الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنه لتوجيه حكيم له دلالاته الجمة الغزيرة، وفي مقدمتها تصنيف الناس حسب مقاماتهم ومنازلهم ورتبهم. ومكان أصحاب العقول الراجحة وراء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة يرشحهم للاضطلاع بشتى أمور المسلمين، كل حسب طاقته واختصاصه وإمكاناته.
ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي الحسن عن أبيه يؤثر أهل الفضل بأدبه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، وكان مجلسه عامرا بالصفوة من المؤمنين العدول الذين يتفاضلون دوما بالتقوى، ويوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب (1).
والمسلم الحق من فقه هذه الحقائق كلها، وكان متمثلا لها في سلوكه الاجتماعي مع الناس عامة، ومع العلماء وأعيان الفضل وهامات الشرف والتقوى خاصة.
يعاشر كرام الناس:
ومن خلائق المسلم التقي الاتصال بالصالحين، والتقرب إليهم، وطلب الدعاء منهم، لا يجد حرجا في ذلك، مهما بلغ من علو المنزلة وشرف القدر ورفعة المكانة، عملا بقوله تعالى:
(1) انظر حياة الصحابة: 1/ 21، 22، 23.
(2)
الكهف: 28.
ذلك أن عشرة الصالحين ترشح على معاشريهم بالخير والتقوى والسداد في القول والعمل، وتزيدهم تفقها في الدين، وإقبالا على الحق، حتى يعدوا في زمرة الصالحين:
بعشرتك الكرام تعد منهم
…
فلا ترين لغيرهم ألوفا
لقد سعى نبي الله موسى عليه السلام وراء العبد الصالح ليتعلم منه، قائلا له بكل تواضع وأدب:
{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟} (1).
وعندما أجابه العبدا لصالح:
(إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (2).
قال له موسى عليه السلام بتودد بالغ وأدب جم:
(سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} (3).
إن المسلم الحق الواعي لا يألف إلا الأخيار من الناس؛ لأنه فقه من هدي دينه أن الناس كالمعادن، منها النفيس ومنها الخسيس، وأن الطيب لا يألف إلا طيبا:
((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)) (4).
وإنه ليعلم من هدي دينه أيضا أن الجلساء صنفان، جليس صالح،
(1) الكهف: 67.
(2)
الكهف: 68.
(3)
الكهف: 70.
(4)
رواه مسلم.
وجليس سوء، فالجليس الصالح كحامل المسك، في مجالسته الاسترواح والعطاء والعطر والسرور، وجليس السوء كنافخ الكير، في مجالسته وهج اللهب والدخان والنتن والكآبة، وقد مثل ذلك الرسول الكريم صلوات الله عليه أروع تمثيل بقوله:
((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء: كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة. ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة)) (1).
ومن هنا كان الصحابة الكرام يتحاضون على زيارة أهل الخير الذين يذكرون بالله، ويرققون القلوب، ويستدرون دموع الخشية والعظة والاعتبار من المآقي، وفي ذلك يروي أنس رضي الله عنه هذه الواقعة:
((قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن (2) نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها. فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها)) (3).
بمثل هذه المجالس التي تحفها الملائكة، ويظلها المولى سبحانه برحمته، يقوى إيمان الإنسان، وتصفو روحه، وينجلي قلبه، وتزكو نفسه، ويغدو خيرا محضا على نفسه وأسرته ومجتمعه، وهذا ما يهدف إليه الإسلام في مخاطبة الناس وتوجيههم أفرادا وجماعات.
(1) متفق عليه.
(2)
هي حاضنة رسول الله وخادمته في طفولته، أعتقها النبي صلى الله عليه وسلم جين كبر، وزوجها زيد بن حارثة، وكان صلى الله عليه وسلم يكرمها، ويبرها، ويقول:((أم أيمن أمى)).
(3)
رواه مسلم.