفيهم من يتظاهر بتبجيله؛ وإن كنت أعلم أنه لا مبجَّل عنده إلا هواه، وإلا فقل لي بربك كيف يرمي بالتجسيم من فسر الآية بما سبق أن عزوته للسلف؛ ومنهم الإمام البيهقي في كتابيه المذكورين آنفًا (1) ، وهما من الكتب التي يحض هذا الهالك على قراءتها في تعليقه (ص 78) ؟! وهل أدل على اتباعه لهواه من مخالفته للعلماء الذين صححوا حديث الرحمة هذا، ومنهم شيخاه الغماريان؟! وكذلك تضعيفه لكثير من الأحاديث الصحيحة الأخرى كحديث الجارية؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أين الله؟ ". رواه مسلم، وصححه جمع كما فصلت القول في ذلك فيما يأتي برقم (3161) ، وكحديث اختصام الملأ الأعلى، وقد صححه البخاري والترمذي وأبو زرعة والضياء، وهو غير حديث:"رأيت ربي جعدًا أمرد.." فإنه منكر، وحديث:"رأيت ربي بمنى عند النفر على جمل.. "، فإنه موضوع كما هو مبين في "الضعيفة"(6330) ، وقد لبَّس (السقاف) بهذا على القراء فأوهمهم أن الذهبي أنكر حديث الاختصام، وإنما أراد هذا، فارجع الى الرقم المذكور لترى العجب من تدليس هذا الرجل وتضليله للقراء. وقد وجدت لحديث الاختصام طريقًا أخرى -بل شاهدًا صحيحًا- فخرجته في "الصحيحة"(3169) .
وإن مما يجب التنبيه عليه بهذه المناسبة أن الرجل كما يضعف الأحاديث الصحيحة؛ فهو على العكس من ذلك يقوي الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ويحتج بها معطلًا بها معاني الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة، فهو مثلًا يبطل دلالة الحديث المتواتر في النزول الإِلهي، وقوله تعالى فيه:"من يدعوني فأستجيب له.." بحديث تفرد بروايته حفص بن غياث لم يذكر فيه النزول ولا قوله تعالى المذكور، بل رواه بلفظ:"ثم يأمر مناديًا ينادي يقول: هل من داع.."، وهذا خطأ بيقين؛ لمخالفة حفص لستة من الثقات رووه باللفظ الأول، وهو المحفوظ في
(1) وقد نقلت عبارته تحت الحديث (6332 - الضعيفة) ، ونقلت هناك عن ابن الجوزي أنه فسر الآية كما فسرها البيهقي؛ فهل هو مجسم أيضًا؟!.
"الصحيحين" وغيرهما، وهو متواتر كما ذكر ابن عبد البر في "التمهيد"، وقد بسطت القول في هذا وسميت المخالفين لحفص في "الضعيفة"(3897) ، ورددت على هذا المبطل ما زعمه من صحة حديث حفص بما لا يتسع المجال لذكره هنا.
وكذلك احتج بحديث موضوع من أحاديث الإِباضية فيه!: ".. ولا تضربوا لله الأمثال، ولا تصفوه بالزوال، فإنه بكل مكان". وقد بينت بطلانه، وكشفت عواره في "الضعيفة"(5332) ، والغريب العجيب من هذا الأفين أنه نقل الحديث من كتاب "مسند الربيع بن حبيب"، وهو الكتاب الوحيد من تأليف الإِباضية، ركن إليه المذكور من باب القاعدة اليهودية:"الغاية تبرر الوسيلة"؛ لأن فيه رد حديث النزول الذي اصطلح علماء الكلام على تفسير "النزول" بالزوال تحريفًا للكلم عن مواضعه، وتنفيرًا من الإِيمان بالنزول الإِلهي، وأعجب من ذلك أن قوله فيه:"فإنه بكل مكان" مما يكفر الأفين به (ص 127) من تعليقه على "ابن الجوزي"، ومع ذلك روى هذا الحديث الإِباضي الموضوع ليعطل به حديث النزول المتواتر، أليس ذلك من أكبر الأدلة على أنه ينطلق من تلك القاعدة اليهودية، ومنها يندفع لإبطال الأحاديث الصحيحة؟! والأمثلة على ذلك كثيرة وكثيرة جدًا، فحسبنا الآن حديث الرحمة هذا وما ذكر معه. والله المستعان.
13-
937- (عن العرباض بن سارية في الموعظة) .
كنت خرجته هناك من الطريق المشهور في السنن وغيرها من رواية عبد الرحمن ابن عمرو السلمي عنه، وصححته لرواية جمع من الثقات عنه، مع توثيق ابن حبان إياه، وتصحيح من صحح حديثه هذا كالترمذي وابن حبان والحاكم وأبي نعيم والضياء المقدسي.
فأزيد هنا فأقول:
وصححه أيضًا جمع آخر من الحفاظ كالبزار والهروي وأبي العباس الدغولي
والذهبي، وقال في السلمي هذا:"صدوق"، وابن القيم في " إعلامه " وغيرهم.
ويلحق بهؤلاء المصححين كل من احتج به أو شرحه، وهم جمع غفير لا يمكن حصرهم، منهم الخطيب في "الفقه والمتفقه"، والخطابي في "معالمه"، وابن تيمية في " فتاويه "، والشاطبي في "اعتصامه"، وغيرهم كثير وكثير جدًا.
يضاف إلى إجماع هؤلاء الحفاظ والأئمة على تصحيحه أنه قد جاء من وجوه أخر كما قال الشاطبي وابن رجب الحنبلي، وقد كنت خرجت الكثير الطيب منها؛ في "الإرواء"(8/107-108) و"ظلال الجنة"(1/17-20) ، فأرى من الضروري أن ألخص الكلام عليها هنا للسبب الآتي بيانه.
تلك هي الطريق الأولى وقد عرفت صحتها.
الطريق الثانية: عن يحيى بن أبي المطاع قال: سمعت العرباض بن سارية.
أخرجه ابن ماجه وابن أبي عاصم وابن نصر والحاكم والطبراني. وإسناده صحيح متصل.
الثالثة: من طريقين عن أرطأة بن المنذر عن المهاصِر بن حبيب عنه.
أخرجه ابن أبي عاصم والطبراني في "الكبير" و" مسند الشاميين ". وإسناده صحيح لا علة فيه.
الرابعة: عن جبير بن نفير عنه.
الخامسة: من طريقين عن خالد بن معدان عن ابن أبي بلال عن العرباض.
أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن في الشواهد، وابن أبي بلال -اسمه عبد الله- وثقه ابن حبان، وحسن إسناده الحافظ في حديث آخر له.
وللحديث شاهد عن رجل أنصاري من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بسند حسن عنه، مخرج في "الإِرواء"(8/108) .
