الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قزوين
مدينة كبيرة مشهورة عامرة في فضاء من الأرض، طيبة التربة واسعة الرقعة كثيرة البساتين والأشجار نزهة النواحي والأقطار، بنيت على وضع حسن لم يبن شيء من المدن مثلها. وهي مدينتان: إحداهما في وسط الأخرى، والمدينة الصغرى تسمى شهرستان، لها سور وأبواب، والمدينة الكبيرة المحيطة بها. ولها أيضاً سور وأبواب، والكروم والبساتين محيطة بالمدينة العظمى من جميع الجوانب، والمزارع محيطة بالبساتين، ولها واديان: أحدهما وادي درج والآخر وادي اترك، وهذه صورتها:
قال ابن الفقيه: أول من استحدث قزوين شابور ذو الأكتاف، وبناء شابور في زماننا هذا يسمى شهرستان. فلما اجتاز الرشيد بأرض الجبال قاصداً خراسان اعترضه أهل قزوين، وأخبروه بمكانهم من أرض الديلم، فسار إلى قزوين وبنى سور المدينة العظمى وجامعها سنة أربع وخمسين ومائتين. وأول من فتحها البراء ابن عازب الأنصاري، وقد وقع النفير وقت كان الرشيد بها، فرأى أهلها أغلقوا حوانيتهم وأخذوا أسلحتهم وخرجوا إلى وجه العدو مسرعين، فأشفق عليهم وبنى لهم السور، وحط عنهم خراجهم جاعلاً إياه عشرة آلاف دينار في كل سنة، وقد ورد في فضائل قزوين أحاديث كثيرة تتضمن الحث على المقام بها لكونها ثغراً. منها ما رواه علي بن أبي طالب، عليه السلام، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: عليكم بالإسكندرية أو بقزوين فإنهما ستفتحان على يد أمتي، وإنهما بابان من أبواب الجنة، من رابط فيهما أو في إحداهما ليلة خرج عن ذنوبه كيوم ولدته أمه! وعن سعيد بن المسيب مرفوعاً عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: سادات الشهداء شهداء قزوين! وأمثال هذه كثيرة.
وبين قزوين وبين الديلم جبل كان ملوك الفرس يجعلون عليه رابطة إذا لم يكن بينهم هدنة، وذلك الجبل هو الحاجز بين القزاونة والإسماعيلية، أحد جانبيه لهؤلاء والجانب الآخر لهؤلاء.
وبها مواضع يرجى فيها إجابة الدعاء، منها مسجد شالكان ومسجد شهرستانك ومسجد دهك ومسجد باب المشبك الملصق بالسور، فإنها مواضع يأتيها الابدال. ومن عجائبها مقصورة الجامع التي بناها الأمير الزاهد خمارتاش، مولى عماد الدولة صاحب قزوين، فإن قبتها في غاية الارتفاع على شكل بطيخ، ليس مثلها في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر أكبر منها، ولا أحسن عمارة. وحكي أن الصناع لما رفعوا قواعدها وأرادوا انضمام رأسها عجزوا عن ذلك لفرط سعتها وعمقها فلم يكن شيء من الاجذاع والسلاليم يفي بها، فوقفت العمارة حتى مر بها صبي وقال: لو ملؤوها تبناً يمكنهم إتمامها! فتعجب الصناع من حذقه
وقالوا: لا طريق لها إلا ما ذكره الصبي! فملؤوها تبناً وتمموها.
ومن عجائبها أمر باغاتها، فإنها لا تشرب في السنة إلا مرة واحدة وتأتي بفواكه غضة طرية، وربما لا تشرب في السنة وتأتي بعنب ضعيف.
ومن عجائبها مقابر اليهود، فإنها فضاء واسع ليس بها آثار القبور، فإذا وجعت بطون دوابهم قادوها إليها وذهبوا بها في ذلك الفضاء يمنة ويسرة، فإنه يزول وجعها.
ومن عجائبها سوق الخيل بموضع يسمى رستق الشعير. ذكروا أن كل فرس يحمل إليه للبيع، فإن كان به حران يظهر في الحال.
