الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
المسلم مع والديه
بر بهما:
إن من أبرز صفات المسلم الحق البر بالوالدين والإحسان إليهما؛ ذلك أن البر بالوالدين أمر من أجل الأمور التي حض عليها الإسلام، وأكدتها نصوصه القاطعة الحاسمة. والمسلم الواعي المتمثل هذه النصوص الوفيرة التي استفاضت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها يدعو إلى البر بالوالدين وحسن مصاحبتهما، لا يسعه إلا أن يكون البر بالوالدين سجية من ألزم سجاياه، وخليقة من أبرز خلائقه.
عارف قدرهما وما يجب عليه نحوهما:
لقد رفع الإسلام مقام الوالدين إلى مرتبة لم تعرفها الإنسانية في غير هذا الدين؛ إذ جعل الإحسان إليهما والبر بهما في مرتبة تلي مرتبة الإيمان بالله والعبودية له.
فقد جاءت آيات الله تترى متضافرة متعاقبة تضع مرضاة الوالدين بعد مرضاة الله، وتعد الإحسان إليهما فضيلة إنسانية تلي فضيلة الإيمان به:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1).
(1) النساء: 36.
ومن هنا كان المسلم الصادق الواعي أبر بوالديه من أي إنسان في الوجود.
ويسمو القرآن الكريم في تصوير مكانة الوالدين، وبسط الأسلوب الخلقي الراقي الذي ينبغي للمسلم أن يتبعه في معاملة والديه، إن تنفس بهما أو بأحدهما العمر، وبلغا مرحلة الهرم والشيخوخة والعجز، فيصل إلى الغاية التي ما عرفتها الإنسانية قبل أن تسطع شمس هذا الدين على الأرض:
إنه الأمر الرباني الخالد للمسلم في صورة قضاء حتمي، لا فكاك منه ولا معدل عنه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، وإنه للربط المحكم بين عبادة الله وبر الوالدين، وفي ذلك رفع لقيمة الوالدين وإعلاء لشأنهما إلى حد لم يستطع الحكماء والمصلحون وعلماء الأخلاق بلوغ شأوه في يوم من الأيام.
ولا يكتفي سياق الآية برسم هذه الصورة الوضيئة السامية لبر الوالدين، بل يستجيش وجدان الرحمة والعطف والبر في نفوس الأبناء في تعبير وجداني رقيق ودود، يقطر رقة وسلاسة وأنسا:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} ، فهما إذا (عندك) في رعايتك وحمايتك وحفظك، وقد يكونان شيخين هرمين ضعيفين، فحذار حذار أن تنذ منك كلمة تذمر أو تململ أو ضيق:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} ، بل يجب عليك أن تفكر طويلا في الكلمة الطيبة توجهها إليهما ليطيبا بها نفسا، ويقرا عينا: {وَقُلْ
(1) الإسراء: 23.
لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، ولتكن وقفتك بين أيديهما وقفة الاحترام البالغ والتقدير المتناهي، الشبيه بوقفة التذلل والاستسلام والخضوع:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} ، ولينطبق لسانك لاهجا بالدعاء لهما على ما أسديا لك من يد لا تنسى، إذ ربياك صغيرا قاصرا ضعيفا:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .
والمسلم المفتوح القلب، المنور البصيرة، يتلقى دوما مثل هذا الإيقاع الرباني الجميل في عدد من آياث الله البينات، فيزداد لوالديه احتراما، وبهما برا:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1).
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (2).
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} (3).
والباحث المثأمل في النصوص الواردة في بر الوالدين، يجد الأحاديث الشريفة تترى مواكبة الآيات الكريمة، مؤكدة فضل بر الوالدين، محذرة من عقوقهما أو الإساءة إليهما مهما تكن الأسباب:
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبى صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاه على وقتها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) (4).
لقد جعل الرسول المربي العظيم بر الوالدين بين أعظم عملين في
(1) النساء: 36.
(2)
العنكبوت: 8.
(3)
لقمان:14.
(4)
متفق عليه.
الإسلام: الصلاة على وقتها، والجهاد في سبيل الله. والصلاة عماد الدين، والجهاد ذروة سنام الإسلام. فأي مقام كريم جليل أحل الرسول الوالدين؟!. ويأتي الرسول الكريم رجل يبايعه على الهجرة والجهاد يبتغي الأجر من الله تعالى، فيتريث في قبوله، ويسأله:((فهل من والديك أحد حي؟))، فيقول الرجل: نعم، بل كلاهما، فيقول الرسول الكريم:((فتبتغي الأجر من الله تعالى؟!))، فيجيبه الرجل: نعم، فيقول الرسول البر الرحيم:((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) (1).
وفي رواية للشيخين: جاء رجل فاستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال:
((أحي والداك؟)) قال: نعم، قال:((ففيهما فجاهد)).
لم يفت الرسول القائد، وهو يعبىء كتائب الجيش للجهاد، أن يذكر بقلبه الإنساني الرقيق ضعف الوالدين وحاجتهما لابنهما، فيصرف هذا المتطوع للجهاد عن التطوع، ويلفته برفق إلى العناية بوالديه، وإنه لفي حاجة إلى كل ساعد يضرب بالسيف آنذاك، تقديرا منه صلى الله عليه وسلم لخطورة البر بالوالدين وحسن القيام على شؤونهما في منهج الإسلام الكامل المتوازن الفريد الذي رسمه الله لسعادة الإنسان.
ولما أنكرت أم سعد بن أبي وقاص عليه إسلامه، وقالت له: إما أن ترجع عن إسلامك وإما أن أضرب عن الطعام حتى أموت، فتكسب معرة العرب، إذ سيقولون: قاتل أمه، أجابها سعد: تعلمين والله لو كان لك مئة نفس، وخرجت نفسا نفسا ما رجعت عن إسلامي. وصبرت أمه يوما فيومين، وفي اليوم الثالث أجهدها الجوع فطعمت، وأنزل الله تعالى قرآنا تلاه الرسول على المسلمين فيه عتاب لسعد على شدته مع أمه في جوابه لها:
(1) متفق عليه.