الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأهلها أهل الخير والصلاح في الدين والعلم والسماحة، فإن الناس في أكثر ما وراء النهر كأنهم في دار واحدة، وما ينزل أحد بأحد إلا كأنه نزل بدار نفسه من غريب وبلدي. وهمة كل امريء منهم على الجود والسماح فيما ملكت يده من غير سابقة معرفة أو توقع مكافأة.
حكى الاصطخري انه نزل منزلاً بالصغد، فرأى داراً ضربت الأوتاد على بابها، فقالوا: إن ذلك الباب لم يغلق منذ زيادة على مائة سنة، ولم يمنع من دخوله واصل ليلاً ولا نهاراً! والغالب عليهم بناء الرباطات وعمارة الطرق، والوقف على سبيل الجهاد وأهل العلم، وليس بها قرية ولا منهل ولا مفازة إلا وبها من الرباطات ما يفضل عن نزول من طرقه. وقال: بلغني أن بما وراء النهر أكثر من عشرة آلاف رباط، في أكثرها إذا نزل الناس به طعام لهم وعلف لدوابهم إن احتاجوا.
وجميع ما وراء النهر ثغر من حدود خوارزم إلى اسبيجاب، وهناك الترك الغزية من اسبيجاب إلى فرغانة الترك الخلخية، ولم يزل ما وراء النهر على هذه الصفة إلى أن ملكها خوارزم شاه محمد بن تكش سنة ستمائة، وطرد الخطاة عنها وقتل ملوك ما وراء النهر المعروفين بالخانية، وكان في كل قطر ملك يحفظ جانبه، فلما استولى على جميع النواحي عجز عن ضبطها، فسلط عليها عساكره حتى نهبوها وأجلى الناس عنها، فبقيت تلك الديار التي وصفت بالجنان لحسنها خاوية على عروشها، ومياهها مندفقة معطلة، وقد ورد عقيب ذلك عساكر التتر في سنة سبع عشرة وستمائة وخربوا بقاياها. والآن بقي بعض ما كان عليها. فسبحان من لا يعتريه التغير والزوال، وكل شيء سواه يتغير من حال إلى حال!
مدينة النحاس
ويقال لها أيضاً مدينة الصفر. لها قصة عجيبة مخالفة للعادة جداً، ولكني رأيت جماعة كتبوها في كتب معدودة كتبتها أيضاً ومع ذلك فإنها مدينة
مشهورة الذكر.
قال ابن الفقيه: ذهب العلماء الأقدمون إلى أن مدينة النحاس بناها ذو القرنين وأودعها كنوزه وطلسمها، فلا يقف عليها أحد، وجعل في داخلها حجر البهتة وهو مغناطيس الناس، فإن الإنسان إذا وقف حذاءه جذبه كما يجذب المغناطيس الحديد، ولا ينفصل عنه حتى يموت، وانه في مفاوز الأندلس.
ولما بلغ عبد الملك بن مروان خبر مدينة النحاس وخبر ما فيها من الكنوز، وان إلى جانبها بحيرة فيها كنوز كثيرة وأموال عظيمة، كتب إلى موسى بن نصير عامل المغرب، وأمره بالمصير إليه والحرص على دخولها، وان يعرفه حالها، ودفع الكتاب إلى طالب بن مدرك، فحمله إلى موسى وهو بالقيروان، فلما قرأه تجهز وسار في ألف فارس نحوها، فلما رجع كتب إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله الأمير صلاحاً يبلغ به خير الدنيا والآخرة. أخبرك يا أمير المؤمنين أني تجهزت لأربعة أشهر وسرت في مفاوز الأندلس، ومعي ألف رجل، حتى أوغلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست، وعفت فيها الآثار وانقطعت عنها الأخبار، فسرت ثلاثة وأربعين يوماً أحاول مدينة لم ير الراؤون مثلها، ولم يسمع السامعون بنظيرها. فلاح لنا بريق شرفها من مسيرة ثلاثة أيام، فأفزعنا منظرها الهائل وامتلأت قلوبنا رعباً من عظمها وبعد أقطارها. فلما قربنا منها إذا أمرها عجيب ومنظرها هائل، فنزلنا عند ركنها الشرقي ثم وجهت رجلاً من أصحابي في مائة فارس وأمرته أن يدور حول سورها ليعرف بابها، فغاب عنا يومين ثم وافى اليوم الثالث فأخبرني انه ما وجد لها باباً ولا أرى إليها مسلكاً، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها على بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها، فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه، فأمرت عند ذلك باتخاذ السلالم وشد بعضها إلى بعض بالحبال، ونصبتها إلى الحائط، وجعلت لمن يصعد إليها ويأتيني بخبر ما فيها عشرة آلاف درهم، فانتدب لذلك رجل من أصحابي يتسنم ويقرأ ويتعوذ. فلما صار على سورها
وأشرف على ما فيها قهقه ضاحكاً ونزل إليها، فناديناه أن أخبرنا بما فيها وبما رأيته فلم يجبنا. فجعلت لمن يصعد ويأتيني بخبر ما فيها وخبر الرجل ألف دينار، فانتدب رجل من حمير وأخذ الدنانير ثم صعد. فلما استوى على السور قهقه ضاحكاً ثم نزل إليها، فناديناه أن أخبرنا بما ترى فلم يجبنا. فصعد ثالث وكان حاله مثل حال الرجلين، فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود، فلما أيست عنها رحلت نحو البحيرة وسرت مع سور المدينة، فانتهيت إلى مكان من السور فيه كتابة بالحميرية فأمرت بانتساخها فكانت:
ليعلم المرء ذو العزّ المنيع ومن
…
يرجو الخلود وما حيٌّ بمخلود!
