الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطيرة
من قرى سامرا أشبه أرض الله بالجنان من لطافة الهواء وعذوبة الماء وطيب التربة وكثرة الرياحين. وهي من متنزهات بغداد يأتيها أهل الخلاعة. وصفها بعض الشعراء فقال:
سقياً ورعياً للمطيرة موضعاً!
…
أنوارها الخيريّ والمنشور
فيها البهار معانقاً لبنفسجٍ
…
فكأنّ ذلك زائرٌ ومزور
وكأنّ نرجسه عيونٌ كحلها
…
بالزّعفران، جفونها الكافور
تحيا النّفوس بطيبها فكأنّها
…
وصل الحبيب يناله المهجور
الموصل
المدينة العظيمة المشهورة التي هي إحدى قواعد بلاد الإسلام، رفيعة البناء ووسيعة الرقعة محط رحال الركبان. استحدثها راوند بن بيوراسف الازدهاق على طرف دجلة بالجانب الغربي. والآن لها سور وفصيل وخندق عميق وقهندز، وحواليها بساتين. وهواؤها طيب في الربيع، أما في الصيف فأشبه شيء بالجحيم! فإن المدينة حجرية جصية تؤثر فيها حرارة الصيف، تبقى كالشاخورة، وخريفها كثير الحمى تكون سنة سليمة والأخرى موبئة، يموت فيها ما شاء الله. وشتاؤها كالزمهرير.
بها أبنية حسنة وقصور طيبة على طرف دجلة. وفي نفس المدينة مشهد جرجيس النبي، عليه السلام. وفي الجانب الشرقي منها تل التوبة، وهو التل الذي اجتمع عليه قوم يونس لما عاينوا العذاب، وتابوا وآمنوا فكشف الله تعالى عنهم العذاب. وعلى التل مشهد مقصود يقصده الناس كل ليلة جمعة وينذر له النذور.
وبها بساتين نزهة. وفيها جواسق في غاية الحسن والطيب. وأهل الموصل
انتفعوا بدجلة انتفاعاً كثيراً مثل شق القناة منها، ونصب النواعير على الماء يديرها الماء بنفسه، ونصب العربات وهي الطواحين التي يديرها الماء في وسط دجلة في سفينة، وتنقل من موضع إلى موضع، وفي الجانب الشرقي عند انتقاص الماء يبقى على طرف دجلة ضحضاح على أرض ذات حصباء، يتخذ الناس عليها سرراً وقباباً من القصب في وسط الماء، يسمونها السواريق ويبيتون فيها ليالي الصيف. يكون هواؤها في غاية الطيب، وإذا نقص الماء وظهرت الأرض زرعوا بها القثاء والخيار، فتكون حول القباب مقثاة ويبقى ذلك إلى أول الشتاء.
وأهلها أهل الخير والمروءة والطباع اللطيفة في المعاشرة والظرافة، والتدقيق في الصناعات، وما فيهم إلا من يحب المختطين؛ قال الشاعر:
كتب العذار على صحيفة خدّه
…
سطراً يلوح لناظر المتأمّل
بالغت في استخراجه فوجدته
…
لا رأي إلاّ رأي أهل الموصل
ينسب إليها جمال الدين الموصلي. كان من كرام الدنيا، أصله من أصفهان. توزر من صاحب الموصل، وكان يعطي أكثر من عبر الموصل، فعرف الناس أن عنده الكيمياء، وكل من سأله أعطاه. وحكي أن رجلاً صوفياً قال له: أنت الجمال الموصلي؟ قال: نعم. قال: اعطني شيئاً! قال له: سل ما شئت. فنزع طرطوره وقال: املأ هذا دراهم! فقال: اتركه عندي وارجع غداً خذه! فتركه عنده، فلما عاد أعطاه إياه مملوءاً من الدراهم، فأخذه وخرج ثم عاد وقال: ما لي إلى هذا حاجة، وإنما أردت أن أجربك هل أنت أهل لهذه الصنعة أم لا، فعرفت أنك أهل، وأنت ما تعرف إلا عمل الفضة، أريد أن أعلمك عمل الذهب أيضاً. فعلمه وذهب.
وحكي انه استأذن من الخليفة أن يلبس الكعبة في بعض السنين، فأذن له فأخذ للكعبة لباساً أخضر، ونثر على الكعبة مالاً كثيراً، وأعطى أهل مكة وضعفاء الحاج أموالاً وسار ذكره. في الآفاق.
وحكي أنه كان بينه وبين بعض الأمراء صداقة، فتعاهدا على أن من مات منهما أولاً فصاحبه يحمله إلى البقيع، فمات الجمال الموصلي أولاً في سنة خمسين وخمسمائة. فاشترى ذلك الأمير جمالاً كثيرة. وعين قوماً من الصلحاء وأقواماً من المقرئين، وأموالاً للصدقة عنه في كل منزل، وقال: الجمال الموصلي لا يبعث إلى البقيع إلا هكذا. ودفنه بالبقيع بهذا الاحترام.
وينسب إليها الشيخ كمال الدين بن يونس. كان جامعاً لفنون العلوم عديم النظير في زمانه، في أي فن باحثته فكأنه صاحب ذلك الفن من المنقول والمعقول. وأما فن الرياضيات فكان فيه منفرداً. ومن عجيب ما رأيت منه أن الفرنج في زمن الملك الكامل بعثوا إلى الشام مسائل ارادوا جوابها: منها طبية، ومنها حكمية، ومنها رياضية. أما الطبية والحكمية فأجاب عنها أهل الشام، والهندسية عجزوا عنها. والملك الكامل أراد أن يبعث جواب الكل، فبعثوا إلى الموصل إلى المفضل ابن عمر الأبهري أستاذنا، وكان عديم النظير في علم الهندسة، فأشكل الجواب عليه، فعرضه على الشيخ ابن يونس، فتفكر فيه وأجاب عنه، والمسألة هذه نريد أن تبين قوساً أخرجنا لها وتراً، والوتر أخرج من الدائرة عملنا عليه مربعاً، تكون مساحة المقوس كمساحة المربع، هذه صورتها: فكتب برهانه المفضل وجعله رسالة بعث بها إلى الشام إلى الملك الكامل، فلما مشيت إلى الشام رأيت فضلاء الشام يتعجبون من تلك الرسالة، ويثنون على استخراج ذلك البرهان، فإنه كان نادر الزمان.
وينسب إليها الشيخ فتح الموصلي. كان الغالب عليه الخوف والبكاء، وفي أكثر أوقاته كان باكياً. فلما توفي رئي في المنام، قيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه وقال: ما الذي أبكاك؟ فقلت: يا رب الخجالة من ذنوبي! فقال: وعزتي وجلالي، أمرت ملك الذنوب أن لا يكتب عليك أربعين سنة لبكائك من هيبتي!