الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسًا: تتوافق فيه حقائق الكون مع حقائق الوحي
إن حقائق الوحي لا يمكن أن تتعارض مع حقائق الكون التي ينتهي إليها العقل البشري؛ لأنها ربانية المصدر، وهي بذلك تؤسس على علم الله بخلقه وإحاطته بأسراره علما يقينيا وإحاطة جامعة مانعة.
والعقل البشري حين يصل -بتوفيق الله- إلى حقيقة من حقائق الكون فإنها بالضرورة تنسجم مع حقائق علوم الوحي؛ وذلك لأنه لا تعارض على الإطلاق -في الإسلام- بين الحقيقة العلمية واليقينية والحقائق الموحى بها، وإذا ما حدث تعارض فإنه لا بد من أن يكون هناك خطأ في أحد أمرين:
الأول: هو اعتبارنا لشيء ما حقيقة موحى بها وهي ليست كذلك. بمعنى أننا اعتبرنا أمرا ورد في القرآن -مثلًا- حقيقة قرآنية" وفق تفسيرنا نحن للقرآن وفهمنا لنصوصه فهما مغلوطًا. وهذا خطأ بين، إذ إن تفسير المفسر ليس حقيقة دينية ولا قرآنية.
ويعطي فضيلة الشيخ الشعراوي لهذا مثلًا موضحًا في كتابه القيم "هذا هو الإسلام" بالتعارض الذي ظهر في وقت ما بين القول بأن الأرض مبسوطة باعتبار أن هذه حقيقة قرآنية، في حين أن العلم يقول بكرويتها.
يقول فضيلته "2، 28": يوجد من يقول: إن القرآن يقول إن الأرض مبسوطة. ولذلك لما جاءت الحقيقة العلمية الكونية تقول إن الأرض كرة، بدأت تحدث فجوة بين ما تقوله الحقائق الكونية وما يقوله القرآن وفق فهم هؤلاء. فالتصادم -هنا- جاء من اعتبار حقيقة ما دينية وهي ليست كذلك. ويستشهد صاحب رأي بسطة الأرض بقول الحق تبارك وتعالى:{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر: 19] .
لكن هل {مَدَدْنَاهَا} هنا تعني بسطناها؟ الخطأ -هنا- عام لناس. فهل هي أرضي أنا أم أرضك أنت؟ أي أرض؟ ويوضح فضيلته: إذن ما دامت على إطلاقها، كان يجب أنك حين تصل إلى أي مكان في الأرض يجب أن تتحقق كلمة {مَدَدْنَاهَا} . وما دامت كلمة مددناها ما زالت تتحقق في أي بقعة من الأرض. فإن هذا لا يتحقق إذا كانت الأرض مربعة أو مثلثة، أو مستطيلة أو أي شكل مسطح؛ لأنك سوف تنتهي إلى حافتها، مهما كان شكلها المسطح، ومهما كان اتساع هذا السطح المستوي، فلابد أنك -إذن- واصل إلى حافته، وهناك تجدها
منتهية ولا تجد الأرض ممدوة، بل محدودة، وهذا يتعارض مع قوله تعالى:{مَدَدْنَاهَا} .
ويستنتج فضيلته من هذا الإيضاح: ولكن إذا كانت الأرض كرة، فإنك حيث كنت ستجدها ممدوة حولك في جميع الاتجاهات: أمامك وخلفك وعن يمين وشمال، ومهما انتقلت من مكان إلى مكان فإنك واجدها ممدودة ولن تجد لها نهاية محدودة أبدًا "2، 29".
وكما شرح فضيلة الشيخ الشعراوي فإن الخطأ هنا جاء من اعتبار بسطة الأرض حقيقة من حقائق الوحي وهي ليست كذلك، بل إنها التفسير البشري لحقيقة الوحي، وأما حقيقة الوحي فهي أن الله سبحانه وتعالى قال:{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} [الحجر: 19] .
أما تفسير {مَدَدْنَاهَا} بمعنى بسطناها فهذا أمر بشري يحتمل فيه الصواب كما يحتمل فيه الخطأ، وقد كان التفسير هنا خطأ، الأمر الذي تسبب في ظهور تصادم بين الحقيقة الكونية وهي "كروية الأرض" مع ما اعتبر خطأ "حقيقة قرآنية" وهو انبساطها أو تسطحها أو استواؤها.