لقد أفضت في ذكر هذه الطرق تأكيدًا لصحة الحديث، وردًا على رجل طلع علينا أخيرًا بطبعةٍ جديدة لكتاب النووي "رياض الصالحين" منمقة مزخرفة يعجبك مظهرها، ولكنها قبيحة جدًا في مخبرها، ويكفي القارىء دلالة على ذلك أنه حذف منه قرابة (130) حديثًا زاعمًا أنها كلها ضعيفة، وبعضها في " صحيح البخاري " و"مسلم"، ونقدها كلها نقدًا خالف فيه أصول علم الحديث وقواعده المعروفة عند العلماء (1) ، وجعلها في آخر طبعته، ثم أتبعها بأرقام يشير بها إلى أحاديث أخرى ضعفها في التعليق عليها، وهذه كلها صحيحة، وعددها (15) حديثًا، وبعضها في "الصحيحين" أو أحدهما، وإليك أرقامها في طبعته مع الرمز لما كان منها فيهما:
(105- وهو حديث العرباض هذا، 129-م، والرد عليه في "الصحيحة" (3007) ، 207 (انظر الصحيحة 173) ، 217 - مروا أولادكم بالصلاة (مخرج في الإرواء 247) ، 241 - خ (الصحيحة 764) ، 243 (الصحيحة 919) ، 273 - م، 501 - م، 509 - م، والرد عليه في "الصحيحة"(3176) ، 957 - م، وهو في فضل صوم يوم عرفة، ص 405 - م (الصحيحة 545) ، 1262 (الصحيحة 1243) ، ص 441، ص 450 (الصحيحة 2435) ، 1431 (الصحيحة 128) .
وأما أحاديث " ضعيفته " البالغ عددها (130) فهي على قسمين: أحدهما مما كنت نبهت على ضعفه في مقدمة طبعتنا لـ "الرياض"، وتبناه هو وتوسع في تخريجه والكشف عن علله، وهو في ذلك عالة على كتبي مثل:"الإِرواء" والسلسلتين وغيرها دون أن يصرح بذلك إلا نادرًا لتقوية موقفه فقط! وذلك مِن تشبعه بما لم يعط، وذلك ما يظهر لكل من يتنبه لبعض عباراته، ولمن قابل تخريجه بتخريجاتي، ولا أدل على ذلك من وقوعه في الخطأ الذي كنت وقعت فيه بسبب أو آخر، فقد نقل من
(1) ذكرت فيما تقدم بعض الأحاديث الصحيحة مما ضعفه بجهل بالغ، فانظر الاستدراك (6 و11) .
"الصحيحة"(266) -دون عزو طبعًا- تخريج الحديث وفيه: ".. وأحمد (1/ 153) "، وهذا خطأ! والصواب:"وعبد الله بن أحمد.." كما هو مصحح عندي في نسختي، أضف إلى ذلك أنه كتم عن قرائه تحسين الترمذي إياه وتصحيح الحاكم والذهبي، وموافقتي للترمذي.
وأغرب من ذلك وأسوأ أنه قلدني (ص 518/25) في تضعيف الحديث رقم (1681 - الضعيفة) ، ووافقه على ذلك شيخه شعيب، وأنا قد رجعت عنه فنقلته الى "الصحيحة"(2827 و2828) ؛ لشواهد وقفت عليها، فما أشبههما بالجن الذين قال الله فيهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ..} الآية! فلو أن الرجل يريد الإصلاح والنصح لحاول إنقاذ ما يمكن من الأحاديث الضعيفة السند بتتبع الطرق والشواهد لتقويتها لو كان أهلًا لذلك، وإلا فإن تضعيف الأحاديث الصحيحة لا يعجز عنه الملاحدة فضلًا عن المنافقين وأهل الأهواء أمثال أبي ريا وأذنابه.
وبالجملة؛ ففي هذا القسم أحاديث ضعيفة فعلًا، مما كنت أشرت إلى ضعفها في المقدمة كما سبق، وفصلت الكلام على ضعفها في بعض مؤلفاتي المشار إليها آنفًا، فأخذ الرجل منها خلاصتها، وقدمها إلى القراء على أنها من جهده وتحقيقه!!
وأما القسم الآخر؛ فهو مما اشتط فيه عن القواعد العلمية، واتبع فيه هواه، فبلغ عدد الأحاديث الصحيحة التي جنى عليها وضعّفها نحو (60) حديثًا، بعضها في (الصحيح) أيضًا كالأحاديث (68، 116، 123، 127 بترقيم ضعيفته) . ومنها حديث الزهد (رقم 20) تعامى فيه عن طرقه وشواهده، وأحال فيها إلى "الصحيحة"! وقد سبق الرد على مقلّده في المقدمة (ص 13-17) ؛ فارجع إليها لزامًا. وبسط القول في بيان عوار كلامه في تضعيفه إياها كلها يحتاج إلى تأليف كتاب خاص، وذلك مما لا يتسع له وقتي، فعسى أن يقوم بذلك بعض إخواننا الأقوياء في هذا العلم كالأخ علي الحلبي، وسمير الزهيري، وأبي إسحاق الحويني ونحوهم جزاهم الله
خيرًا.
ولكن لا بد من تقديم بعض النماذج لتأكيد جنايته على السنة الصحيحة التي شملت أيضًا الأحاديث المتقدمة في هذا المجلد، وهذه أرقامها (545 - م و563 و569 و580 و596 و629 و686 و718 و764 - خ و908 و919 و922 و927 و938 و943 و946 و954) .
فالحديث (569) طعن فيه -هداه الله- بأن فيه انقطاعًا بين زرارة بن أوفي وعبد الله بن سلام مع أنه صرح بسماعه منه؛ ولكنه شكك فيه بقوله (ص 528) :
"ما أراه يصح والله أعلم، ولا أدري الوهم ممن هو؟ أمن ابن أبي شيبة أم أبي أسامة؟! ".
يقول هذا وهو يعلم أن ابن أبي شيبة هو الثقة الحافظ صاحب كتاب "المصنف". وأبو أسامة هو حماد بن أسامة الثقة الثبت، وقد احتج البخاري في "تاريخه"(2/1/439) برواية ابن أبي شيبة هذه لإثبات سماع زرارة من ابن سلام، ودعمها برواية أخرى فقال: وقال سليمان عن حماد قال: ثنا زرارة قال: نا عبد الله بن سلام. وهذا إسناد صحيح متصل. فسليمان هو ابن حرب، وحماد هو ابن زيد، وكلاهما ثقة من رجال الشيخين. ثم روى البخاري بسند صحيح عن زرارة: حدثني تميم الداري. وتميم توفي قبل ابن سلام بثلاث سنين، فأين الوهم أيها الغارق في الوهم والإِيهام؟! فلا جرم أن أجمع العلماء على تصحيح هذا الحديث، فصرح بتصحيحه الترمذي والبغوي والحاكم والذهبي، وأقرهم المنذري والنووي والحافظ، وقد كتم هذا عن قرائه ليوهمهم أن لا معارض له! بل أنه فعل ذلك في كل الأحاديث التي ضعفها، ومن ذلك حديث "ضعيفته"(93 - ما من أحد يسلم علي..)، لما نقل عن ابن القيم في "جلاء الأفهام" (ص 19) إعلال ابن تيمية إياه لم يذكر أن ابن القيم قال:"وقد صح إسناد هذا الحديث"، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة، أنهم حين ردهم على أهل البدعة يذكرون ما لهم وما عليهم، ثم يبينون الصواب من ذلك كما
قال ابن تيمية رحمه الله في كتبه، على أن ابن تيمية قد صحح هذا الحديث في بعض ردوده على خصومه، واحتج به الإِمام أحمد وغيره في جواز زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وليس هذا مجال بيان ذلك.
