الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد سبق أن رأينا حض الإسلام على بر الوالدين، ولو كانا مشركين، وها نحن أولاء نرى حضه على بر ذوي القربى، ولو كانوا غير مسلمين أيضا، وهذا دليل على سماحة هذا الدين وإنسانيته، وليس هذا ببدع في دين، خاطب الله رسوله بقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) وقال رسوله: ((إنما بعثت لأتمم حسن الأخلاق)) (2).
يفهم صلة الرحم بمعناها الواسع:
وصلة الرحم عند المسلم الحق الواعي هدي دينه لا تكون ببذل المال فحسب، بل هي أعم من ذلك وأوسع، إنها تكون ببذل المال للعفاة (3) من ذوي القربى، وتكون بالزيارة التي توطد أواصر القرابة، وتوثق وشائج المحبة، وتمد في التواد والتراحم، وتكون بالتناصح كالعون والإيثار والإنصاف، وتكون بالكلمة الطيبة، والوجه الطلق، واللقاء الحسن، والابتسامة الودود، وتكون في غير ذلك من أعمال الخير التي تفجر ينابيع الحب في القلوب، وتبسط رواق الألفة والتراحم والتكافل على ذوي الرحم والقرابة، ولهذا جاء التوجيه النبوي العالي حاضا على هذه الصلة في أبسط أشكالها وأقلها كلفة ومؤونة بقوله:
((بلوا أرحامكم ولو بالإسلام)) (4).
يصل رحمه ولو لم يصلوه:
والمسلم الحق يصل ذوي رحمه، ولو لم يصلوه؛ ذلك أن واصل الرحم المبتغي بصلته هذه رضوان الله عز وجل، والتخلق بالخلق الإسلامي السامي
(1) الأنبياء: 107.
(2)
رواه الإمام مالك في الموطأ.
(3)
أي الفقراء.
(4)
رواه البزار عن ابن عباس، وطرقه يقوي بعضها بعضا.
لا ينتظر على صلته هذه أن يكافأ بمثل فعله، فهو واصل دوما لرحمه وذوي قرابته، وصلوه أم لم يصلوه، ضاربا بخلقه الإسلامي الإنساني الرفيع المثل الأعلى على صياغة الإسلام للإنسان، صياغة تجعله إنسانا راقيا ساميا، في تعامله مع أقربائه وذوي رحمه في جميع الأحوال. وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في المسلم الحق الصادق إذ قال:
((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) (1).
وجاء الهدي النبوي الكريم يعزز خلق الحلم والصبر والعفو والسماحة في نفس واصل الرحم الذي يصل قرابته، فلا يقابلونه إلا بالقطيعة والجفاء والإساءة، إذ قرر أن الله مع من يصل الرحم فلا يجازى على صلته بمثلها، ورسم صورة مخيفة للإثم الذي يلحق الجفاة المنكرين للمعروف المقطعين للأرحام، فقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال:
((لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل (2)، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) (3).
أرأيت إلى واصل الرحم الصابر على جفاء وقطيعة ذوي قرباه كيف أمده الله بظهير من عنده يعينه عليهم، ويملأ قلبه بالصبر على أذاهم، ويثبته على الاستمرار في خلقه الإنساني النبيل؟ وكيف شبه الرسول الكريم ما يلحق
(1) رواه البخاري.
(2)
أي الرماد الحار.
(3)
رواه مسلم.
أولئك العتاة الجفاة المسيئين من الإثم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، جزاء ما اقترفوه في حق هذا المحسن الكريم الودود من تقصير وإساءة وجفاء؟
من هنا كان المسلم الحق واصلا رحمه على كل حال، متطلعا دوما إلى مرضاة ربه في هذه الصلة، مترفعا أبدا عن الجهالات والحماقات والإساءات، تبدر بين الحين والحين من ذوي قرابته، معرضا عن الصغائر والتفاهات التي تشغل الصغار من الناس، وتوغر منهم الصدور. فالمسلم التقي الواعي أكبر من أن يصغي لهذه الجهالات والحماقات والصغائر والتفاهات، فتؤثر على علاقاته بذوي رحمه وبره بهم، وهو يسمع قول الرسول الكريم:
((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطغني قطعة الله)) (1).
(1) متفق عليه.