الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادر في متطلبات الحياة المادية التي أطفات فيه شعلة العاطفة الإنسانية، وجففت ينابيع الري الروحي، وجعلته داثرا في فلكها كالدوامة، لا يكاد يهدأ ولا يقر له قرار.
خفيف الظل:
والمسلم خفيف الظل مع الناس، محبب العشرة لهم، يخالطهم ويمازحهم عندما يحسن المزاح وتلطف المداعبة، وهو في مزاحه لا يغلو ولا يشتط ولا يؤذي، كما هو في جده لا يقسو ولا يتزمت ولا يتجافى؛ فمزاحه هو المزاح الإسلامي المشروع السمح الذي لا يخرج به عن دائرة الحق، كما كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في مزاحهم ومداعبتهم، فقد أثر عن الصحابة أنهم قالوا للرسول الكريم: إنك تداعبنا، فقال:
((إني لا أقول إلا حقا)) (1).
فالرسول ي كان يمزح، ولكنه كان لايقول في مزاحه إلاحقا، وكذلك كان الصحابة الكرام، ولهم في المزاح والمداعبة أخبار طريفة، كانت تجري بينهم وبين الرسول الكريم.
من هذه الأخبار ما روته كتب الحديث والسير من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمازح طفلا صغيرا من أبناء الصحابة يكنى أبا عمير، له طائر يلعب فيه. وفي ذات يوم رآه حزينا، فقال: ما لي أرى أبا عمير حزينا؟ قالوا: مات نغره الذي كان يلعب به يا رسول الله، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول مداعبا الطفل:((أبا عمير، ما فعل النغير (2)؟)) (3).
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
(2)
النغير: تصغير النغر، وهو طائر يشبه العصفور.
(3)
حياة الصحابة 3/ 149.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ممازحا:((إنا حاملوك على ولد ناقة)) فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد ناقة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((وهل تلد الإبل إلا النوق؟)) (1).
وأخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا، وكان يهدي النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلا دميما، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، ولا يبصره الرجل، فقال: أرسلني! من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من يشتري العبد؟)) فقال: يا رسول الله! إذن والله تجدني كاسدا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكن عند الله لست بكاسد))، أو قال:((لكن عند الله أنت غال)).
وأتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال مداعبا:((يا أم فلان، إن الجنة لا تدخلها عجوز))، فولت العجوز تبكي، فقال:((أخبروها أنها لا تدخلها، وهي عجوز؛ إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (2).
ومن الأحاديث الدالة على نفسية الرسول المرحة المحبة للمداعبة والمزاح ما أخرجه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت:
((خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: ((تقدموا))، فتقدموا، ثم قال لي:((تعالي حتى أسابقك))، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم، وبدنت،
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
(2)
رواه الترمذي. وهو حسن بشواهده.
ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس:((تقدموا))، فتقدموا، ثم قال لي:((تعالي حتى أسابقك))، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول:((هذه بتلك)).
ولذلك لم يكن الصحابة الكرام يرون حرجا في المزاح والمداعبة، فلقد رأوا الرسول الكريم، وهو إمامهم وقائدهم ومعلمهم، يمزح أحيانا، ويمرح أحيانا أخرى، فكانت لهم مواقف من المزاح والمرح طريفة، تدل على سماحة المجتمع الإسلامي الأول وبعده عن التزمت والتجهم والانقباض.
أخرج البخاري في الأدب عن بكر بن عبد الله قال: ((كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ (1)، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال)).
إنه المزاح الإسلامي المقتصد المعتدل الذي لا يخرج أصحابه عن جادة الحق، ولا يطفىء فيهم شعلة الرجولة، وإنما يؤدي غرضه في تنشيط النفوس، وجلاء الأذهان، وترويح القلوب.
ومن طرائف ما روي من مزاح الصحابة الكرام الذي ضحك له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه خرج تاجرا إلى بصرى، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة رضي الله عنهما، وكلاهما بدري (2)، وكان سويبط على الزاد، فقال له نعمان: أطعمني! قال: حتى يجيء أبو بكر، وكان نعيمان مضحاكا مزاحا، فذهب إلى ناس جلبوا ظهرا فقال: ابتاعوا مني غلاما عربيا فارها؟ قالوا: نعم، قال: إنه ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني لا تفسدوه علي! فقالوا: بل نبتاعه، فابتاعوه منه بعشر قلائص، فأقبل بها
(1) أي يترامون.
(2)
أي شهد بدرا.
يسوقها، وقال: دونكم هو هذا! فقال سويبط: هو كاذب، أنا رجل حر! قالوا: قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته، فذهبوا به فجاء أبو بكر فأخبر، فذهب هو وأصحابه إليهم، فردوا القلائص وأخذوه، ثم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فضحك هو وأصحابه منها حولا.
وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنعيمان بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه، وكان يقال له: النعيمان: لو نحرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم (1)، ويغرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنها، فنحرها النعيمان، ثم خرج الأعرابي فرأى راحلته فصاح: واعقراه يا محمد! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فعل هذا؟ قالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه، فوجده في دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنه قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد والسعف، فأشار إليه رجل ورفع صوته يقول: ما رأيته يا رسول الله، وأشار بإصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تغير وجهه بالسعف الذي سقط عليه، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عن وجهه ويضحك، ثم غرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وبعد، فليس بعد هذه الآثار وأمثالها دليل أنصع على ما يريده الإسلام لأبنائه من خفة ظل، ومرح نفس، وعذوبة روح، وإنها لصفات تكسب صاحبها شخصية دمثة محببة، تستطيع أن تغزو القلوب، وتغلغل في بواطن النفوس، والمسلم الداعية في أشد الحاجة إلى مثل هذه الشخصية وتلك الصفات.
(1) أي اشتهينا.
(2)
انظر حياة الصحابة 3/ 154، 155.