وهذا ينبهنا إلى أمر مهم بالنسبة لتفسيرنا لآيات القرآن الكريم. وهو أنه لا ينبغي أن ننسى أن تفسيرنا لحقائق الوحي المتعلقة بالكون، تكون -بالضرورة- محدودة بعلم المفسر بمراد التعبير الإلهي القرآني عن الحقيقة الكونية، وهذا مرتبط بمدى علمه بالحقائق الكونية من خلال الدراسات العلمية، والقدرة على التمييز بين اليقينية منها وغير اليقينية. فإذا كان علمه قاصرًا عن الوصول إلى الحقيقة الكونية فإن ثمة تصادمًا سوف يحدث بين هذه الحقيقة وتفسيره للحقيقة الدينية أو القرآنية المتعلقة به، وليس بالحقيقة الدينية أو القرآنية ذاتها.
ويؤيد فضيلة الشيخ الشعراوي هذا بقوله "2، 29":
ولذلك لم يفسر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن؛ لأنه لو فسره لكان يجب أن يفسره بما تطيقه عقول معاصريه، ولو فسره بالأشياء التي توجد في القرن العشرين أو الثلاثين أو الأربعين لعجب معاصروه ولاستعظموه أيما استعظام.
ولو أنه صلى الله عليه وسلم فسره على قدر عقول معاصريه ومعلوماتهم الكونية لحجر علينا، ولجمد القرآن؛ لأن من يتصدر لتفسير القرآن بعد ذلك سيواجه بأن الرسول قد فسره كذا، وعليه ألا يزيد عن ذلك أو ينقص. لذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك تفسير القرآن حتى تأخذ كل مرحلة فكرية من لمحات القرآن بقدر ما تستطيع ذلك في أمور الكونيات، أما المطلوب من الأحكام فقد بينها صلوات الله عليه وأوضحها للناس.
ويمس الشيخ الشعراوي كبد الحقيقة حين يوجه إلى سر صلاح القرآن في كل زمان ومكان حين قال: إذا كنا نريد أن نفهم القرآن مرة واحدة، نكون قد حددنا كمالات الله في كلامه، والقرآن للزمن كله وللدنيا كلها
…
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أول منفعل به "بالقرآن": "لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء".
والواقع يؤيد هذا، فكلما بالغ الناس في الإلحاد، أظهر الله سرا من أسرار كتابه الكريم، يلفتنا به إلى أن هذا الكتاب ليس من عند البشر، وأن هذا الكتاب من عند الله الذي يعلم نهاية العالم كيف ستكون، القائل:
أما الأمر الثاني الذي يظهر تصادمًا بين الحقيقة الموحى بها والحقيقة الكونية، فيأتي من تسمية رأي علمي حقيقة كونية، فهذا يجعل الحقيقة الكونية وكأنها في تصادم مع الحقيقة الموحى بها، ولا شك أن من يقع في شراك هذا التصادم غير الواقعي، يكون غافلًا عن طبيعة البحث العلمي بل عن طبيعة العلم ذاته. فكم من كشف علمي نسخ كشفًا سابقًا عليه، وكم من نظرية علمية أثبتت خطأ غيرها، وبخاصة فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية، ومن البداهة هنا أن من يقع في هذا الشرك لا يكون مؤمنا بأن القرآن منزل من عند الله؛ لأنه لو كان مؤمنا بأن القرآن كتاب الله، ما داخله أدنى شك بأن ما سمي بالحقيقة العلمية ليست "حقيقة كونية" لمجرد تعارضها مع حقيقة قرآنية؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .
وقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] .
وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
ويعطي فضيلة الشيخ الشعراوي مثالًا لاعتبار شيء ما حقيقة كونية على اعتبار أنها حقيقة علمية بالنظرية التي قال بها دارون من أن الإنسان أصله قرد، مع أن القرآن يقضي بأن كل شي خلق خلقًا مستقلا، بدليل قوله تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] .
وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يس: 36] .
وفي هذا بين بأنه لا ارتقاء لعنصر من الأحياء الذين خلقهم من عنصر آخر، فلا ارتقاء للنبات من الجماد، ولا الحيوان من النبات، ولا الإنسان من الحيوان، بل كل عنصر من الأحياء خلق مستقلا عن الآخر.
ويبين الحق تبارك وتعالى أن الإنسان خلق من تراب في قوله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر: 11] .
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [غافر: 67] .
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] .
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] .
