الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن ما أردنا إيضاحه بهذه الإشارة هو أن ما نقدمه فيما يلي من تصور للمقومات الفكرية للمنهج الدراسي لا يحيط بجميع هذه المقومات، ولكنه يشمل ما نتصوره أهم هذه المقومات فقط. ونحن على ثقة من أن تصورنا هذا يعتريه ثلاثة منطلقات للقصور الأول: يرجع إلى الطبيعة البشرية وما تتسم به من خطأ أو نسيان، والثاني: يرجع إلى ما قد يظهر من قصور في اجتهاد الكاتب شخصيا.
والثالث: ما قد يصيب بعض المواقف من نقص نتيجة للاختصار الشديد تكيفًا مع الحيز المتاح.
وبعد هذا الإيضاح، نعود إلى استخلاص التربية الإسلامية في ضوء الهدف من معالجتها هنا، وهي -في الوقت نفسه- الأسس الفكرية للمنهج الدراسي، من حيث كونه من أهم وسائل تحقيق هذه التربية. وذلك على النحو التالي:
أولًا: التربية الإسلامية ربانية المصدر، عالمية الغاية، شاملة الأثر.
ثانيًا: التربية الإسلامية ثابتة أصولها، مرنة تطبيقاتها.
ثالثًا: التربية الإسلامية تستهدف الحياتين الدنيا والآخرة في توازن واعتدال.
رابًعا: التربية الإسلامية تحث المسلم على العمل بقدر طاقته.
وفيها يلي نتناول كل عنصر مما سبق بشيء من التفصيل.
أولًا: التربية الإسلامية ربانية المصدر، عالمية الغاية، شاملة الأثر
الحقيقة الأولى التي بينها كتاب الله أن الإسلام هو الدين الحق، وأنه من عند الله سبحانه وتعالى، وأن رسوله لا يبتدع ولا يضيف ولا ينقص عن هوى أو نزعة ذاتية، ولكنه مبلغ لمنهج الله، موضح لحدوده، مبين لمقتضيات ربوبيته وإنفاذ منهجه في كل الأزمان والأجناس والأقوام والديار، وفي شتى الأمور والأحوال.
قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران: الآية 19] .
وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: الآية 125] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: الآية 85] .
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُور} [الشورى: الآية 52، 53] .
وقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 1-5] .
ويرتكز في بلاغه على حقائق هي في واقعها مسلمات هذا الدين: أولها التوحيد، فالله -في الإسلام- واحد لا شريك له، متفرد في كل شيء، لم يلد ولم يولد، وليس كمثله شيء، هو وحده الخالق البارئ المصور، هو الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، المنفرد بالألويهة في كل زمان وفي كل مكان في هذا الكون.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4] .
فتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات من المقومات الأساسية لهذا الدين، والأدلة في القرآن الكريم على هذا كثيرة، نذكر منها.
قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84، 85] .
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38] .
وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: الآية 11] .
ومجمل القول أن التصور الإسلامي يقوم على أساس أن هناك ألوهية وعبودية، ألوهية يتفرد به الله سبحانه، وعبودية يشترك فيها كل من عداه وكل ما عداه
…
كما يتفرد الله -سبحانه- بالألوهية، كذلك، "يتفرد" -تبعا لهذا- بكل خصائص الألوهية
…
وكما يشترك كل حي وكل شيء -بعد ذلك- في
العبودية، كذلك يتجرد كل حي وكل شيء من خصائص الألوهية
…
فهناك إذن وجدان متميزان: وجود الله ووجود ما عداه من عبيد الله، والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالمخلوق والإله بالعبيد.... "19، 183".
والحقيقة الثانية التي تتصل بالربوبية في الإسلام شمول الرسالة للناس جميعًا.
ومحمد صلى الله عليه وسلم نبي الإسلام لم يرسل لقوم دون قوم، بل أرسل للناس كافة دون تمييز لأحد بسبب جنس أو لون أو مركز اجتماعي أو غير ذلك من عوامل التمايز بين الناس.
فالرسالة عالمية موجهة للعالمين أجمعين، وليست خاصة لقوم دون آخرين، وهذا من بين ما يميزها عن رسالات سائر الأنبياء. فكل نبي أرسل إلى قومه إلا محمدًا فقد أرسل إلى كافة البشر.
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء: 107] .
وتتضح خاصة العالمية، وخواص أخرى تتفرد به رسالة محمد، في قوله:"أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث لقومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة".
ومن جوانب شمول رسالة الإسلام، أنها تشمل الإنسان الفرد كله: في خلقه وإخراجه إلى الوجود، وفي عقيدته وعبادته ومعاملاته، وفي سره وعلنه، وفي نفسه وأسرته ومجتمعه، وفي نومه ويقظته، في حياته وموته. باختصار في جميع مناشط الإنسان حيثما تكون ووقتما تكون. فالله محيط بها، يهدي من يشاء، ويحاسب كلا على عمله، ويعفو عمن يريد:
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] .
