الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن المسلم المستشعر معاني هذه النصوص ليهتز فرقا من مسؤولية الكلمة التي تطير عنه؛ ولذلك تراه متحفظا دوما فيما يصدر عنه من قول، يزن أقواله، ويقلبها على وجوهها قبل التفوه بها؛ لأنه يعلم بما لقن من هدي دينه أن هذه الكلمة التى يطلقها قد ترفعه إلى مقام الرضوان من ربه، وقد تهوي به إلى درك سخطه عليه وغضبه منه، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلع ما بلغت، يكتب الله له بها سخطة إلى يوم القيامة)) (1).
فما أعظم مسؤولية الكلمة! وما أكبر الآثار المترتبة على ما تقذف به الألسنة الثرثارة من أقاويل!
إن المسلم التقي الناصع السريرة لا يستمع إلى هذر الناس، ولا يلقي بالا إلى ما يصدم سمعه من أقاويل وإشاعات وظنون. تموج بها مجتمعاتنا اليوم موجا. وبالتالي لا يرضى لنفسه أبدا أن يروي كل ما يسمع عن الناس من هذه الأقاويل والإشاعات والظنون، من غير تثبت وتيقن، بل إنه ليعد نقل كل ما يسمع وروايته لغيره قبل التثبت من صحته من الكذب المحرم الذي نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) (2).
حافظ للسر:
ومن صفات المسلم الحق أنه حافظ للسر، لا يفشي سرا ائتمنه عليه أحد. وحفظ السر دليل رجولة المرء، وقوة شخصيته، ومتانة خلقه، وهذا
(1) رواه مالك في الموطأ.
(2)
رواه مسلم.
ما كان عليه صفوة رجال الإسلام ونسائه، ممن ارتشفوا رحيق هدي النبوة، وتمثلته نفوسهم، فكان خلقا بارزا من أخلاقهم، وعادة حميدة من أجمل عاداتهم.
وموقف أبي بكر وعثمان من عمر حين عرض عليهما الزواج من ابنته حفصة بعد أن تأيمت (1)، وكتمانهما سر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، من أنصع الشواهد على تحلي الصحابة الأولين بفضيلة حفظ السر، وإصرارهم على التمسك بهذه الفضيلة.
يروي الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت بنته حفصة قال: ((لقيت عثمان بن عفان رضي الله عنه فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر. قال: سأنظر في أمرى. فلبثث ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر رضي الله عنه، فلم يرجع إلي شيئا، فكنت عليه أوجد (2) مني على عثمان. فلبثت ليالي. ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت (3) علي حين عرضت على حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ فقلت: نعم، قال فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها)).
ولم تقتصر فضيلة حفظ السر على الرجال من السلف، بل شملت
(1) أي توفي عنها زوجها.
(2)
أي أشد غضبا.
(3)
أي غضبت.
النساء والأطفال الذي عبوا من هدي الإسلام، واستنارت قلوبهم وعقولهم بنوره اللألاء، ونجد ذلك فيما يرويه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه،
قال:
((أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي. فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا. قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك به يا ثابت)) (1).
لقد رأت أم أنس ابنها حريصا على حفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعززت فيه هذا الحرص، إذ طلبت منه ألا يخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فلم يحدث به أحدا حتى التابعين ثابتا البناني الذي روى عنه الحديث، ولم يدفعها حب الاطلاع إلى استدراج ابنها الصغير، لتعرف ذلك السر الذي طواه عنها، وهذه هي تربية الإسلام، وهذا هو المستوى الرفيع الذي رفعت إليه الإنسان، رجلا كان أو امرأة أو طفلا.
إن إفشاء الأسرار لمن أسوأ العادات التي يبتلى بها الإنسان؛ ذلك أن ليس كل ما يعلم يقال في هذه الحياة، فهناك أمور تقضي الرجولة والمروءة والشرف والغيرة أن تبقى في طي الكتمان، وبخاصة إذا كانت هذه الأمور من متعلقات الحياة الزوجية. ولا ينشر مثل هذه الأمور على أسماع الناس إلا رجل في عقله لوثة من الجنون، أو في شخصيته ميوعة ودياثة وتفاهة. ومن هنا كان هذا الضرب من الرجال الثرثارين في زمرة الأشرار، بل من شر الناس عند الله، كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:
(1) رواه مسلم، وروى البخاري بعضه مخصرا. وثابت: هو التابعي الذي روى الحديث عن أنس.