الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كوزا
قلعة بطبرستان من عجائب الدنيا؛ قال الأبي: هي تناطح النجوم ارتفاعاً وتحكيها امتناعاً حتى لا تعلوها الطير في تحليقها، ولا السحب في ارتفاعها، فتحتف بها الغمام وتقف دون قلتها، ولا تسمو عليها، فيمطر سفحها دون أعلاها، والفكر قاصر عن ترتيب مقدمات استخلاصها.
الكوفة
هي المدينة المشهورة التي مصرها الإسلاميون بعد البصرة بسنتين، قال ابن الكلبي: اجتمع أهل الكوفة والبصرة وكل قوم يرجع بلده فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، إن لي بالبلدين خبراً؛ قال: هات غير متهم! قال: أما الكوفة فبكر عاطل لا حلي لها ولا زينة، وأما البصرة فعجوز شمطاء بخراء دفراء أوتيت من كل حلي وزينة! فاستحسن الحاضرون وصفه إياهما.
قال ابن عباس الهمداني: الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء بعذوبة وبرودة، والبصرة مثل المثانة يأتيها الماء بعد تغيره وفساده.
ولمسجدها فضائل كثيرة، منها ما روى حبة العرني قال: كنت جالساً عند علي فجاءه رجل وقال: هذا زادي وهذه راحلتي أريد زيارة بيت المقدس! فقال له: كل زادك وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد، يريد مسجد الكوفة، ففي زاويته فار التنور، وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم، وفيه عصا موسى وشجرة اليقطين ومصلى نوح، عليه السلام. ووسطه على روضة من رياض الجنة، وفيه ثلاث أعين من الجنة، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبواً.
بها مسجد السهلة؛ قال أبو حمزة الثمالي: قال لي جعفر بن محمد الصادق: يا أبا حمزة، أتعرف مسجد السهلة؟ قلت: عندنا مسجد يسمى مسجد السهلة. قال: لم أرد سواه! لو ان زيداً أتاه وصلى فيه واستجار فيه بربه من القتل
لأجاره! ان فيه موضع البيت الذي كان يخيط فيه ادريس، عليه السلام، ومنه رفع إلى السماء، ومنه خرج إبراهيم إلى العمالقة، وهو موضع مناخ الخضر، وما أتاه مغموم إلا فرج الله عنه.
كان بها قصر اسمه طمار يسكنه الولاة. أمر عبيد الله بن زياد بإلقاء مسلم ابن عقيل بن أبي طالب من أعلاه قبل مقتل الحسين، وكان بالكوفة رجل اسمه هانيء يميل إلى الحسين، فجاء مسلم إليه فأرادوا إخراجه من داره فقاتل حتى قتل؛ قال عبد الله بن الزبير الأسدي:
إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري
…
إلى هانيءٍ في السّوق وابن عقيل
إلى بطلٍ قد عفّر السّيف وجهه
…
وآخر يلقى من طمار قتيل
وكان في هذا القصر قبة ينزلها الأمراء، فدخل عبد الملك بن عمير على عبد الملك بن مروان وهو في هذه القبة على سرير، وعن يمينه ترس عليه رأس مصعب بن الزبير، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت في هذه القبة عجباً! فقال: ما ذاك؟ قال: رأيت عبيد الله بن زياد على هذا السرير، وعن يمينه ترس عليه رأس الحسين، ثم دخلت على المختار بن عبيد وهو على هذا السرير، وعن يمينه ترس عليه رأس عبيد الله بن زياد، ثم دخلت على مصعب بن الزبير وهو على هذا السرير، وعن يمينه ترس عليه رأس المختار، ثم دخلت عليك يا أمير المؤمنين وأنت على هذا السرير، وعن يمينك ترس عليه رأس مصعب! فوثب عبد الملك عن السرير وأمر بهدم القبة.
زعموا أن من أصدق ما يقوله الناس في أهل كل بلدة قولهم: الكوفي لا يوفي! ومما نقم على أهل الكوفة أنهم طعنوا الحسن بن علي ونهبوا عسكره، وخذلوا الحسين بعد أن استدعوه، وشكوا من سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وقالوا: انه ما يحسن الصلاة! فدعا عليهم سعد أن لا يرضيهم الله عن وال ولا يرضي والياً عنهم، ودعا علي عليهم وقال:
اللهم أمرهم بالغلام الثقفي! يعني الحجاج.
وادعى النبوة منهم كثيرون. ولما قتل مصعب بن الزبير، أرادت زوجته سكينة بنت الحسين الرجوع إلى المدينة، فاجتمع عليها أهل الكوفة وقالوا: حسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله! فقالت: لا جزاكم الله عني خيراً ولا أحسن إليكم الخلافة! قتلتم أبي وجدي وعمي وأخي! أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرةً! تظلم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم فقال: ما علمت من عمالي أعدل وأقوم بأمر الرعية منه! فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين ليس أحد أولى بالعدل والانصاف منك! فإن كان هو بهذه الصفة فعلى الأمير أن يوليه بلداً بلداً ليلحق كل بلدة من عدله ما لحقناه، فإذا فعل الأمير ذلك لا يصيبنا أكثر من ثلاث سنين! فضحك المأمون وأمر بصرفه.
ينسب إليها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، كان عابداً زاهداً خائفاً من الله تعالى. ودعي أبو حنيفة إلى القضاء فقال: إني لا أصلح لذلك! فقيل: لم؟ فقال: إن كنت صادقاً فلا أصلح لها، وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح للقضاء. وأراد عمر بن هبيرة أبا حنيفة للقضاء فأبى، فحلف ليضربنه بالسياط على رأسه وليحبسنه، ففعل ذلك حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب، فقال: الضرب بالسياط في الدنيا أهون من مقامع الحديد في الآخرة! قال عبد الله بن المبارك:
لقد زان البلاد ومن عليها
…
إمام المسلمين أبو حنيفه
بآثار رفقه في حديثٍ
…
كآيات الزّبور على الصّحيفه
فما إن بالعراق له نظيرٌ
…
ولا بالمشرقين ولا بكوفه
وحكي أن الربيع صاحب المنصور كان لا يرى أبا حنيفة، فقال له يوماً:
يا أمير المؤمنين، هذا أبو حنيفة يخالف جدك عبد الله بن عباس، فإن جدك يقول إذا حلف الرجل واستثنى بعد يوم أو يومين جاز، وأبو حنيفة يقول: لا يجوز! فقال أبو حنيفة: هذا الربيع يقول ليس لك في رقاب جندك بيعة! قال: كيف؟ قال: يحلفون عندك ويرجعون إلى منازلهم يستثنون فتبطل اليمين! فضحك المنصور وقال: يا ربيع لا تتعرض لأبي حنيفة، فلما خرج من عند المنصور قال له الربيع: أردت أن تشط بدمي! قال: لا، ولكنك أردت أن تشط بدمي فخلصتك وخلصت نفسي! وحكى قاضي نهروان أن رجلاً استودع رجلاً بالكوفة وديعةً ومضى إلى الحج. فلما عاد طلبها، فأنكر المودع وكان يجالس أبا حنيفة، فجاء المظلوم وشكا إلى أبي حنيفة فقال له: اذهب لا تعلم أحداً بجحوده! ثم طلب الظالم وقال: إن هؤلاء بعثوا إلي يطلبون رجلاً للقضاء فهل تنشط لها؟ فتمانع الرجل قليلاً ثم رغب فيها. فعند ذلك بعث أبو حنيفة إلى المظلوم وقال: مر إليه وقل له: أظنك نسيت، أليس كان في يوم كذا وفي موضع كذا؟ فذهب المظلوم إليه وقال ذلك، فردها إليه. فجاء الظالم إلى أبي حنيفة يريد القضاء فقال: نظرت في قدرك أريد أن أرفعه بأجل من هذا.
وذكر أن أبا العباس الطوسي كان سيء الرأي في أبي حنيفة، وأبو حنيفة يعلم ذلك. فرآه يوماً عند المنصور فقال: اليوم اقتل أبا حنيفة! فقال له: يا أبا حنيفة، ما تقول في أن أمير المؤمنين يدعو أحداً إلى قتل أحد، ولا ندري ما هو، أيسع لنا أن نضرب عنقه؟ قال أبو حنيفة: يا أبا العباس، الأمير يأمر بالحق أو بالباطل؟ قال: بالحق! قال: انفذ الحق حيث كان ولا تسأل عنه! ثم قال لمن كان بجنبه: هذا أراد أن يوبقني فربطته! توفي سنة خمسين ومائة عن اثنتين وسبعين.
