الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
36 - بابٌ مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ: إِذَا عَلِمَ الْخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلَا يُجْمَعُ مَالُهُمَا. وَقَالَ سُفْيَانُ لَا يَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً، وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً.
1451 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ حَدَّثَنِى ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رضى الله عنه - كَتَبَ لَهُ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ» . أطرافه 1448، 1450، 1453، 1454، 1455، 2487، 3106، 5878، 6955 تحفة 6582
قال الجمهور
(1)
: إن المرادَ من المتفرقِ والمجتمعِ بحَسَب المكان، أي ما كان متفرقًا في
(1)
قلت: ولم أر أحدًا بسط الكلام في شرح هاتين الجملتين، كما بسطه أبو عبيد، فألحقتُه، إيضاحًا للبيان، ولم أخش من التطويل والإِسهاب، وأتيت بغُرر النقولِ من غيره أيضًا، فإن المقامَ مَزَالُّ الأقدام، ولا تجدها في غير هذا التعليق إن شاء الله تعالى.
قال أبو عبيد: وقد تكلمت العلماء في تفسير الجمعِ بين المتفرق، والتفريقِ بين المجتمِعِ قديمًا، فمنهم الأوزاعي، وسفيان، ومالك بن أنس، والليث بن سعد. قال: فحدثني هشام بن إسماعيلِ الدمشقي، عن محمد بن شعيب، عن الأوزاعي، قال: قوله: "لا يفرق بين مجتمع، يقول: لا ينبغي للمُصّدِقَ إذا كان نفرٌ ثلاثة، لكل واحدٍ منهم أربعونَ وشاةً، وهم خُلطاءَ أن يأخذَ منهم أكثر من شاةٍ واحدةٍ، ولا يفرق بينها ثم يأخذ من كل أربعين واحدةً. ثم قال: وقوله: "ولا يُجمع بين متفرق" يقول: إذا كان لكلِ رجلٍ أربعون شاة على حدة، فلا ينبغي لهم أن يجمعوها، فيجِدُها المُصَّدِق مجتمعة، فلا يأخذُ منها إلا شاةً، والواجب عليهم فيها ثلاث. هذا قول الأوزاعي.
قال: وأخبرني ابنُ بكير عن مالك بن أنس، في قوله:"لا يجمع بين متفرق" مثل قول الأوزاعي سواء، وخالفه في الوجه الآخر.
قال: وقوله: "لا يفرق بين مجتمع" هو أن يكونَ الخليطان لهما مائتا شاةٍ وشاة، فيجبُ عليهم في ذلك ثلاثُ شياه، فيفرقان غنمهما حتى لا يجبُ على كل واحد منهما إلا شاة، فهذا قول مالك.
وأما سفيان بن سعيد، فالذي يروي عنه أصحابنا -وهو المعروف من قوله- أنه قال في قوله:"لا يجمع بين متفرق" مثل قول الأوزاعي، ومالك سواء، لم يختلفوا في هذه الخَلَّة.
قال: وأما قوله: "لا يفرق بين مجتمع" فإنه أن يكون عشرون مائة شاة لرجل واحدة، فلا ينبغي للمُصَّدِق أن يُفرِّقها ثلاث فِرق، ثم يأخذ من كل أربعين شاة؛ ولكن يأخذ منها جميعًا شاةً واحدة، لأنها مِلك لإِنسانٍ واحد؛ فهذا قول سفيان -وعليه أهل العراق-.
قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، قال: قوله: "لا يفرق بين مجتمع" هي أن تكون أربعون شاة بين خليطين، فلا يُفرَّقُ بينهما في الصدقة؛ ولكن تؤخذ منهما شاة، لأنهما خليطان.
قال أبو عبيد: وأحسَبُه قال في قوله "لا يجمع بين متفرق" كقول الآخرين، فاجتمعوا أربعتهم: الأوزاعي، وسفيان، ومالك، والليث، في تأويل الجمع بين المتفرق؛ واختلفوا في التفريق بين المجتمع. فذهب مالكٌ وحدَه إلى أن النهي في الخلتين جميعًا، إنما وقع على أرباب المال، وتأولهما الآخرون. إن إحداهما لرب المال، والأخرى للمصدق. قال أبو عبيد: والوجه عندي في ذلكَ ما اجتمع عليه هؤلاء، لأن العُدوان لا يُؤمَنُ من المُصَّدِق، كما أنَّ الفِرَار من الصدقة لا يُؤمَنُ من رب المال، فأوعز النبي صلى الله عليه وسلم إليهما جميعًا؛ وهو بَين في الحديث الذي ذكرناه عن سويد بن غَفَلَة حين حدث عن مُصدق النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال:"إن في عهدي أن لا أفرقَ بين مجتمعٍ ولا أجمعَ بين متفرِق"، فقد أوضح لك هذا: بأن النهي للمصَّدِق. =
المكان، لا ينبغي له أن يُجمعَ في مكان واحد، وكذلك ما كان مجتمعًا في مكان لا ينبغي له أن
= وقوله: حذار الصدقة: يبين لك أن النهي لأربابِ المال، فإذا كانت الماشية بين خليطين، فإن فيها بين أهل الحجاز، وأهل العراق، والشام اختلافًا في التأويل، وفي الفُتيَا، مع آثار جاءت بتفسيرها.
قال: حدثنا أبو الأسود عن ابن لِهيعة، قال: كتب إليَّ يحيى بن سعيد: أنه سمع السَّائبَ بن يزيد يُحدثُ عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الخليطان ما اجتمع على الفحل والمرعَى والحوض".
قال أبو عبيد: قال أبو الأسود: وكل شيء حدَّث به ابن لَهيعة عن يحيى، فإنَّما هو كتابٌ كَتَبَ به إليه. قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، قال:"الخليطان ما اجتمع على المرعى والحوض والفحل"، ولم يُسنده الليث.
قال: وحدثنا هشام بن إسماعيل، عن محمد بن شُعيب، قال: سمعت الأوزاعي يقول: إذا جمعهما الراعي، والفحل، والمُرَاح فذلك الخليطان.
قال: وحدثنا يحيى بن بُكير، عن مالك بن أنس، قال:"الخليطان أن يكونَ الراعي واحدًا، والفحلُ واحدًا، والمراح واحدًا"؛ قال: والخليطان في الإِبل مثل ذلك.
قال أبو عبيد: وهذا كله قول أهل الحجاز.
وأهل الشام: إن الخليطين يُجمع ما لهما في الصدقة. وتفسير ذلك: أن تكون ثمانون شاة بين نفسين أو خليطين، أو يكون عشرون ومائة شاة بين ثلاثة نفر، وهم خلطاء في المرعى، والفحل، والمورد، فليس يكون فيها كلها عندهم إلا شاةٌ واحدةٌ، يَلزمُ كل واحدٍ منهم سهمٌ من قيمةِ تلك الشاة، على قدر حصته من عدد الغنم، فهذا عندهم هو تأويل قوله:"لا يفرق بين مجتمع"، وتأويل قوله:"وما كان من خليطين فإنَّهما يتراجعان بينهما بالسَّوية".
وخالفهم سفيان، وأهل العراق في التفسير، فقالوا: إنما التفريقُ بين المجتمع، والجمعُ بين المتفرق على المِلك، لا على المخالطة، فقالوا: في ثمانين شاة -بين خليطين- شاتان؛ وفي عشرين ومائة -بين ثلاثة خلطاء- ثلاث شياه.
قال أبو عُبيد: والذي عندي في ذلك ما تأوله أولئك للحديث الذي ذكرناه عن ابن لَهِيعة مرفوعًا، مفسرًا، في المرعى، والحوض، والفحل، مع ما فسره يحيى بن سعيد، والأوزاعي، ومالك والليث؛ ويصدِّق ذلك كله الحديث الذي يحدثه معاوية بن حَيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثنا ابن أبي زَائدة، عن بَهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جده: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"في كل إبل سائمة، في كل أربعين منها ابنة لَبُون، لا تفرق عن حِسابها".
