الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(
[آدَاب الشَّيْخ والطالب] )
(وَمن المهم أَيْضا معرفَة آدَاب الشَّيْخ والطالب) وَذَلِكَ أَن علم / الحَدِيث علم شرِيف لكَونه مُضَافا إِلَى النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فيناسب صَاحبه وطالبه أَن يكون موسوما بمكارم الْأَخْلَاق، ومحاسن الشيم.
(ويشتركان فِي تَصْحِيح النِّيَّة) أَي تجريدها عَن الرِّيَاء والسمعة، وإخلاصها لابتغاء الرِّضَا والقربة بالتوجه إِلَى الْمَرَاتِب الْعليا بِسَبَب تَحْصِيل الْعلم، وَالْعَمَل، وتكميل التَّعْلِيم فِي حُصُول العقبى. قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: قلت لحبيب بن أبي ثَابت: حَدثنَا [212 - ب] قَالَ: حَتَّى تَجِيء النِّيَّة. وَقد ورد: " من تعلم علما مِمَّا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله عز وجل لَا يتعلمه إِلَّا ليصيب بِهِ غَرضا من الدُّنْيَا لم يجد عرف الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة أَي رِيحهَا "، وَالْحَال أَن رِيحهَا تُوجد من مسيرَة خمس مئة سنة.
(والتطهير) أَي تَطْهِير الْقلب (من أَعْرَاض الدُّنْيَا) أَي ن المَال والجاه، وَاتِّبَاع الْهوى.
(وتحسين الْخلق) بِضَمَّتَيْنِ، وبضم [فَسُكُون] وَهُوَ الْقيام بمعاشرة الْخلق ومتابعة الْحق. قَالَ تَعَالَى فِي حق النَّبِي الْكَرِيم [صلى الله عليه وسلم] :{وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} وسئلت عَائِشَة رضي الله عنها عَن خلقه صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: " كَانَ خلقه الْقُرْآن " وَأَشَارَ الشاطبي رحمه الله إِلَى معنى الحَدِيث بقوله فِي وصف مَا قَالَ فيهم رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم: " أهل الْقُرْآن أهل الله وخاصته "، وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن أهل الحَدِيث أهل رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وصفوته:
(أولو الْبر وَالْإِحْسَان وَالصَّبْر والتقى
…
حلاهم بهَا جَاءَ الْقُرْآن مفصلا)
ثمَّ قَالَ:
(عَلَيْك بهَا مَا عِشْت فِيهَا منافسا
…
وبع نَفسك الدُّنْيَا بأنفاسها الْعلَا)
(وينفرد الشَّيْخ بِأَن يسمع) بِضَم أَوله وَكسر ثالثه أَي الطَّالِب الحَدِيث، (إِذا احْتِيجَ إِلَيْهِ) أَي إِلَى الشَّيْخ، أَو إِلَى حَدِيثه.
وَالْحَاصِل: أَن من آدَاب الشَّيْخ خَاصَّة أَنه مَتى احْتِيجَ إِلَى مَا عِنْده جلس للإسماع وجوبا إِن تعين عَلَيْهِ، أَو اسْتِحْبَابا، إِن كَانَ ثمَّ مثله، وَهُوَ الصَّحِيح فقد جلس الإِمَام مَالك للنَّاس وَهُوَ ابْن نَيف وَعشْرين سنة، وَالنَّاس متوفرون وشيوخه أَحيَاء، وَكَذَا [213 - أ] جلس الإِمَام الشَّافِعِي وَأخذ عَنهُ الْعلم فِي سنّ الحداثة بِحَيْثُ حمل عَنْهُمَا بعض شيوخهما، وَمن أسن مِنْهُمَا وأقدم عَلَيْهِمَا، وَمِمَّنْ أنكر التَّقْيِيد بسن مَخْصُوص القَاضِي عِيَاض وَبَين أَنه كم من السّلف فَمن بعدهمْ من لم ينْتَه إِلَى هَذَا السن وَنشر من الحَدِيث مَا لَا يُحْصى. وَقَالَ ابْن خَلاد: يتَصَدَّى للإسماع [إِذا بلغ الْخمسين لِأَنَّهَا انْتِهَاء الكهولة، وفيهَا مُجْتَمع الأشد، قَالَ: وَلَا يُنكر] عِنْد الْأَرْبَعين لِأَنَّهَا حد الاسْتوَاء ومنتهى الْكَمَال، وَعِنْدهَا يَنْتَهِي عزم الْإِنْسَان وقوته ويتوفر عقله. وَجمع ابْن الصّلاح بَينهمَا بِأَن [قَالَ:] مَا قَالَه ابْن خَلاد مَحَله فِي المسندين غير البارعين فِي الْعلم، فَإِنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَيْهِم إِلَّا عِنْد السن الْمعِين وَنَحْوه. وَمن نقل عَنهُ التصدي فِي الحداثة فهم البارعون الَّذين احْتِيجَ لما عِنْدهم.
(وَلَا يحدث) أَي وَلَا يَنْبَغِي أَن يحدث (بِبَلَد فِيهِ أولى مِنْهُ) بِأَن يكون مرتبته
فِي الْإِسْنَاد أَعلَى، أَو فِي معنى الحَدِيث وحَلّه أَحْرَى. وَقيل: لِسِنّه أَو زهذه وَغير ذَلِك من وُجُوه تَرْجِيحه، (بل يُرشِد) أَي أَي يدل الطَّالِب (إِلَيْهِ) أَي إِلَى الأولى مِنْهُ إِن اطلع عَلَيْهِ، فإنّ الدّين النَّصِيحَة، بِالْأولَى أَن لَا يحدث بِحَضْرَة من هُوَ أولى مِنْهُ بِالتَّحْدِيثِ.
(وَلَا يَتْرُك إسماع أحد لنِيَّة فَاسِدَة) أَي لَا يمْنَع من / تحديث أحد لكَونه غير صَحِيح النِّيَّة، فَإِنَّهُ قد يُرجى لَهُ صِحَّتهَا بعدُ لما قَالَ بعض السّلف: طلبنا الْعلم لغير الله فَأبى [الْعلم] أَن يكون إِلَّا لله. وَهَذَا هُوَ الْغَالِب فِي علم الْكتاب والسنّة بِأَن مآلهما ونتيجتهما لصاحبهما أَن يحسن حَاله، وَيخْتم بِالْحُسْنَى مآله.
(وَأَن يتَطَهَّر) طَهَارَة كَامِلَة من غسل أَو وضوء، ويتسوك، ويتطيب، ويُسَرِّح لحيته، وَيَتُوب إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، ويتضرع لرَبه.
(وَيجْلس) أَي مُتَمَكنًا على صدر فرَاشه، (بوَقَار) أَي بِسُكُون وهيبة [213 - ب] .
(وَلَا يُحَدثُ قَائِما) أَي إِلَّا لضَرُورَة.
(وَلَا عَجِلاً) بِفَتْح فَكسر أَي: مستعجلاً فِي تلفظ الحَدِيث بِحَيْثُ يمْنَع السَّامع فهمَ بعضه، فَإِن كَلَامه عليه الصلاة والسلام كَانَ فَصْلا، بل كَانَ أَحْيَانًا يكرره ثَلَاثًا فقد رُوِيَ عَن عَائِشَة رضي الله عنها:" لم يكن النَّبِي عليه الصلاة والسلام يسْرد الحَدِيث كَسَرْدِكُمْ، إِنَّمَا / 147 - ب / كَانَ يحدث حَدِيثا لَو عدَّه العَادُّ لأحصاه ". أَو
الْمَعْنى وَلَا يحدث حَال كَونه متعجلاً فِي أَمر من أُمُوره، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون مَشْغُول البال فَرُبمَا يَقع لَهُ خلل فِي الْمقَال.
(وَلَا فِي الطَّرِيق) بِأَن يقْعد فِيهِ، أَو يقف أَو يمر.
(إِلَّا أَن اضطُر) بِضَم الطَّاء، وَيجوز كسر النُّون وضمه.
(إِلَى ذَلِك) أَي مَا ذكر من المنهيات. سَوَاء تكون الضَّرُورَة شَرْعِيَّة أَو عرفية. قَالَ الكازَرُوني شَارِح البُخَارِيّ: فقد رُوِيَ عَن مَالك بن أنس: كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يحدث تَوَضَّأ وَجلسَ على صدر فرَاشه، وسرَّح لحيته، وَتمكن فِي جُلُوسه بَوقَار وهيبة، وَحدث؛ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك؟ فَقَالَ أُحِبًّ أَن أعظِّم حَدِيث رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحدث إِلَّا على طَهَارَة كَامِلَة. وَكَانَ يكره أَن يحدث فِي الطَّرِيق أَو هُوَ قَائِم أَو مستعجل. وَقَالَ: أحب أَن أتفهم مَا أُحَدِّث بِهِ عَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم. وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا أَنه كَانَ يغْتَسل لذَلِك ويتبخر، ويتطيب فَإِن رفع أحد صَوته زَجره وَقَالَ: قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} الْآيَة.
(وَأَن يُمْسِك) أَي يمْتَنع (عَن التحديث إِذا خشِي التَّغْيِير) أَي فِي لِسَانه
(أَو النسْيَان) أَي فِي حفظه وَضَبطه (لمَرض) أَي يخْتل بِهِ مزاجه وعقله، وَإِلَّا فقد تقدم أَن ابْن معَين حدَّث عِنْد نَزعه وَقَالَ:" مَن كَانَ آخر كَلَامه لَا إِلَه إِلَّا الله [دخل الْجنَّة "] ، وَقبض روحه قبل قَوْله:" دخل الْجنَّة "[214 - أ]
(أَو هَرَم) بِفتْحَتَيْنِ أَي كِبَرِ سِنِّ مؤدٍ إِلَى خرف قَالَ تَعَالَى: {ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر لكيلا يعلم من بعد علم شَيْئا} لَكِن قَارِئ الْقُرْآن مَحْفُوظ عَنهُ، وَكَذَا الْمُحدث غَالِبا، وَالنَّاس فِي بُلُوغ هَذَا السن متفاوتون بِحَسب اخْتِلَاف أَحْوَالهم. وَضبط ابْن خَلَاّد سِن الهَرَم بالثمانين، قَالَ: وَالتَّسْبِيح وَالذكر [وتلاوة الْقُرْآن] أولى بأبناء الثَّمَانِينَ، فَإِن كَانَ عقله ثَابتا، ورأيه مجتمعاً يَعْرِفُ حديثَه وَيقوم بِهِ [و] تَحرَّى أَن يحدث احتساباً، رَجَوْت [لَهُ] خيرا كثيرا كالحضرمي [و] مُوسَى [و] عَبْدَانِ. فقد حدث بعْدهَا، بل حدث بعد المئة جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ
قلت: قد حدث شَيْخي المُعْتَمَد فِي السنَد زبدة الْأَوْلِيَاء، وعمدة الْعلمَاء السَّيِّد زَكَرِيَّا وَيَقُول: عمري مئة وَعِشْرُونَ سنة، " فطُوَبى لمن طَال عمره، وحَسُنَ عمله " كَمَا ورد فِي السنَّة، ثمَّ الأولى / للمحدث أَن يتَّخذ مَجْلِسا لإملاء الحَدِيث، فَإِنَّهُ أَعلَى مَرَاتِب الرِّوَايَة عِنْد الْجُمْهُور، بِأَن يكون التحديث بِلَفْظ الشَّيْخ مَعَ تحريه وتدبره، وَكَون الطَّالِب يتلقنه مِنْهُ مَعَ تيقظه وَضَبطه، وتحققه مَا يسمعهُ ويكتبه، وَأَيْضًا الْإِمْلَاء فِي الْفَائِدَة أتم ولتحصيل الطالبين أَعم / 148 - أ / أَي (وَإِذا اتخذ مجْلِس الْإِمْلَاء أَن يكون لَهُ) كَانَ حَقه أَن يَقُول:[وَأَن يكون] لَهُ الخ إِذا اتخذ مجْلِس الْإِمْلَاء
ثمَّ قَوْله:
(مُسْتَملٍ) اسْم فَاعل من الاستملاء، وَفِي نُسْخَة: بتَشْديد اللَّام من الاستملال، فَإِن الْإِمْلَاء [والإملال] بِمَعْنى وَاحِد. قيل: وَهُوَ أول من يطْلب الحَدِيث من تلامذة الشَّيْخ. وَقيل: هُوَ مَن يكْتب أسامي حضّار الْمجْلس، وَالصَّوَاب: أَن المُرَاد بِهِ الْمبلغ للْحَدِيث إِذا كثر الْجمع، وَعند تكاثر الْجمع بِحَيْثُ لَا يكْتَفى بمستمل وَاحِد اتخذ مستمليين فَأكْثر. وَقَوله:
(يقظ)[214 - ب] بِفَتْح فَكسر أَي: متيقظ حَاضر الْقلب، حَافظ لفظ الحَدِيث من غير تغيُّر فِي بنائِهِ وَإِعْرَابه عَمَّا سمع من ممليه، وَيَنْبَغِي أَن يكون الْمُسْتَمْلِي عِنْد كَثْرَة النَّاس على مَوضِع مُرْتَفع من كرْسِي أَو نَحْو ذَلِك، وَإِلَّا فقائماً على قَدَمَيْهِ ليَكُون أبلغ للسامعين، وعَلى الْمُسْتَمْلِي أَن يبلِّغ لفظ المملي وإفهام مَن بلغه على بُعْدٍ وَلم يتفهمه، إِلَّا أنّ من يسمع لفظ الْمُسْتَمْلِي لَا تجوز لَهُ الرِّوَايَة عَن المملي إِلَّا أَن يبين الْحَال على وَجْهِ أَن سَمَاعه لذَلِك الحَدِيث أَو لبَعض [أَلْفَاظه] من الْمُسْتَمْلِي كَمَا فعله الإِمَام أَبُو بكر بن خُزَيْمَة، وَغَيره من الْأَئِمَّة، وَهَذَا هُوَ الْأَحْوَط، وَإِلَّا فَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل أَن مَن سمع الْمُسْتَمْلِي دون سَماع المملي جَازَ أَن يرويهِ عَن المملي كالعرض سَوَاء، لِأَن الْمُسْتَمْلِي فِي حكم من يقْرَأ على الشَّيْخ ويعرض حَدِيثه، لَكِن يشْتَرط أَن يسمع الشيخُ المملي لفظ الْمُسْتَمْلِي كالقارئ عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ لمن لم يسمع لفظ المملي أَن يَقُول: سَمِعت فلَانا يَقُول.
واستحسنوا افْتِتَاح مجْلِس الْإِمْلَاء بِقِرَاءَة قَارِئ من الْقُرْآن الْعَظِيم آيَة أَو سُورَة تبركاً بالفرقان الْكَرِيم، فَإِذا فرغ الْقَارئ استنصت الْمُسْتَمْلِي أهل الْمجْلس إِذا
احْتِيجَ إِلَيْهِ لقَوْله عليه الصلاة والسلام [" يَا جَريرُ استنصِتِ النَّاس ". ثمَّ بَسْمَلَ وَصلى على النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم] ثمَّ أقبل على الشَّيْخ الْمُحدث قَائِلا: مَن ذَكَرْتَ أَي من الشُّيُوخ أَو: مَا ذكَرْتَ أَي من الْأَحَادِيث رَحِمك الله أَو غفر الله لَك؟ وَإِذا انْتهى الْمُسْتَمْلِي فِي الْإِسْنَاد أَو فِي الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم اسْتُحِب لَهُ الصَّلَاة [عَلَيْهِ] رَافعا صَوته، وَإِذا انْتهى إِلَى ذكر الصَّحَابَة قَالَ رضي الله عنهم، أَو رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم، وَأَن يفْتَتح الشَّيْخ مَجْلِسه [215 - أ] ويختتمه بتحميد الله تَعَالَى وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَالدُّعَاء بِمَا يَلِيق بِالْحَال.
(وينفرد الطَّالِب بِأَن يوقر الشَّيْخ) أَي يعظم مَن سمع مِنْهُ الحَدِيث وَأخذ مِنْهُ الْعلم لما رُوِيَ مَرْفُوعا لَيْسَ مِنا مَن لم يبَجِّل كَبِيرنَا، وَلم يرحم صَغِيرنَا، وَلم يعرف لعالمنا حَقه ".
(وَلَا يُضجره) بِضَم أَوله أَي لَا يوقعه فِي الضجر والملالة / 148 - ب / بِأَن يطوِّل عَلَيْهِ بل يَنْبَغِي للطَّالِب أَن لَا يتَعَدَّى [الْقدر] الَّذِي يُشِير الشَّيْخ إِلَيْهِ صَرِيحًا، أَو كِنَايَة أَو دلَالَة فَرُبمَا كَانَ ذَلِك سَبَب حرمَان / الطَّالِب، وَلَعَلَّه يكون مانعٌ للشَّيْخ من التَّطْوِيل، فَيحصل بِسَبَب اشْتِغَال قلبه خللٌ فِي التَّحْصِيل. وَقد قَالَ الزُّهْرِي: إِذا طَال الْمجْلس كَانَ للشَّيْطَان فِيهِ نصيب.
(ويرشد) أَي وَأَن يهدي (غَيره لما سَمعه،) أَي من الْعلم فَإِن كِتْمَانه لوم من فَاعله، ومذموم عَلَيْهِ صَاحبه، وَقد رُوِيَ فِيهِ وَعِيد شَدِيد من النَّبِي الْمُخْتَار صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم:" من كتم علما أُلْجِم بِلجَام من نَار ". وَإِنَّمَا يَقع فِيهِ جهلة الطّلبَة لظنهم بذلك أَنهم ينفردون بِهِ عَن أضرابهم، ويُرفعون بذلك على أقرانهم وأمثالهم، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي تَعَالَى عَنْهُمَا:" إخْوَانِي تناصحوا فِي الْعلم، وَلَا يكتم بَعْضكُم بَعْضًا، فَإِن خِيَانَة الرجل فِي عمله أشدٌ من خيانته فِي مَاله " ورُوِي عَن مَالك قَالَ: بركَة الحَدِيث إِفَادَة بَعضهم بعضاَ. وَنَحْوه عَن ابْن الْمُبَارك وَيحيى بن مَعِين، فَإِن الْجمع بَين الْكَمَال والتكميل بِالْعلمِ والتعليم صفة الْأَوْلِيَاء والأصفياء، " وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء ". وَفِي الحَدِيث العيسوي: مَن علم وَعمل، وَعلم يدعى فِي الملكوت عَظِيما.
أَقُول: وَيُسمى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة كَرِيمًا قَالَ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} وَقَالَ [صلى الله عليه وسلم] : " إِن علما لَا يُقَال بِهِ، ككنز لَا يُنفَق مِنْهُ ". وَلَا شكّ أنّ الْبَخِيل [كل الْبَخِيل] من لَا ينْفق مِمَّا لَا ينقص [215 - ب] بِالْإِنْفَاقِ بل يزِيد فِيهِ وَفِي غَيره بالِاتِّفَاقِ. وَمَا رُوِيَ أَنه فَعَل ذَلِك جمَاعَة من الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين
كشُعبة، وسُفْيَان الثَّوْريّ، [وهُشَيْم] وَاللَّيْث، وَابْن جُرَيْج، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَابْن [لَهِيْعَة]، وَعبد الرازق. قَالَ الْعِرَاقِيّ: فَالله سُبْحَانَهُ أعلم بمقاصدهم فِي ذَلِك.
(وَلَا يدع الاستفادة) أَي وَلَا يتْرك طلب الْعلم وَأَخذه مِمَّن هُوَ دونه فِي نسب أَو سنّ أَو غَيره.
(لحياء) فَإِن الْحيَاء يمْنَع الرزق، وَفِي رِوَايَة يمْنَع الْعلم، وَقد قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها مَرْفُوعا أَو مَوْقُوفا:" نِعم النِّسَاء [نسَاء] الْأَنْصَار، لم يكن يَمْنَعُهُنَّ الحَياء [أَن يَتَفَقَّهْنَ] فِي الدّين ".
(أَو تكبر) قَالَ تَعَالَى: {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} وَلِأَن من تكبر على نعْمَة حُرِم خيرَها. وَقد ذكر البُخَارِيّ عَن مُجَاهِد قَالَ: لَا يتَنَاوَل الْعلم مُسْتَحْي، وَلَا مُسْتَكْبِر. لِأَن الطَّالِب الصَّادِق كالمُحِبّ العاشق لَا يمنعهُ عَن مَطْلُوبه محبوبه عائق.
(وَيكْتب مَا سَمعه تَاما) أَي وَأَن يكْتب جَمِيع مَا وَقع لَهُ [من] سَماع كتاب أَو جُزْء أَو حَدِيث طَوِيل مُشْتَمل على فُصُول من الْكَلَام على / 149 - أ / وَجه الْكَمَال والتمام وَلَا ينتخبه، فَإِنَّهُ نقص فِي المرام وَرُبمَا يحْتَاج إِلَى رِوَايَة شَيْء مِنْهُ مِمَّا لم يكن فِيمَا انتخبه مِنْهُ، فيندم حَيْثُ لم يَنْفَعهُ النَّدَم. قَالَ ابْن الْمُبَارك: مَا انتخبتُ عِلْمَ عَالم قطّ إِلَّا نَدِمت. وَقَالَ: مَا جَاءَ مِن مُنْتَقٍ خيرٌ قطّ. وَقَالَ ابْن مَعِين:
صَاحب الانتخاب ينْدَم، وَصَاحب النّسخ لَا ينْدَم، فَإِن احْتَاجَ إِلَى الانتخاب لضيق وقته أَو لكَونه فِي الرحلة وَأَجَازَ الشَّيْخ بِهِ تولاه بِنَفسِهِ إِن كَانَ مُمَيّزا عَارِفًا بِمَا يصلح للانتخاب، وَإِلَّا اسْتَعَانَ بحافظ متيقظ فِي هَذَا الْبَاب.
(ويعتني) أَي يهتم [216 - أ] بإتقان مُشكل الْأَحَادِيث وإيقان الرِّوَايَات
(بالتقييد) أَي بتقييد مَا سَمعه من بنائِهِ وَإِعْرَابه، وَبَيَان حُرُوف هجائه، فَإِن الْعلم / صيدٌ وَالْكِتَابَة قيدٌ، وَلِئَلَّا يَقع فِي التَّصْحِيف وينقله على وَجه التحريف، فَمن كَلَامهم الْمَشْهُور: لَا تحملوا الْعلم عَن صَحَفي، وَلَا الْقُرْآن عَن [مُصْحَفي فَقيل] الصحفي [هُوَ] : الَّذِي يروي الْخَطَأ على قِرَاءَة الصُّحُف باشتباه الأحرف. وَقيل: إِن أصل هَذَا أَن قوما كَانُوا أخذُوا الْعلم من الصُّحُف من غير أَن ينقلوا فِيهِ من الْعلمَاء، فَكَانَ فِيمَا يرويهِ التَّغْيِير، فَقيل عِنْدهَا: قد صحفوا أَي روَوْه عَن الصُّحُف، فَهُوَ مصحّف. وَرُوِيَ عَن أبي العَيْنَاء قَالَ: حضرت بعض مَشَايِخ الحَدِيث من المغفلين فَقَالَ: عَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم عَن جِبْرَائِيل عَن الله عَن رجل {فَنَظَرت، فَقلت: مَن هَذَا الَّذِي يصلح أَن يكون شيخ الله؟} فَإِذا
هُوَ قد صحفه، وَإِذا هُوَ: عز وجل. كَذَا ذكره الكازَرُوني شَارِح البُخَارِيّ، لَكِن فِي نظره وتردده أَن يكون أحدٌ شيخَ الله نظر ظَاهر لَا يخفى