وهكذا تتجمع الكينونة الإنسانية بكل مشتملاتها في وحدة الانتماء والتوجه إلى الله، وبذلك تكون في أقوى حالاتها، والكينونة الإنسانية حيت تتجمع على هذا النحو تصبح في خير حالاتها؛ لأنها تكون حينئذ في حالة "الوحدة" التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها، فالوحدة هي حقيقة الخالق -سبحانه- والوحدة هي
حقيقة هذا الكون، على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال، والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء، على تنوع الأجناس والأنواع. والوحدة هي حقيقة الإنسان، على تنوع الأفراد والاستعدادات، والوحدة هي غاية الوجود الإنساني، وهي العبادة، على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها، وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود
…
"19، 107".
ومن أهم صور الشمول في الإسلام رد الكون كله من حيث نشأته وتسييره وتفاعلاته وتغيراته وعدمه إلى إرادة الذات الألهية السرمدية الأزلية الأبدية المطلقة.
فالله سبحانه هو الذي خلق هذا الكون ابتداء، وهو الذي يحفظ ما هو محفوظ فيه، وهو الذي يغير ما هو متغير فيه، وكل حركة أو سكون فيه لا تكون إلا بأمره، فهو القاهر فوق عباده، ويعلم كوامنه وأسراره، ويكشف ما يشاء منها لعباده، فمثلًا:
هذه الحياة كيف انبثقت من المادة الميتة؟ وكيف سارت -وتسير- سيرتها هذه العجيبة المحوطة بآلاف الموافقات والموازنات والتقديرات المرسومة المحسوبة بهذا الحساب الدقيق "19، 92".
ولننظر إلى هذه الأجرام السماوية والمجموعات الشمسية التي تتحرك في أنساق متآلفة دون خلل، وفي توافق عجيب مع حركة الأرض وجاذبيتها، وما أودع الله فيها من حبال وبحار وأنهار وبراكين وزلازل.
ولننظر إلى تركيب جسم الإنسان وأجهزته الهضمية والتنفسية، والإخراجية التي تعمل في تناغم عجيب وإنسجام بديع فيما بينها، وبينها من ناحية والحواس من ناحية أخرى. والقدرة الفائقة للإنسان على التكيف لمختلف الظروف البيئية في العالم. والملاحظة نفسها تنطبق على الحيوان والنبات.
إن الكون مليء بدلائل قدرة خالقه، ابتداء ومسير كل شيء فيه، وفي القرآن دلالات كثيرة لشمول سيطرة الله على هذا الكون سيطرة شاملة كاملة.
قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] .
وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] .
وقال تعالى: {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35] .
وقال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] .
وقال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] .
وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] .
وجوهر تصور خاصة العالمية والشمول وارتباطها بالربانية إنما يمكن تلخيصه في أن أمر الكون والحياة والإنسان والأحياء والأشياء يرجع إلى إرادة الذات الإلهية السرمدية الأبدية المطلقة القادرة دائمًا، الملهمة للصواب أبدًا، وتكون عقيدة التوحيد هي البوتقة التي ينصهر فيها كل هذا.
ويبين لنا سيد قطب في كتابه "نحو مجتمع إسلامي" أن مرد ذلك كله إلى عقيدة التوحيد في قوله:
إن عقيدة التوحيد -بكل إشعاعاتها- تسيطر وتؤثر في مقومات النظام الاجتماعي الإسلامي، توحيد الله المطلق بلا شبهة من شرك أو تعدد، وتوحيد إرادة الله في الخلق والحفظ والضبط والحساب، وتوحيد الوجود الحادث عن توجه الإرادة الواحدة، وتوحيد الحياة في مصدرها وطبيعتها ومقوماتها، وتوحيد البشرية في مصدرها وأصلها ونشأتها وفي أجيالها وأهدافها ومصائرها، وتوحيد الدين على أيدي أمة الرسل -وهم أمة واحدة- وتوحيد الأمة المؤمنة وهي تشمل كل من آمنوا برسول الله قبل أن يرسل أخوه بعده من لدن آدم إلى خاتم المرسلين، وتوحيد الطبيعة البشرية في اعتبارها وتوجيهها، وتوحيد العقيدة والعمل والعبادة والسلوك: وتوحيد الدنيا والآخرة في التوجه إلى الله "20، 142-143".
ويضيف سيد قطب قوله:
…
والواقع أن العقيدة الإسلامية واضحة الأثر في كل جزئيات النظام الإسلامي، ما قرب من هذه العقيدة من الظاهر كالعبادات والأخلاق، وما بعد عنها في الظاهر كالمعاملات المالية والارتباطات الاقتصادية، والعلاقات السياسية داخلية أو دولية، بحيث يصعب إدراك طبيعة أي جانب من هذه الجوانب المتعددة وفهمها فهما حقيقيا بدون دراسة العقيدة الإسلامية، وفكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان، ثم الربط بين هذه الفكرة الكلية وبين أي جانب من الحياة في الإسلام، فردية كانت أو عائلية أو جماعية أو دولية. "20، 142".