الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى إن عبد الله بن مسعود يقول:((والذي لا إله إلا هو ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رأيت أحدا أشد عليهم من بعده من أبي بكر، وإني لأظن عمر كان أشد أهل الأرض خوفا عليهم، أولهم)) (1).
لا يشمت بأحد:
والمسلم الحق بعيد أيضا عن الشماتة والزراية بالآخرين، لأن الشماتة خلق وضيغ مؤذ جارح، نهى عنه الإسلام، وحذر من الوقوع فيه، وذلك في الحديث الشريف القائل:
((لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمة الله ويبتليك)) (2).
إنه لا مكان للشماتة في نفس المسلم الحق الذي أشربت نفسه روح الإسلام وهديه، بل إن نفس المسلم لتحدب على المبتلى وترثي لحاله، وتسارع إلى التخفيف عنه، وكلها عطف عليه وألم لمصابه. وما تظهر الشماتة إلا في النفوس المريضة البعيدة عن روح الإسلام وهديه، والمنشأة على حب الانتقام والكيد والتربص والوقيعة والأذى.
كريم جواد:
والمسلم الحق المستنير بتعاليم دينه، القائم بتطبيقها على نفسه في صدق وإخلاص كريم جواد، يداه مبسوطتان، تهميان بالخير (3) الثر على أبناء مجتمعه، في شتى المناسبات والأحوال.
(1) رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات.
(2)
رواه الترمذي وقال حديث حسن صحح.
(3)
أي تمطران.
وهو، إذ ينفق، يبذل بسخاء المؤمن الواثق بأن عطاياه لا تضيع، إذ هي محفوظة لدى عليم خبير:
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (1).
وإنه ليؤمن أيضا، وهو يجود بماله، أن ما ينفقه سيعود عليه بالفائدة الجمة والخير العميم، وسيخلفه الله عليه أضعافا مضاعفة في الدنيا والآخرة:
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (3).
إن المسلم الصادق لينفق ماله، وهو على يقين أن الله تبارك وتعالى سيعوضه عما أنفقه من ماله في هذه الدنيا بركة ونماء وخلفا، وإذا ما غلبه شح نفسه وأمسك يده عن العطاء والبذل فسيبتليه ربه بماله نقصانا وضياعا وتلفا، وهذا ما صوره الحديث الشريف أوضح تصوير:
((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)) (5).
وفي الحديث القدسي:
(1) البقرة: 273.
(2)
البقرة: 261.
(3)
سبأ: 39.
(4)
البقرة: 272.
(5)
متفق عليه.
((أنفق يابن آدم ينفق عليك)) (1).
ولا يخالج نفس المسلم الواثق بربه شك أن ما ينفقه في سبيل الله لا ينقص من ماله شيئا؛ فالصدقة تنمي المال ولا تنقصه:
((ما نقصت صدقة من مال
…
)) (2).
أما ثوابه على ما أنفق ابتغاء وجه ربه، فيجل عن الوصف والتقدير بمضاعفة الله إياه أضعافا مضاعفة، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد المال الباقي حقيقة هو ما انفق في سبيل الله، وذلك في الحديث الذي ترويه السيدة عائشة عن ذبحهم شاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقي إلا كتفها، قال:((بقي كلها غير كتفها)) (3).
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على تأصيل فضيلة الكرم في نفوس المسلمين، وجعلها من الفضائل التي يتسابق المسلمون إلى التحلي بها والتنافس فيها، يشهد لذلك قوله:
((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته (4) في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) (5).
لقد سوى الرسول الكريم بين هلكته المال في الحق وبين الحكمة والقضاء بها وتعليمها، إذ قال: لا حسد، أي لا غبطة إلا في إحدى هاتين الخصلتين، لما في البذل في سبيل الحق من وقع كبير ونفع بالغ في حياة المسلمين الاجتماعية؛ فالمال عصب الحياة الحساس، وهلكته في سبيل
(1) متفق عليه.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ومعناه: أنها بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها.
(4)
أي إنفاقه.
(5)
متفق عليه.
الحق عمل عظيم، لا يقل عن عبقرية ذي الحكمة الموهوب، ونفعها للناس.
ومن هنا كان المسلم الواعي بصيرا في التصرف بماله بما يعود عليه بالخير والمثوبة والأجر، ولذلك تراه يقدمه للبذل الذي يضمن له المثوبة والأجر، دونما جور على ورثته بحرمانهم منه. ومن غير تقتير وإمساك عن البذل في وجوه الخير، وقوام ذلك كله الاعتدال والتوسط في الحالتين على هدي من الشريعة ومقاصدها الغراء، بحيث لا يكون توريث الثروة للأبناء أحب للرجل من البذل في سبيل الله، بل يكون المال المبذول في سبيل الله أحب إليه من المال المورث؛ لأن الأول هو ماله الباقي في صحيفة عمله، وهذا ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد
إلا ماله أحب إليه. قال: فإن ماله ما قدم (1)، ومال وارثه ما أخر)) (2).
إن الكرم من أفضل خلائق الإسلام ومن أحسن شمائل المسلم الاجتماعية، ومن هنا كان جواب الرسول الكريم للرجل الذي جاءه سائلا: أي الإسلام خير: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) (3).
على أن الكرم ما ينبغي أن يجمح بالمسلم إلى حد التفريط والإطاحة بالمال كله، بحيث لا يبقى منه شيء لورثته؛ فالأمور في الإسلام متوازنة متكاملة، لا يجور بعضها على بعض، فكما أن البذل في وجه الخير واجب أو فريضة، كذلك حفظ الذرية وصون كرامتهم من الابتذال والتكفف فريضة أو واجب؛ فقد سأل سعد بن أبي وقاص النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء يعوده في مرضه
(1) أي في وجوه الخير.
(2)
رواه البخاري.
(3)
متفق عليه.
الذي أشفى منه على الموت، فقال: يا رسول الله ان لي مالا كثيرا، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: الثلث؟ قال: ((الثلث، والثلث كثير)) ثم عقب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: ((إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك)) (1).
ولقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مثالا مجسدا للكرم المحض الأصيل ما عرف عنه أنه أمسك يده عن عطاء، ولا رد سائلا تعرض له بسؤال، يحكي ذلك عنه الصحابي جابر رضي الله عنه فيقول:
((ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط، فقال: لا)) (2).
كان صلوات الله عليه يدرك ما للمال من أثر في نفوس البشر. فيتخذه وسيلة لتأليف القلوب واستمالتها للإسلام، ولا يستكثر أن يبذل الكثير الكثير في سبيل كسب جديد إلى صف الدعوة، وإنه ليعلم أن هذا الذي تطلع إلى المال أول الأمر، سيأخذه الإسلام متى دخل في غمار هديه، فيجعله من أشد الناس إيمانا، ومن أحسنهم إسلاما، وهذا ما يحدثنا به الصحابي الجليل أنس بن مالك إذ يقول:
((ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا! فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها)) (3).
(1) رواه البخاري وغيره.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه مسلم.
من هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبذل كل ما تصل إليه يده، فيوزعه على الناس، لا يذخر منه شيئا لنفسه، ولا لآله. حسبه أن يرد الخير على مستحقيه، يفتح به مغاليق القلوب الصلدة، ويؤصل في النفوس خليقة الكرم، بضربه المثل الأعلى فيه؛ فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه قال: بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفله من حنين (1)، فعلقه الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة (2) فخطفت رداءه، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه (3) نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا)) (4).
إن هذا النمط العالي من الكرم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو المثل الأعلى للكرم الخالص البعيد عن الغايات والمطامع والشبهات، حققه الرسول الكريم في واقع الحياة، ليكون مثالا للإنسانية، تحاول الارتفاع إليه، وإنه ليؤكد استعداد الإنسان للصعود في مدارجه، وقدرته على بلوغ مستويات رفيعة فيه، متى تألقت حقيقة الإيمان الكبرى في نفسه، ومن هنا يزداد الإنسان كرما كلما ازداد من الله قربا. وكلما استشعر ما أعده الله من نعيم للكرماء الأسخياء الباذلين في سبيله ازداد سخاء وبذلا، وكلما قويت صلته بالله ازداد شعوره بثمرات الكرم عمقا، وزاد عطاؤه امتدادا وسعة. وهذا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل في رمضان، فقد كانت نسبة الكرم في حياة الرسول الكريم ترتفع في هذا الشهر المبارك، بفعل هذه الصلة المتكررة بالملأ الأعلى؛ إذ كان يلقاه جبريل في كل ليلة من ليالي رمضان، فيترع نفسه
(1) أي حين رجوعه منها.
(2)
أي شجرة.
(3)
العضاة: شجر له شوك.
(4)
رواه البخاري.
الشريفة بمعاني الخير، ويزيدها فضلا على فضل، وسماحة على سماحة، وجودا على جود.
فعن ابن عباس قال: ((كان رسول الله أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، يعرض عليه رسول الله القرآن فإذا لقيه جبريل كان رسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة)) (1).
ولا عجب أن نجد في الجيل الأول من ارتفع إلى قريب من هذا المستوى العالي من الجود، فإذا هو يجود بماله كله في سبيل الله كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، ومن يجود بنصف ماله كما فعل عمر رضي الله عنه، ومن يجهز جيشا بأكمله كما فعل عثمان رضي الله عنه، ومن يتبرع بأنفس ممتلكاته كما فعل أبو الدحداح الذي وهب أحسن بساتينه صدقة في سبيل الله، ولما علمت زوجه بصنعه قالت له متهللة الوجه مفترة الأسارير: ربح البيع يا أبا الدحداح، وغير هؤلاء الأجواد كثير ممن آثروا الآجلة على العاجلة، فنزلوا عن أموالهم وحظوظ أنفسهم في سبيل الله.
ذلك أنهم كانوا صادقين مع الله عز وجل، دائمي الصلة به، ومن هنا كانوا يحققون هذه المعاني، فيترجمونها إلى واقع، ولا يكتفون بتردادها والتغني بها والتأثر بذكرها، كما نجد معظم أغنياء اليوم.
إن من أغنياء اليوم من يملك من الملايين والمليارات ما لو أدى زكاتها فحسب لمسح الفقر عن مجتمعه مسحا، بله (2) الإنفاق السخي من حر ماله، ولكن أيدي هؤلاء الأغنياء تنقبض حتى عن دفع الزكاة وإنهم ليعلمون أنها
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2)
أي دع.
فريضة وركن من أركان الإسلام، فتراهم يوزعون، إن وزعوا، دريهمات معدودة في المواسم والأعياد، أو يوزعون الخبز والأطعمة في بعض الأقطار الإسلامية على عدد محدود من الفقراء، وعندما يرى الناس البسطاء جماهير الفقراء تقف ببابهم لتأخذ حظها من هذا الفتات الذي يوزع، يشيدون بكرمهم وسخائهم، ويعدونهم من الأجواد الفضلاء، وما درى هؤلاء البسطاء أن مجموع ما يوزعه أصحاب الملايين هؤلاء لا يبلغ جزءا يسيرا جدا مما يتوجب عليهم إنفاقه، وأن هؤلاء الذين ينشرون على الفقراء المسحوقين دراهم معدودة، ذرا للرماد في العيون، وتظاهرا بالطاعة لله والبذل في سبيله، لا يخفى أمرهم على رب العالمين، رب الفقراء والأغنياء، ولن يفلتوا من عقابه، وأنهم يدخلون تحت قوله تعالى:
إن هذه الفئة التي أثرت في ظل نظام اقتصادي غير إسلامي، كانت سببا من الأسباب التي جلبت الأنظمة والمبادئ اليسارية إلى بلاد المسلمين، بجشعها واستغلالها وشحها وبعدها عن هدي الله، ولو عرفت حق الله في مالها، وأدته كاملا غير منقوص، لما وجد في مجتمعات المسلمين من يجرؤ على الدعوة إلى شيوعية حمراء أو اشتراكية رقشاء، ولما نبت الحقد الطبقي الذي استغلته الأحزاب اليسارية، حتى أقامت عليه أنظمة حكم اشتراكية أطاحت بأصحاب الملايين وبمعاملهم ومؤسساتهم، واستلبت منهم الملايين، فأصبحت خزائنهم خاوية، وكانوا في أيام البسطة والعز والسعة والرخاء والربح يضنون في كثير من الأحيان على العامل الفقير بنصف ليرة يضيفونها إلى
(1) التوبة: 34 - 35.
أجرته الأسبوعية أو الشهرية الزهيده، خشية أن تنقص أرباحهم، بل كان بعضهم يقيم الدنيا ويقعدها من أجل هذه الزيادة البسيطة، ويتعامى عن الآلاف المؤلفة التي يبذرها بعض أبنائهم في الملاهي، وتحت أقدام المومسات، حتى إن بعضهم كان يغلق الملهى بأكمله على حسابه ليستمتع وحده بالحسناوات الراقصات فيه.
إن المجتمع الإسلامي السليم لا يعرف ظلم الغني للفقير، ولا حقد الفقير على الغني؛ لأن الغني فيه كريم جواد يعرف حق الفقير في ماله، فلا يبخسه حقه، ولا يتقاعس عن إسعافه ورفده ومعونته وإنصافه؛ ولأن الفقير لا ينظر إلى الغني بعين الحقد والضغينة والكراهية لأنه أكثر منه مالا؛ ذلك أن الغني في المجتمع الإسلامي لا يجمع ماله من حرام، وإنما يجمعه بكده وكدحه واجتهاده وجهده من طريق الكسب الحلال المشروع، ثم إن مبدأ تكافؤ الفرص الذي أتاحه المجتمع الإسلامي لجميع المستظلين بظله ليفسح المجال للفقير أن يعمل ويكدح ليصبح بدوره غنيا إن شاء، فالباب مفتوح للجميع، ليلجه كل طموح نشيط وثاب العزيمة عالي الهمة، ولا داعي للحقد والضغينة والتربص وحب الانتقام، ولا مكان للحاقدين المضطغنين المتربصين للانتقام في مجتمع الحب والتآخي، مجتمع الإسلام.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة الكرام، ويحضهم دوما على البذل، ويقتلع من نفوسهم حب الكنز، لتتوزع الثروة بين الناس، ويشيع الرخاء في حياتهم، ولئلا يرتد المال المكنوز على صاحبه شؤما وعذابا وسخطا يوم القيامة، وكان الرسول الكريم الأسوة الحسنة لهم في ذلك والمثل الأعلى.
انطلق يوما إلى البقيع ولحق به أبو ذر، وفي أثناء مسيرتهما قال لأبا ذر:
((إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكلذا في حق))، ثم عرض لهما أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((يا أبا ذر))، فأجابه: لبيك رسول الله وسعديك وأنا فداؤك، قال:((ما يسرني أن أحدا لآل محمد ذهبا، فيمسي عندهم دينار، أو قال، مثقال .... )) (1).
وهذا ما يفسر موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أغنياء قريش حينما استراحوا من عناء الفتوح، وأقبلوا على التجارة يثمرون بها أموالهم، فأثروا ثراء فزع عليهم منه عمر فقال:
((ألا إن قريشا يريدون أن يجعلوا مال الله دولة بينهم، أما وابن الخطاب
حي، فلا، ألا وإني واقف لهم في حرة المدينة، فآخذ بحجزاتهم أن يتهافتوا في النار)) (2).
إن تجميع الثروة في أيد قليلة أمر يرفضه الإسلام؛ لأن تجميعها في تلك الأيدي القليلة معناه انحسارها عن الأيدي الكثيرة في المجتمع، وهنا يكون الاختلال، وتكون الطبقية، ويكون الاستغلال، ويكون الظلم، وهذا كله حرام في مجتمع الإسلام.
هذه واحدة، والثانية أن عمر بن الخطاب أعلن أنه سيقف لهم في حرة المدينة ليأخذ على أيديهم، ويحول بينهم وبين الاحتكار والكنز، إنقاذا لهم أن يتهافتوا في النار، لا انتقاما منهم وحسدا على ما في أيديهم، كما توسوس به النظم المادية التي تذكي في نفوس الفقراء الحقد والضغينة وحب الانتقام من الأغنياء؛ فالعدالة الاجتماعية مقصودة في الإسلام لخير الغني والفقير سواء، ومنذ بداية الطريق، قبل أن تتفاقم الأمور، وتختل الموازين، وتمتلئ بالحقد الصدور، وهي مقصدة أيضا لأن فيها صلاح دنيا الغني
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2)
انظر: أخبار عمر للطنطاوي: 265.
والفقير وآخرتهما أيضا، ولن تجد هذا الربط المحكم بين الدنيا والآخرة في عالم الاقتصاد، إلا في النظام الاقتصادي في الإسلام.
والمسلم الحق كريم مهما كان فقيرا، ومهما كان عطاؤه قليلا، فحسب الإسلام منه أن تنبجس في نفسه عاطفة الرحمة بمن هو أفقر منه، ويحس ما يعانيه غيره من ألم وحرمان. ومن أجل ذلك جاءت النصوص تحض الفقراء على الإنفاق القليل، حسب استطاعتهم، لتبقى نفوسهم ريا بنداوة المشاركة الوجدانية لإخوانهم، ووعد الله هؤلاء المنفقين، على إقلالهم وعسرتهم، بتثمير صدقتهم وتنميتها حتى تصبح كالطود الشامخ، شريطة أن تكون من كسب حلال:
((من تصدق بعدل تمرة (1) من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب،
فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها يصاحبها كما يربي أحدكم فلوه (2)، حتى تكون مثل الجبل)) (3).
ولكيلا تنغلق النفس، وتحتجب عن المشاركة الوجدانية في المجتمع، ولكيلا تجف ينابيع الخير والرحمة والتعاطف فيها، دعاها الرسول الكريم إلى الإنفاق اليسير مهما كانت مقلة معسرة، وحذرها من السلبية والانغلاق والإمسلك، لأن في ذلك مهلكة وبوارا وعذابا، فقال:
((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) (4).
لقد أراد الله للمسلم أن يكون عنصر بناء ومنفعة وخير في مجتمعه، يفيض دوما بخيره على الناس، سواء أكان غنيا أم فقيرا، ومن هنا جاء الهدي
(1) أي بقيمتها.
(2)
أي مهره.
(3)
متفق عليه.
(4)
رواه البخاري.
النبوي حاضا الإنسان المسلم على فعل الخير، حسب قدرته وإمكاناته، وجعل له في كل فعل للخير صدقة:
((على كل مسلم صدقة، فقالوا: يا نبى الله، فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف، ويمسك عن الشر، فإن له صدقة)) (1).
لقد وسع الإسلام دائرة الخير، ليلجها كل مسلم، فلا يحس الفقير المعدم أنه محروم من المشاركة الاجتماعية الخيرة، لصفر يده (2) من المال، ففتح له أبواب هذه المشاركة، بجعل كل عمل نافع يقوم به صدقة له، يثاب عليها كما يثاب الغني على إنفاقه:((كل معروف صدقة)) (3).
وبذلك ضمن مشاركة جميع الأفراد في بناء المجتمع وخدمته وتحسينه، وأدخل على قلوب أبنائه جميعا الراحة والسرور والابتهاج بهذه المشاركة التي ترد للإنسان اعتباره وتحفظ كرامته وتحقق مثوبته.
ولقد كان الإسلام واقعيا رحيما بالمسلمين؛ إذ لم يكلفهم ما لا يطيقون، ولم يطلب منهم إلا أن يبذلوا فضول أموالهم، ولم يلم ذوي الكفاف، وآثر لهم أن يكفوا حاجتهم بأنفسهم؛ إذ اليد العليا في الإسلام خير من اليد السفلى، أما ما زاد عن الحاجة فهو داخل في باب المنافسة في الكرم، والمسلم الحق لا يمسك في وجه من وجوه الخيرة لأنه تعلم من هدي دينه أن في بذله خيرا، وفي إمساكه شرا،
(1) متفق عليه.
(2)
أي لخلوها.
(3)
متفق عليه.
((يا بن آدم إنك إن تبذل الفضل (1) خير لك، وإن تمسكه شر لك،
ولا تلام على كفاف (2)، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) (3).
ولا يفارق المسلم الواعي البصير كرمه وإقباله على الصدقة متى زاد شيء في يده عن حاجته وحاجة عياله، ولو كان هذا الشيء بمثابة احتياطي يذخره الناس ضمانا من الفقر، أو وسيلة للعروج في مدارج الغنى، بل إنه ليرى في هدي دينه أن صدقته في مثل هذه الحالة هي أعلى أنواع الصدقات طرا، وأفضلها أجرا، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة، قال:
((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل أجرا؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى. ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) (4).
والمسلم الحق الجواد يخص بعطائه وكرمه الفئات التي تستحق الرفد والغوث والإعانة، فيتحرى أولئك العفاة والمحرومين من المساكين المتعففين الذين لا يسألون الناس إلحافا، ويحسبهم الناس أغنياء من التعفف، فيذهب إليهم، ويطرق أبوابهم، ويحبوهم ما يسد حاجتهم ويحفظ كرامتهم.
ذلك أن هؤلاء المساكين المتعففين هم أولى الناس بالرفد والعطاء، وهم الذين عناهم الرسول الكريم بقوله:
(1) أي ما زاد عن حاجتك وحاجة عيالك.
(2)
أي إمساك ما تكف به الحاجة.
(3)
رواه مسلم.
(4)
متفق عليه.
((ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف)) (1).
وفي رواية في الصحيحين:
((ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)).
ويخص المسلم السمح الجواد بعطائه اليتيم، فيكفله إن استطاع، فيقوم بالنفقة عليه، والعناية بشؤونه، سواء كان هذا اليتيم قريبا له أم بعيدا، محتسبا ما ينفقه في هذا السبيل عند الله الذي أعد لكافل اليتيم مقاما عليا، تتقطع دونه الأعناق، وتصغر الأماني الحفل المعسولة، بمنحه شرف جوار الرسول الكريم في الجنة، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أنا وكافل اليتيم (2) في الجنة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا)) (3).
وكذلك يسعى المسلم التقي المحسن السخي على الأرملة والمسكين، امتثالا لهدي دينه القويم، وابتغاء مرضاة ربه، وسعيا وراء المثوبة الكبرى التي أجزلها الله تعالى للساعي على الأرملة والمسكين، حتى إنها لتفوق أجر الصائم القائم، أو المجاهد في سبيل الله، كما أخبر بذلك الرسول الكريم بقوله:
(1) متفق عليه.
(2)
أي القائم بأموره.
(3)
متفق عليه.