الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن المسلم الحق الصادق في نجوة من هذا كله، لأنه على اتصال دائم بالنبع الكريم الثر من توجيهات الإسلام العالية الحكيمة المسددة. إنه ليسمع هتاف الرسول صلى الله عليه وسلم به:
((أنت ومالك لأبيك)) (1).
فيهتز لهذا الأدب النبوي كيانه، وتتفتح لفيوض الهداية نفسه، فإذا هي تفيض بالبر والرعاية والحب والعطاء، وإذا هو في منجاة من العقوق وعصمة، وإذا هو حقا كما أراد له رسول الإسلام أن يكون: هو وماله لأبيه.
يبر أهل ودهما:
ولم تقتصر توجيهات هذا الدين الحنيف على بر الوالد، بل تعدتها إلى من يحب ويصفي الود. فعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه)). وفي رواية: ((إن من أبر البر صلة الرجل ود أبيه بعد أن يولي)) (2).
وصادف عبد الله بن عمر رضي الله عنه صديقا لوالده عمر رضي الله
(1) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد حسن. ونص الحديث: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا، وإن والدي يريد أن يجتاح مالي، فقال:((أنت ومالك لأبيك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم)). وفي رواية الإمام احمد: ((فكلوه هنيئا)). وقد علق الإمام الخطابي على هذا الحديث بقوله: ((معنى يجتاح مالي: يستأصله فيأتي عليه، ويشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده ماله، إنما هو بسب النفقة عليه، وأن مقدار ما يحتاج إليه للنفقة عليه شيء كثير لا يسعه عفو ماله والفضل منه، إلا أن يجتاح أصله ويأتي عليه، فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرخص له في ترك النفقة، وقال له: ((أنت ومالك لأبيك)) على معنى أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، وإذا لم يكن لك مال، وكان لك كسب، لزمك أن تكسب وتنفق عليه)).
(2)
رواه مسلم.
عنه، فبالغ في بره وإكرامه، فقال له بعض من معه: أما كان يكفيه أن يتصدق عليه بدرهمين؟ فقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((إحفظ ود أبيك، لا تقطعه فيطفىء الله نورك)) (1).
وسأل رجل النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما؟ قال:((نعم، خصال أربع: الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصحلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما)) (2).
إنها لأعلى مراتب الحب والوفاء والبر والإجلال للوالدين أن يصل الولد أصدقاءهما في حياتهما وبعد مماتهما. والمسلم الحق الصادق يوطد دوما أواصر المودة والصلة والصداقة بأهل ودهما، ويبقى على حبه لهم وإجلاله إياهم بعد أن يلقى والداه وجه ربهما، فلا ينسى ذلك الود القديم، ولا يغفل عن تلك الوشيجة الإنسانية النبيلة التي أحكم نسجها والداه الحبيبان. وبمثل هذه المشاعر الإنسانية العالية، وذلك الود النبيل الخالص تجمل الحياة، ويهنأ الأحياء. وهذا كله منوط بوجود المسلم الصادق في هذه الحياة.
إن الولد في الغرب لينفصل عن والديه متى بلغ سن الرشد، وتنفصل معه آصرة البنوة. فلا لقاء ولا رحمة ولا تعاطف مع أب أو أم. يسير الولد في طريقه، فلا يكاد يلتفت إلى الوراء يلقي نظرة ود ووفاء وإحسان إلى الجيل المضحي المدبر المردود إلى أرذل العمر، بعدما سكب عصارة عمره وقدم رحيق حياته لأبنائه المتفتحين للحياة. فأين هذا العقوق والجفاء والجفاف من الولد لوالديه في الغرب، من ذلك البر والمودة والوفاء والري العاطفي المتدفق من ابن الإسلام البار نحو والديه في حياتهما وبعد مماتهما، متصلا بأهل
(1) رواه مسلم.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد.