الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرو
من أشهر مدن خراسان وأقدمها وأكثرها خيراً، وأحسنها منظراً وأطيبها مخبراً. بناها ذو القرنين، وقهندزها أقدم منها. قيل: إنه من بناء طهمورث. وروى بريدة بن الحصيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: يا بريدة إنه ستبعث من بعدي بعوث، فإذا بعثت فكن في بعث المشرق ثم في بعث خراسان ثم في بعث أرض يقال لها مرو، فإذا أتيتها فانزل مدينتها فإنه بناها ذو القرنين وصلى فيها عزير، وأنهارها تجري بالبركة، على كل نقب منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهله السوء إلى يوم القيامة. فقدمها بريدة غازياً وأقام بها إلى أن مات.
حكي أن قهندزها عمارة عظيمة، ولما أراد طهمورث الملك بناء قهندز مرو بني بألف رجل، وأقام لها سوقاً فيه ما يحتاجون إليه، فكان إذا أمسى الرجل أعطي درهماً فيشتري به ما يحتاج إليه فتعود الدراهم إلى أصحاب الملك، حتى إذا تم لم يخرج على البناء إلا ألف درهم.
وحكى أبو إسحق الطالقاني قال: كنت على الزربق في مسجد العرب عند عبد الله بن المبارك، فانهار ركن من القهندز، فسقطت منها جماجم، فتناثرت من جمجمة أسنانها، فوزنت سنان منها فكان في كل واحدة منهما منوان، فجعل عبد الله بن المبارك ينقلهما بيده ويتعجب منها ويقول: إذا كانت هذه سنهم فكيف تكون بقية أعضائهم؟ وقال:
أتيت بسنّين قد قدما
…
من الحصن لمّا أثاروا الدّفينا
على وزن منوين إحداهما
…
لقد كان يا صاح سنّاً رزينا
ثلاثون أخرى على قدرها
…
تباركت يا أحسن الخالقينا
فماذا يقوم بأفواهها
…
وما كان يملأ تلك البطونا؟
إذا ما تذكّرت أجسامهم
…
تصاغرت النّفس حتى تهونا
فكلٌّ على ذاك لاقى الرّدى
…
فبادوا جميعاً وهم خامدونا
وأما المدينة فطيبة كثيرة الخيرات وافرة الغلات. في أهلها من الرفق ولين الجانب وحسن المعاشرة. وكانت كرسي ملك بني سلجوق لهم بها آثار خيرات؛ حكى صاحب عجائب الأخبار انه كان بمرو بيت كبير، ارتفاعه قدر قامة، وكان محمولاً على صور أربع من الخشب في جوانبه الأربعة، وكانت الصور تمثال رجلين وامرأتين، فزعم قوم أن ذلك البيت بيت ملكهم، فنقضوه وانتفعوا بأخشابه، فأصاب مرو وقراها جوائح وآفات وقحط متواتر، فعلموا أن ذلك البيت كان طلسماً لدفع الآفت. وليس لهذه المدينة عيب إلا ما يعتري أهلها من العرق المديني، فإنهم في شدة عظيمة منه، قل ما ينجو منهم أحد في كل عام.
ينسب إليها عبد الله بن المبارك الإمام العالم العابد؛ حكي انه كان بمرو قاض اسمه نوح بن مريم، وكان رئيسها أيضاً، وكانت له بنت ذات جمال خطبها جماعة من الأعيان والأكابر، وكان له غلام هندي ينطر بستانه، فذهب القاضي يوماً إلى البستان وطلب من غلامه شيئاً من العنب، فأتى بعنب حامض فقال له: هات عنباً حلواً! فأتى بحامض فقال له القاضي: ويحك! ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال: بلى ولكنك أمرتني بحفظها وما أمرتني بأكلها، ومن لم يأكل لم يعرف. فتعجب القاضي من كلامه وقال: حفظ الله عليك أمانتك! وزوج ابنته منه فولدت عبد الله بن المبارك المشهور بالعلم والورع. كان يحج في سنة ويغزو في أخرى.
وحكي انه كان معاصراً لفضيل بن عياض، وفضيل قد جاور مكة وواظب على العبادة بمكة والمدينة، فقال عبد الله بن المبارك:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
…
لعلمت أنّك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خدّه بدمائه
…
فنحورنا بدمائنا تتخضّب
وغبار خيل الله في أنف امريءٍ
…
ودخان نار جهنّمٍ لا يذهب
هذا كتاب الله يحكم بيننا
…
ليس الشّهيد كغيره، لا تكذبوا
حكي عنه قال: خرجت للغزوة، فلما تراءت الفتيان خرج من صف الترك فارسل يدعو إلى البراز، فخرجت إليه فإذا قد دخل وقت الصلاة، قلت له: تنح عني حتى أصلي ثم افرغ لك! فتنحى فصليت ركعتين وذهبت إليه فقال لي: تنح عن حتى أصلي أنا أيضاً! فتنحيت عنه، فجعل يصلي للشمس، فلما خر ساجداً هممت أن أغدر به فإذا قائل يقول: اوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً. فتركت الغدر. فلما فرغ من صلاته قال لي: لم تحركت؟ قلت: أردت أن أغدر بك! فقال: لم تركته؟ قلت: لأني أمرت بتركه. قال: الذي أمرك بترك الغدر أمرني بالإيمان. وآمن والتحق بصف المسلمين.
وحكى الحسن بن الربيع انه خرج ذات سنة مع جيوش المسلمين إلى الغزوة، فلما تقاتل الصفان خرج من صف الكفار فارس يطلب القرن، فذهب إليه فارس من المسلمين، فما أمهله، فأحجم الناس عن مبادرته ودخل المسلمين منه حزن. فإذا فارس خرج إليه من صف المسلمين وجال معه زماناً ثم رماه وحز رأسه، فكبر المسلمون وفرحوا ولم يكن يعرفه أحد، فعاد إلى مكانه ودخل في غمار الناس! قال الحسن: فبذلت جهدي حتى دنوت منه وحلفته أن يرفع لثامه، فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقلت له: يا إمام المسلمين كيف أخفيت نفسك مع هذا الفتح الذي يسر الله على يدك؟ فقال: الذي فعلت له لا يخفى عليه.
وحكي أن عبد الله بن المبارك عاد من مرو إلى الشام لعلم رآه معه بمرو صاحبه بالشام. ورئي سفيان الثوري في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: رحمني! فقيل: ما حال عبد الله بن المبارك؟ قال: هو ممن يدخل على ربه كل يوم مرتين. ولد سنة مائة وعشرين، وتوفي سنة مائة وإحدى وثمانين.
وينسب إليها أبو زيد المروزي، أستاذ أبي بكر القفال المروزي، حج سنة فعادله أبو بكر البزاز النيسابوري من نيسابور إلى مكة. قال: ما علمت أن الملك كتب عليك خطيئة، قال أبو زيد: فلما فرغت من الحج وعزمت الرجوع إلى خراسان قلت في نفسي: متى تنقطع هذه المسافة وقد طعنت في السن، لا أحتمل مشقتها! فرأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، قاعداً في صحن المسجد الحرام، وعن يمينه شاب، قلت: يا رسول الله عزمت على الرجوع إلى خراسان والمسافة بعيدة. فالتفت النبي، عليه السلام، إلى الشاب الذي بجنبه وقال: يا روح الله تصحبه إلى وطنه؛ قال أبو زيد: فأريت انه جبريل فانصرفت إلى مرو، ولم أحس بشيء من مشقة السفر.
وينسب إليها أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله القفال المروزي. كان وحيد زمانه فقهاً وعلماً. رحل إليه الناس وصنف كتباً كثيرة، وانتشر علمه في الآفاق. حكي أن القفال الشاشي صنع قفلاً وفراشة ومفتاحاً وزنها دانق، فأعجب الناس ذلك وسار ذكره في البلاد، فسمع به القفال المروزي فصنع قفلاً وزنه طسوج، فاستحسنه الناس ولكن ما شاع ذكره، فقال ذات يوم: كل شيء يحتاج إلى الحظ! قفل الشاشي طنت به البلاد، وقفلي بقدر ربعه ما يذكره أحد فقال له صديق له: إنما الشاشي شاع بعلمه لا بقفله. فعند ذلك رغب في العلم، وهو ابن أربعين سنة، فجد في طلب العلم حتى وصل إلى ما وصل وعاش تسعين سنة: أربعين سنة قفالاً وخمسين سنة عالماً ومتعلماً. ومات سنة سبع عشرة وأربعمائة. وينسب إليها أبو الحرث سريج المروزي. كان شيخاً صالحاً صدوقاً. جاء له ولد فذهب إلى بقال بثلاثة دراهم: يريد بدرهم عسلاً، وبدرهم سمناً، وبدرهم سويقاً. فقال البقال: ما عندي من ذلك شيء، لكن احصله لك في الغد. فقال للبقال: فتش لعلك تجد قليلاً! قال: فمشيت فوجدت البراني والجرار مملوءة، فأعطيته منها شيئاً كثيراً. فقال: أوليس قلت ما عندي شيء منها؟ قلت له: خذ واسكت. فقال: لا آخذ حتى تصدقني. فأخبره بالحال فقال: