الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
أما بعد، فإن اهتمامي في موضوع تجلية شخصية الإنسان المسلم كلما أراد له الإسلام أن يكون، يعود إلى سنين لا تقل عن عشر، إثر ملاحظتي على كثير من المسلمين إفراطا في جانب وتفريطا في جانب آخر، أو اهتماما بأمور وتساهلا بأمور أخرى؛ كأن تجد الواحد منهم يحرص على الصلاة في الصف الأول، ولكنه قد لا يأبه للرائحة الكريهة تنبعث من فمه، أو تفوح من أردانه (1)، أو تجده طائعا لله مخبتا خاشعا، ولكنه مقصر في صلة رحمه. وقد تجده منصرفا إلى العبادة والعلم، ولكنه مقصر في تربية أولاده، غافل عما يقرأون ومن يرافقون، أو تجده معنيا بأولاده، ولكنه عاق لوالديه، قاس في معاملتهما. وقد تجده برا بوالديه، ولكنه يظلم زوجته ويسيء عشرتها، أو تجده خسن العشرة لزوجه وأولاده، ولكنه يسيء معاملة جاره، وقد تجده منصرفا إلى شؤونه الخاصة مهتما بما يعود عليه بالنفع، ولكنه مقصر في علاقاته الاجتماعية واهتمامه بأمر المسلمين، أو تجده متدينا صالحا، ولكنه يتساهل بآداب الإسلام في السلام أو الطعام والشراب ومجالسة الناس ومحادثتهم
…
ومن عجب أن تجد هذا النقص في بعض من يحسبون على الدعوة الإسلامية واتجاهها العملي المتميز الذي يكسب رجاله في الغالب حسا إسلاميا مرهفا، وفهما دقيقا لأحكام الإسلام وآدابه وقيمه، وانصياعا صادقا
(1) أي أكمامه.
لهديه القويم، ولكنه الآنشغال أو الغفلة أو اللامبالاة، توقع بعض الإسلاميين في مثل هذه الهنات والمخالفات من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
ودفعني اهتمامي بتجلية شخصية المسلم كما أراد لها الإسلام أن تكون إلى تتبع النصوص المتعلقة بالإنسان وتوجيهه وتكوينه، لأضع بين أيدي المسلمين، وخصوصا العاملين منهم، دراسة وافية شاملة تجلي تلك الشخصية، وتبرز ما تميزت به من صفات وعادات وأخلاق، لتكون نبراسا لأولئك المقصرين في بعض الجوانب، ليسموا بأنفسهم إلى المرتقى السامق الوضيء الذي أراده لهم دينهم الحق.
وهالني ما رأيت، لقد رأيت البون شاسعا، والمسافة بعيدة جدا بين ما أراده الإسلام للمسلمين، وما أرادوه هم لأنفسهم، إلا قليلا منهم، ممن صحت عقيدتهم، وحسن إسلامهم، وصفت قلوبهم، وسمت نفوسهم، ونشطت هممهم، فأقبلوا على دينهم بصدق وشغف وحرارة، ينهلون من نبعه الصافي النمير، ويزدادون كل يوم جديدا من هديه المتألق الألاء.
إن من يتاح له الاطلاع على هدي الله ورسوله للإنسان في مظانهما من كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدهش من غزارة النصوص واستيعابها وشمولها لكل صغيرة وكبيرة من قضايا الإنسان المتصلة بربه وبنفسه وبالناس من حوله، وكلها توجيه وتكوين وبناء لشخصية الإنسان المسلم في كل جانب من جوانبها، وتأهيل لها للحياة الفردية والاجتماعية المثلى.
ومن هنا يبدو الإنسان المسلم كما أرادت له هذه النصوص أن يكون، إنسانا اجتماعيا راقيا فذا، تضافرت على تكوينه هذا التكوين الفريد مجموعة من مكارم الأخلاق، نطقت بها آيات الكتاب الكريم وأحاديث السنة المطفرة، وجعلت التحلي بها دينا يحرص المرء عليه، ويبتغي به من ربه المثوبة والأجر.
ورحت أجمع تلك النصوص من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصنفها حسب أبوابها وموضوعاتها، حتى إذا تم لي هذا التصنيف اتضحت معالم البحث، وانتظمت في الأقسام التالية:
1 -
المسلم مع ربه.
2 -
المسلم مع نفسه.
3 -
المسلم مع والديه.
4 -
المسلم مع زوجته.
5 -
المسلم مع أولاده.
6 -
المسلم مع أقربائه وذوي رحمه.
7 -
المسلم مع جيرانه.
8 -
المسلم مع إخوانه وأصدقائه.
9 -
المسلم مع مجتمعه.
ولقد تبين لي من خلال مصاحبتي تلك النصوص، وتأملي ما تضمنته من هدي عال قويم، أن رحمة الله بعباده كانت كبيرة، إذ انتشلهم من وهدة الضلال، ورفعهم إلى علياء الهداية، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم رسالاته وشرائعه، ليبقى البشر دوما على المحجة البيضاء، لا يخبطون في ظلماء، ولا يتيهون في عماية، ولا تغم عليهم مسالك السبيل القصد.