ينسب إليها أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري منسوب إلى ثور أطحل، كان من أكثر الناس علماً وورعاً. وكان إماماً مجتهداً، وجنيد البغدادي يفتي على
مذهبه، كان يصاحب المهدي، فلما ولي الخلافة انقطع عنه، فقال له المهدي: إن لم تصاحبني فعظني! قال: إن في القرآن سورة، أولها: ويل للمطففين! والتطفيف لا يكون إلا شيئاً نزراً فكيف من يأخذ أموالاً كثيرة؟
وحكي أن المنصور رآه في الطواف فضرب يده على عاتقه فقال: ما منعك أن تأتينا؟ قال: قول الله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار! فالتفت المنصور إلى أصحابه وقال: القينا الحب إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان فإنه أعيانا! ثم قال له: سلني حاجتك يا أبا عبد الله! فقال: وتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: حاجتي أن لا ترسل إلي حتى آتيك، وأن لا تعطيني شيئاً حتى أسألك.
وخرج ليلة أراد العبور على دجلة فوجد شطيها قد التصقا، فقال: وعزتك لا أعبر إلا في زورق! وكان في مرض موته يبكي كثيراً، فقال له: أراك كثير الذنوب! فرفع شيئاً من الأرض وقال: ذنوبي أهون علي من هذا وإنما أخاف سلب الإيمان قبل أن أموت. وقال حماد بن سلمة: لما حضر سفيان الوفاة كنت عنده، قلت: يا أبا عبد الله ابشر فقد نجوت مما كنت تخاف، وإنك تقدم على رب غفور! فقال: يا أبا سلمة، أترى يغفر الله لمثلي؟ قلت: إي والذي لا إله إلا هو! فكأنما سري عنه. توفي سنة إحدى وستين ومائة عن ست وستين سنة بالبصرة.
وينسب إليها أبو أمية شريح بن الحرث القاضي، يضرب به المثل في العدل وتدقيق الأمور، بقي في قضاء الكوفة خمساً وسبعين سنة، استقضاه عمر وعلي، واستعفى من الحجاج فأعفاه، ذكر أن امرأة خاصمت زوجها عنده وكانت تبكي بكاء شديداً فقال له الشعبي: أصلح الله القاضي! أما ترى شدة بكائها؟ فقال: أما علمت أن اخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة؟ الحكم إنما يكون بالبينة لا بالبكاء.
وشهد رجل عنده شهادة فقال: ممن الرجل؟ قال: من بني فلان. قال:
أتعرف قائل هذا الشعر:
ماذا أؤمّل بعد آل محرّقٍ
…
تركوا منازلهم وبعد إياد
قال: لا! فقال: توقف يا وكيل في شهادته فإن من كان في قومه رجل له هذه النباهة وهو لا يعرفه أظنه ضعيفاً.
وكتب مسروق بن عبد الله إلى القاضي شريح، وقد دخل زياد ابن أبيه في مرض موته ومنعوا الناس عنه، وكتب إليه: أخبرنا عن حال الأمير فإن القلوب لبطء مرضه مجروحة، والصدور لنا حزينة غير مشروحة! فأجابه القاضي: تركت الأمير وهو يأمر وينهى! فقال: أما تعلمون أن القاضي صاحب تعريض؟ يقول: تركته يأمر الوصية وينهى عن الجزع! وكان كما ظن. والقاضي شريح توفي سنة اثنتين وثمانين عن مائة وعشرين سنة.
