الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أراد الله بقوم خيرا أدخل عليهم الرفق)) (1).
وأي خير أعظم من خليقة يتخلق بها الإنسان، فتكون له وقاية من النار؟
كما أخبر بذلك الرسول الكريم في حديث آخر فقال:
((ألا اخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على
كل قريب هين لين سهل)) (2).
ويسمو الهدي النبوي الكريم بالإنسان، وهو يغرس فيه خلق الرفق، فيطالبه بالرفق حتى بالحيوان الذبيح، ويعد ذلك من الإحسان، أعلى المراتب التي يرقى إليها الأتقياء الصالحون:
((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) (3).
ذلك أن الرفق بالحيوان الأعجم الذبيح دليل على رقة نفس الإنسان الذي يذبحه، وعلى تمثلها الرحمة بكل ذي روح، ومن وقرت في نفسه هذه المعاني في معاملته لذوي الأرواح من الحيوان، كان بالإنسان أرفق وألطف، وإلى هذا الهدف البعيد ترمي توجيهات الإسلام لكل مسلم بالرفق حتى بالحيوان.
رحيم:
والمسلم الواعي أحكام دينه، المنفعل بتعاليمه السمحة: رحيم، تتفجر ينابيع الرحمة من قلبه؛ إذ يدرك أن رحمة العباد في الأرض سبب لرحمة السماء تنهل عليه بنداها البرود:
(1) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
(2)
رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
(3)
رواه مسلم.
((ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)) (1).
ولأنه تعلم من هدي دينه أن:
((من لم يرحم الناس لم يرحمه الله)) (2).
وأن: ((الرحمة لا تنزغ إلا من شقي)) (3).
بل إن المسلم الحق الواعي لتتسع في نفسه دائرة الرحمة، فلا يقصرها على أهله وأولاده وذوي قرابته وصداقته فحسب، بل يشمل بها الناس جميعا؛ إذ يسمع الهدي النبوي يعم بها الناس جميعا ويجعلها من شروط الإيمان، وذلك فيما رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم:
((لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس، رحمة العامة)) (4)
إنها الرحمة العامة الشاملة، رحمة الناس عامة، يفجرها الإسلام في قلب الفرد المسلم، ليغدو مجتمع المسلمين متراحما، يموج بالمحبة الصادقة، والنصيحة الخالصة، والتعاطف العميق.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا فذا للرحمة، تجسدت فيه معانيها، وفاضت بها نفسه، حتى إنه ليكون في الصلاة فيسمع بكاء الصبي، فتأخذه الرحمة بأمه الولهى لبكاء طفلها، فيوجز في صلاته، وذلك فيما أخرجه الشيخان عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(2)
رواه الطبراني وإسناده حسن.
(3)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
(4)
رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
إني لأدخل الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)).
وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟)) (1).
وقبل الرسول الكريم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:
((من لا يرحم لا يرحم)) (2).
وأراد عمر رضي الله عنه أن يولي رجلا على المسلمين، فسمعه يقول قولة الأقرع بن حابس: إنه لا يقبل صبيانه، فعدل عمر عن توليته قائلا: إذا كانت نفسك لا تبض بالرحمة لأولادك، فكيف تكون رحيما بالناس؟ والله لا أوليك أبدا، ثم مزق الكتاب الذي أعده لتوليته.
ولقد وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم دائرة الرحمة في حس الإنسان المسلم فإذا هي تشمل الحيوان أيضا فضلا على الإنسان، وذلك فيما كان ينثره على أسماع المسلمين من هدي حكيم؛ فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((بينما رجل يمشي بطريق اشتد به العطش، فوجذ بئرا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خفه
(1) رواه الشيخان.
(2)
رواه البخاري ومسلم.
ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له)). قالوا: وإن لنا في البهائم لأجرا؟ قال: ((في كل كبد رطبة أجر)) (1).
وروى الشيخان أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا، فدخلت فيها النار.
قال: فقالوا- والله أعلم-: لا أنت أطعيتها ولا سقيتها حين حبستها، ولا أنت أرسلتها، فأكلت من خشاش الأرض)).
ويبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأو الرحمة العالي، إذ نزل منزلا فجاءت حمرة ترف على رأسه الشريف، وكأنها تلوذ به شاكية له ظلم رجل أخذ بيضتها، فقال:((أيكم فجع هذه ببيضتها؟ فقال: رجل: يا رسول الله، أنا أخذت بيضتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((ارددها رحمة لها)) (2).
لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف أن يغرس في حس المسلمين معنى الرحمة الواسع الشامل، ليغدو المسلم رحيما بطبعه، حتى بالحيوان؛ لأن من كان له قلب يحنو على الحيوان، لا يقسو على أخيه الإنسان.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذوب رحمة للإنسان والحيوان، وكان لا يني يعلم المسلمين أن يكونوا كذلك، لكي تعم الرحمة دنيا المسلمين، وتغمر مجتمعاتهم وأوطانهم، ومتى شاعت الرحمة في الأرض انهلت سكائب رحمة الله عليها وعلى ساكنيها من السماء، مصداقا لقول الرسول الكريم:((ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)) (3).
(1) رواه الشيخان.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
(3)
رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.