الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم فضلهم على غير العالمين بقوله:
وجاء صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فقال له: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم، فقال:((مرحبا بطالب العلم، إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب)) (2).
والنصوص والشواهد على فضل العلم والترغيب في طلبه كثيرة. ومن هنا كان المسلم الحق عالما أو متعلما، وليس غير.
طلب العلم مستمر حتى الممات:
وليس التعلم الحق أن تحصل على شهادة عالية، تحقق لك المورد المالي الثر، وتضمن العيش الرضي الخفض، ثم تطوي كشحك عن المطالعة أو الاستزادة من كنوز المعرفة، بل التعلم الحق أن تستمر في مطالعاتك، وتزداد كل يوم علما، عملا بقوله تعالى:
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (3).
وقد كان سلفنا الصالح مهما عظمت منزلتهم العلمية لا يكفون عن الاستزادة من التعلم ومتابعة التحصيل حتى آخر العمر، ويرون أن العلم يحيا وينمو بالمتابعة، ويذبل ويجف بالهجر والآنقطاع، ولهم في ذلك أقوال رائعة تدل على احترامهم وتقديرهم للعلم، وحرصهم على متابعته، والنهل المستمر من مناهله العذبة.
(1) الزمر:9.
(2)
رواه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح.
(3)
طه: 113.
ومن هذه الأقوال الرائعة ما رواه الإمام ابن عبد البر عن ابن أبي غسان، قال:((لا تزال عالما ما كنت متعلما، فإذا استغنيت كنت جاهلا)) (1).
وقال الإمام مالك رضي الله عنه: لا ينبغي لأحد يكون عنده العلم أن يترك التعلم)) (2).
وقيل للإمام عبد الله بن المبارك: ((إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات، ولعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد)) (3).
وسئل الإمام أبو عمرو بن العلاء، فقيل له:((حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ فقال: ما دام تحسن به الحياة)) (4).
وما أجمل جواب الإمام سفيان بن عيينة حين قيل له: من أحوج الناس إلى
طلب العلم؟ فقال: ((أعلمهم، قيل: ولماذا؟ قال: لأن الخطأ منه أقبح)) (5). وهذا الإمام فخر الدين الرازي المفكر الكبير، ذو التصانيف الكثيرة، والمتفرد بالإمامة في عصره بعلم الكلام والمعقولات وغيرها من العلوم، المتوفى سنة 606، قد آتاه الله من الشهرة العلمية وبعد الصيت ما جعل العلماء يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب، في كل بلدة زارها أو مدينة دخلها. ولما ورد هذا الإمام مدينة مرو، توافدت عليه جموع العلماء والطلبة ليأخذوا عنه، ويعتزوا بالآنتساب إلى التلقي منه، وكان في جملة جموع الطلبة الذين يحضرون مجالسه طالب أديب عالم بالأنساب، لا يبلغ العشرين
(1) جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/ 96.
(2)
المصدر السابق.
(3)
المصدر السابق.
(4)
المصدر السابق.
(5)
المصدر السابق.
من العمر، فلما آنس الإمام فخر الدين الرازي من هذا الطالب تمكنه من علم الأنساب، وكان الإمام فخر الدين لا يحسن هذا العلم، طلب من تلميذه هذا أن يعلمه إياه، ولم يجد كضاضة من التتلمذ عليه، فأجلسه مجلس الأستاذ، وجلس هو بين يديه، فكان هذا وسام تواضع ورفعة ازدانت به سيرة الإمام فخر الدين الرازي، وما نقص ذلك من مقامه العظيم، وهو إمام عصره.
وقد روى هذه الواقعة النادرة المؤرخ الأديب ياقوت الحموي في كتابه ((معجم الأدباء)) في ترجمته عزيز الدين إسماعيل بن الحسن المروزي النسابة الحسيني، ولقد لقيه ياقوت وعاشره وصاحبه وترجم له ترجمة وافية، وقال في ترجمته:((حدثني عزيز الدين قال: ورد الإمام فخر الدين الرازي إلى مرو، وكان من جلالة القدر، وعظيم الذكر، وضخامة الهيبة، بحيث لا يراجع في كلامه، ولا يتنفس أحد بين يديه لإعظامه، على ما هو مشهور متعارف، فدخلت إليه، وترددت للقراءة عليه، فقال لي يوما: أحب أن تصنف لي كتابا لطيفا في أنساب الطالبيين لأنظر فيه، فلا أحب أن أكون جاهلا به، فقلت له: أتريده مشجرا (1) أم منثورا؟ فقال: المشجر لا ينضبط بالحفظ، وأنا أريد شيئا أحفظه، فقلت: السمع والطاعة. ومضيت، وصنفت له الكتاب الذي سميته بالفخري، وجئته به، فلما وقف عليه، نزل عن طراحته (2)، وجلس هو على الحصير، وقال لي: اجلس على هذه الطراحة، فأعظمت ذلك، وقلت له: أنا خادمك، فانتهرني نهرة مزعجة، وزعق علي، وقال: اجلس بحيث أقول لك، فتداخلني - علم الله- من هيبته ما لم أتمالك إلا أن جلست حيث أمرني. ثم أخذ يقرأ علي ذلك الكتاب، وهو جالس بين يدي، ويستفهمني عما يستغلق عليه إلى
(1) أي أن يكون كتاب الأنساب على هيئة شجرة.
(2)
أي وسادته التي كان يجلس عليها حين الدرس.