قال أبو عُبيد: فإذا كانت هذه الأربعون من الإِبل بين خلطاء ثمانية، لكل واحد منهم خمس، فإنَّ الذي يجبُ عليها -في قول من نظر إلى المِلك- ثمانٍ من الغَنَم عن كل رجلٍ شاة. وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"في كل أربعين بنت لَبُون، لا تفرق عن حِسابها" فأيُّ تفريقٍ أشدُ من نقلها من أسنان الإِبل إلى الغنم؟ وهو صلى الله عليه وسلم لم يشترط في حديثه: إذا كانت مِلك واحدٍ، ولا أكثر منه، إنما ذكرَ عددها مجتمعةً؛ وإنما ذهب من نظر في المِلك تشبها بصدقةِ الذهب، والوَرِقِ، والحب، والثمارِ، وقد جاءت السنة في الماشية بخصوصية لها دونَ غيرها.
ألا تَرَاه صلى الله عليه وسلم لم يشترط النهي عن الجمع بين المتفرق، والتفريق بين المجتمع، ولم يأمر بتراجُع الخليطين إلا في المواشي خاصة، فإذا صيرت سننها كسنة غيرها بطل شرطه فيها. ولما كان لما سَنَّ من ذلك معنى؛ وليس لأحدٍ إبطالُ هذا القول من سنته، ولا تقاسُ السننُ بعضها ببعض؛ ولكن تمضي كل سنة على جهتها.
قال أبو عُبيد: وكل هذا الذي حكينا عنهم في أمر الخلطاء، فإنَّما ذلك أن يكونَ كلُ واحدٍ من الخليطين مالكًا لأربعين شاة فصاعدًا، فأما إذا كان أحد الخليطين لا يبلُغ مِلكه أربعين، فإنَّ الأَوزاعي، وسفيان، ومالك بن أنس اجتمعوا على أنه لا صدقة عليه. قالوا: وتكون الصدقة على الآخر المالكِ للأربعين، فما زادت، ولا مرجِعَ له على الآخرِ بشيء في قولهم. وخالفهم الليثُ بن سعيد؛ فقال: إذا كَمُلت الأربعون بين خليطين، ففيها شاة عليهما؛ =
يُفرِّقه في أمكنته. وذلك لأن الجمعَ والتفريقَ بحسَبَ الأمكنة مؤثرٌ عندهم في زيادة الواجب ونقصانه.
= قال: وهو تأويلُ قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يفرق بين مجتمع"، وتكون هذه الشاة بينهما على قدر حصصهما من الغنم.
قال أبو عُبيد: وتفسير ذلك أن يكونَ لأحدهما ثلاثون شاة - وللآخر عشر، فتجبُ عليهما شاةٌ، ثم يتراجعان، وهو أن يَرجِعَ صاحب العُشر على رب الثلاثين بِرُبع قيمة الشاة، حتى يكونَ إنما يلزمه رُبعها، ويلزِمُ الآخر ثلاثةُ أرباعِهَا، على قَدر أموالهما؛ فإن كانت الشاةِ المآخوذةُ في الصدقة من مال صاحب العُشر رَجَعَ على صاحب الثلاثين بثلاثة أرباعِ قيمتها، وإن كانت من مال صاحب الثلاثين رجع على صاحب العُشر برُبع قيمتها في مذهب الليث وتفسيره. فهذا وما أشبهه تأويل قولِهِ:"وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" في مذهب قول الليث.
وأما الأَوزاعي، ومالك فذهبا إلى أنَّ معنى هذا: إنما هو إذا بلغ مِلك كل واحدٍ منهما أربعين فزائدًا؛ وذلك كخليطين بينهما مائة شاة، لأحدهما ستون، وللآخر أربعون، ففيها على قولهما شاة واحدة، يكون على صاحب الأربعين خمساها، وعلى رب الستين ثلاثة أخماسها؛ وقال سفيان: وأهلَ العراق سوى ذلك كله في المسألتين جميعًا، قالوا في الأربعين -بين خليطين-: لا شيء على واحدٍ منهما، فخالفوا الليث في هذا الموضع، وقالوا في المائة -بين الخليطين-: فيها شاتان، على صاحب الأربعين واحدةٌ، وعلى صاحب الستين أخرى؛ وتركوا التراجع بينهما، فخالفوا الأوزاعي، ومالكًا ههنا.
قال أبو عُبيد: وأنا مبين مذهبَ كل واحدٍ منهما إن شاء الله:
أما قول الأوزاعي، ومالك، فإنهما نظرا في الأربعين، فما دونها. إلى الملك، ولم يعتدَّا بالمُخالطة، ونظرًا في الزيادة على الأربعين إلى المُخالطة، ولم يعتدا بالملك؛ وفي هذا القول ما فيه. وأما أهل العراق، فقولهم يشبه أولُه آخره في نظرهم إلى المِلك، وتركهم الاعتداد بالمُخالطة، إلا أن في ذلك إسقاطُ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول عمر بن الخطاب في التراجع بين الخليطين، وليس لأحدٍ تركُ السنة.
وأما قول الليث، فإنه عندي متَّبعٌ للحديث في مراجعة الخليطين؛ وهو مع هذا يُوَافق قوله بعضه بعضًا، ولا يتناقصُ بتركه النظر إلى المِلك في قليل ذلك وكثيره، واعتماده على المخالطة والاجتماع في الأربعين، فصاعدًا.
ومما يُحسِّنُ قوله: ما ذكرنا عن عمر في صدقة الغنم. حين أَمَرَ أن يعتدَّ عليهم بالبَهمَة، لما يدع لهم من الماخض، والربى، والفحل، وشاة اللحم؛ فرأى أنه يلزمهم التغليظ، كما كانت لهم الرخصة. يقول الليث، أو من احتج له: فكذلك الخليطان، إذا كانت بينهما أربعون، لزمها التغليظ، فكانت عليهما الصدقة، كما تكون لهما الرخصة في ثمانين شاة بينهما. ثم لا يكون عليها فيها إلا واحدة، وكذلك عشرون ومائة بين ثلاثة خُلطاء، لا يكون عليهم فيها إلا شاة، على كل واحد منهم ثلثها، فيكون هذا بذاك. وقد رَوي عن طاوس وعطاء قولٌ سِوَى ذلك كلَّه.
قال: حدثني حَجَّاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن طاوس. قال:"إذا كان الخليطان يعلمان أموالَهما، لم يُجمع مالُهما في الصدقة" قال: فذكرته لعطاء فقال: ما أرَاه إلا حقًا.
قال أبو عُبيد: وتأويل ذلك: في أربعين شاة تكون بين اثنين، يقولون: فإن كانا شريكين، وكانت الغنمُ بينهما شائعةً غير مقسومةٍ فعليهما الصدقة، لأن مالَ كل واحدٍ منهما ليس بمعلومٍ من مال شريكه، فإذا كان المالان معلومين، وهما مع هذا خليطان، فلا صدقةَ عليهما، ففرَّقَا الحكم فيما بين الشركاءِ والخلطاء. ولا أعلم أحدًا يقول اليومَ بهذا. =
وتفصيله: أن أربعينَ شاةً لو كانت بين رجلين مناصفةً تجبُ عليها شاةٌ واحدةٌ عند
= قال أبو عُبيد: وقد قال بعض أهل العراق بسوى ما اقتصصنا. قال الخليطان: هما الشريكان بأعيانهما اللذان لا يُعرف هذا ماله من مال صاحبه، وذلك كعشرين ومائة شاة بين نفسين لأحدهما ثلثاها، وللآخر ثلثها، وهي مُشَاعةٌ بينهما غير مقسومَةٍ، فإنَّ المُصَّدِقَ يأخذ منها شاتين، فيرجع صاحب الثلثين -لأنه مالك لثمانين شاة- على صاحب الثلث، لأن مِلكه إنما يكون أربعين شاة، فيأخذ منه ثلاث شِيَاه، وذلك أنه يقول: قد أخذ من مالي شاةٌ وثلث، وأخذ منك ثُلثا شاة، فالواجب عليكَ مثل الذي يجب عليَّ سواء، إنما هو شاة عليَّ، وشاة عليك، فلهذا يرجِعُ عليه بالثلث [من ص 393 إلى ص 400 "كتاب الأموال"].
قال الخَطَّابي: وقد اختُلف في تأويله، فقال مالك: هو أن يكون لكلِ رجلٍ أربعون شاة، فإذا أظلهم المُصَّدِقَ جمعوها لئلا يكون فيها إلا شاة واحدة "ولا يفرَّقُ بين مجتمع" أن الخليطين إذا كان لكلِ واحد منهما مائة شاة وشاة، فيكون عليهما فيه ثلاثُ شياه، فإذا أظلهما المُصَّدِق فرَّقا غنمهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة.
وقال الشافعي: الخطاب في هذا خطاب للمُصَّدِّق ولرب المال معًا. وقال: الخشيةُّ خشيتان: خشيةُ الساعي أنْ تَقِلَّ الصدقة، وخشيةُ رب المال أن تكثر الصدقة، فأمر كلَّ واحد منهما أن لا يُحدث في المال شيئًا من الجمع والتفريق، خشية الصدقة.
قوله: "وما كان من خليطين فإنَّهما يتراجعان بينهما بالسوية فمعناه أن يكونا شريكين في إبلٍ يجبُ فيها الغنم، فوجد الإِبلَ في يدي أحدهما، فتؤخذُ منه صدقتها، فإنَّه يرجع على شريكه بحصته على السوية. وفيه دَلالة على أن الساعي إذا ظلمه فأخذَ منه زيادة على فرضه، فإنَّه لا يرجعَ بها على شريكه، وإنما يَغرمُ له قيمةُ ما يخُصُّه من الواجب دون الزيادةِ التي هي ظلمٌ، وذلك معنى قوله: "بالسوية".
وقد يكون تراجعهما أيضًا من وجه آخر، وهو أن يكون بين رجلين أربعونَ شاة لكله واحدٍ منهما عشرون، وقد عَرَف كلَّ واحدٍ منهما عينَ ماله، فيأخذ المُصَّدِّق من نصيب أحدهما شاة، فيرجعُ المأخوذُ من مالِهِ على شريكه بقيمةِ نِصفِ شاة؛ وفيه دليل على أن الخُلطة تصح مع تميُّز أعيان الأموال. وقد رُوي عن عطاء وطاوس أنهما قالا: إذا عرفَ الخليطان كلَّ واحدٍ منهما أموالهما فليسا بخليطين.
وقد اختلف مالك، والشافعي في شرط الخُلطة، فقال مالك: إذا كان الراعي والفحل والمراح واحدًا فهما خليطان، وكذلك قال الأَوزاعي.
وقال مالك: فإنَّ فرَّقَهُما المبيت، هذه في قريةٍ وهذه في قرية، فهما خليطان.
وقال الشافعي: إن فرَّق بينهما في المراح فليسا بخلطين، واشترطَ في الخلطة المُرَاحَ والمسرحَ والسقيَ، واختلاط
الفحولة. قال: إذا افترقا في شيء من هذه الخِصال فليسا بخليطين، إلا أن مالكًا قال: لا يكونان خليطين حتى
يكونَ لكلِ واحدٍ منهما تمام النِّصاب. وعند الشافعي إذا تمَّ بماليهما نصاب، فهما خليطان، وإن كان لأحدهما شاة
واحدة. انتهى: (ص 28 - ج 2 "معالم السنن").
قال ابن الهُمَام: وقد اشتمل كتابُ الصِّدِّيق، وكتاب عمر على هذه الألفاظ. وهي: ما كان من خليطين فإنَّهما يتراجعان بالسوية، ولا يُجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع مخافة الصدقة، ولا بأس ببيان المراد، إذا كان مبنى بعض الخلاف، وذلك إذا كان النصاب بين شركاء، وصحت الخُلطة بينهم باتحاد المسرحِ، والمَرعى، والمُرَاح، والراعي، والفحل، والمحلب، تجب الزكاة فيه عنده، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يُجمع بين متفرق"
…
الحديث. وفي عدم الوجوبِ تفريقُ المجتمع.
وعندنا لا تجب، وإلا لو وجبت على كل واحدٍ فيما دون النصاب لنا هذا الحديث، ففي الوجوب الجمع بين الأملاك المتفرقة، إذ المراد الجمعُ والتفريق في الأملاك، لا الأمكنة، ألا ترى أن النِّصاب المفرَّقُ في أمكنة مع وحدة المِلك تجب فيه؟. =
الجمهور، بشرط الاتحاد في الأشياء التِّسع المذكورة في كتبهم. من الراعي والمَرْعى والمحلب
= ومَن مَلك ثمانين شاةً ليس للساعي أن يجعلَها نصابين، بأن يفرقها في مكانين، فمعنى:"لا يفرق بين مجتمع" أنه لا يفرق الساعي بين الثمانين مثلًا أو المائة والعشرين ليجعلها نصابين، وثلاثة. "ولا يُجمع بين متفرق"، لا يجمع مثلًا بين الأربعين المتفرقة بالملك، بأن تكون مشتركة ليجعلها نصابًا، والحال أن لكل عشرين. قال:"وما كان بين خليطين"
…
إلخ، قالوا: أراد به إذا كان بين رجلين -إحدى وستون- مثلًا من الإِبل، لأحدهما ست وثلاثون، وللآخر خمس وعشرون، فأخذ المُصَّدِّق منهما بنتَ لَبون وبنت مخاض، فإنَّ كلَّ واحدٍ يرجعُ على شريكه بحصة ما أخذه الساعي من ملكه زكاةَ شريكه، والله أعلم. انتهى. (ص 496 - ج 1 "فتح القدير").
وفي "المعتصر" ص 85 - ح 1: تنازعَ أهلُ العلم في المراد بهذا الحديث تنازعًا شديدًا. حكى المُزَني عن الشافعي أن الشريكين اللذين لم يَقسِما الماشية خليطان، وقد يكونان خليطين بتخالط ماشيتهما، من غير شركة، لكن لا يكونان خليطين حتى يريحا ويسرحا ويحلبا ويسقيا معًا، وتكون فحولهما مختلطة، فإذا كانا هكذا صُدِّقا صدقةَ الواحدِ في كل حال، ولا يكونان خليطين حتى يحولَ الحولُ عليهما من يوم اختلطا، ويكونان مسلمين. وإن تفرقا في شيء مما ذكرنا، قبل أن يحولَ الحولُ، فليسا بخليطين، ويُصدَقان صدقة الاثنين.
ومعنى قوله: "لا يفرق" إلى آخره، لا يفرق بين ثلاثة خلطاء في عشرين ومائة، وإنما عليهم شاةٌ، لأنها إذا فُرقت كان فيها ثلاث. "ولا يُجمع بين مفترق"، رجل له مائة وشاة، ورجل له مائة شاة، فإذا زُكِّيَا مفترقتين ففيهما شاتان، وإذا جُمعتا ففيهما ثلاث شياه، فالخشية خشية الساعي، أن تقلَّ الصدقة، وخشية ربِّ المالِ أن تكثُرَ الصدقة.
قال الشافعي: ولم أعلم مخالفًا فيما إذا كان ثلاثة خلطاء، لو كانت لهم مائة وعشرون شاة، أخذت منهم واحدة، وصُدِّقُوا صدقةَ الواحِدِ، فنقَصُوا المساكينَ شاتين من مالِ الخُلطاء الثلاثة، الذين لو يُفرَّق مالهم، كان فيه ثلاث شياه. لم يجز. إلا أن يقولوا: لو كانت أربعون بين ثلاثة كانت عليهم شاة، لأنهم صُدِّقوا الخُلطاء صدقةَ الواحد، وهكذا القول في الماضية كلها والزرع والحائط.
وأبو حنيفة وأصحابه يقولون في قوله: "لا يُفرَّق بين مجتمع": هو أن يكون للرجل مائة وعشرون شاة، فيكون فيها شاة واحدة، فإن فرَّقها المُصَّدِّق فجعلها أربعين أربعين، كان فيها ثلاث شياه، "ولا يُجمعُ بين مُفترِق"، هو رجلان يكون بينهما أربعون شاة، فإن جمعها كان فيها شاة، وإن فرقها عشرين عشرين، لم يكن فيها شيء.
قلت: فلو كانا متفاوضين لم يجمع بين أغنامهما؟ قال: نعم، لا يجمع بينهما، وهو قول سفيان الثوري. فالذي ذُكِرَ عن أبي حنيفة والثوري دلَّ على أنهما لم يُرَاعِيا الاختلاط، ولكنهما يراعيان الأملاك، فدل هذا على أن ما ذكره الشافعي من أنه لا يعلَمُ مخالفًا إذا كان ثلاثةٌ خُلطاء، إلى آخره، قد كان فيه من المخالفين لذلك القول مَنْ ذكرناه، فاندفع ما احتج به لمذهبه.
ثم إن الله تعالى ذَكَرَ الزكاة مثل ما ذكر الصلاة، والصيام، والحج، فقال:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النور: 56]{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] و {عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وكل ما افترض من هذه الأشياء تبيَّن به كلُّ مكلف عمن سواه، من غير اختلاط، فكذا الزكاة. ودل على أن الحُكم للمِلك قولُه تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 103]
…
الآية. فإن أحدًا لا يَطهرُ بمال غيره، بل بمال نفسه، فإن قيل: فما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان"؟.
قلنا: يكون رجلان لهما مائة وعشرون شاة، لأحدهما ثلثاها، وللآخر ثلثها، فيحضر المُصَّدِّق فيطالبهما بصدقتها، ولا يكون عليه انتظار قِسمتها بينهما، فيأخذ منها شاتين، فيُعلم أنه قد أخذ من حصة صاحب الثمانين شاة وثلث شاة -وهو الذي كانت عليه شاة واحدة -وأخذ من حصة صاحب الأربعين ثلثي شاة -وهو الذي كان عليه من الصدقة شاة واحدة- فالباقي من حصة صاحبِ الثمانين ثمان وسبعون شاة وثلثا شاة، والباقي من حصة صاحب الأربعين إذا كان الراعي واحدًا، والمراح واحدًا، والدلو واحدًا، فالرجلان خليطان، ولا تجب الصدقة على الخليطين إلى تسعٍ وثلاثين، وهذا أولى من التأويل الذي ذكرناه قبل. =
وغيرها، حتى لو كانت أربعون شاة لأربعين رجلا، وكانت متحدة في الأشياء التِّسع تجبُ فيه شاة واحدة أيضًا.
ثم اختلفَ هؤلاءِ في اشتراط النِّصاب لكلَ وعدمهِ، فَنَفاهُ الشافعي، كما عرفت من المثال المذكور. واعتبره مالك، فلا يجب عنده في الصورة المذكورة شيء ما لم يكن عند كل منهما نصاب تامٌّ. وأما عند الحنفية، فلا عبرة بالاتحاد في هذه الأشياء، ولا تأثيرَ له، وإنما الاعتبارُ بالمِلك. ويُسمَّى الأول بخُلطَةِ الجِوار، فإِنها ليست بخُلطة في الحقيقة، وإنما اعتبرت من جهة المكان، فنسبت إليه، وإنما تصح هذه الخُلطة عندهم عند الاتحاد في الأشياء المذكورة، ويُسمَّى الثاني بخُلطة الشُّيوع، وهي الخُلطة بحَسَبِ المِلك، فإذا كانت لرجلين ثمانون شاة، وليست بمُتَميزة في الأَملاك، تجبُ فيها شاتان عندنا.
ونقَّح بعضهم الخلاف المذكور بأنَّ الزكاةَ عند الجمهور على القطائع، وعند الحنفية على الملاك. وتمسك الجمهور بالحديث المذكور، فإنَّه يدُل على أنَّ الجمعَ والتفريقَ بحَسَبِ المكان مؤثرٌ، ولذا نهى عنهما. فأجاب عنه الحنفية، وقالوا: معناه عندنا: «لا يجمع بين متفرق» ، أي
= وأما مالك فمذهبه في ذلك أنَّ تفسير قول عمر: "لا يُفرق بين مجتمع"، أن الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة، فيكون عليهما في ذلك ثلاث شياه، فإذا أظلهما المُصَّدِّق فرَّقا غنمهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة واحدة. فنهى عن ذلك. قال مالك في الخليطين: إذا كان الراعي واحدًا والمراح واحدًا، والدلو واحدًا، فالرجلان خليطان، ولا تجبُ الصدقة على الخليطين حتى يكونُ لكل واحدٍ منهما ما تجب فيه الصدقة.
تفسير ذلك: أنه إذا كان لأحدِ الخليطين أربعون شاة، وللآخر أقل من أربعين شاة، لم يكن على الذي له أقل من أربعين شاة صدقة، وكانت الصدقة على الذي له أربعون. وإن كان لكل واحد منهما من الغنم ما تجب فيه الصدقة جميعًا، فكان لأحدهما ألف شاة أو أكثر، أو أقل، فما تجب فيه الصدقة، وللآخر أربعون شاة أو أكثر فهما خليطان يترادَّان بينهما بالسوية على الألف بحصتها، وعلى الأربعين بحصتها -يعني من الزكاة- التي تجب فيها لو كانت لواحد. وهذا مما لا إشكال فيه، لأنه لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن تكون الخلطة لها معنى، ويرجع الخليطان فيها إلى أن يكونا كالرجل الواحد، فيكون القول في ذلك ما ذهب إليه الشافعي فيه، أو تكون الخلطة لا معنى لها، ويكون الخليطان بعدها، كما كانا قبلها، فيكون على كل واحد منهما في غنمِهِ ما يكون عليه فيها، لو لم يكن بينه وبين غيره فيها خُلطة، فيكون الأمر في ذلك كما قاله أبو حنيفة، والثوري فيه. ثم يرجع إلى ما قد ذكره الشافعي في الخليطين، أنهما وإن عَرَف كل واحدٍ منهما ما له بعينه أن تكون فحولهما واحدة، ومسرحهما واحدًا، وسقيُهما واحدًا، أنهما يكونان بذلك خليطين، فكان هذا مما لا نعقله، وكيف يكونان خليطين، وكل واحد منهما بائن بمالِهِ من مال صاحبه؟!
فإن قيل: فالخلطة في الفحول، وفي المراح، وفي الأشياء التي ذكرناها، قيل له: وهل الزكاة في تلك الأشياء؟ إنما الزكاة في المواشي أنفسها، وليسا خليطين فيها، وقد تقدَّمَك وتقدَّمَنَا من أهل العلمِ مَنْ خالف ما ذهبتُ إليه فيه من ذلك، ما روي عن طاوس، قال: إذا كان الخليطان يعرفان أموالهما فلا يجمع بينهما في الصدقة، فأخبر بذلك عطاء، فقال: ما أراه إلا حقًا، فلم يُراعيا في ذلك حلبًا، ولا فحلًا، ولا سقيًا، ولا مُرَاحًا، ولا دلوًا؛ ولا يقال: ينبغي إذا لم يَعرِفا مالَهما أن يُجمع بينهما في الصدقة، لأنه يحتمل أن يُجمع بينهما حتى يؤخذ أخذًا واحدًا، لم يتراجعا بينهما في المأخوذ منهما، وبه نقول.
وراجع كلام ابن رشد من "البداية" من: ص 225 إلى: ص 226، فإنه أيضًا يحتوي على فوائد.
باعتبار المِلك، فإذا كان المِلكُ متفرِّقًا لا يُجمع، كخمسٍ من الإِبل لرجلين، وحال عليها الحول، فلا يجعلها المُصَّدِق كملك رجلٍ واحدٍ، لتجبَ عليه الصدقة، فحملوه على خُلطة الشُّيوع.
1450 -
قوله: (خشية الصدقة)، والخشيةُ خَشْيتان: خشيةُ السَّاعي، وخشية المالك. وكذلك النهيُ نهيان: النهي عن جمعِ المتفرِّق، والنهيُ عن تفريق المجتمع، فحصل من ضربِ الاثنين في الاثنين أربعة أقسام: النهيُ عن جمع المتفرقِ للساعي والمالك، وكذلك النهيُ عن تفريق المجتمع لهما.
مثال الأول: كخمس من الإِبل بين اثنين، وحال عليها الحولُ، وأراد الساعي أن يأخذ منها الصدقة، فجمع بين المِلكين، وعدَّهما كملكِ رجلٍ واحدٍ، ليس له ذلك.
ومثال الثاني: كثمانين من الغنم بين رجلين، فأراد أن لا تجب عليهما إلا شاة واحدة، فجعل مِلكاهما كمِلك رجلٍ واحدٍ، لتتغيَّرَ الفريضةُ من شاتين إلى شاة واحدةٍ، ليس لهما ذلك.
ومثال الثالث: كان لرجلٍ واحدٍ ثمانون شاة، - أي مجتمعة - في مِلكِ رجلٍ واحد، وأراد السَّاعي أنْ يأخذ منها شاتان، فجعلها كأنها في مِلكِ رجلين ليس له ذلك.
ومثال الرابع: كان لرجل أربعونَ شاةً، فأراد أنْ لا تجبَ عليه الصدقةُ، فجعلها كأنها في مِلك رجلين ليس له ذلك. ولعلك علمتَ منه النهي في الحديث، يصلح أن يكونَ للساعي، أو للمَالك، أو لكليهما، على مختارِ الحنفية
(1)
.
قوله: (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية) أي إذا حضر الساعي بعد تمام الحول، فإِنه يأخذُ الواجبَ من المجموع، ولا ينتظرُ تقسيمَهما، ولكن على الخليطين أنْ يتراجعا بينهما بحَسَبِ الحساب. مثلا: لو كان بين رجلين إحدى وستون إبلا: ست وثلاثون سهمًا منها لواحد، والباقي للآخر، فجاء السَّاعي وأخذ بنتُ لَبُون ممن كان له ستٌّ وثلاثون سهمًا، وبنت مَخَاض ممن كان له خمس وعشرون سهمًا، فإنَّهما يتراجعان بينهما، فإن كلَّ ما يأخذُه الساعي يكون مشتركًا بينهما بهذه النِّسبة، فيجب على مَنْ له ستٌ وثلاثون سهمًا أنْ يردَّ خمسًا وعشرين من بنتِ اللَّبُون إلى صاحبه، وكذلك يجبُ على صاحبه أن يردَّ ستًا وثلاثين سهمًا من بنت المَخَاض إلى صاحبه. ولعلك فهمت منه أن التراجُعَ يستقيمُ على مذهبنا أيضًا.
وابن حزمٍ لما لم يُدرك حقيقةَ مذهب أبي حنيفة رحمه الله زعم أن التراجعَ لا يَستقيمُ على مذهبنا. بل أقول: إنه أصدقُ على مذهبنا، فإنَّ الزكاة عند الجمهور على القطائع، فالنصابُ في
(1)
يقول العبد الضعيف: وتفصيلي الأمثلة أخذته من "البدائع". قال القاضي أبو بكر بن العربي: عندي أن المخاطبَ الطائفتان جميعًا، فلا يحل لرب المال أن يُفرِّق غَنَمه من خليطِهِ لثقل الصدقة، أو يجمعها لذلك، ولا للساعي أن يُفرِّق جملةَ الغنم المجتمعة لتكثُرَ له الصدقة. يُبيِّنُ ذلك قوله في الحديث:"مخافة الصدقة". وقال أبو حنيفة وأصحابه: المخاطَبُ الساعي، لأن الخُلطة عنده لا تؤثر. اهـ. قلت: وقد علمتَ أن الأمرَ خلافُ ما نسبَه القاضي إلى إمامنا الأعظم.
الصورة المذكورة عندهم واحدٌ، والواجبُ فيه عندهم الجَذَع، فيأخذه الساعي، ويرجع صاحب الجَذَع على الآخر بقدر حصة، فإِن الجَذَعَ على هذا التقدير ليس مشتركًا بينهما لعدم الشركة ملكًا، بل ذهبَ من واحدٍ منهما، فيرجع مالكه على صاحبه بقدر ما أدى عنه لا محالة، وحينئذ لم يصدق التفاعل، فإِنه يقتضي الشركة في الفعل، ولا رجوعَ ههنا. إلا من جانبٍ واحد، وهو مالك الجَذَع.
أما على مذهبنا فالتفاعل على ظاهرها، كما علمت، فيلزمُ عليهم أن يأخذوا التفاعلَ باعتبار اختلاف الأزمان، أي قد يرجع هذا على هذا، وقد يرجع ذلك على هذا، فإنَّ الواجبَ الذي أخذه مالكٌ قد يكون مِلكًا لهذا، وقد يكون مِلكًا لذلك، وكل من يكون له الملك يرجع على صاحبه، فاستقام التراجع على مذهبهم أيضًا. إلا أنه بنوع من التأويل، وهو صادق على مذهبنا بدون كُلفة. وراجع الأمثلة من قاضي خان. وأما ما في الحواشي فهو مثال على مذهب الشافعية.
والحاصل: أن الجمهور أخذوا القِطعتين في خُلطة الجِوَار
(1)
. والحنفيةَ حملوها على خُلطة الشُّيُوع، فوقعوا في بُعدٍ من ألفاظ الحديث. فإنَّ الجمعَ والتفريقَ لا يتبادرُ منه إلا ما كا بحسَبِ المكان، ولا يأتي هذا التعبير في الجمع والتفريق مِلكًا، فأقول: إن الجملة الأولى في خُلطة الجوار، كما قالها الشافعية. والثاني: في خُلطة الشيوع، فَوَافقتُهم في التعبير، وخالفتهم في المسألة، بأن النهيَ عن خُلطة الجِوَار عندهم لكونها مؤثرًا. وقلتُ: بل لكونها مفضيًا إلى التخليط والتلبيس في الحساب، فإنَّ الشياه إذا كانت ترعى في مراعي مختلفة، فجمعها في مرعىً واحد لا يُوجب ذلك تغييرًا في الفريضة أصلا لكنه فعلُ لغوٍ لا فائدةَ فيه. نعم، ربما أمكن أن يفضي إلى التخليط في الحساب، فنُهي عنه. وأما عند الجمهور فالنهيُ عنهما لكونهما مؤثرين في تغيير الفريضة، على ما علمت تفصيلَه.
وأما الجملة الثانية فقد أخذتُها في خُلطة الشُّيُوع، وإنما حملني على هذا الفك تغاير شاكلتي الجملتين، فإنَّ الظاهر أنه موضعُ الإِضمار، لمضي ذكر الخليطين قبل ذلك، فينبغي أن يكون: وهما يتراجعان بالسوية، ولكنه وضع المُظْهَرَ موضع المُضْمَرَ، وعبَّر عنهما بالخليطين، فاستبان لي أن الأولى في خُلطة الجِوَار، والثانية في خُلطة الشُّيُوع.
قوله: (قال طاوس وعطاء: إذا علم الخليطان أموالهما فلا يجمع مالهما) أراد به نفيَ خُلطة الجِوَار، واعتبار الخُلطة باعتبار المِلك.
(1)
قلت: ما كنتُ أفقه في العبرة بخلطة الجوار معنى، حتى رأيتُ القاضي أبا بكر بن العربي قرره في "شرح الترمذي" فحينئذ أدركتُ ما فيه من التفقه. قال: وقال أبو حنيفة: الخليط هو الشريك. وأما اجتماع الأموال مع انفصالِ الأملاك في الأعيان فلا تُراعى، وهي مسألة عسيرة لا يفهمها إلا مَنْ لَحَظَ الأحوال، وراعى الألفاظ. وذلك أن العادة جاريةٌ بين الناس بالاشتراك في الأملاك. وجارية في الاشتراك في المسارح والمساقي والمبارك، ثم اتفقوا بالإجماع على الراعي والدلو وفي الفحل
…
إلخ. وحينئذ ظهر أن عبرةَ هذه الخُلطة باعتبار جَرَيان العُرف بينهم، وإلا فلا يظهر فيه معنى الخُلطة أصلًا.
قوله: (وقال سفيان: لا تجب حتى يتم لهذا أربعون، ولهذا أربعون) وهو وإن كان يحتملُ الشرحين، فإنَّ بعض القائلين بخُلطة الجِوَار أيضًا شرطوا النِّصاب، فإنْ كان الواجبُ عنده في الصورة المذكورة شاةً واحدةً، فهو مذهب الآخرين، وإن كان شاتين ففيه مُوَافقةٌ للحنفية، لكن ما يظهر بعد التعمُّقِ فيما قاله الطحاوي في «مشكله» من مذهب سفيان: أن سفيانَ موافقٌ للحنفية، فعليه ينبغي أن يُحمل كلامُه. وإليه ذهب البخاري وابن حزم، كما يظهر من كلام ابن رشد في «قواعده» ونقل العيني أيضًا عبارةَ ابن حزم، إلا أنها غير مفصِحة
(1)
.
(1)
قِطعة من مذكرة الشيخ في نصاب الزكاة الإِبل، وبيان معاني الأحاديث للروية في هذا الباب؛ وتشييدُ مذهب الحنفية، بحيث يزولُ عنه الارتياب، أتينا بها إتحافًا للعلماء المهرة، فليُراجعوا المظانَّ المذكور فيها، أما أنا فلم أنتهز فرصةٌ لتفصيلها. قال الشيخ رحمه الله تعالى:
وعندي أن حديث علي عند أبي داود، وغيره مرفوعًا:"فإذا زادت واحدة -يعني واحدة وتسعين- ففيها حِقتان طروقتا الفحل، إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإِبل أكثر من ذلك، ففي كل خمسين حِقة"، صححه ابن القطان كما في "نصب الراية" ص 390 - ج 1، راجع "الهداية" ص 238 - ج 1 (طبع الهند)، راجع كلام البخاري في "باب زكاة الذهب والورق" عند الترمذي، وراجع ما في "الفتح" ص 36 - ج 12 من رواية البخاري في: ص 438 - ج 1؛
وتخريج البخاري لرواية عبد الله بن المثنى معارَضٌ بترك مسلمٍ إياها لهذا الوجه، وليس الأمر كما ذكر في "الفتح"
ص 150 - ج 6، وإنما كان في الكتاب نصب الصدقات، وراجع "الكنز" ص 305 - ج 3، وص 1084 - ج 2 (خ)، و "مقدمة التعليق الممجد" ص 13، و"معاني الآثار" من لا يقتل مسلم بكافر، و"الفتح" ص 514 - ج 9، وكلام ابن حزم في "الجوهر" ص 290 - ج 1، وصححه ابن جرير، كما في "الكنز" ص 307 - ج 3؛ وهذا الذي أراده: ص 100 مسند ابن معين فيما يظهر، كما نقله المتقي: ص 187 - ج 3 حجة للحنفية في نصاب الإبل، ولذا إنما اكتفى بخمسين، لأنه يستأنف عليه، والأربعون واقع في الطريق، والمعروف في الحساب هو الاستئناف في الزائد، لا العودُ على ما قبله بالتغيير، كما قال به من أدارَ به على الأربعين مرة والخمسين أخرى انتقالًا.
وفيما قلنا انتهاء الحساب على خمسين كل مرة. ويقعُ أربعون في الطريق، وسكت عن ذكر الشياه، أو بنت مخاض، إحالة على القياس بما تقدَّم في صدر الحديث. ووجه الكلام إلى الانتهاء إلى الحِقة، ونفي الجَذَعة، وأنه بعد ما دخل الواجبُ في التكرار، وهو بنتا اللَّبون والحِقتان، أي في إحدى وتسعين إلا عشرين ومائة، يستمر التكرر، ويدور عليهما، بخلاف بنت المخاض، فلم تتكرر أولًا أيضًا.
فلا يقال: إنه دار عليها أيضًا، وإن وجبت في الاستئناف، فليس هذا إدارةٌ عليها، ويكون وجوبها في الاستئناف لنُكتةِ أنْ يعودَ كلُّ واجب كان في الأول، حتى الشياه بخلاف طريقتهم؛ وهذه نُكتةٌ زائدة لنا عليهم. وكأن الحِقتين وظيفة المائة في الأصل، ثم الاستئناف -ثم، وثم- والإِدارة، فلما وصل إلى مائة عاد إلى الخمسين دائمًا، ولذا أسقطَ بنتَ اللبون بعد مائة وعشرين، وليس في البقر إلا تَبِيعٌ، أو مُسِنٌ من أول الأمر، فلذا أدير بعده عليهما، بخلاف الإِبل، فتأمله حسنًا، وراجع المعارضة. وإذن ساوى شرحنا وشرحهم، ويراجع "البرهان".
وصرح به فيما وقف عليه ابن أبي شيبة، من طريق سُفيان، قال: إذا زادت الإِبل على عشرين ومائة يستقبل بها الفريضة، ونحوه في "الكنز" ص 306 - ج 3 عن ابن جرير (ق). وظاهر كلام الحازمي على ما نقله الزيلعي، ص 386: أنه جعل اللفظَ الأول المرفوع أنه من رواية سفيان، أي موقوفًا بهذا اللفظ، وليس عند ابن أبي شيبة كذلك، فليراجع. وراجع حديث بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده، عند النسائي، وأبي داود، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "في كل إبل سائمة في كل أربعين بنت لبون"، فإنه يدل على أن المرعى في نصاب الإِبل أيضًا رُبع العشر تقريبًا، ويؤيدنا. =
...........................
= وراجع أيضًا مرسلَ الزهري من "نصب الراية - في زكاة البقر" ص 387، ومن "منتخب الكنز" ص 503 - ج 3، ومن أصله: ص 307 - ج 3، وص 302 - ج 3، يدل على تعدد الصفات. ثم إن تصحيح ابن القطَّان على قاعدته في توثيق عاصم بن ضمرة، وعدم الإِعلال بالاختلاف في الوقف والرفع، ذكره في "عقود الجواهر"، فراجع التلخيص عليه، ومن باب ما يجب به القصاص، وراجع على رواية عمرو بن حزم بما يوافقهم كلام الشيخ علاء الدين المَاردِيني في سليمان بن داود الخَولاني، وسليمان بن داود الخولاني الذي يروي عن عمر بن عبد العزيز آخر ثبت، ذكره الطحاوي على خلاف مَن جعلهما واحدًا -وليس هو على رأي الطحاوي ههنا راويًا- وراجع "الميزان"، و "التهذيب".
ورواية محمد بن عبد الرحمن الأنصاري أبي الرِّجَال كتاب عَمرو بن حزم اضطربت. فعند أبي عُبيد القاسم بن سلَّام على ما ذكره الزيلعي: ص 395. وعند الطحاوي يوافق مذهب مالك. وعند الدارقطني ما يوافق مذهب الشافعي، ويبعدُ كلَّ البُعد أن يَهَمُ حماد بن سلمة في رواية كتاب عمرو بن حزم. فقد أخرج الطحاوي بعين هذا الإِسناد رواية كتاب أبي بكر الصديق، ويحتمل إن كان بين كتاب عمر الفاروق، وكتاب عمرو بن حزم تفاوت لم ينقل فقد انتسخ عمر بن عبد العزيز كتاب عمرو مع كتاب عمر، لما استخلف وانتسخ كتاب عمر لما أُمر على المدينة، وراجع .. الصغير، ص 105. و "التلخيص" ص 345.
ورواية الدارقطني: "فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبُون، وفي كل خمسين حِقة"، يُحمل على ما حمل عليه؛ فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة، ففيها شاتان إلى مائتين: فإذا زادت واحدة إلى ثلاث مائة، ففي كل مائة شاة، فقد ذكر نهاية بدون تغيير. وما أحسن قول ابن جرير: يتخير بين الاستئناف وعدمه، لورود الأخبار بهما، نقله الخَطَّابي. وغيره: وزيادة يونس في -كتاب عمر- عند أبي داود، وغيره. قال الترمذي: وقد روى يونس بن يزيد، وغير واحد عن الزهري عن سالم هذا الحديث، ولم يرفعوه، وإنما رفعه سفيان بن حسين رواية بالمعنى، ولا بد، فعند الدارقطني: وهذا كتاب تفسيرها
…
إلخ. وكيف لا! وسفيان بن حسين أحاله على كتاب أبي بكر، وليس فيه أثر من ذلك، وكذا زيادة أبي الرِّجَال في كتاب عمرو بن حزم، فاعلم ذلك والله أعلم ثم إن عبد الله بن أبي بكر ضَعَّفه الطحاوي، ولعله عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزم، وهو من رجال الصحيحين، فلذا تعجَّبَ منه الحافظُ فى بحث نِصَاب السَّرقة من "الفتح"، ولكن الطحاوي قاله ناقلًا عن ابن عُيَينة في الزكاة، وفي أحاديث مسِّ الفرج. وراجع "التاريخ الصغير" ص 35. وفي "الفتح"، من باب دية الأصابع، قال سعيد بن المسيب: حتى وَجَدَ عمر في كتاب الدِّيات لعمرو بن حَزم: في كل إصبع عشر، فرجع إليه. اهـ. فدل على تأخُّر علمه عما في هذا الكتاب، فراجعه مع ما عنده عن ابن بَطَّال: ص 416 - ج 2، وص 124 - ج 1، وص 315 - ج 11.
وقد وقع في عدة روايات في "الكنز" وغيره تقديمُ حكم الخمسين على الأربعين، فيدورُ مع الخمسين كلما استقام، مُنضمًا ومستأنفًا، بخلاف الأربعين، إذ ليس نهايةً إذا أُدير الحسابُ على الخمسين، بل سياقُه سياقُ حديث بَهز، عن أبيه، عن جده، وقد نَقَل في "عمدة القاري" تضعيف حديثهم عن ابن مَعين. وراجع تصحيحَ حديث عمرو بن حَزْم من "شرح المنتقى" ص 200 - ج 1. وما في "التهذيب" عن أحمد من تصحيحه يعارِضُه ما في "الميزان" عن أبي زُرْعة الدُمشقي عنه، فتعارَض النقل عنه. وراجع "التلخيص" ص 337، والإتحاف، والحفاظ: ص 183 - ج 1، وما حكم به ابن الجوزي من "التخريج": ص 383 - ج 1. ولا تُؤخذُ صَدَقاتُهم إلا في دورهم (د) تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم (حم 5) "كنز" ص 257 - ج 3، ص 398، وراجع "التخريج" ص 103، وص 104.
ولفظ النِّسائي عن سُويد بن غَفَلَة، قال: أتانا مُصَدِّق النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيتهُ فجلست إليه، فسمعته يقول: "إن في عهدي =
...........................
= أن لا نأخذَ راضِعَ لبن، ولا نجمعُ بين متفرِّقُ ولا نفرقُ بين مجتمع"؛ وعند أبي داود:"أن لا تأخذَ من راضعِ لبنٍ، ولا تجمعَ بين متفرِّقٍ، ولا تفرِّقَ بين مجتمع، وكان إنما يأتي المياه حين ترد الغنم، فيقول: أدُّوا صدقاتِ أموالكم". اهـ. وهذا عند ابن ماجه باللفظ المعروف، يُعَيَّنُ أنه مصروف إلى الساعي. وأن المراد أن يرادَ الموارد، ويأمر بالأداء إياهم، ولا يفعل جمعًا ولا تفريقًا من عنده، خشيةَ أن يفوتَه أخذُ الزكاة، لا خشيةَ القلة أو الكثرة.
ويراجع أيضًا حديث بَهْز بن حكيم عن جده عند النسائي وأبي داود: "لا يفرق إبل عن حسابها" و"شرح القاموس" من -الشناق- ثم إن لفظ مالك في "الموطأ" وعند أبي داود في تفسيره يدلُ على أنه جعلَ كتابَ عمر موقوفًا عليه.
والحاصل: أنه لا يُجعلُ جمعًا ولا تفريقًا لحال الصدقة، كيلا يتضررُ المُلَّاك، وتبقى المواشي كما كانت، ويثِقُون بقول المُلَّاك، ولا يكلِّفُونهم إفرازَ أموالهم.
ثم رواية الطحاوي عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حَزم الذي يظهرُ من "التهذيب" و "الفتح" ص 414 - ج 1 أنه محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حَزم، فيكون مرسلًا أيضًا. وقوله: ص 418 - ج 2: وجده محمد بن أبي بكر، لعله غلطٌ من الناسخ، والصواب كما ذكره مَنْ بَعدَ محمد بن عمرو بن حَزْم. وسياقُ رواية معمر عن عبد الله بن أبي بكر سقط من نُسخة الطحاوي، وقد أحالها في "التخريج" على "مصنف عبد الرزاق"، وعنه الدارقطني، أي في "الدِّيات" ص 376، ولكن ليس فيه للنَّصاب ذكرٌ. والله أعلم.
ثم ظهر من "التلخيص" ص 336 أنَّ الصواب في عبارة الطحاوي عن عبد الله بن المبارك هكذا عنه عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم. وقد وصله ابن إسحاق، كما في "الكنز" ص 186 - ج 3، ولكنْ لا ذكرَ للمسألة الخلافية فيه. وقال في "الميزان": من سليمان بن داود الخَولاني عن أبي حاتم، مع خلافه عنه في "التهذيب" من رأيه. وأنَّ ما ههنا قد يقال: قد كان يحيى بن حمزة قَدم العراقَ، فيرونَ أن الأرقم نعتٌ، وأن الاسم داود. اهـ.
وفي "التهذيب" من سليمان بن أرقم عن ابن حبان أنه سكن اليمامة، ومولده البصرة، اهـ. فإذن يلتبس بسليمان بن داود اليمامي صاحب يحيى بن أبي كثير. وهو في "الميزان" إذ أنَّ ابن الأرقم أيضًا يَروي عنه، كما في "التهذيب".
