الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالله ثم استقم)) (1)، وذلك حين سأله قائلا: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. وهذا ما حدا بالإمام مسلم أن يسمي باب الاستقامة (باب جامع أوصاف الإسلام)؛ ففي الاستقامة المنبثقة عن الإيمان بالله تتجمع الفضائل كلها، وتلتقي مكارم الأخلاق، ومن الاستقامة تتشعب خصال الخير، وتتفرع الأعمال الصالحات.
ومن أوليات الاستقامة أن يلقى المسلم الناس بوجه واحد، لا يتلون ولا يتغير، كما يفعل المخاتلون المخادعون، الذين توعدهم الرسول الكريم بقوله:
((إن شر الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) (2).
يعود المريض:
والمسلم الحق يعود المريض، ويعد عبادته واجبا إسلاميا حض عليه
الدين الحنيف، وليس تفضلا أو تطوعا منه. إنه ليزور المريض، وملء مشاعره أنه ينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل:
((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني (3))) (4).
والقائل أيضا فيما يروي البراء بن عازب رضي الله عنهما:
((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، واتباع الجنازة! وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام)) (5).
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه البخاري ومسلم.
(3)
أي الأسير.
(4)
رواه البخاري.
(5)
متفق عليه.
ولقد تأصلت هذه العادة الاجتماعية التي أرسى قواعدها الرسول الكريم
في حياة المسلمين، حتى أضحت حقا للمسلم على أخيه، له أن يطالبه به، إن هو كفل عنه أو قصر فيه، والغافل عن حق أخيه أو المقصر فيه آثم مفرط ظالم لنفسه في عرف الشريعة السمحة الغراء:
((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) (1).
وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((حق المسلم على المسلم خمس، قيل: وما هي؟ قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فأنصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاصحبه)) (2).
والمسلم إذ يعود أخاه المريض يحس في أعماقه أنه لا يؤدي واجبا وينفذ أمرا فحسب، بل يحس غبطة روحية ونشوة نفسيه، لا يحسهما إلا من تدبر الحديث الشريف الرائع الذي يصور جلالة هذه العيادة، وما تشتمل عليه من خير وبركات:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني! قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني!
(1) متفق عليه.
(2)
رواه البخاري ومسلم.
قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه! أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟)) (1).
فما أبركها من عيادة! وما أجلها من زيارة! وما أعظمه من عمل! يقوم به
المرء تجاه أخيه المستضعف المريض، فإذا هو في حضرة رب العزة، يشهد عمله الجليل، ويثيبه عليه الثواب الجزيل! وهل هناك أجل وأعظم وأبرك من زيارة يشرفها ويباركها ويحض عليها رب السموات والأرض؟!
وما أكبرها من شقوة! تحيق بالمرء المتقاعس عن هذه العيادة، وما أشدها من خسارة تحل به! وما أبشعها من فضيحة يعلنها رب العزة على رؤوس الأشهاد:
يا بن آدم مرضت فلم تعدني!
…
أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوتجدتني عنده؟!
وندع الخيال يتصور مرارة الندم والخيبة والخجلة التي تحز في نفس هذا المقصر المتقاعس المعرض عن عيادة أخيه المريض، ولات ساعة مندم.
إن المريض في المجتمع الإسلامي ليحس في ساعة الشدة والكرب أنه
ليس وحده، وأن عواطف المعيدين من حوله ودعواتهم تغمره وتخفف من بلواه، وهذه ذروة الرقي الإنساني، وقمة سمو المشاعر الإنسانية. ولم تعرف أمة في التاريخ هذا الري العاطفي، وهذا التجاوب الاجتماعي كما عرفتهما أمة الإسلام.
إن الإنسان المريض في الغرب قد يجد المستشفي الذي يضمه، والطبيب الذى يسعفه ويداويه، ولكنه قلما يجد اللمسة الحانية، والكلمة
(1) رواه مسلم.
الشافية، والبسمة المنعشة، والدعوة المخلصة، والمشاركة الوجدانية الصادقة.
ذلك أن الفلسفة المادية التي غشت حياة الغربيين، أطفأت فيها نورانية العاطفة الإنسانية، وغطت شفافية الشعور الأخوي، وحجبت الإنسان عن الدوافع غير المادية لفعل الخير.
إن الإنسان الغربي لا يحس أي دافع يدفعه لعيادة المريض، إذا لم تربطه به مصلحة تعود عليه بالنفع المادي العاجل أو الآجل، في حين نجد الإنسان المسلم مندفعا لعيادة المريض ابتغاء الثواب الذي أعده الله لمن غبر قدمه في هذا السبيل.
والنصوص في ذلك كثيرة، تفجر في النفس ينابيع الشعور الأخوي، وتدفع الإنسان لزيارة المريض دفعا من أعماق الوجدان. ومن هذه النصوص قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة (1) حتى يرجع)) (2) وقوله:
((ما من مسلم يعود مسلما غدوة (3) إلا صلى عليه سبعون ألف ملك
حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة (4))) (5).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك ببصيرته النافذة الخبيرة بالنفس الإنسانية
(1) أي جناها.
(2)
رواه مسلم.
(3)
أي صباحا.
(4)
الخريف: الثمر المخروف، أي المجتنى.
(5)
رواه الترمذي وقال حديث حسن.
ما لعيادة المريض من أثر نفسي في المريض وفي آله، ومن هنا كان لا يتوانى في عيادة المرضى، وإسماعهم أرق عبارات الدعاء والمواساة، حتى إن نفسه الشريفة لتسمو فتقود خطوه لعيادة غلام يهودي كان يخدمه، وفي ذلك يقول أنس رضي الله عنه:
((كان غلام يهودي يخدم النبى صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنطر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذة من النار)) (1).
لم يفت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعود هذا الغلام اليهودي المريض، أن يدعوه للإسلام، إذ كان يدرك وقع زيارته الشريفة في نفس الغلام وأبيه اللذين غمرهما الرسول بكرمه وفضله ولطفه وحسن تأتيه، فإذا هما يستجيبان لأمر الرسول الكريم، وإذا العيادة تثمر هداية، ويخرج الرسول الكريم منها ولسانه يلهج بحمد الله أن أنقذ به نفسا من النار، فيا للرسول الإنسان العظيم! ويا للداعية الهادي اللبق الحكيم!
ومن حفاوة الرسول الكريم بعيادة المريض واهتمامه بشأنها أنه وضع لها أصولا وسننا حفظها عنه الصحابة الكرام، وسجلتها السنة المطهرة.
ومنها الجلوس عند رأس المريض كما رأينا في عيادته الغلام اليهودي، وكما أخبر بذلك ابن عباس رضي الله عنه بقوله:
((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد المريض جلس عند رأسه، ثم قال سبع مرار:
أسال الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك)) (2).
(1) رواه البخاري.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد.