الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على أيدي المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ويلعنكم كما لعنهم)) (1).
لبق حكيم في دعوته:
والمسلم الداعية الواعي كيس فطن لبق في وعظه، حكيم في دعوته الناس إلى الحق، متئد في تعليمهم أحكام الدين، يترسم في ذلك كله قول الله تبارك وتعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2).
ذلك أن من أهم صفات الداعية إلى الله أن يحسن التغلغل في القلوب، فيحبب إليها الإيمان، ويرغبها بالإقبال على الدين، محاذرا أن يكون منه ما ينفر أو يؤذي ويسخط، ومن هنا هو لا يصب على الناس كل ما لديه من علم دفعة واحدة، وإنما يقدم لهم العلم على دفعات، ويسوق لهم الموعظة في خطرات، يلمس بها قلوبهم ومشاعرهم بين الحين والحين، متجنبا الإطالة والإثقال والإملال، وهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله في وعظه الناس، كما أخبرنا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان عبد الله بن مسعود يتعهد الناس بالموعظة كل يوم خميس، فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن: لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال:((أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة (3) كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا)) (4).
(1) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(2)
النحل: 125.
(3)
أي أتعهدكم بها في أيام متفرقة.
(4)
متفق عليه.
ومن لباقة الداعية وحسن أسلوبه في الدعوة ألا يطيل في خطبته، وبخاصة إذا كان يخطب في جمهور غفير، فيه المسن والعاجز والمريض، فقصر الخطبة دلالة على فقه الخطيب بدعوته وحسن تفهمه نفسيات الجمهور الذي يستمع إليه، وهذا من هدي النبوة العالي الذي أخبرنا به عمار بن ياسر رضوان الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه (1)، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة)) (2).
ومن أسلوب الداعية الحكيم اللبق الكيس الفطن الأريب أن يترفق بمن يدعوهم، ويصبر على جهلهم وأخطائهم وأسئلتهم الكثيرة المملة، وبطئهم في الفهم والاستيعاب، متأسيا في ذلك كله بسيد الدعاة وخاتم النبيين صلوات الله عليه الذي كان يفسح صدره للسائلين، ويتلطف في إجابتهم وتعليمهم، ويقبل عليهم إقبال المحب المرشد المؤنس المسدد المعلم، ولا يزال يشرح لهم المسألة حتى يفهموها وينصرفوا جذلين مغتبطين فاهمين مقتنعين.
ومن أمثلة ذلك ما يرويه الصحابي معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال:((بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلى من القوم (3)، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني (4)، لكنني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي (5)،
(1) أي علامة دالة على فقهه.
(2)
رواه مسلم.
(3)
أي المصلين.
(4)
أي يسكتونني غضبت.
ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال:((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن)) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهان (1)!. قال:((فلا تأتهم))، قلت: ومنا رجال يتطيرون! (2) قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم (3))) (4).
ولقد بلغ من رفق النبي الكريم بالناس حين يدعوهم إلى الخير أنه لا يجبه المسيء بإساءته حرصا على مشاعره أن تخدش وعلى كرامته أن تهان، بل كان يلجأ إلى التورية في استنكار إساءته وتنبيهه إلى سوء فعلته، وهذا الأسلوب أوقع في النفوس، وأدخل إلى القلوب، وأنجع في مداواة العلل والأخطاء.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا
…
)) (5).
ومن صفات الداعية الناجح تبيين كلامه وإيضاحه للمخاطب، وتكريره على مسامعه، وهذا ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول أنس رضي الله عنه:
(1) الكهان: جمع كاهن، وهو رجل يدعي معرفة الضمير ويخبر عن المستقبل.
(2)
أي يتشاءمون.
(3)
أي فلا يمنعهم ذلك عن وجهتهم فإنه لا يؤثر نفعا ولا ضرا.
(4)
رواه مسلم.
(5)
حياة الصحابة 3/ 129.