من الآيات السابقة نقف على حقيقة خلق الإنسان، ومن ناحية أخرى نجد من يعتبر أن ارتقاء الإنسان من سلالة القرد حقيقة كونية، نعيد هنا ما سبق أن بيناه بأن الإيمان يحسم الأمر هنا بيقين من أن الإنسان خلق وفق ما جاء في كتاب الله عز وجل. وهذا أمر قطعي غير قابل للمناقشة أو الأخذ والرد في أنه حقيقة، ولكن المناقشة هنا هدفها هو بيان الأسباب التي يمكن أن تجعل الحقائق الكونية تبدو في تعارض مع حقيقة من حقائق الوحي.
وكما يقول فضيلة الشيخ الشعراوي: "2، 30-31":
نحن لا نستطيع أن نحكم الحكم اليقيني العلمي إلا على أمر تجريبي، أما ما وراء ذلك فينبغي أن نأخذه عمن يعلمه، فإذا نظرنا إلى قوله الله تبارك وتعالى أنه خلق الإنسان من تراب مرة، ومن طين مرة، ومن حمأ مسنون مرة، ومن صلصال كالفخار مرة، وبعد ذلك نفخ فيه الروح، نجد أننا لم نشاهد هذا كله، ومن ثم لا نستطيع أن نحكم كيف خلقنا، بل نؤمن بكيفية خلقنا بناء على ما بينه لنا الخالق، ولكننا نستطيع أن نستقرئ حقائق الكون والوجود فنجد صدق الله في غيب أخبرنا به بدليل يقيني مشاهد لنا. فانظر -مثلًا- إلى الحياة، تجد نقيضها الموت، وانظر إلى الخلق تجد نقيضه العدم. فالقضية الأساسية التي نقيس عليها هنا كل شيء على عكس بنائه. فالموت أمر مشهدي محس لنا، والموت يعني مفارقة الروح الجسد وهي آخر ما دخل فيه في أثناء خلقه. وبعد ذلك يتيبس جسمه وهذه مرحلة الصلصالية، أي: الطين المتعفن المتغير الرائحة. بعد ذلك يصير ترابًا، أي: يعود إلى سيرته الأولى. وهذا يبين أن مرحلة الفناء تسير في خط عكسي لمرحلة الخلق، فتبينها
مع أنها من أمور الغيب التي نسلم بها إيمانًا بما أنزله الله علينا في القرآن الكريم.
وأما ما بدا على أنه تناقض بين حقائق الكون، على اعتبار أن الإنسان أصله قرد وما جاء في القرآن من أن الإنسان خلق من تراب "فيرجع إلى تسمية استنتاجات بشرية قائمة على غير أساس علمي سليم بأنها" حقيقة كونية". وعلى ذلك يجب أن نفهم القضية الأساسية، وهي أن الحقائق الكونية التي يصل إليها العلماء بيقين علمي، لا تتعارض بحال مع الحقائق الدينية أو القرآنية "حقائق الوحي".
ونستطيع أن نضع القضية بصورة أخرى. وذلك بأن العلم في الإسلام مصدره كتابان لا ثالث لهما: الأول هو كتاب الله المسطور. وهو كلام الله الذي أوحى به سبحانه وتعالى إلى نبية محمد صلى الله عليه وسلم سطر في القرآن والسنة الموحى بها، وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يتضمن هذا الكتاب أمورًا غيبها الله عن عبادة غيبا مطلقًا مثل: حساب القبر: والأجل، ويوم القيامة:
أما المصدر الآخر: فهو كتاب الله المنظور، وهو الكون المشهود الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وأودع ما أودع من أسرار غيبها عن عباده إلى أن تقتضي حكمته أن يكتشفوها.
وكما سبق أن ذكرنا؛ الله وحده مصدر العلم كله: المسطور منه والمنظور.
ومن ثم لا يمكن أن يودع في أي من الكتابين ما يتعارض مع ما أودعه في الكتاب الآخر. وهذه قضية إيمانية تعود إلى إيماننا بأن الله سبحانه وتعالى وحده خالق كل شيء، وأنه وحده عالم الغيب والشهادة، وأنه وحده يعلم السر وأخفى. وإذا ما بدا لنا تعارض بين حقيقة كونية مع حقيقة من حقائق "الوحي" فإن هذا يرجع كما سبق أن ذكرنا إلى أحد أمرين: إما أننا اعتبرنا حقيقة ما حقيقة كونية وهي ليست كذلك، وإما أننا فسرنا حقيقة من حقائق الوحي تفسيرًا خاطئا؛ نظرا لأن معلوماتنا عن الكون لم تصل إلى مراد الله من هذه الحقيقة.