وينسب إليها أبو عبد الله سعيد بن جبير، كان الناس إذا سألوا بالكوفة ابن عباس يقول: أتسألونني وفيكم سعيد بن جبير؟ وكان سعيد ممن خرج على الحجاج وشهد دير الجماجم، فلما انهزم ابن الأشعث لحق سعيد بمكة، وبعد مدة بعثه خالد بن عبد الله القسري، وكان والياً على مكة من قبل الوليد ابن عبد الملك، إلى الحجاج تحت الاستظهار، وكان في طريقه يصوم نهاراً ويقوم ليلاً، فقال له الموكل به: إني لا أحب أن أحملك إلى من يقتلك، فاذهب أي طريق شئت! فقال له سعيد: انه يبلغ الحجاج أنك خليتني وأخاف أن يقتلك! فلما دخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: سعيد بن جبير! قال: بل أنت شقي بن كسير! قال: سمتني أمي! قال: شقيت! قال: الغيب يعلمه غيرك! فقال له الحجاج: لأبدلنك من دنياك ناراً تتلظى! فقال سعيد: لو علمت أن ذاك إليك ما اتخذت إلهاً غيرك! قال: ما تقول في الأمير؟ قال: إن كان محسناً فعند الله ثواب إحسانه، وإن كان مسيئاً فلن يعجز الله! قال: فما تقول في؟ قال: أنت أعلم بنفسك! فقال: تب في علمك! فقال: اذم
أسوءك ولا أسرك. قال: تب! قال: ظهر منك جور في حد الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله! قال: والله لأقطعنك قطعاً قطعاً ولأفرقن أعضاءك عضواً عضواً! قال: فإذن تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك والقصاص أمامك! قال: الويل لك من الله! قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار! فقال: اذهبوا به واضربوا عنقه. فقال سعيد: اني أشهدك اني أشهد ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لتستحفظه حتى ألقاك بها يوم القيامة! فذهبوا به فتبسم، فقال الحجاج: لم تبسمت؟ فقال: لجرأتك على الله تعالى! فقال الحجاج: اضجعوه للذبح! فأضجع. فقال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض. فقال الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة. قال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله! قال: كبوه على وجهه. فقال: مها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى! فذبح من قفاه، فبلغ ذلك الحسن البصري فقال: الله يا قاصم الجبارة اقصم الحجاج.
وعن خالد بن خليفة عن أبيه قال: شهدت مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله مرتين والثالثة لم يتمها، وعاش الحجاج بعده خمسة عشر يوماً، وقع الدود في بطنه، وكان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي! وتوفي سعيد سنة خمس وتسعين عن سبع وخمسين سنة.
وينسب إليها أبو الطيب أحمد المتنبي. كان نادر الدهر شاعراً مفلقاً فصيحاً بليغاً، أشعاره تشتمل على الحكم والأمثال، قال ابن جني: سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
ما مقامي بأرض نخلة إلاّ
…
كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمّةٍ، تداركها اللّ
…
هـ، غريبٌ كصالحٍ في ثمود
وكان لا يمدح إلا الملوك العظماء، وإذا سمع قصيدة حفظها بمرة واحدة،
وابنه يحفظها بمرتين، وغلامه يحفظها بثلاث مرات، فربما قرأ أحد على ممدوح قصيدة بحضوره فيقول: هذا الشعر لي! ويعيدها ثم يقول: وابني أيضاً يحفظها، ثم يقول: وغلامي أيضاً يحفظها.
اتصل بسيف الدولة وقرأ عليه:
أجاب دمعي وما الدّاعي سوى طلل
فلما انتهى إلى قوله:
أقل أنل اقطع احمل سلّ علّ أعد
…
زد هشّ بشّ تفضّل ادن سرّ صل
أمر سيف الدولة أن يفعل جميع هذه الأوامر التي ذكرها فيقول المتنبي:
أمرّ إلى إقطاعه في ثيابه
…
على طرفه من داره بحسامه
حكى ابن جني عن أبي علي النسوي قال: خرجت من حلب فإذا أنا بفارس متلثم قد أهوى نحوي برمح طويل سدده في صدري، فكدت أرمي نفسي من الدابة، فثنى السنان وحس لثامه فإذا المتنبي يقول:
نثرت رؤساً بالأحيداب منهم
…
كما نثرت فوق العروس دراهم
ثم قال: كيف ترى هذا البيت أحسن هو؟ قلت: ويحك قتلني! قال ابن جني: حكيت هذا بمدينة السلام لأبي الطيب فضحك.
وحكى الثعالبي أن المتنبي لما قدم بغداد ترفع عن مدح الوزير المهلبي، ذهاباً بنفسه إلى أنه لا يمدح غير الملوك، فشق ذلك على الوزير فأغرى به شعراء بغداد في هجوه، ومنهم ابن سكرة الهاشمي والحاتمي وابن لنكك، فلم يجبهم بشيء وقال: اني قد فرغت عن جوابهم بقولي لمن هو أرفع طبقة منهم في الشعر: