الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
همذان
مدينة مشهورة من مدن الجبال. قيل: بناها همذان بن فلوج بن سام بن نوح، عليه السلام. ذكر علماء الفرس أنها كانت أكبر مدينة بأرض الجبال، وكانت أربعة فراسخ في مثلها فالآن لم تبق على تلك الهيئة، لكنها مدينة عظيمة لها رقعة واسعة، وهواء لطيف وماء عذب وتربة طيبة، ولم تزل محل سرير الملوك، ولا حد لرخصها وكثرة الأشجار والفواكه بها. أهلها أعذب الناس كلاماً وأحسنهم خلقاً وألطفهم طبعاً. ومن خصائصها ألا يكون الإنسان بها حزيناً ولو كان ذا مصائب. والغالب على أهلها اللهو والطرب لأن طالعها الثور، وهو بيت الزهرة، والغالب على أكثرهم البلاهة، ولهذا قال قائلهم:
لا تلمني على ركاكة عقلي
…
إن تيقّنت أنّني همذاني!
وحكي أن دارا لما تأهب لمحاربة الإسكندر أحكم عمارة همذان، وجعل في وسطها حصناً لحرمه وخزانته، ووكل بها اثني عشر ألف رجل من ثقاته لحفظها متى قصدها قاصد، وذهب إلى قتال الإسكندر. فلما قتل دارا في القتال بعث الإسكندر إلى همذان قائداً اسمه صقلاب في جيش كثيف، فحاصرها، فلما عجز عنها أخبر الإسكندر بحصانة الموضع وعجزه عنه، فكتب إليه الإسكندر أن صور المدينة بجبالها ومياهها وعيونها وابعث بالصورة إلي، وأقم هناك حتى يأتيك أمري. ففعل صقلاب ذلك فأرسلها الإسكندر إلى أستاذه أرسطاطاليس وقال له: دبر لي فتح هذه المدينة. فأمره أرسطاطاليس أن يحبس مياهها حتى يجتمع منها شيء كثير ثم يرسلها إلى المدينة. ففعل صقلاب ذلك كما قال، فهدم سورها وحيطانها فدخلها صقلاب وسبى ونهب، وبقيت المدينة تلاً، وأما المدينة الموجودة في زماننا هذا فلا شك في أنها أحسن البلاد وأنزهها وأطيبها، ولهذا لم تزل محل الملوك، ولكل ملك من ملوك الجبال بها قصر يأتيه فصل الربيع والصيف. فإنها في هذين الفصلين تشبه الجنة
في طيب هوائها وبرودة مائها، وكثرة فواكهها وأنواع رياحينها؛ قال محمد ابن بشار:
ولقد أقول تيامني وتشامي
…
وتواصلي ديماً على همذان
فإذا تبجّست الثّلوج تبجّست
…
عن كوثرٍ شبمٍ وعن حيوان
بلدٌ نبات الزّعفران ترابه
…
وشرابه عسلٌ بماء قنان
فكسا الرّبيع بلادها من روضةٍ
…
يفترّ عن نفلٍ وعن حوذان
حتى تعانق من خزاماه الّذي
…
بالجلهتين شقائق النّعمان
بها ناحية ماوشان، وهي كورة بقرب همذان. فراسخ في فراسخ يمشي إليها أهل همذان أوان الصيف وقت إدراك المشمش.
وحكي أن أعرابياً أقام بهمذان سنين فسئل عن همذان فقال: أقمت بها سبعاً كانوا يقولون الصيف يجيء وما جاء، وذلك لأن الأعرابي رأى صيف الحجاز وصيف همذان يكون مثل شتاء الحجاز.
وحكى عبد القاهر بن حمزة الواسطي صفة همذان في الشتاء فقال: خص الله همذان في الشتاء من اللعن بأوفره ومن الطرد بأكثره، فما أكدر هواءها وأشد بردها وأذاها وأكثر مؤونتها وأقل منفعتها! سلط الله تعالى عليها الزمهرير الذي أعده للكفار والعتاة من أهل النار. إذا هاجت الرياح العواصف وحدثت البروق والرعود القواصف وقعت الثلوج والدمق، وعم الاضطراب والقلق، وانقطعت السبل وعم طرقاتها الوحل، فترى وجوه أهلهم متشققة وشعورهم من البرد متفتقة، وأنوفهم سائلة وحواسهم زائلة، وأطرافهم خضرة وروائحهم قذرة، ولحاهم دخانية وألوانهم باذنجانية. وهم في شتائهم في الأليم من العذاب والوجيع من الحظ والعقاب. وأي عذاب أشد من مقاساة العدو الحاصر والكلب الكلب الحاضر؟ قال أحمد بن بشار يصف همذان:
لقد أتى همذان البرد فانطلق
…
وارحل على شعب شملٍ غير متّفق
أرضٌ يعذّب أهلوها ثمانيةً
…
من الشّهور بأنواعٍ من الوهق
فإن رضيت بثلث العمر فارض بها
…
وقد تعدّ إذاً من أجهل الحمق
إذا ذوى البقل هاجت في بلادهم
…
من جربيائهم مشّاقة الورق
فالبرد يرمي سهاماً ليس يمنعها
…
من المروق بلبس الدّرع والدّرق
حتّى تفاجئهم شهباء معضلةٌ
…
تستوعب النّاس في سربالها اليقق
أمّا الغنيّ فمحصورٌ يكابدها
…
طول الشّتاء مع اليربوع في نفق
والمملقون بها سبحان ربّهم
…
ممّا يقاسون من بردٍ ومن أرق
فكلّ غادٍ بها أو رائحٍ تعبٌ
…
ممّا يكابد من بردٍ ومن دمق
فالماء كالصخر والأنهار جامدةٌ
…
والأرض عضّاضةٌ بالضرس في الطّرق
فإذا انتقلت الشمس إلى برج الحمل، وقد امتلأت دروبهم من الثلج حتى سد عليهم الطرق، جمعوا مياههم وأرسلوها إلى المدينة، وحيطانها كلها صخرية، فدخل الماء دروبهم، ويحمل ما فيه من الثلج ويذهب به، ويكون ذلك اليوم عيداً عظيماً عندهم يسمونه حمل بندان، فصعدوا سطوحهم بالغناء والرقص في كل محلة، واتخذوا من الثلوج شبه قلاع يرقصون عليها، والماء يدخل عليهم ويرميهم، وهم على تل الثلج، فيقعون في وسط الماء والثلج، فيدخل الماء درباً درباً حتى تنقى المدينة كلها من الثلج.
ومن عجائبها أسد من صخر على باب المدينة عظيم جداً. حكى الكيا شيرويه أن سليمان بن داود، عليه السلام، اجتاز بموضع همذان، قال: ما بال هذا الموضع مع كثرة مائه وسعة ساحته لا تبنى به مدينة؟ قالوا: يا نبي الله إن ههنا لا يكون مقام الناس لأن البرد به شديد والثلج به يقع قدر قامة رمح. فقال، عليه السلام، لصخر الجني: هل من حيلة؟ فقال: نعم يا نبي الله؛ فاتخذ
أسداً من صخر ونصبه طلسماً للبرد وبنى مدينة همذان.
وقال غيره: إنه من علم بليناس صاحب الطلسمات حين طلبه قباذ ليطلسم بلاده، وكان الفارس يغرق في الثلج بهمذان، فلما عمل هذا الأسد قل ثلجها. وقالوا: عمل على يمين الأسد طلسماً للحيات فقلت، وآخر للعقارب فنقصت، وآخر للبراغيث فهي قليلة بها جداً؛ قال ابن حاجب يذكر الأسد:
ألا أيّها اللّيث الطّويل مقامه
…
على نوب الأيّام والحدثان
اقمت فما تنوي البراح بحيلةٍ
…
كأنّك بوّابٌ على همذان
أراك على الأيّام تزداد جدّةً
…
كأنّك منها آخذٌ بأمان
أقبلك كان الدّهر أم كنت قبله
…
فنعلم أم ربّيتما بلبان؟
بقيت فما تفنى وآمنت عالماً
…
سطا بهم موتٌ بكلّ مكان
فلو كنت ذا نطقٍ جلست محدّثاً
…
تحدّثنا عن أهل كلّ زمان
ولو كنت ذا روحٍ تطالب مأكلاً
…
لأفنيت أكلاً سائر الحيوان
أحبّبت شرّ الموت أم أنت منظرٌ
…
وإبليس حتى يبعث الثّقلان؟
فلا هرماً تخشى ولا الموت تتّقي
…
بمضرب سيفٍ أو شباة سنان
وحكي انه لما كان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، عصى أهل همذان على مرداويج الديلمي، وكان صاحب الجبال، فدخل همذان ونهبها، وسأل عن الأسد فقيل: انه طلسم لدفع الآفات عن المدينة. فأراد حمله إلى الري فلم يتمكن من ذلك، فأمر بكسر ديه بالفطيس. قيل: إنما كسر يديه لأن الدواب كانت تنفر منه.
وحكي أن المكتفي بالله نظر إليه فاستحسنه، فأمر بنقله على عجلة تجرها الفيلة إلى بغداد، فهم عامل البلد بذلك، فاجتمع وجوه تلك البلاد وقالوا: هذا طلسم لبلدنا من آفات كثيرة. فكتب العامل بذلك إلى الخليفة وصعب عليه بعثه فعفا عنهم.
وحكي أن في زماننا عدا رجل في وسط همذان ويقول: يا قوم ادركوا الأسد فإني رأيته يهرب. فخرج من المدينة خلق كثير فرأوا الأسد بحاله، فيقول بعضهم: عدا من ثم إلى ههنا. وهذا دليل على بلاهة القوم.
وينسب إليها أبو الفضل بديع الزمان. كان أديباً فاضلاً ظريفاً، والمقامات التي جمعها دلت على غزارة فضله وفصاحة كلامه ولطافة طبعه. ولهذا قال أبو القاسم الحريري: إن البديع سباق غايات وصاحب آيات.
وحكي أن صديقاً له كتب إليه يشكو ويقول: إن الزمان قد فسد! فأجابه البديع: أتزعم أن الزمان قد فسد؟ ما تقول لي متى كان صالحاً: أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وقد سمعنا أولها؟ أم في الأيام المروانية وفي أخبارها ما يكسع الشول بأغبارها؟ أم في الأيام الحربية والسيف يغمد في الطلى والرمح يركز في الكلى؟ أم في الأيام الهاشمية وعلي، عليه السلام، يقول: ليت لي بعشرة منكم واحداً من بني فراس بن غنم؟ أم في أيام عثمان وقد قام النفير بالحجاز وشخصت العيون من الإعجاز؟ أم في الخلافة العدوية وصاحبها يقول: بعد النزول إلى النزول؟ أم في الخلافة التيمية وأبو بكر يقول: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام؟ أم في عهد الرسالة وقد قيل فيه: اسكتي يا فلانة فقد ذهبت الأمانة؟ أم في الجاهلية ولبيد يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
…
وبقيت في خلفٍ كحلد الأجرب؟
أم قبل الجاهلية وأخو عاد يقول:
بلادٌ بها كنّا، وكنّا نحبّها
…
إذ النّاس ناسٌ والبلاد بلاد؟
أم قبل ذلك وقد روي عن أبينا آدم، عليه السلام، أنه قال:
تغيّرت البلاد ومن عليها
…
ووجه الأرض مغبرٌّ قبيح؟
أم قبل خلق أبينا آدم وقد قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فاعلم
أن الزمان ما فسد لكن القياس قد اطرد. وقال البديع:
همذان لي بلدٌ أقول بفضله
…
لكنّه من أقبح البلدان!
صبيانه في القبح مثل شيوخه
…
وشيوخه في العقل كالصّبيان!
توفي البديع سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
وأنشد عبد الله بن محمد بن زنجويه لنفسه في بعض الصور المطلسمة، وقد ذكرنا كل واحدة منها في موضعها بشرحها:
أأرقت للبرق اللّموع. اللاّئح
…
وحمائمٍ فوق الغصون صوادح؟
بل قد ذهلت بليث غابٍ دائباً
…
مذ كان عن همذان ليس بنازح
موفٍ على صمّ الصّخور كأنّه
…
يبغي الوثوب على الغزال السّائح
تمضي الدّهور وما تروم فريسةً
…
نعل الطّمرّ الكسرويّ القارح
شبديز إذ هو واقفٌ في طاقه
…
يعلوه برويزٌ بحسنٍ واضح
برويز عن شبديز ليس برائحٍ
…
واللّيث عن همذان ليس بنازح
وكذا بتدمر صورتان تناهتا
…
في الحسن شبّهتا ببدرٍ لائح
لا يسأمان عن القيام، وطالما
…
صبرا على صرف الزّمان الكالح
وبأرض عادٍ فارسٌ يسقيهم
…
بالعين عذباً كالفرات السّائح
في الأشهر الحرم العظيمة حقّها
…
يغنون عن شرب الزّعاق المالح
فإذا انقضى الشّهر الحرام تطفّحت
…
تلك الحياض بماء عين الدّافح
وبأرض وادي الرّمل بين مهامهٍ
…
يلقاك قبل الحتف نصح النّاصح
طرفٌ هنالك باسطٌ بيمينه
…
أن ليس بعدي مسلكٌ للسّائح
خذها إليك مقالةً من صادقٍ
…
فيها عجائب من صحيح قرائح