وأما الحديث (954) فجاء فيه بإفك له قرنان كما يقال في بعض اللغات، فزعم (ص 515) أن راويه ابن عقيل "ضعيف، كلهم ضعفوه إلا ابن عبد البر.. انظر (التهذيب) "!
فإذا رجع القارىء إلى "التهذيب" وجد فيه أنه احتج به الأئمة: أحمد وابن راهويه والحميدي. فهل هؤلاء ليسوا بأئمة عنده أم الأمر كما قيل: "حبك الشيء يعمي ويصم"؟!
ثم إنه تعامى عن قول الحافظ العجلي في "ثقاته"(277/880 - ترتيب) :
"تابعي ثقة، جائز الحديث".
وعن قول ابن القطان بعد أن ذكر الخلاف فيه:
"حسن الحديث".
فلم يأخذ بقوله هذا وهو الصواب، بينما اعتمد عليه في تضعيفه لحديث العرباض وهو مخطىء!! لم يسبقه إليه أحد!
كما تجاهل قول الحافظ الذهبي في "المغني":
"حسن الحديث، احتج به أحمد وإسحاق".
وقول الحافظ في " التقريب ":
" صدوق ".
وبعد؛ فإن مجال القول فيما صنع الرجل في "رياض النووي" وما حطم من صحاح أحاديثه، ومن أحاديث "الصحيحة" لواسع جدًا، فلنقتصر على ما تقدم من
الأمثلة والبينات، فإنها تدل دلالة قاطعة لدى كل منصف لا يحابي ولا يداري على أن الرجل غير موثوق بعلمه، ولا هو مؤتمن في نقله، بل هو مغرور بنفسه، لا يبالي بمخالفته للقواعد العلمية، ولا بأقوال الأئمة الحفاظ النقاد، بل إن لسان حاله يقول: هم رجال ونحن رجال! وقد سمعنا ذلك مرارًا من بعض الجهال.
وإن من غروره بنفسه وعجبه بعلمه أنه تمنى في مقدمة "ضعيفته" أن أرجع أنا إلى موافقته في تضعيفاته! كما رجع شيخه شعيب حيث وافقه في نحو مائة حديث منها فيما ذكر هو عقبها، وأظنه كان مبالغًا في ذلك، لأني رأيت الشيخ في بعض تعليقاته يخالف بعض ما نسبه إليه، أقول هذا بيانًا للواقع لا تبرئة للشيخ، فإننا نعرف منه إنكاره لبعض الأحاديث الصحيحة كحديث:" إذا وقع الذباب " ونحوه، فالرجل يريدني أن أكون مثله في تحطيم السنة الصحيحة، وأنا بفضل الله الناصر لها، والذاب عنها جهل الجاهلين، وانتحال المبطلين.
هذا، وإن مما شجعني على الرد عليه في هذا الاستدراك -علاوة على ما لا بد منه من بيان الحق، وتبصير من قد يغتر بكثرة كلامه ونُقوله المبتورة- أنه تكشف لي إعجابه برأيه وإصراره على خطئه، وبطره الحق في نقاش جرى بيني وبينه في أول ليلة من رمضان المبارك لهذه السنة (1412) حول تضعيفه لحديث العرباض، بحضور بعض الأفاضل، فقد وجهت إليه بعض الأسئلة، تبين لنا من أجوبته عليها أنه ليس على معرفة بهذا العلم ومتعلقاته، إلى درجة أنه لا يتبنى قول العلماء:"المثبت مقدم على النافي" ونحوه من القواعد العلمية! ولهذا فهو يقدم الجرح مطلقًا على التعديل، والتجهيل على التوثيق، والتضعيف على التصحيح، بل وجهله على علم غيره! فلا يقبل خبر أحدهم بأن للحديث الضعيف سندًا آخر يقويه، ولا حكمه بثبوته حتى يقف هو عليه ويرتضيه، ولذلك فهو يكتمه ويطويه، إلى غير ذلك مما لا يتيسر لي الآن أن أحصيه.
أقول هذا تحذيرًا للقراء من جنايته على السنة، ونصحًا له على أنه أخ لنا في
الدين، ولعله يصحح موقفه منها على ضوء ما تقدم من البيان، ومستعينًا بأقوال العلماء الذين سبقونا في هذا الشأن، وملتزمًا لقواعدهم، وبخاصة من شهد لهم القاصي والداني بنبوغهم في هذا الميدان من المتقدمين والمتأخرين، كابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن كثير والذهبي والعسقلاني وغيرهم، فإذا فعل ذلك انتُفع بعلمه مع الإخلاص لله فيه.
ومع هذا كله فلا أجد في نفسي حرجًا من الاعتراف بأن الرجل كان في نقاشه معي أديبًا لطيفًا، ومصرحًا في أوله بما كان الأولى به أن يُعلنه في مقدمة "ضعيفته"؛ ليكون أقرب إلى الإِخلاص لله، وأبعد عن المحاباة والمداراة، فقد قال بعد توطئة وتودد:
"وأنا ما تعلمت هذا العلم -إن كان عندي قليل من العلم- فما تعلمته إلا بك، فأنت الذي فتحت لنا هذا الباب في كتبك، ووالله لولا كتبك واستفادتنا منها ومطالعتنا لها ما توصلنا إلى ما توصلنا إليه الآن. حتى الشيخ شعيب كان عندي قبل فترة وشهد بهذا، وقال: إنه استفاد من كتبك كثيرًا".
هكذا قال. وأرجو أن تكون هذه الكلمة خرجت من قلبه، لنرى آثارها الطيبة برجوعه قريبًا إلى الصواب إن شاء الله تعالى.
14-
959- (أمتي أمة مرحومة) .
كنت خرجته ثمة من رواية جمع عن المسعودي عن سعيد عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه، وأعللته باختلاط المسعودي.
ثم رأيت الروياني قد أخرج الحديث في "مسنده"(23/3/2) قال: نا محمد بن معمر: نا معاذ بن معاذ: نا المسعودي به.
فأقول هذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير المسعودي، وهو ثقة هنا، قال الحافظ:
"صدوق، اختلط قبل موته، وضابطه أن من سمع منه بـ (بغداد) فبعد الاختلاط".
قلت: ومعاذ بن معاذ، وهو العنبري البصري، فيكون سمع منه قبل الاختلاط، وقد صرح بذلك الحافظ العراقي في "التقييد والإِيضاح"(ص 402) ، وتبعه ابن الكيال (293-295) ، فعليه فقد زالت العلة، وصح الإِسناد والحمد لله، وهذا من فضله تعالى وتوفيقه إياي في خدمة السنة والذب عنها.
أقول هذا لأنني وقفت في هذه الأيام على رسالة صغيرة لمؤلف مجهول في هذا العلم الشريف؛ سماها "المنهج الصحيح في الحكم على الحديث النبوي الشريف" بقلم عادل مرشد؛ ذكر في مقدمتها أنه من تلامذة الشيخ شعيب الأرناؤوط، تبين لي منها أنه لا يعرف من هذا العلم إلا التقليد والنقل من هنا وهناك على جهل أيضًا بعلم المصطلح كقوله (ص 24) :
"وتدرك العلة بتفرد الراوي".
فهذا خطأ؛ لأن الراوي إذا كان ثقة وتفرد بحديث؛ فهو صحيح ما لم يخالف من هو أوثق منه أو أكثر عددًا، فالعلة تدرك بالمخالفة وليس بالتفرد.
ولا أريد الآن الرد عليه وعلى ما في رُسَيْلته من الأخطاء، لأن الوقت أضيق من أن يتسع للرد على مثلها، وإن كان قد تبين لي منها أن تأليفه إياها إنما كان بباعث حقد دفين، فقد اختار أربعة أحاديث صحيحة مما كنت صححته في بعض كتبي، فضعفها هو كلها، أحدها مما صححه جمع كمسلم وابن حبان وغيرهما، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"خلق الله التربة يوم السبت.." الحديث، أعله بزعم مخالفته للقرآن، وهو زعم كنت رددته؛ بل بينت بطلانه في غير ما كتاب من كتبي مثل:"مختصر العلو"(111-112) ، وهذه السلسلة (1833) ، والتعليق على "المشكاة"(5735) ، ولم يأت المشار إليه في تأييد زعمه بشيء جديد، وإنما هو يجتر ما قاله غيره مما قد رددته
هناك، دون أن يدلي ولو بكلمة واحدة للرد علي متجاهلًا ذلك كله، وليس ذلك من شأن من يريد الحق، وهو في ذلك كله قد قلد شيخه في تعليقه على "صحيح ابن حبان"(14/30-32) ، وهو قد رأى يقينًا ردي المشار إليه في كتبي، فإنه كثير الاستفادة منها كما تقدم (ص 724) ، فاكتفى فيه بحكاية الأقوال المردود عليها، دون الجواب عن ردي على مذهب من قال:"عنزة ولو طارت"، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليرجع إلى المواضع المشار إليها من كتبي.
ولذلك فقد أنصف الأستاذ رضاء الله المباركفوري في تعليقه على كتاب "العظمة" لأبي الشيخ (4/1358-1360) ، فحكى أقوال الذين أعلوه بالمخالفة، وردي لها، ثم أعاد شيئًا من ذلك في مكان آخر (ص 1377) ، ثم انتهى إلى موافقته إياي على صحة الحديث، وأنه لا حجة عند من أعلوه بالمخالفة، فجزاه الله خيرًا.
فإذن لا داعي لإِعادة ردي المشار إليه آنفًا، ولكن لا بد لي من أن أقدم طريقًا أخرى للحديث هي نص فيما ذهبنا إليه، وهو ما أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (6/427/11392) من طريق الأخضر بن عجلان عن ابن جريج المكي عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعًا:
"يا أبا هريرة! إن الله خلق السماوات والأرضين وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت.." الحديث. ورجاله ثقات. فقد جمع هذا النص بين الأيام المذكورة في القرآن والأيام السبعة المذكورة في الحديث الذي بين فيه ما جرى على الأرض من تطوير في الخلق، وهو ما كنا حملنا عليه الحديث الصحيح في رد ما أعلوه به، فالحمد لله على توفيقه، ونسأله المزيد منه بفضله وكرمه.
(تنبيه) : لقد شارك شعيبًا في تضعيف هذا الحديث الصحيح تلميذه الآخر المدعو (حسان عبد المنان) في "ضعيفته" التي سبقت الإِشارة إليها في بعض
الاستدراكات المتقدمة، وكأنه شعر مما حكاه من التعليل الذي ذكره شيخه وغيره وليس فيه ما تقوم به الحجة، فأراد هو أن يتظاهر بما لم تستطعه الأوائل! فقال (ص 266) في أحد رواته إسماعيل بن أمية:
"لم يصرح بالتحديث".
قلت: وإسماعيل هذا ثقة ثبت كما قال الحافظ، وقد احتج به الشيخان، ولم يتهم بتدليس.
ومن هنا يتجلى خطورة ما عليه الشيخ شعيب من تشبثه في تضعيف الأحاديث الصحيحة بأوهى العلل، وتشجيعه للطلاب الذين يتمرنون على يديه في تخريج الأحاديث على تقليده في ذلك، وابتكار العلل التي لا حقيقة لها في التضعيف. والله المستعان.
ومعذرة إلى القراء فقد جرني البحث إلى الابتعاد عما كنت أريد الكتابة فيه، ألا وهو حديث هذا الاستدراك، فإنه من الأحاديث الأربعة الصحيحة التي ضعفها المومى إليه في رسيلته! (ص 36-37) بزعم أنه يخالف الأحاديث الصحيحة من رواية غير واحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم أنه يخرج ناس من أمته من النار بالشفاعة!
قلت: فأكد بزعمه جهله بطريقة التوفيق بين الأحاديث التي يظهر لبعضهم التعارض بينها؛ والحقيقة أنه لا تعارض عند التأمل والابتعاد عن التظاهر بالتحقيق المزيف كما هو الواقع في هذا الحديث الصحيح، فإنه ليس المراد به كل فرد من أفراد الأمة، وإنما من كان منهم قد صارت ذنوبه مكفرة بما أصابه من البلايا في حياته؛ كما قال البيهقي في "شعب الإِيمان" (1/342) :
"وحديث الشفاعة يكون فيمن لم تَصِر ذنوبه مكفرة في حياته".
قلت: فالحديث إذن من باب إطلاق الكل وإرادة البعض، أطلق "الأمة" وأراد بعضها؛ وهم الذين كفرت ذنوبهم بالبلايا ونحوها مما ذكر في الحديث، وما أكثر
المكفرات في الأحاديث الصحيحة والحمد لله، وفي ذلك ألف الحافظ ابن حجر كتابه المعروف في المكفرات.
والباب المشار إليه واسع جدًا في الشرع، من كان على معرفة به لم يتعرض لمثل هذا الجهل الذي وقع فيه هذا المغرور، من ذلك قوله تعالى:{وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ} ؛ أي: صلاة الفجر، وقوله:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} ؛ أي: صَلِّ ما تيسر من صلاة الليل، ونحو ذلك وهو كثير.
ومن هذا القبيل الحديث المتقدم (764- إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي..) الحديث؛ فإنه ليس على إطلاقه. قال الداودي:
"المراد بهذا النفي من لم يسلم منهم".
قال الحافظ عقبه في "الفتح"(10/420) :
"أي فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، والمنفي على هذا المجموع لا الجميع".
