الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عفو غفور:
والمسلم التقي المستجيب لهدي دينه عفو غفور، والعفو خلق إنساني عال، أشادت به النصوص القرآنية إشادة بالغة، وجعلت المتخلقين به من أرقى النماذج التقية في الإسلام، إذ أدخلهم في زمرة المحسنين الذين فازوا بمحبة الله ورضوانه:
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1)
ذلك أنهم كظموا غيظهم ولم يحقدوا ولم يضطغنوا، بل تحرروا من وقر الضغينة والحقد، وانطلقوا في آفاق العفو والمغفرة والصفح والتسامح، ففازوا بصفاء النفس وغبطتها ونقائها وراحتها، وبما هو أكبر من ذلك، فازوا بمحبة الله ورضوانه.
إن العفو والصفح والمسامحة مرتقى عال لا يستطيع بلوغه إلا الذين انفتحت مغاليق قلوبهم لهدي الإسلام، وانفعلت نفوسهم بأخلاقه السمحة، فآثروا ما عند الله من مغفرة وثواب وتكريم على ما هجست به من حب الانتصار والانتقام والانتصاف.
ولقد سلك القرآن الكريم أبرع أسلوب في دفع النفس الإنسانية إلى ذلك المرتقى العالي الصعب، إذ قرر أن الذي أصابه البغي له أن ينتصر لنفسه ويرد عنها البغي والعدوان، ذلك أن جزاء السيئة سيئة مثلها، ولكنه لم يدع الإنسان التي أصابه الحيف والبغي من أخيه لعاطفة التشفي والانتصار والانتقام، بل أخذ بيده برفق إلى مرتقى الصبر والغفران والتسامح، وأكد له أن بلوغ ذلك المرتقى من عزم الأمور:
(1) آل عمران: 134.
وحينما أجتاحت موجة الحزن نفس أبي بكر لما سمع من حديث الإفك، تلوكه بعض الألسنة الآثمة، فتنال من ابنته السيدة عائشة أم المؤنين، آلى على نفسه أن يقطع عونه عن أولئك الجاحدين للفضل ممن خاضوا في هذا الحديث الآثم، فتنزل توله تعالى فيه:
إن مجتمع المؤمنين لا تقوم المعاملة بين أفراده على المؤاخذة والمحاسبة والانتصار للذات والانتصاف لها في كل صغيرة وكبيرة، وإنما تقوم فيه المعاملة بين الأفراد على المسامحة والتغاضي والصفح والصبر، وهذا ما دعت إليه نصوص الإسلام، وحض عليه هديه العالي القويم:
إن السيئة إذا قوبلت دائما بالسيئة أوغرت الصدور، وأرثت الأحقاد، وأنبتت الضغائن. أما إذا قوبلت السيئة بالحسنة أطفأت أوار الغضب، وهدأت من فورة النفس، وغسلت أدران الضغينة، فإذا المتعاديان يصبحان صديقين
(1) الشورى: 40 - 44.
(2)
النور: 23.
(3)
فصلت: 34، 35.
حميمين، بكلمة طيبة، أو بسمة حانية من أحدهما، وإنه لفوز عظيم لمن دفع السيئة بالتي هي أحسن، لا يناله إلا ذو حظ عظيم، كما أشارت الآية الكريمة، بشيء من الصبر على السيئة التي ووجه بها، فصبر، وقابلها بالحسنة.
هذا هو خلق المؤمن في مجتمع المؤمنين، تضافرت الآيات الكريمة على تأصيله في نفوسهم، ومن هنا كانت تطلب من المؤمن في مثل هذه المواقف أن يكظم غيظه، ويعفو، ويصفح الصفح الجميل الذي لا يترك وراءه أثرا من حقد أو موجدة أو ضغينة:
{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (1).
ولا تقل الأحاديث الشريفة عن الآيات الكريمة احتفالا بهذا الخلق الإنساني النبيل، خلق العفو والتسامح، وحضا على تأصيله فى نفوس المسلمين، واصفة السلوك التطبيقي العالي لهذا الخلق الذي اتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدوة المسلمين وإمامهم ومربيهم، داعية إلى الاقتداء به والسير على هداه:
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى، فينتقم لله تعالى (2).
كان صلوات الله عليه يتمثل توجيه رب العزة له:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (3).
(1) الحجر: 85.
(2)
رواه مسلم.
(3)
الأعراف: 199.
ويتمثل قوته تعالى:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1).
فإذا هو آية فريدة من آيات الخلق الرباني، يسع الناس بخلقه العظيم، فلا يقابل إساءتهم بإساءة، بل يقابلها بخلق العفو والعرف والإعراض عن الجاهلين، ويدفعها بالتي هي أحسن:
فعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجبذه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفث إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء)) (2).
وبلغ من أصالة خلق العفو وعمقه في نفسه الشريفة أنه عفا عن المرأة اليهودية التي أهدت إليه شاة مسمومة، وذلك فيما رواه الشيخان وغيرهما أن امرأة يهودية أهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فاأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل رهط من أصحابه معه ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أمسكوا فإنها مسمومة)). وجيء بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها:((ما حملك على ما صنعت؟)) قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه، ولن تضرك. وإن لم تكن نبيا استرحنا منك. قالوا: ألا نقتلها؟ قال: ((لا))، وعفا عنها.
ولما عصت دوس، وأبت الإذعان لأمر الله صلى الله عليه وسلم رسوله، جاء الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسا قد عصت وأبت،
(1) فصلت: 34.
(2)
متفق عليه.