وكم بدت لي حاجة الإنسان لنفحات الهداية والتربية والتأدب كبيرة، ليستطيع أن يمارس إنسانيته، ويقوم بالدور الكبير الذي عهد الله إليه أن يقوم به في هذه الحياة، إذ لولا تلك النفحات القدسية الهادية الراشدة لغلب على الإنسان الارتكاس في حمأة الأثرة والأنانية والإضرار بالناس، والتمرغ في وحل الضغينة والحقد والاستغلال والسيطرة والظلم، وما إلى ذلك من ذميم العادة وسيء الأخلاق.
وإننا لواجدون مصداق ذلك في سلوك الطفل، إذ يقف بين يدي والديه، فيجهد نفسه في إثبات صلاحه واستقامة سلوكه وفضله على أخيه، ويحرص كل الحرص على تعرية أخيه من تلك الفضائل التي حلى جيده بها، وهو في ذلك يود أن يحقق ذاته، ويؤكد ميله الفطري إلى التغلب على أخيه والتفوق عليه في كل شيء.
وهذه الخليقة في الإنسان طبيعة فطرية، بها قوام الإنسان وصلاح أمر الدنيا، ما دامت سوية معتدلة؛ ذلك أنها تدفع الإنسان إلى استخراج أعمق وأحسن ما فيه من خير، وهو، إذ ينسب هذا الخير إلى ذاته، ينعم بشعور الرضا يغمر أرجاء نفسه، فيذا هو يندفع قذمأ إلى المزيد من العطاء.
على أن هذه الخليقة إذا تضخمت لدى المرء، وغالى الإنسان فيها، انقلبت إلى علة مرضية خطيرة كريهة، إذ يبرز الإنسان المصاب بها مغرورا دعيا، يتيه عجبا على أقرانه، وإنه لأبعد ما يكون عما يدعيه لنفسه من فضائل ومكرمات.
وهنا تبرز قيمة الدين والتربية والأخلاق في كبح جماح المريض بهذه العلة، والكفكفة من غلواء إعجابه بنفسه، وتسديد خطوه نحو الاعتدال والتعقل والتواضع.
والدين هو النبع الثر الدافق لكل فضيلة ومكرمة في هذه الحياة، وما احتوته مبادئ التربية ونصت عليه أصول الأخلاق، من قيم رفيعة، وعادات حسنة، وسلوك قويم، إنما تحدر إلى الإنسانية عبر القرون من ذلك المعين الإلهي المغدق الفياض.
والذي يبدو واضحا في حياة البشر أنهم أدنى إلى الهبوط والتفلت منهم
إلى الصعود والتماسك؛ إذ الهبوط دوما أسهل من الصعود، والتفلت أشهى
من التماسك، ولا بد من وازع يزعهم كلما رانت على قلوبهم الغفلة، وحادت بهم الأقدام عن الصراط المستقيم.
ومن هنا كان لزاما على أرباب الفكر وحملة الأقلام أن ينشطوا في تجلية قيم الدين الرفيعة، وعرضها سائغة ميسرة ذلولا للناس، ويبينوا لهم الصورة المشرقة الوضيئة السمحة التي أراد الله لعباده أن يتخلقوا بها في هذه الحياة، لتكون الحياة جميلة ممتعة هنيئة.
إن الله لم ينزل هذا الدين من فوق سبع سموات ليكون نظريات تستمتع العقول بمناقشتها، ولا ليكون كلاما مقدسا يتبرك الناس بتلاوته وهم لا يفقهون هديه ولا يدركون معانيه، وإنما أنزله الله ليحكم حياة الفرد، وينظم حياة الأسرة، ويقود حياة المجتمع، وليكون نورا يضيء طريق البشر، ويخرجهم من الظلمات إلى النور:
وفي ظلال هذه الهداية ينضر العيش، وتطيب الحياة، ويهنأ الأحياء، وأولى الخطوات نحو هذه الحياة الراشدة الهنيئة إيجاد الفرد المسلم الصادق الذي تتمثل فيه صورة الإسلام الوضيئة المشرقة، يراها الناس فيرون الإسلام، ويتعاملون معها فيزدادون إيمانا به وإقبالا عليه.
وهذا ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الدعوة، إذ كانت أولى خطواته في درب الإسلام الطويل أن يصنع رجالا يتجسد فيهم الإسلام، فإذا هم مصاحف تمشي على الأرض، انتشروا في أنحاء الدنيا، فرأى الناس فيهم
(1) المائدة: 15 - 16.
نماذج فريدة من البشر، يمثلون منهجا للحياة فريدا أيضا، فلما رأوا المنهج الفريد مجسدا في الفرد المؤمن الصادق أقبلوا يدخلون في دين الله أفواجا. والإنسانية اليوم، والمسلمون على وجه الخصوص، في أمس الحاجة إلى صنع هذا النموذج الفريد من البشر الذي لا تطيب الحياة إلا به، ولا تسود القيم الإنسانية الرفيعة إلا بوجوده، ولا تتجلى حقيقة الإسلام اللألاءة إلا فيه.
فما هي تلك الصورة الجميلة لهذا النموذج الإنساني الفريد؟ هذا ما يجد القارئ الجواب عنه في الصفحات التاليات.
والله أسأل أن يتقبل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به، ويجعله زادا لي يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
الرياض في 27 من جمادى الآخرة 1401 هـ
1 من أيار (مايو) 1981 م
محمد علي الهاشمي