وقد يستنكر بعض القراء وصفي لهذا المؤلف بـ "المغرور"، فأقول: إن لم يكن هذا وأمثاله مغرورًا فليس في الدنيا من يستحق هذا الوصف، فاسمعوا كيف يقول بعد تخريج هذا الحديث (ص 36) :
"صحح إسناده الحاكم ووافقه الذهبي، وحسن سنده ابن حجر، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني في "الصحيحة" (959) لطرقه! وهذا الحديث مع أن أكثر أسانيده لا تصح (1) منكر المتن؛ لأنه يخالف الأحاديث الصحيحة
…
" إلخ ما تقدم عنه..
فلنفترض أيها القراء! أن الشيخ الألباني لا علم عنده في رأي هذا المغرور،
(1) فيه إشارة الى أن بعض أسانيده صحيح، فهو موافق للذين ذكر عنهم تصحيحه، لكنه تعالى عليهم بإدعاء نكارته! فما أجهله!
فهل الأمر كذلك عنده بالنسبة للحافظ ابن حجر والذهبي والحاكم؟! فإن لم يكن كذلك، فكيف يستعلي عليهم وينسبهم بلسان الحال -ولسان الحال أنطق من لسان المقال في بعض الأحوال - إلى أنهم جهلوا ما علمه هو من النكارة؟!
ثم ليتأمل القراء في قوله عني: إنني صححت الحديث بطرقه، فإنه إذا رجع إلى تخريجي هناك فسيجد أنني خرجت الحديث أولًا من طريق المسعودي عن سعيد ابن أبي بردة
…
ثم من طرق كثيرة عن أبي بردة به. فإذن الطرق مدارها على أبي بردة وحده.
وعليه، فقوله بأنني صححت الحديث لطرقه، كذب إن كان يدري معنى قول العلماء في الحديث:"صحيح لطرقه"، فإنه بمعنى قولهم:"صحيح لغيره".
ومن الواضح جدًا أن تصحيحي لغيره، لأنني لم أذكر طريقًا لغير أبي بردة، وتأكيدًا لهذا المعنى أضفت في هذه الطبعة الجديدة:"فهو إسناد صحيح جدًا"؛ لأن أبا بردة ثقة محتج به في "الصحيحين"، فهل كان كذبه هذا عمدًا تمويهًا على القراء وتضعيفًا للثقة بصحة الحديث؛ أو أنه لا يدري معنى ما قال؟! فما أحسن ما قيل في مثل هذه المناسبة:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
…
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ثم وجدت لأبي بردة متابعًا قويًا، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (2/100/968) من طريق البختري بن المختار قال: سمعت أبا بكر وأبا بردة يحدثان عن أبيهما -يعني أبا موسى الأشعري- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
قلت: وهذا إسناد جيد، أبو بكر ثقة كأخيه أبي بردة، والبختري بن المختار وثقه وكيع وابن المديني، وهو من رجال مسلم، وقال الذهبي والحافظ العسقلاني:
" صدوق ".
هذا؛ وقد بقي شيء كدت أن أنساه، وهو قول المغرور عقب ما تقدم نقله عنه
من إعلاله الحديث بحديث الشفاعة:
"قال الإِمام البخاري في "التاريخ الصغير" بعد أن أورد طرق هذا الحديث وأبان عن عللها: والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة.. أكثر وأبين".
فأقول: هذا حق لا شك فيه عند أهل العلم، أما أنه أكثر فهو المعروف في كتب السنة، وقد كنت خرجت طائفة منها في "ظلال الجنة"(2/401-404) .
وأما أنه أبين؛ فيكفي للدلالة عليه أن المذكور إنما أشكل عليه حديث الترجمة ولم يتبين وجهه؛ بخلاف حديث الشفاعة فتبناه، وضرب به حديث الترجمة، مع أنه لا تعارض بينهما كما تقدم بيانه.
لكن قول المذكور عن البخاري أنه أبان عن علل طرق الحديث التي أوردها؛ فهو كذب على البخاري! فإنه لم يزد البخاري في "الصغير" على أن خرج الحديث باللفظ المختصر الذي كنت خرجته هناك في آخر التخريج من طريق أبي بردة عن عبد الله بن يزيد، فقد خرجه البخاري في "الصغير"(ص 118 - هندية) من طريق أربعة عن أبي بردة، قال في ثلاث منها:"عن رجل من الأنصار" لم يسمه، وزاد في الثانية منها:"عن أبيه". وقال في الرابعة: "عن عبد الله بن يزيد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم"، فسماه وصرح بسماعه إياه من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كنت خرجته هناك كشاهد لحديث أبي موسى.
وعبد الله بن يزيد هو الأنصاري الخطمي، له ولأبيه صحبة.
ثم عقب البخاري على هذه الطرق الأربعة بقوله:
"ويروى عن طلحة بن يحيى و.. وسعيد بن أبي بردة و.. والبختري بن المختار.. وعن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أسانيدها نظر، والأول أشبه، والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة.. أكثر وأبين".
قلت: فأنت ترى أن البخاري لم يبين علة هذه الطرق التي أشار إليها، وإنما
اقتصر على قوله: "في أسانيدها نظر". فأين البيان المزعوم؟!
والحقيقة أن في أكثر الطرق التي أشار البخاري إليها بتسميته لرواتها الذين دارت الطرق عليهم، وعددهم أحد عشر راويًا، أكثرهم ضعفاء، ولذلك حذفتهم مشيرًا إلى ذلك بالنقط (
…
) وأبقيت الثلاثة الذين تراهم؛ لأنهم ثقات محتج بهم كما تقدم؛ إلا طلحة بن يحيى فلم يسبق له ذكر، وهو ثقة من رجال مسلم فيه كلام يسير، أشار إليه الحافظ بقوله:
"صدوق يخطىء".
وقد أخرج حديثه وحديث الآخرين الذين سردهم البخاري آنفًا في "التاريخ الكبير"(1/1/37-39) ، ولكنه لم يسق ألفاظ جميعهم، وختم ذلك بقوله:
"ألفاظهم مختلفة إلا أن المعنى قريب".
قلت: وليس بخاف على الخبير بهذا العلم وما ذكره العلماء في باب الشواهد والمتابعات أن اتفاق مثل هذا العدد الغفير على رواية هذا الحديث عن أبي بردة عن أبي موسى يجعل الحديث صحيحًا، بل ومتواترًا عن أبي بردة، حتى ولو فرضنا أنهم جميعًا ضعفاء، فكيف وفيهم أولئك الثقات الثلاثة؟!
وجملة القول: إن الرجل قد أساء جدًا في اعتباره هذا الحديث الصحيح سندًا مثالًا لما ينتقد متنًا، لأنه قد دل بذلك على جهل بالغ بطرق التوفيق بين الأحاديث، كما أساء في ذكره حديث خلق التربة مثالًا آخر لما ذكر، وإن كان مسبوقًا إليه، فإنه مقلد لا يميز الخطأ من الصواب.
