الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا)) (1).
وتقول السيدة عائشة:
((كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا (2)، يفهمه كل من يسمعه)) (3).
لا ينافق:
والمسلم الحق أبعد ما يكون عن النفاق والمداهنة والمجاملة المحرمة والمديح الكاذب؛ ذلك أن له من هدي دينه ما يعصمه من التردي في هذا المنزلق الخطير الذي يقع فيه كثير من الناس في هذا العصر، فيهوون من حيث لا يشعرون إلى قرار سحيق من النفاق المهلك الممقوت.
لقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صوى النجاة من هذا السقوط المريع في حمأة النفاق والمداهنة، إذ قال لبني عامر الذين أقبلوا يمدحونه بقولهم: أنت سيدنا، فقال:((السيد الله))، وقالوا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال:((قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان (4). إني لا أريد أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله تعالى، أنا محمد بن عبد الله، عبده ورسوله)) (5).
(1) رواه البخاري.
(2)
أي بينا ظاهرا.
(3)
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(4)
لا يستجرينكم: من الجري، وهو الوكيل. تقول: استجريت جريا، أي اتخذت وكيلا. يقول: تكلموا بما يحضركم، ولا تتنطعوا، ولا تتكلفوا، كأنكم وكلاء الشيطان ورسله، كأنما تنطقون عن لسانه.
(5)
حياة الصحابة 3/ 99.
لقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق على المادحين أن يسترسلوا في كيل المديح للناس، وفيهم من لا يستحق المديح، حين نهى مادحيه عن وصفه بالسيادة والفضل والطول، وهو سيد المسلمين وأعظمهم وأفضلهم لا ريب، لأنه كان يعلم أن باب المديح إذا فتح على مصراعيه أدى إلى مزالق خطيرة من النفاق، لا تستسيغها روح الإسلام الصافية النقية البريئة، ولا يقبلها الحق الذي قام عليه هذا الدين. وكان ينهى الصحابة عن مدح الإنسان في وجهه، لئلا يستجر المادح إلى النفاق، ولكيلا تأخذ الممدوح نشوة التيه والاختيال والاستعلاء والإعجاب بالنفس.
أخرج الشيخان عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: أثنى رجل على رجل عند النبى صلى الله عليه وسلم، فقال:((ويلك! قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك)) ثلاثا. ثم قال: ((من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحدا، أحسب كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه)).
فالمديح إذا كان لا بد منه فينبغي أن يكون صادقا منطبقا على واقع الممدوح، وينبغي أن يكون معتدلا متحفظا لا غلو فيه ولا شطط ولا مغالاة، وبذلك وحده ينقى المجتمع من أوباء النفاق والكذب والمخاتلة والتزلف والرياء والمجاراة.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن رجاء عن محجن الأسلمي رضا الله عنه أن رسول الله ومحجنا كانا في المسجد، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي ويسجد ويركع، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((من هذا؟)) فأخذ محجن يطريه، ويقول: يا رسول الله هذا فلان، وهذا فلان، فقال:((أمسك، لا تسمعه، فتهلكه!)).
وفي رواية لأحمد: يا نبي الله، هذا فلان من أحسن أهل المدينة،
أو قال: أكثر أهل المدينة صلاة، قال:((لا تسمعه، فتهلكه- مرتين أو ثلاثا- إنكم أمة أريد بكم اليسر)).
لقد سمى الرسول الكريم إسماع المديح إهلاكا، لما له من آثار نفسية عميقة في النفس البشرية المجبولة على حب سماعه، فإذا الممدوح يتيه على الناس، ويشمخ بأنفه، ويصعر خده لهم، وإذا تكرر ذلك من المداحين المنافقين الكذبة الخداعين، وما أكثرهم حول المتنفذين وأصحاب المناصب والسلطات، صار ذلك عادة له، يلبي رغبة جياشة في نفسه، ومن هنا يكره سماع النصيحة والنقد، ولا يقبل إلا التقريظ والثناء والإشادة وحرق البخور، ولا عجب بعد ذلك إذا ضاع الحق، وقتل العدل، ووئدت الفضيلة، وفسد المجتمع.
ومن أجل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته أن يحثوا التراب في وجه المداحين، لكيلا يكثر سوادهم في المجتمع الإسلامي، وبكثرتهم يفشو النفاق، ويكثر التزلف، ويعم البلاء.
أخرج الشيخان وأحمد والترمذي من غير طريق أن رجلا قام يثني على
أمير من الأمراء، فجعل المقداد رضي الله عنه يحثو في وجهه التراب، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)).
ومن هنا كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يتحرجون من المديح يكيله لهم هؤلاء المداحون، مع أنهم أحق به وأهله، اتقاء مزالقه، وخشية هلكته، وتحليا بالخلق الإسلامي الأصيل البعيد عن هذه المظاهر الرخيصة الفارغة؛ فعن نافع رضي الله عنه وغيره أن رجلا قال لابن عمر رضي الله عنه: يا خير الناس! أو يابن خير الناس! فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس ولا