الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واكتساب مستمر للخبرة. وما دام هذا التبصر والتدبر والتفكر عمليات دائمة، فإن تحصيل الإنسان لآليات ممارستها تكون -أيضًا- دائمة.
على وجه العموم، فإن أي عمل يقوم به المسلم ينبغي أن يبذل فيه كل جهده حتى يتقنه فقد ورد في الأثر:"إن الله يحب إذا عمل أحدكم العمل أن يتقنه". "صحيح الجامع الصغير والمقاصد".
والقرآن الكريم يبين أن إحسان العمل أساس لضمان الأجر، وذلك مصداقًا لقول الحق تبارك وتعالى:{إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] .
والإحسان والإتقان يستلزمان التأهل لهما بالعلم والمهارة. إضافة لما سبق، فإنه قد ورد في الأثر أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. ولكي يؤتى الإنسان الحكمة ينبغي أن يستفرغ طاقته في التعلم، بحيث يصبح العلم في حياته فريضة، وهذا ما قرره القرآن الكريم وما أرشدنا إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، وما أفادت به المصادر الشرعية الأخرى.
ثانيًا: العلم كله من عند الله، ولا ينفد
إن العلم يملأ جوانب حياتنا ونعتبره علامة مميزة لعصرنا الحاضر، نشهده في تصوير الأقمار الصناعية لسطح الأرض، وما عليها وما في باطنها من مياه جوفية وبترول ومعادن وأخاديد وحركة، وفي التقنية التي عبرت بالإنسان عصورًا إلى مستقبل لا يعرف مدى ما سوف يحدث فيه من تغيرات إلا الله، سبحانه وتعالى، وفي المراكب التي تسبح في الفضاء، وأصبح البعض يتهافتون على ركوبها كأنهم سيذهبون في رحلة سياحية إلى بلد مجاور، ونشهده في مخزون الهلاك والفتك الذي يهدد حياة البشرية من قنابل وصواريخ قصيرة المدى ومتوسطته وطويلته، ونشهده في استنباط طرق جديدة في الزراعة في التربة وبدون تربة، وباستخدام مياه الأنهار العذبة وباستخدام المياة المالحة التي كانت بالأمس سببا في جدب الأرض وعقمها، ونشهده في الطب حيث زراعة الأعضاء، ونشهده في الهندسة الوراثية التي فتحت آفاقا رحيبة في زراعة الجينات ساعدت -بعد الله- الإنسان على استنباط سلالات جديدة من النباتات والحيوانات، وغدًا قد نسمع ما لم يخطر على قلب بشر. فكل هذا في علم الله سبحانه وتعالى.
ومنذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وما سيكشفه العلماء حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هو كله من عند الله سبحانه وتعالى، وهو من الأسرار التي أودعها الله في الكون، يدل على هذا قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68] .
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] .
وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] .
وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] .
وقوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] .
وما يكتشفه البشر من هذه الأسرار، هو ما يوفقهم الله تبارك وتعالى في كشفه، فبمشيئته وإذنه يكشف عالم الذرة وعالم الهندسة الوراثية وعالم الفضاء وغيرهم ما يقدرهم الله على الوصول إليه من مكنونات خلقه في الكون. فقد قال الحق تبارك وتعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .
وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27] .
فحقائق الكون لا يبتكرها الإنسان، وإنما كانت مستورة عنه، واكتشافه لها جعله ينتفع بها في دائرة أوسع؛ لأنها كانت تؤدي مهمتها قبل أن يكتشفها، فالكهرباء كانت موجودة في الكون ولكن باكتشاف الإنسان لها استطاع أن ينقلها من ميدانها الأصيل إلى ميدان فرعي في حياته "2، 27"، ويقول الحق تبارك وتعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] .
إذن، الله تبارك وتعالى يساعد الإنسان على كشف ما يشاء من الغيب، وهو بهذا الكشف لا يخلق ولكن يستنبط ما كان مستورًا عن عقله، ولذلك فإن ما لم
يدركه الإنسان بعقله ليس معدومًا، بل هو كائن، وإنما لم يشأ الله بعد أن يكشف عنه للإنسان إلى أن يشاء أن يظهره له، يقول الحق تبارك وتعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] .
ونجد في "صفوة التفاسير" هذه الآية بما بوضح أن الله سبحانه وتعالى قد قصد بهذه الآية أن يظهر للكفار دلالات وحججا بأن القرآن حق من عنده، وأن هذه الدلالات والحجج في أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والنبات وغير ذلك من العجائب العلوية والسفلية، في عجائب قدرة الله في خلقهم وتكوينهم. وجاء أيضًا في "صفوة التفاسير" قول القرطبي في تفسير {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} إن المراد ما في أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة.
ومن خصائص العلم في الإسلام أنه لا ينفد مهما توالت السنون ومهما كشف الله للإنسان من مكنونه. والعلم الذي لا يزال في طي الغيب ولم يوفق الله الإنسان للكشف عنه، مخزون ضخم لا يمكن للإنسان أن يحيط به، ولا يمكن أن ينفد في يوم من الأيام. ومهما كان البشر بعضهم لبعض ظهيرًا في الكشف عما يخفيه الله من أسرار خلقه، فلن يستطيعوا الإحاطة بها ولا الإلمام بدقائقها. وسيظل الأمر كذلك إلى يوم القيامة. ويدل على أن العلم المغيب عن الإنسان لا ينفد قول الحق تبارك وتعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] .
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] .