ثم إنه لم يقف جهله وتعديه على الأحاديث الصحيحة إلى هذا الحد؛ بل ضعف حديثين آخرين بدعوى الشذوذ، أحدهما: حديث وائل في تحريك الإصبع في التشهد، مع أنني كنت رددت على من سبقه إلى ذلك من بعض من يماثله في الجهل بهذا العلم في "تمام المنة"، ثم رددت عليه خاصة فيما زعم من تفرد زائدة بن
قدامة به، مثبتًا بطلان زعمه لبعض التخريجات التي أيد بها زعمه! وذلك فيما سيأتي
من هذه السلسلة -إن شاء الله- المجلد السابع (رقم 3181) .
والآخر سأتكلم عليه -إن شاء الله تعالى- في الطبعة الجديدة للمجلد الأول من هذه السلسلة رقم (60) .
15-
963- (لا يزال هذا الدين قائمًا..) .
يضاف في آخر (ص 653) بعد قوله: "والله سبحانه وتعالى أعلم " ما يأتي:
ثم بدا لي احتمال آخر؛ وهو أن قوله: "عن أبي خليفة" محرف من "ثني أبي خليفة"، فقد رأيت في "تهذيب الحافظ"(8/301) أن فطر بن خليفة روى عن أبيه، وكذلك ذكر في ترجمة خليفة نفسه أنه روى عنه ابنه فطر، فإن صح هذا فيكون صواب الرواية:"عن فطر بن خليفة: ثني أبي خليفة.."، لكن يشكل على هذا أن الحافظ ذكر في ترجمة أبي خالد الوالبي أنه روى عنه فطر بن خليفة، وليس أبوه خليفة! وهكذا في "الجرح والتعديل"، فالأمر بعد يحتاج إلى مزيد من التحقيق، فمن وجده فليتفضل به ونحن له من الشاكرين.
16-
980- (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام..) .
(فائدة هامة) : واعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" ينبغي أن يفسر باللفظ الآتي في الحديث الذي بعده: ".. إلا وقبله يوم، أو بعده يوم"، وهو متفق عليه، وبالروايات الأخرى المذكورة تحته، فإنها تدل على أن يوم الجمعة لا يصام وحده، ويؤكد ذلك الشاهد المذكور هناك بلفظ:"لا تصوموا يوم الجمعة مفردًا"، ومعناه في "صحيح البخاري" من حديث جابر (1984)، فقول الحافظ في "الفتح" (4/234) :
"ويؤخذ من الاستثناء جواز صيامه لمن اتفق وقوعه في أيام له عادة يصومها؛ كمن يصوم أيام البيض، أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة"!
فأقول: لا يخفى على الفقيه البصير أن الاستثناء المذكور فيه مخالفتان:
الأولى: الإعراض عن الروايات المفسرة والمقيدة بجواز صيامه مقرونًا بيوم قبله أو بعده.
والأخرى: النهي المطلق عن إفراد صوم يوم الجمعة، ومن المعلوم أن المطلق يجري على إطلاقه ما لم يأت ما يقيده، فإذا قيد بقيد لم يجز تعدّيه، ولا يصلح تقييد النهي هنا بما جاء من الفضل في صوم يوم معين -كعرفة أو عاشوراء أو أيام البيض- لمخالفته لقاعدة: الحاظر مقدم على المبيح، مثل صيام يوم الإثنين أو الخميس إذا اتفق مع يوم عيد الفطر أو أحد أيام الأضحى، فإنه لا يصام، لا لنهي خاص بهذه الصورة وإنما تطبيقًا للقاعدة المذكورة، وما نحن بصدده هو من هذا القبيل.
كتبت هذا -بيانًا وأداءً للأمانة العلمية- بمناسبة أن الحكومة السعودية أعلنت أن يوم عرفة سيكون يوم الجمعة في موسم سنة (1411 هـ) ، فاضطرب الناس في صيامه، وتواردت عليّ الأسئلة من كل البلاد، وبخاصة من بعض طلاب العلم في الجزائر، فكنت أجيبهم بخلاصة ما تقدم، فراجعني في ذلك بعضهم بكلام الحافظ، ففصلت له القول تفصيلًا على هذا النحو، وذكرته ببعض الروايات التي ذكرها الحافظ نفسه، وأحدها بلفظ:".. يوم الجمعة وحده، إلا في أيام معه". وفي شاهد له بلفظ: "إلا في أيام هو أحدها". فالجواز الذي ذكره الحافظ يخالف القاعدة والقيد المذكورين.
وبهذه المناسبة أقول: إن هناك حديثًا آخر يشبه هذا الحديث من حيث الاشتراك في النهي مع استثناء فيه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم.."، وهو حديث صحيح يقينًا، ومخرج في "الإرواء"(رقم 960) ، فأشكل هذا على كثير من الناس قديمًا وحديثًا، وقد لقيتُ مقاومة شديدة من بعض الخاصة، فضلًا عن العامة، وتخريجه عندي كحديث الجمعة، فلا يجوز أن نضيف إليه قيدًا آخر غير قيد "الفرضية" كقول بعضهم: "إلا لمن كانت له عادة من صيام، أو
مفردًا"؛ فإنه يشبه الاستدراك على الشارع الحكيم، ولا يخفى قبحه.
وقد جرت بيني وبين كثير من المشايخ والدكاترة والطلبة مناقشات عديدة حول هذا القول، فكنت أذكرهم بالقاعدة السابقة وبالمثال السابق، وهو صوم يوم الاثنين أو الخميس إذا وافق يوم عيد، فيقولون يوم العيد منهي عن صيامه، فأبين لهم أن موقفكم هذا هو تجاوب منكم مع القاعدة، فلماذا لا تتجاوبون معها في هذا الحديث الناهي عن صوم يوم السبت؟! فلا يُحيرون جوابًا؛ إلا قليلًا منهم فقد أنصفوا جزاهم الله خيرًا، وكنت أحيانًا أطمئنهم وأبشرهم بأنه ليس معنى ترك صيام يوم السبت في يوم عرفة أو عاشوراء مثلًا أنه من باب الزهد في فضائل الأعمال، بل هو من تمام الإِيمان والتجاوب مع قوله عليه الصلاة والسلام:
"إنك لن تدع شيئًا لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه". وهو مخرج في "الضعيفة" بسند صحيح تحت الحديث (رقم 5) .
هذا؛ وقد كان بعض المناقشين عارض حديث السبت بحديث الجمعة هذا، فتأملت في ذلك، فبدا لي أن لا تعارض والحمد لله، وذلك بأن نقول: من صام يوم الجمعة دون الخميس فعليه أن يصوم السبت، وهذا فرض عليه لينجو من إثم مخالفته الإِفراد ليوم الجمعة، فهو في هذه الحالة داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبت:"إلا فيما افترض عليكم".
ولكن هذا إنما هو لمن صام الجمعة وهو غافل عن النهي عن إفراده، ولم يكن صام الخميس معه كما ذكرنا، أما من كان على علم بالنهي؛ فليس له أن يصومه؛ لأنه في هذه الحالة يصوم ما لا يجب أو يفرض عليه، فلا يدخل -والحالة هذه- تحت العموم المذكور، ومنه يعرف الجواب عما إذا اتفق يوم الجمعة مع يوم فضيل، فلا يجوز إفراده كما تقدم، كما لو وافق ذلك يوم السبت؛ لأنه ليس ذلك فرضًا عليه.
وأما حديث: "كان صلى الله عليه وسلم يكثر صيام يوم السبت"، فقد تبين أنه لا يصح من قبل
إسناده، وقد توليت بيان ذلك في "الضعيفة" برقم (1099) من المجلد الثالث، فليراجعه من شاء الوقوف على الحقيقة.
واعلم أن هذا الحديث مع تصحيح من تقدم ذكرهم من الأئمة والحفاظ هناك -وهم الإِمام مسلم وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي، ومن أقر تصحيحهم كالبيهقي في "سننه"، والنووي في "رياضه"، والعسقلاني في "فتحه"(4/2330) و"تلخيصه"(4/215) وغيرهم كثير ممن احتج به على بدعية صلاة الرغائب كما يأتي- مع ذلك كله فقد خالفهم المدعو (حسان عبد المنان) كعادته -فأورده في "ضعيفته" التي سبق الكلام عليها، وبيان بعض الطامات والمخالفات التي فيها تحت الاستدراك (13) - متشبثًا بإعلال أبي حاتم وأبي زرعة إياه بدعوى أن حسينًا الجعفي وهم في ذكر أبي هريرة في روايته عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عنه، وإنما هو عن ابن سيرين مرسل ليس فيه أبو هريرة. رواه أيوب وهشام وغيرهما كذا مرسل.
كذا وقع في "علل ابن أبي حاتم": "وهشام"، وأظنه خطأ؛ لأن رواية هشام مسندة عن أبي هريرة عند مسلم وغيره ممن خرج حديثه كما تقدم، وكذلك ذكرها المزي كما عرفت.
ومهما يكن من أمر؛ فتوهيم حسين في إسناده عن أبي هريرة مما لا وجه له؛ لأنه لم يتفرد به، فقد وصله أيضًا عاصم بن سليمان الأحول عن ابن سيرين؛ لكنه قال: "عن أبي الدردا. وهذا اختلاف شكلي لا يضر؛ لأنه انتقال من صحابي إلى آخر، وكلهم عدول، مع احتمال أن يكون ابن سيرين تلقاه عنهما كليهما، فكان يرويه تارة عن هذا وتارة عن هذا، وليس ذلك بكثير على مثل ابن سيرين الثقة الثبت.
أخرجه أحمد (6/444) قال: ثنا أسود بن عامر: ثنا إسرائيل عن عاصم به.
ومن طريق الأسود أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(2/141-142) .
وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وذكره الحافظ المزي في "تحفته"(8/232/10962) من رواية النسائي فقط، وقال عقبها:
"وتابعه معمر عن أيوب عن ابن سيرين".
وهذا ظاهر في أنه يعني أن أيوب قد تابع عاصمًا في روايته عن ابن سيرين مسندًا عن أبي الدرداء، فاحفظ هذا لما يأتي.
ثم أشار الحافظ إلى رواية هشام المسندة عن ابن سيرين عن أبي هريرة، ثم قال:
"وروي عن هشام عن ابن سيرين عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال:
"وروي عن أيوب وابن عون ويونس بن عبيد عن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي الدرداء".
قلت: يعني: أنهم أرسلوه لم يذكروا أبا هريرة، ورواية أيوب هذا إنما يرويها عنه معمر، وعنه عبد الرزاق في "المصنف"(4/279/7803) ، وعنه الطبراني في "المعجم الكبير"(6/267-268) ، وهي من رواية إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق، وفيها كلام معروف؛ لأن الدبري سمع من عبد الرزاق وهو ابن سبع سنين، وهي على خلاف رواية معمر الأولى عن أيوب المتابعة لرواية عاصم عن ابن سيرين المسندة كما تقدم عن المزي؛ فتذكر.
وأما رواية ابن عون فهي المتقدمة هناك تحت الحديث من رواية ابن سعد بسند صحيح عن ابن سيرين مرسلًا، وفيه سبب الحديث.
وأما رواية يونس بن عبيد فلم أقف على من وصلها (1) ، وكذا رواية معمر الأولى.
(1) نعم وصله عنه ابن عدي (4/335) عن طريق عباد بن كثير عنه عن الحسن عن أبي الدرداء مرفوعًا. فأسنده! لكن عبادًا هذا -وهو الثقفي- متروك باعتراف الجاني!
وعلى هذا التحقيق فإني أقول: إذا أسقطنا هاتين الروايتين من عين الاعتبار -لجهلنا بحال الإسناد إليهما- فإنه يبقى لدينا روايتان معروفتان لكل من المسند والمرسل، وإذا تذكرنا أن روايتي المسند صحيحتان، وروايتي المرسل إحداهما فقط صحيحة، والأخرى ضعيفة -وهي رواية أيوب المعلولة بالدبري- يترجح بوضوح لا خفاء فيه أن الحديث مسند عن أبي هريرة وأبي الدرداء، بل أستطيع أن أقول بأرجحية المسند حتى لو فرضنا صحة رواية أيوب المرسلة أيضًا؛ لأن المسند معه زيادة من ثقتين، وهي مقبولة في مثل هذه الحالة اتفاقًا.
فلننظر الآن ماذا فعل هذا الجاني على السنة -المضعف للأحاديث الصحيحة- من قلب للحقائق وكتم للعلم؛ ليظهر نفسه أنه محقق غير مقلد في هذا العلم الجليل:
أولًا: كتم رواية معمر الأولى عن أيوب التي ذكرها المزي!
ثانيًا: كتم ضعف روايته الأخرى عن أيوب، وهو يعلم أنها من رواية الدبري عنه، وهو يضعف عادة من هو أوثق منه بكثير إذا روى ما لا يهوى!
ثالثًا: تجاهل صحة إسناد الرواية المسندة عن أبي الدرداء فنسبها للنسائي وكفى!
رابعًا: تغافل عن تصحيح من ذكرنا لرواية أبي هريرة، وعن احتجاج من احتج به من العلماء -كما سبقت الإِشارة إليه- المستلزم لصحة المحتج به كما لا يخفى، فقال الإِمام النووي في "شرح مسلم":
"واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب، قاتل الله واضعها ومخترعها، فإنها بدعة منكرة.." إلخ كلامه الطيب، ونقله عنه الصنعاني والشوكاني وغيرهما وأقروه.
وإن مما يلفت النظر ويسترعي انتباه الباحث أن الرجل في جل الأحاديث التي ضعفها يختم كلامه بذكر موافقة الشيخ شعيب إياه على التضعيف، وقد رابني ذلك
منه لكثرة ما رأيت في تعليقات الشيخ خلاف ما ينسب إليه -وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في بعض الاستدراكات المتقدمة- ومن ذلك هذا الحديث، فقد علق الشيخ عليه في ".. صحيح ابن حبان" بقوله (8/377) .
