الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالله سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان ويعلم ما في نفسه، وهو الذي يقدره على كشف ما ستره عنه من أسرار الكون في وقت معلوم، لا يمكن لأحد سواه تقديمه أو تأخيره، وغاية سعي الإنسان في الدنيا في عبادة الله وفق منهجه.
فالعلم كله من عند الله سواء ما جاءنا عن طريق أو ما وفقنا إلى اكتشافه في أثناء سعينا لعمارة الأرض، وهذا العلم لا ينفد؛ لأن أسرار خلقه غير محدودة بزمان أو مكان. والهدف من اكتساب علم الله هو تحقيق منهجه في حياة البشر جميعًا بالعمل على عبادة الله حق عبادته، والارتقاء بحياة الناس كلهم أفرادًا وجماعات باستخدام أفضل معطيات العصر، مع الالتزام بتعاليم الدين الحنيف.
رابعًا: العلم يحيط بجميع متطلبات الحياة وفق منهج الله
العلم في منظور الإسلام قسمان: الأول منزل من عند الله سبحانه وتعالى يؤسس لحياة الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، ويبين صلته بربه وبنفسه وبأخيه المسلم وبمجتمعه المحلي بما في ذلك الأسرة، وبالمجتمع الإسلامي على وجه العموم، وبالحياة والكون، ويتكون هذا القسم من علوم الوحي:
القرآن الكريم والسنة المطهرة الموحى بها.
قال تعالى عن القرآن الكريم:
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] .
وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الإنسان: 23] .
وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى: 7] .
وعن السنة المطهرة قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3-5] .
وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] .
وموقف المسلم من علوم الوحي هو الاستيعاب والفهم والتمثل والاتباع والتطبيق.
ومن بديع صنع الله تبارك وتعالى أن جعل التفكير في خلق الله والتدبير في صنعه والعمل على كشف أسراره ومكنوناته، فرض كفاية على المسلمين: قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
ولم يضع الله سبحانه وتعالى قيدا على قدرة الإنسان على الإبداع والابتكار والتجديد والتحديث في أساليب حياته وطرقها، ما دام هذا يتم وفق منهج الله، وهذا الجانب المكتسب من المعرفة هو الشق الثاني من العلم وفق نظرة الدين الحنيف، وهو المخزون الخبري الذي يكشف عنه الإنسان نتيجة لتفاعله مع معطيات حياته، وما ينتقل إليه من الغير. وعليه أن يوظف هذا كله في استنباط حلول مبتكرة لما يواجه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من مشكلات، وما يساعده على عمارة الأرض وتسخيرها لخدمة البشرية جمعاء. وهو في ذلك يعبد الله إن اتبع المنهج الذي حدد الله تبارك وتعالى أسسه التي أنزلها الله في علوم الوحي.
بناء على ما سبق، فإن عمارة الأرض وتسخيرها ما أودع الله فيها من ثروات وطاقات وابتغاء ما بثه -الله- فيها من رزق، وما يلزم لذلك من التعرف على سنن الكون والعلم بخواص المادة وطرق الاستفادة منها في خدمة العقيدة، ونشر حقائق الإسلام وتحقيق الخير والفلاح للناس. كل ذلك يعد عبادة يتقرب بها العلماء والباحثون إلى الله، وطاعة يثاب عليها الناظرون في الكون والمكتشفون للقوانين التي تربط بين أجزائه، والمستنبطون لوسائل تسخيرها لخير الناس ومنفعتهم.
وهكذا تلتقي علوم الشريعة مع الطب والهندسة والرياضيات والتربية وعلم النفس والاجتماع
…
في أنها كلها علوم إسلامية، ما دامت داخل الإطار الإسلامي، وتتفق مع تصوره ومفهومه، ملتزمة بأحكامه، وكلها مطلوبة بقدر للمسلم العادي، ومطلوبة على مستوى التخصص لفقهاء الأمة ومجتهديها وعلمائها.
وقد ظهرت مسميات مختلفة لهذين القسمين من العلم -علوم الوحي والعلوم المكتسبة، وذلك مثل: علوم النقل وعلوم العقل، وعلوم المقصد وعلوم الوسيلة، وكتاب الله المسطور وخلق الله المنظور، إلى غير ذلك من التسميات التي لا تمس جوهر وظيفة كل قسمة فيها من البنية المعرفية للمسلم.
ومهما اختلفت التسميات، فإنه لا خلاف على أن هناك مصدرين للعلوم الإسلامية، أولهما: الوحي: وذلك في الجوانب التي يعلم الله سبحانه وتعالى أن
الإنسان لا يهتدي فيها إلى الحق من تلقاء نفسه، والتي لا تستقيم فيها الحياة على وجهها السليم إلا بمقررات ثابتة من عند الله المحيط بكل شيء علمًا.
وثانيهما: العقل البشري، وأدواته في تفاعله مع الكون المادي نظرًا وتأملًا وتجرية وتطبيقًا في الأمور التي تركها الله العليم الحكيم لاجتهاد هذا العقل وتحاربه بشرط واحد، هو الالتزام التام فيها بالأحوال العامة الواردة في شريعة الله المنزلة بحيث لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا، ولا تؤدي إلى الشر والضرر والفساد في الأرض.
ونحن، وإن كنا قد بينا أن للعلم في الإسلام مصدرين: أحدهما موحى به والآخر مكتسب، فإن الهدف هنا ليس تقسيم العلم إلى شقين آحدهما للدين والآخر للدنيا، وأن أحدهما منعزل عن الآخر، وأن الأول وظيفته في الحياة تختص بأمور معينة فقط مثل الدعوة والعبادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأن الثاني يتولى شئون حياة الناس وحل مشكلاتهم، وهذه الفكرة وإن أصبحت شائعة في كثير من الأنظمة التعليمية في بلاد المسلمين، إلا أنها دخيلة على مفهوم العلم ووظيفته في الإسلام. بل إن تسربها إلى نظم التعليم في بلاد الأمة الإسلامية شطر نظام التعليم داخل كل بلد تأثرت بها إلى نظامين للتعليم: أحدهما ديني والآخر مدني، وأدى هذا إلى تقسيم علماء الأمة إلى علماء في "العلوم الدينية" وآخرين في "العلوم المدنية أو الدنيوية". فانشطر شباب الأمة أيضًا شطرين، كل شطر ينتمي إلى أحد النظامين. وكأن الدين منقطع الصلة بالحياة الدنيا، وكأن العلوم المدنية لا صلة لها بالدين.
هذا الوبال نتج عن الجهل بمقومات العلم في الإسلام، فطبقًا لفطرة الإسلام كل علم يهدف إلى خدمة البشرية، ويوجه الفرد إلى أن يسلك في مختلف جوانب حياته في القول والعمل -وفق منهج الإسلام- هو علم إسلامي. وفي الإسلام تتحمل جميع العلوم -الموحى بها والمكتسب- مسئولية تربية الفرد تربية إسلامية تعده لكي يعمر الأرض ويحل ما أحل الله وينهى عما نهى عنه.
ويقول أحمد العسال عن شمول العلم وارتباط بعضه بالبعض الآخر:3، 60] .
كما أن شمولية العلم وارتباط بعضه بالبعض الآخر، وأن الحقيقة الكونية والإنسانية والاجتماعية منبثقة من عقيدة التوحيد، ومن الإيمان بالله الواحد الخالق المدبر، عالم الغيب والشهادة، قضية يجب أن تكون واضحة ومفهومة ولا يماري فيها إلا من ينكر البدهيات أو يعمى عن ضوء الشمس، وأن الفصام النكد الذي حدث نتيجة التفكير المادي والدنيوي الذي تسرب إلى مجتمعات المسلمين على حين غفلة أو ضعف يجب أن ينتهي وتصفى آثاره، وأن العلوم كلها في الإسلام يقصد بها
ويطلبها العمل والإخلاص الله عز وجل، وأنها وإن انقسمت حسب التخصصات وشرائح الحياة فهي تنتهي إلى علوم مقاصد وغايات، وعلوم وسائل وخدمات، وأنها ترتب حسب الأولويات والحاجات.
وقصارى القول أن العلم في الإسلام يشمل جميع متطلبات تربية المسلم المعاصر. نعني به المسلم الذي يسلم مقوده في حياته لله فيعيش وفق منهجه عقيدة وشريعة وعبادة ومعاملة وخلقا، الذي يستخدم أكثر علوم العصر تقدمًا وأحدث التقنية وأفضل أدواتها في العمل على تقدم الأمة الإسلامية وحل مشكلاتها. وهذا يجمع بين الأصالة والمعاصرة النابعة من صلاح الإسلام لكل زمان ومكان.
وبذلك فإن العلم في الإسلام يشمل الجبر والهندسة والكيمياء والاجتماع والتربية وعلوم الوراثة وعلوم الفضاء والآداب والفنون، إلى جانب علوم القرآن والشريعة والفقة وعلوم الحديث وعلوم اللغة وغيرها.