وَرُوِيَ أنَّ شَيخا بالرَّيّ حدّث فَقَالَ: " احْتجم النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم وَأعْطى الحَجَّام آجرة " بِالْمدِّ، وَضم الْجِيم، وَتَشْديد الرَّاء والمثناة من فَوق وَإِنَّمَا هُوَ تصحيفُ " أَجْرَهُ " بِسُكُون الْجِيم، وبالهاء. وَرُوِيَ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: أَلا إنّ خَرَاب بصرتكم هَذِه يكون بِالذبْحِ، فصحفوا وَقَالُوا: بِالرِّيحِ فَمَا أقلعوا عَن هَذَا التَّصْحِيف إِلَّا بعد مئتي سنة عِنْد معاينتهم أَمر الذّبْح وَرُوِيَ أَن عليا كَانَ رجلا غَبِيْنَاً بالغين الْمُعْجَمَة، فقرأه بَعضهم عِنيناً بِالْعينِ الْمُهْملَة، وَالنُّون، وَهُوَ خطأ فَاحش، والغَبِين وَهُوَ [216 - ب] الَّذِي يُغْبَن. وَقَالَ بَعضهم: عبيثاً بِكَسْر الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة فِي الأول، وبالمثلثة فِي الآخر أَي كَانَ يعبث كثيرا أَي يمزح، وَهَذَا أقرب معنى من الأول، وَهُوَ على وزن سِكِّيت وشريب.
وَقصد بعض / 149 - ب / أهل الحَدِيث شَيخا ليسمع مِنْهُ وَكَانَ فِي كِتَابه أَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: {ادهِنوا غِبَّاً} فَقَالَ: قَالَ
رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اذهَبُوا عَنَّا " بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالْمُوَحَّدَة، وبالعين الْمُهْملَة بعْدهَا نون، وَهُوَ الْخَطَأ الْمُصحف. وصحف بَعضهم الحَدِيث الْمَشْهُور:" زُرْ غِبّاً تَزْدَدْ حُبَّاً " فَقَالَ: " زَرْعُنَا تَرَدَّد حِنَّا " ثمَّ قصّ قصَّة طَوِيلَة أَن قوما كَانُوا [لَا] يؤدون عُشر غلاّتهم، و [لَا] يتصدقون، فَصَارَ زرعهم كلهم حِناء.
(والضبط) أَي يضْبط مسموعه بالتكرار وَالْحِفْظ فِي صَدره، أَو تَفْصِيل أسانيده ومتونه فِي كِتَابه، فإنّ مَن اعتنى بجمعه دون إهماله يُرْجَى لَهُ فِي مُدَّة قَليلَة مُشَاركَة أَهله، وَزِيَادَة أفضاله. وَفِي كَلَام الشَّيْخ إِشَارَة لَطِيفَة بِأَن لَا يستعجل فِي طلب الْعلم، وَأَن يحفظ الحَدِيث على التدريج قَلِيلا قَلِيلا لما رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ:" مَن طلب الْعلم جملَة فَإِنَّهُ جملَة، فَإِنَّمَا يُدرك الْعلم حَدِيث أَو حديثان ". أَقُول: وَلَعَلَّه مقتبس من قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن} {جملَة وَاحِدَة كَذَلِك لنثبت بِهِ فُؤَادك ورتلناه ترتيلا} ، وَقَوله عز وجل:{وقرآنا فرقناه لتقرأه على النَّاس على مكث} . وَقَوله سبحانه وتعالى: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} . الْآيَات.
(ويذاكر) أَي مَعَ وَاحِد من شركائه، أَو غَيرهم. أَو بِنَفسِهِ بِأَن يتَذَكَّر.