ومن عجائبها مقبرة باب المشبك، فإنها مقبرة شريفة بها قبور العلماء والشهداء والصلحاء والزهاد. يأتيها الناس ليلة الجمعة فيرون بها أنواراً عجيبة تصعد من القبور وتنزل فيها، وهذا أمر ظاهر يراه كل من يمشي إليها صالحاً أو طالحاً. ولقد رأيت في بعض الليالي عجيباً، وهو انه قد طلع من بعض القبور كرة قدر إبريق، وصعدت نحو الهواء أكثر من غلوة سهم وأضاءت الجوانب من نورها، ورآها غيري خلق كثير شرعوا في التكبير والتهليل، وما كانت على لون النار بل كانت على لون القمر ضارباً على الخضرة ثم عادت إلى مكانها.
ينسب إليها الشيخ أبو بكر المعروف بشابان. كان شيخاً عظيم الشأن يأتيه الابدال. كان له كرم وقطعة أرض وبقرة: ويزرع قطعة الأرض حنطة، ويأخذ عنب الكرم ولبن البقرة وانها شيء يسير يضيف بها من زاره. استشهد على يد الفداية يوم الجمعة في جامع دمشق بعد الصلاة في ازدحام الناس سنة إحدى وستمائة عن اثنتين وتسعين سنة.
وينسب إليها أبو حاتم محمود بن الحسن القزويني. كان فقيهاً أصولياً، وكان من أصحاب القاضي أبي الطيب طاهر الطبري، له كتاب في حيل الفقه مشهور. وكان من أولاد أنس بن مالك وابن عمي.
وينسب إليها الشيخ أبو القاسم بن هبة الله الكموني. كان عالماً عابداً ورعاً من
أولاد أنس بن مالك. حكي انه جاء في زماه وال إلى قزوين، وبقزوين واديا ماء وهما من السيل، وسقي كروم أهل قزوين من هذين الواديين وهما مباحان، فأراد هذا الوالي أن يجعل عليهما خراجاً، فشكا أهل قزوين إلى الشيخ، فذهب الشيخ إلى دار الوالي وقال لحاجبه: إن هذا الماء لم يزل مباحاً لا يحل بيعه، وأصحاب هذه الكروم أرامل وأيتام، والكروم ضعيفة لها في السنة سقية واحدة، حاصلها لا يفي بمال الخراج. فدخل الحاجب على الملك وقال: ههنا شيخ ما يخلي ان هذا الأمر يتمشى! فغضب الملك وسل سيفه وخرج بسيفه المسلول وقال: من الذي يمنع من بيع هذا الماء؟ فقام الشيخ وقال: أنا! فعاد الملك إلى داخل وقال: افعلوا ما يقول هذا الشيخ! فإنه لما قام رأيت على يمينه ويساره ثعبانين يقصدانني! فبطل ذلك العزم وذاك الماء مباح إلى الآن. وهذا الشيخ جدي الخامس.
وينسب إليها أبو محمد بن أحمد النجار. كان عالماً فاضلاً أديباً فقيهاً أصولياً ذا فهم مستقيم وذهن وقاد، وكان عديم المثل في زمانه مع كثرة فضلاء قزوين. كان أبوه نجاراً وهو أيضاً كان بالغاً في صنعة النجارة، وصاحب قزوين كان يرى له، وبنوا له بقزوين مدرسة وأصابه في آخر عمره الفالج. وله تصانيف كثيرة كلها حسن. وحكي أن صاحب قزوين أخذ قاصداً من الباطنية ومعه كتاب، فلما فتحوا كان الكتاب أبيض، فأخبر الشيخ أبو محمد عن ذلك، فأمر أن يعرض على النار، فلما عرضوه على النار ظهر عليه كتابة كتبوها إلى رجل من أهل قها، وطلبوا منه الإبل والحمام. وقها ناحية من أعمال الري. فقال الملك: الإشكال بعد بحاله لأنه ليس بقها الإبل ولا الحمام! فقال الشيخ أبو محمد: طلبوا القسي والنبال. فقيل له: من أين قلت؟ فقال: أما سمعتم تشبيه الإبل بالقسي في قوله:
حوصٌ كأشباح الحنايا ضمّر
وتشبيه النبل بالحمام في قوله:
وإذا رمت ترمي تموّت طائر
وينسب إليها الشيخ أبو القاسم محمد بن عبد الكريم الرافعي. كان عالماً فاضلاً ورعاً بالغاً في النقليات كالتفسير والحديث والفقه والأدب. وله تصانيف كثيرة كلها حسن. كان يعقد مجلس العلم في جامع قزوين كل يوم بعد العصر، ويحضر عنده أكثر من مائتي نفس يذكر لهم تفسير القرآن. ومن عجيب أحواله انه جاء ذات يوم على عادته، فلما فرغ من وظيفته بكى وقال: يا قوم قد وقعت لي واقعة ما وقعت لي مثلها، عاونوني بالهمة! فضاقت صدور القوم وسأل بعضهم بعضاً عن الواقعة فقالوا: ان تاجراً أودع عنده خمسمائة دينار وغاب مدة طويلة، والآن قد جاء وطلبها، فذهب الشيخ إلى مكان الوديعة ما وجدها، والذي أخذها أمين لطول المدة، فيخبر القوم حتى قال أحدهم: ان امرأة ضعيفة كانت خدامة لبيت الشيخ، والآن ترى حالها أحسن مما كانت. فطلبوا منها فوجدوا عندها، فجاء الشيخ في اليوم الثاني وأخبر القوم بأن همتهم أثرت والواقعة اندفعت.
وحكي أن وزير خوارزمشاه كان معتقداً فيه، فقبل يده فقال له الشيخ: قبلت يداً كتبت كذا وكذا مجلداً تصنيفاً! فوقع من الدابة وانكسرت يمناه، وكان يقول: مدحت يدي فأبلاني الله تعالى بها! توفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة عن نيف وستين سنة.
وينسب إليها الشيخ أبو علي حسنويه بن أحمد بن حسنويه الزبيري، الملقب بمعين الدين. كان شيخاً معتبراً من أعيان قزوين. ومن أعجب ما روي عنه أن أحداً إذا أصابه مس من الجن هو يحضر الجن ويشفع إليهم ويخلونه.
وينسب إليها الشجاع باك باز. كان صاحب آيات وعجائب، وكان ذا هيبة. من رآه يمتليء من هيبته، وكان الملك والفقير عنده سواء، يخاطب هذا كما يخاطب
ذاك. وإذا رأى أحداً يقول: معك دنانير وزنها كذا، اخرجها للفقراء! فيخرجها فيكون كما قال.
وحكي انه طلب يوماً من رجل تاجر شيئاً، وكان الرجل حنفياً معتزلياً لا يقول بكرامات الأولياء، فتخاشن في الجواب فحرد وشتم، فقال له: المال الذي مع ابنك في السفر وقع عليه اللصوص الآن وأخذوه! فازداد الرجل غيظاً وشتماً. قال: وابنك قد قتل على يد الحرامية! فأرخوا ذلك فجاء الخبر بأخذ المال وقتل ابنه.
وحكي انه كان في رباط اربل، فجاء الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي إلى اربل، فاستقبله أهل اربل فجاء إلى الرباط ودخل بين الجماعة، ووقف على المصلى يصلي ركعتين والخف في رجليه. فلما رأى باك باز ذلك قال: أيها الشيخ، كيف تقف مع الخف على مصلى المشايخ؟ أليس هؤلاء القوم إذا رأوا منك ذلك اعتقدوا أنه جائز في الطريقة؟ فوثب عليه الصوفية وهم تلامذة الشيخ وأسبغوه ضرباً ومدوه برجله إلى خارج الرباط. فلما عرف الشيخ ذلك أنكر على الصوفية وقال: انه كان على الصواب، مروا إليه واعتذروا منه! فمروا إليه فإذا هو قاعد في السوق على دكة، فاعتذروا مستغفرين فقال: ما جرى شيء يحتاج إلى العذر، وإن جرى فأنتم في أوسع الحال. فقالوا: ارجع إلى الباط إن أنت راض. فقال: إني كنت على عزم السفر وتوقفي لإصلاح هذا المثقل لمداسي، وإذا فرغ منه لبست وسافرت!
فعاد القوم إلى الرباط فعرف الحال الملك، فأمر شيخ الرباط مع جميع الصوفية بالمشي إليه معتذرين، فذهبوا وما أجابهم، فقال الملك: أنا أمشي! فركب وجاء إلى السوق، وهو قاعد على دكة والمثقل يعمل في نعله، فقال: إني قد جئت شفيعاً، فاسلك مع القوم مسلك التصوف وعد إلى المكان راضياً منافساً! فقال: لا أرجع حتى تفعل ما أريده. فقال الملك: ما تريد؟ قال: أريد ثلاثمائة دينار! قال: لك ذلك! قال: احضره الآن! فأحضره وقال: أريد جوقتين من المغنين.