وإلى جانب تأهيل الإنسان للحياة الدنيا وللحياة الآخرة، فإن العلم في الإسلام يشمل الغيب والمشهود المحسوس، والنظرية والتطبيق، وجميع ما يتعلق بحياة الفرد من المهد إلى اللحد، وتعليمه وتربيته، كما يشمل جميع شئون المجتمع.
وكما سبق أن ذكرنا، فإن من العلم ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، فمعرفة كل مسلم من العلوم الشرعية "علوم الوحي" القدر الذي يساعده على الحياة وفق منهج الإسلام فرض عين، أما التخصص في العلوم مثل الفقه
أو النحو أو الذرة أو الهندسة أو الطب فقد جعله الله فرض كفاية على المجتمع المسلم، وفرض العين يعني بأنه يتعين على كل فرد في الأمة فعله ما لم يرخص له، أما فرض الكفاية فيمكن التعبير عنه بأنه يكفي أن يفعله من المسلمين عدد يسد حاجة الأمة مثل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقة، وغير ذلك من مقومات الحياة في الإسلام من واجبات المسلم. ومن ثم ينبغي أن يتعلم المسلم واجباته نحوها.
ولا يعفيه من السؤال عنها عدم معرفته بها ما دامت مصادر المعرفة بها متوافرة حوله في المجتمع المسلم، فالعلم بها إذن فرض عين.
والأمة الإسلامية في حاجة إلى متخصصين يقودون ركب الحياة فيها، ويقودنها إلى المكانة اللائقة بها. وقد وصفها لله سبحانه وتعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] .
هذه الأمة لا تكون خير أمة أخرجت للناس ما لم ترب من بين أبنائها وفق منهج الله تبارك وتعالى: عالم الشريعة القادر على الاجتهاد والبحث عن حلول إسلامية للمشكلات المعاصرة التي تواجه المسلمين، القادر على الإسهام في تبصير
أولى الأمر بشأن الحكم بما أنزل الله. وعالم الهندسة الزراعية الذي يستنبط أصنافًا جديدة من البذور التي تغل غلة غزيرة فيساعد الأمة على أن تصل إلى أقصى المستطاع في إنتاج الحبوب، وعالم الطب الذي يستنبط طرقًا وأساليب في التشخيص والعلاج، وعالم الذرة الذي يستطيع أن يطوع علوم الطبيعة النووية وغيرها لخدمة الإنسان، وللدفاع عن دين الله وأمته.
ولا تستطيع أمة أن تنهض دون أن تعد -إلى جانب العلماء- الفنيين، فهؤلاء لا غنى عنهم في التقدم المعاصر، فكاتبو برامج الحاسب الآلي "الكمبيوتر" والقائمون على صيانته وغيرهم من ذوي المهارات العالية في تشغيل وصيانة مختلف الأجهزة والآلات، من عمد التقدم في الأمة، وما نهضت البلاد المتقدمة إلا بإعداد القوى البشرية عالية الكفاءة في مختلف المجالات.
وهكذا نجد أن مفهوم العلم في الإسلام لا يقتصر على علوم الوحي وحدها، ولكنه يتسع -إضافة إليها- لكل العلوم المكتسبة بواسطة البشر سواء ما ينتج عن البحث أم ينتج عن البحث أم ينتج عن التطبيق في مختلف مجالات الحياة، وأن علوم
الوحي تحدد إطار حركة علوم الاكتساب لكي لا تخرج الأخيرة عن الحدود التي بينها الله للعلم والعلماء في اكتساب العلم وتطبيقه، كما أن علم الاكتساب تكشف عن مجالات كثيرة مشهودة تثبت صحة ما جاء في علوم الوحي.
بهذا المفهوم الواسع للعلم في الإسلام، لا نجد قضية من قضايا الحياة في كل من العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق والتقدم العلمي والتقني والاجتماعي والثقافي وغيرها من المجالات الأقل مدى مثل التقدم الاقتصادي والعسكري والسياسي وغيرها، صغيرة كانت أم كبيرة إلا وأحاط بها. فالدين الإسلامي ليس طقوسًا تعبدية ولكنه منهج حياة شامل لأمور الدنيا والآخرة في توازن واعتدال.
لذلك، فإن العلم من وجهة نظر الإسلام يشمل جميع الخبرات التي يحتاجها الإنسان ليستقيم على منهج الله في جميع أمور حياتة الدنيوية والأخروية ذكرًا كان أم أنثى، كل منهما حسب فطرته ووظيفته، ووفق ما وهبه الله من إمكانات السعي في مناكب الأرض تمكينا لدين الله، وارتقاء بحياة الفرد والمجتمع والإنسانية جمعاء.
وذلك من خلال إعداد كل من يستطيع الإسهام في هذا كله إعدادًا يناسب مقتضيات العصر.