لو انّ حيّاً ينال الخلد في مهلٍ
…
لنال ذاك سليمان بن داود
سالت له العين عين القطر فائضةً
…
فيه عطاءٌ جزيلٌ غير مصرود
وقال للجنّ أنشوا فيه لي أثراً
…
يبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يودي
فصيّروه صفاحاً ثمّ ميل به
…
إلى البناء بإحكامٍ وتجويد
وأفرغوا القطر فوق السّور منحدراً
…
فصار صلباً شديداً مثل صيخود
وصبّ فيه كنوز الأرض قاطبةً
…
وسوف تظهر يوماً غير محدود
لم يبق من بعدها في الأرض سابغةً
…
حتى تضمّن رمساً بطن أخدود
وصار في قعر بطن الأرض مضطجعاً
…
مضمّناً بطوابيق الجلاميد
هذا ليعلم أنّ الملك منقطعٌ
…
إلاّ من الله ذي التقوى وذي الجود
قال: ثم سرت حتى وافيت البحيرة عند غروب الشمس، فإذا هي مقدار ميل في ميل، كثيرة الأموج، فإذا رجل قائم فوق الماء فناديناه: من أنت؟ فقال: أنا رجل من الجن! كان سليمان بن داود حبسه والذي في هذه البحيرة. فأتيته لأنظر ما حاله، قلنا له: فما بالك قائماً فوق الماء؟ قال: سمعت صوتاً فظننته صوت رجل يأتي هذه البحيرة في كل عام مرةً، وهذا أوان مجيئه، فيصلي
على شاطئها أياماً، ويهلل الله ويمجده. قلنا: من تظنه؟ قال: أظنه الخضر، عليه السلام. فغاب عنا فلم ندر كيف أخذ. قال: وكنت أخرجت معي عدة من الغواصين فغاصوا في الماء، فرأوا حباً من صفر مطبقاً رأسه مختوماً برصاص، فأمرت به ففتح، فخرج منه رحل من صفر على فرس بيده رمح مطرد من صفر، فطار في الهواء وهو يقول: يا نبي الله لا أعود! ثم غاصوا ثانية وثالثة فأخرجوا مثل هذا، فضجوا خوفاً من قطع الزاد. فأخذت الطريق التي سلكتها أولاً حتى عدت إلى قيروان، والحمد لله الذي حفظ لأمير المؤمنين أموره وسلم له جنوده والسلام.
قال: فلما قرأ عبد الملك كتاب موسى، وكان عنده الزهري، قال له: ما تظن بأولئك الذين صعدوا السور؟ قال الزهري: يا أمير المؤمنين لأن لتلك المدينة جناً قد وكلوا بها! قال: فمن أولئك الذين يخرجون من الحباب ويطيرون؟ قال: أولئك مردة الجن الذين حبسهم سليمان بن داود، عليه السلام، في البحار؛ هذا ما رواه ابن الفقيه.
وقال أبو حامد الأندلسي: دور مدينة النحاس أربعون فرسخاً وعلو سورها خمسمائة ذراع فيما يقال. ولها كتاب مشهور في كتابها أن ذا القرنين بناها، والصحيح أن سليمان بن داود، عليه السلام، بناها. وليس لها باب ظاهر وأساسها راسخ، وان موسى بن نصير وصل إليها في جنوده، وبنى إلى جانب السور بناء عالياً متصلاً به، وجعل عليه سلماً من الخشب متصلاً بأعلى السور، وندب إليه من أعطاه مالاً كثيراً. وأن ذلك الرجل لما رأى داخل المدينة ضحك وألقى نفسه في داخل المدينة، وسمعوا من داخل المدينة أصواتاً هائلة، ثم ندب إليه آخر وأعطاه مالاً كثيراً وأخذ عليه العهد أن لا يدخل المدينة ويخبرهم بما يرى، فلما صعد وعاين المدينة ضحك وألقى نفسه فيها، وسمعوا من داخلها أصواتاً هائلة أيضاً، ثم ندب إليه رجلاً شجاعاً وشد في وسطه حبلاً قويا، فلما عاين المدينة ألقى نفسه فيها فجذبوه حتى انقطع الرجل من وسطه. فعلم أن