"إسناده صحيح رجاله ثقات..".
ثم خرجه برواية مسلم وابن خزيمة وتصحيح الحاكم وموافقة الذهبي، فلا أدري هل تراجع الشيخ عن تصحيحه مسايرة منه لتلميذه؛ أم أن هذا قال على شيخه ما لم يقل تقوية لموقفه؟! ذلك ما ستكشف عنه الأيام القادمة إن شاء الله تعالى (1) .
وإن من المفارقات العجيبة والأوهام الظاهرة -التي لا يقع في مثلها إلا من كان مبتدئًا في هذه الصناعة- نسبة الشيخ شعيب لحديث ابن سيرين المرسل لرواية البخاري عن أبي جحيفة! فقد ذكر الذهبي هذا المرسل في "السير"(1/543)، فقال الشيخ في تخريجه:
"أخرجه أحمد (6/444) .. وابن سعد (4/1/61) مطولًا، والبخاري نحوه في "الصوم".. عن أبي جحيفة.."، وساق لفظه المطول، وليس فيه ولا كلمة مما في المرسل! ومن جهة أخرى أوهم أن الحديث عند أحمد مرسل أيضًا كما هو عند ابن سعد، وإنما هو مسند عن أبي هريرة! ومثل هذا التخريج الواهي يجعلني أعتقد أن كثيرًا من التخريجات التي نراها منسوبة للشيخ شعيب ليست له، وإنما هي بقلم بعض من يتدرب تحت يده ممن لا علم عندهم كحسان هذا، ومثله المعلق على "الإِحسان"، ففي تعليقاته عليه أوهام كثيرة -تبينت لي أثناء تحقيقي لكتاب "موارد الظمآن"، وهو وشيك الانتهاء إن شاء الله- استبعدت أن تقع من الشيخ شعيب؛ لأنها أوهام مكشوفة!
ثم رأيت الحديث في "مصنف ابن أبي شيبة"(3/45) من رواية سفيان عن
(1) وبعد كتابة هذا بأيام هتف إليّ من أظن به الصدق والمعرفة فيما هتف أن الشيخ استُدرج إلى الموافقة! ولله في خلقه شؤون.
عاصم عن ابن سيرين قال:
"لا تخصوا..". فذكر الحديث موقوفًا على ابن سيرين كما ترى، وإسناده صحيح؛ ولكنه لا يعل به المرفوع مسندًا ومرسلًا؛ لما سبق ذكره أن زيادة الثقة مقبولة.
فأحببت أن أذكر هذا خشية أن يعثر عليه جاهل آخر بهذا العلم فيعل الحديث بهذا الموقوف كما أعله حسان بالإرسال!
وحقيقة الأمر؛ أنه لا غرابة في ورود الحديث على وجوه مختلفة؛ تارة مسندًا، وتارة مرسلًا، وتارة موقوفًا، والراوي واحد كابن سيرين هنا، وذلك لأنه قد ينشط الراوي أحيانًا فيسنده، وقد يرسله تارة اختصارًا، وقد لا ينشط فيذكره موقوفًا، وقد يكون السبب شعوره بأن الحديث معروف بالرفع فلا يرى ضرورة للتصريح برفعه، والعبرة في هذه الحالة المصير إلى الترجيح المسوغ للبت بأنه مرفوع مسند، أو مرفوع مرسل، أو موقوف، فإذا ترجح الأول لم ينافِه ما دونه لما ذكرت. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن مما يؤكد صحة الحديث وشهرته عند السلف ما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم -وهو ابن يزيد النخعي- قال:
"كانوا يكرهون أن يخصوا يوم الجمعة والليلة كذلك بالصلاة".
ورجاله ثقات.
هذا؛ وبمناسبة ما ابتلينا به من كثرة الشباب وغيرهم الذين يكتبون في هذا العلم- وهم عنه غرباء مفلسون، كما يقطع بذلك كل منصف وقف على النماذج الكثيرة من الأوهام؛ بل والجهالات المتقدمة في هذه الاستدراكات، وفي المقدمة أيضًا في هذا المجلد وغيره (1) -فإني أرى لزامًا علي أن أذكر- و {الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} - فأقول:
إني أنصح أولئك الكاتبين والناقدين أن لا يتسرعوا بالكتابة -إن كانوا
(1) انظر مقدمة (المجلد الأول) من "السلسلة الضعيفة" الطبعة الجديدة، وقد صدرت حديثًا.
مخلصين- لمجرد أنهم ظنوا أنهم صاروا أهلًا لذلك، بل عليهم أن يتريثوا ويتمرسوا فيه زمنًا طويلًا؛ حتى يشعروا في قرارة نفوسهم أنهم صاروا علماء فيه، وذلك بأن يقابلوا نتائج كتاباتهم وتحقيقاتهم بأحكام من سبقنا من الحفاظ والنقاد في هذا العلم، فإذا غلب عليها موافقتهم كان ذلك مؤشرًا قد سلكوا سبيل المعرفة بهذا العلم.
هذا أولًا.
وثانيًا: أن مشهد لهم بذلك بعض أهل العلم الصالحين المعاصرين بعد أن يطلعوا على شيء من كتاباتهم وتحقيقاتهم، ذاكرين نصيحة الشاطبي المتقدمة (ص 713)، فإنها صريحة في أنه من اتباع الهوى أن يشهد المرء لنفسه بأنه عالم! وأنا أقرب هذا لكل مخلص من طلاب العلم بلفت نظره إلى مثل قوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، فإنه يدل بفحوى الخطاب على أن المجتمع الإسلامي من حيث العلم والجهل قسمان: أهل الذكر -وهم العلماء بالقرآن والسنة وهم الأقلون- والذين لا يعلمون وهم الأكثرون، بنص القرآن وبحكم المشاهدة والواقع، فإذا علم هذا؛ فلينظر أولئك المشار إليهم هل هم من الأقلين أم من الأكثرين؟ وفي ظني أنهم سوف لا يجدون أنفسهم -إذا كانوا من المتقين- إلا من الأكثرين، وحينئذ عليهم أن يعودوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم من حشرهم أنفسهم في زمرة أهل الذكر، فإذا بدا لهم أنهم من هؤلاء؛ فعليهم أن يحتاطوا لدينهم وأن يسألوا أهل الذكر حقًا، فإن شهدوا لهم بذلك حمدوا الله وسألوه المزيد من علمه، وإلا فهم من المغرورين المعجبين بأنفسهم، الهالكين بشهادة نبيهم صلى الله عليه وسلم القائل:"ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوىً متّبع، وإعجاب المرء بنفسه"(1) . كيف لا وهو القائل: "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك؛ العُجْبَ العُجبَ"؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
(1) سيأتي تخريجه برقم (1802) ، والذي بعده مضى برقم (658) ، ومن أراد الوقوف على آفات العجب ومصائبه وعلته وعلاجه فليرجع إلى كتاب "الإحياء" للغزالي، فإنه نافع في بابه.