ولا يبقى الفرقُ إلا بالكُنية، وسليمان بن داود الحرَّاني الذي ذكره الطحاوي، وفي كتاب "الديات" لأبي بكر الضَّحاك: ص 34، كذلك في "اللسان" ص 90 - ج 3، والتخريج: ص 9 - ج 1 لقبه: بومة وسليمان بن داود الرقي الجَزَري آخر، كما أوضحه في "اللسان" لا الذي في حديث الصدقات، كما نقله في "الميزان" في الخولاني عن أحمد، وخلافُه عن ابن عَدِي-. ووقع في نُسخة "الميزان" سليمان بن أبي داود، ولعله من الناسخ كما يظهر مما أحال به على "سنن الدارقطني"، فيكون في النُسخة بحذف:"أبي" أولًا، وإثباته ثانيًا. وقال الدارمي: إنه من كتاب عمر بن عبد العزيز: ص 293. وراجع ترجمةَ ابنه من محمد بن سليمان بن أبي داود من "التهذيب" وترجمة حفيده: سليمان بن عبد الله بن محمد منه، فقد ذكر أن لقبه أيضًا بومة، وأيضًا "سنن الدارقطني": ص 166، وص 167.
والذي يظهرُ أن الراويَ في الصدقات هو الخَوْلَاني، وهو صدوق، ولا يبقى الكلامُ إلا في أنه كان سليمان بن أرقم في الأصل، وأما الحرَّاني فهو ضعيف، ويُحتمل أن يكونَ عند يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود الخَولاني، وابن أرقم كليهما. وأما الحرَّاني فلا دَخل له ههنا. وعلى ما ذكره الطحاوي ليس ههنا الخولاني، بل هو آخر ليس من أصحاب عمر بن عبد العزيز. وينبغي أن يراجع "الجواهر" ص 69، ولا بد. وراجع مسألة العشرِ في القليل والكثير من "الأتحاف". ورواية أبي حنيفة فيه عن أنس، وأنه مذهب مُجَاهد، وإبراهيم والزُّهري، وعمر بن عبد العزيز، ولكن روايةَ أبي حنيفة عن أنس إنما هي من طريق أبَان بن أبي عيَّاش، كما في "العقود" وهو متروك. =
...........................
= لكن في "الكنز" ص 307 - ج 3 أن ابن جرير صححه من طريق قتادة عن أنس {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220]، وقوله تعالى {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص: 24] كأنه تذييل، وأيضًا لا يخلُوان عن الخلطة في بعض الأمور، وإن لم يكونا شركاء-. والذي يظهر أن طاوسًا، وعطاء موافقان لأبي حنيفة في عدم اعتبار خُلطة الجِوَار. وما ذكره في "الفتح" عن ابن جُرَيج: قلت لعطاء: ناس خُلطاء لهم أربعون شاة، قال: عليهم شاة. اهـ. فإنما يريد به قبل القِسمة، نعم، لا يُشترط تمامُ النِّصاب لكلِ كما اشترطه سفيان. وما في "العُمدة" عن أبي محمد نقلًا عنهما، فمن سَقَم النُّسخة. وسفيان مع أبي حنيفة، كما فيها، وفي "المعتصر"، وما عند الزُّرقاني فقاصر، وعلى هذا، فالبخاري مع أبي حنيفة، والله أعلم.
والظاهر أنه باعتبار الأمكنة، ولا أثرَ له؛ وأشبه نظيرٍ له حديث:"لا جَلَبَ ولا جَنَب". ثم جُملة الخليطين في خُلطة الشيوع، ولذا غاير في العبارة، وإلا لأرجع الضمير. وبالجملة هي عنده على المُلَّاك، وعندهم على القَطَائع. وإنما قلنا: إن عطاءً يريدُ خُلطة الشيوع لقوله: ناس خلطاء، فجعلهم هم الخُلطاء، لا أنهم خلطوا أموالَهم؛ وكذلك في الحديث. والتراجعُ عندهم يكون من أحد الشريكين، وإنما التفاعل باعتبار الحالات. وعند أبي حنيفة في حالةٍ بالحساب، فهذا أصدقُ على مذهبه، لا كما زعَمه ابنُ جرير. ووافق ابنُ حزم أبا حنيفة رحمه الله، كما في "بداية المجتهد" موضحًا، وليس الأمرُ كما ذكره الشيخ ابن الهُمَام: أن الجملةَ الأولى أيضًا باعتبار الأَملاك، بل هو باعتبار الأمكنة، كان الساعي يَقدُم إلى المُلَّاك أن يفعلوا هذا، كي يرى القطائع عينًا، ولا يثق بقولهم عند الاجتماع في عدم النِّصاب، أو المُلاك يفعلونه، ثم يُظهرون عدمه، وهو الأظهر. ثم إن الإدارة على الأربعينيات والخمسينيات عند الشافعية نظيره الإدراك على الثلاثينيات والأربعينيات في البقر عندنا، بالعود على ما قبله، واستقامة الحساب كذلك يشعر أنه المراد، وفيه أيضًا مداريتهما بخلاف قولنا: فإن فيه المدار على الخمسينيات، والأربعين، كما أنه بيَّن خمس وثلاثين، وخمس وأربعين، فكان واقعًا في الطريق كذلك، وهو في الطريق إلى الخمسين، وإذا جعل الخمسون مدارًا لا يصلح أن يجعل أربعون كذلك، فإنه في الطريق بالنظر إلى كلا الأمرين، فكان هذا هو العذر في عدم كونه مدارًا. ولعلهم يقولون: إن ذكر بنت اللَّبون -وترك بنت المَخَاض والشياه في حديثهم عندنا لإِفادة أن الواجبَ ربع العشر تقريبًا-. ثم إن لفظَ كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، عند الطحاوي فيه ذكرُ الخمسين قبل ذكرِ الإِعادة إلى أول فريضة الإِبل، وهو الاستئناف، فكان حقُّ هذا السياق أن الخمسينَ بالعوْدِ على ما قَبله، وأن الاستئنافَ، وهو لا بالنظر إلى ما قَبْله، بل بالنظرِ إلى نفسه زائدٌ على الأحاديث، فكان على هذا أنَّ هذا الحديث مع غيره زائدٌ وناقص.
ولما كان الخمسون مع ما قَبله سقط مدارية الأربعين، ونظيره الشياه، إذا زاد على مائتين إلى ثلاث مائة ثلاث شياه، ثم في كل مائة شاة. فهذا مستقبل لا بالعود على ما قبله، ولكن الظاهرَ أن التعامل كان على كلا الوجهين. ونظيرُ ترك بنت اللَّبُون من البينِ في الخمسين بعد المائة، كترك مائة وثمان وتسعين في الشياه إذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة إلى أربع مائة. ثم إن الظاهر من مثل: فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حِقَّة، كأن يريد به مستقبلًا، وكذا في حديثنا، وإنما عادوا على ما قبله لعلهم أنه أراد به جعلَ الحساب واحدًا في المجموع، وإفادَة كلية بعده، وتوزيعَه على الأربعينيات والخمسينيات، كلا عندهم، أو على الخمسينيات عندنا.
وكان يَشكل على المالك حفظُ الحسابين بعد ما كثرت؛ وإعطاء سلهم (*) في كل محفوظًا ومُشَاعًا. وعندنا إنما أوصل إلى مائة وعشرين لأضعف الستين الذي فيه الحِقَّة، ولم يستقم ذلك في بنت اللَّبُون، من خمسة وسبعين في البداية، وإن استقام في تسعين، وهو النهاية. ثم بعد مائة وعشرين إلى خمسين، أنه لا يستقيم توزيع المجموع إلا بذاكُ منضمًا لا مُستأنفًا، والمنظور بعد العشرين ليس إلا خمسون انضمامًا. وليس بعد العشرين قصد الاستئناف، بل حال =