الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
57 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
1484 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ قَالَ حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الإِبِلِ الذَّوْدِ صَدَقَةٌ، وَلَا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا تَفْسِيرُ الأَوَّلِ إِذَا قَالَ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . وَيُؤْخَذُ أَبَدًا فِى الْعِلْمِ بِمَا زَادَ أَهْلُ الثَّبَتِ أَوْ بَيَّنُوا. أطرافه 1405، 1447، 1459 - تحفة 4106
واعلم أنَّ النِّصاب في السوائم والنقدين إجماعًا.
أما الزرعُ والثمارُ ففيهما أيضًا نصابٌ عند الثلاثة، وأما عند الإِمام أبي حنيفة ففي قليلها وكثيرها العُشر، وهو ظاهر القرآن. كما علمته من قبل، وأقر به ابن العربي. وبذلك عملَ الخليفة العَدْل عمر بن عبد العزير، فكتب إلى عُمَّاله أن يأخذوا العشر من كل قليل وكثير، كما أخرجه الزيلعي، فدل على أنه جرى به التعامل. وهو مذهب مجاهد، والزهري، وإبراهيم النَّخَعي، كما في «فتح القدير» أيضًا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم «ما أخرجته الأرض ففيه العشر» فهو للإِمام أبي حنيفة خاصة، لا يشاركه فيه أحد. فإذا شهدَ لنا ظاهر القرآن، والحديثُ الصريح، وتعامل السلف، لم يبق ريبٌ في ترجيح مذهبنا.
أما وجه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: «ليس فيما دون خمسةِ أوسقٍ صدقة» فهو عندي محمولٌ على العَرِيّة، كما سنفصله.
قال ابن الهمام: تعارض فيه العام والخاص في مِقْدَار خمسة أوْسق، ولا ريب أن الاحتياط بالإِيجاب، فقلنا به. وقال صاحب «الهداية»: إن الحديث ورد في زكاة التجارة دون العشر، وذلك لأنهم كانوا يتبايعون بالأوْسَاق، وقيمةُ الوَسْق يومئذ كانت أربعين درهمًا، فيكون قيمة خمسة أوسق مئتي درهم، وهو نصاب الزكاة. وحاصله أنهم نقلوا حديثَ التجارة إلى باب آخر، فَحدَثَ التعارض، مع أن الحديث العام كان في العشر، وذلك في زكاة التجارة، فلا تعارض أصلا.
وقال الشيخ بدر الدين العيني في «شرح البخاري» : إن المراد من الصدقة، الصدقاتُ المتفرقة، وهي من الحقوق المنتشرة التي قد تجبُ في الأموال سوى الزكاة، فالحديث عنده ليس من باب العُشر. كما حمل عليه الجمهور، ولا من باب الزكاة، كما قال به صاحب «الهداية» ، بل من باب الحقوقِ المنتشرة. وحاصله أن تلك الحقوق لا تؤخذُ ممن كان عنده هذا المقدار.
قلتُ: ويرد على هذه الأجوبة كُلِّها ما عند الطحاوي ص 215 - ج1: «ما سقت السماء، أو كان سَيْحًا، أو بَعْلا ففيه العُشر إذا بلغ خمسة أوْسق»
…
الحديث؛ وإسناده قوي. وفيه سليمان بن داود، وليس بابن أرقم الذي هو ضعيف، بل هو رجل آخر صَرَّح به أبو بكر بن
عاصم الظاهري في «كتاب الديات» . فإِنه يدلُّ على أن الحديثَ في العشر لا في الصدقات المتفرِّقة، كما ذهب إليه العيني. ولا من باب التجارة، كما اختاره صاحب «الهداية» .
والذي وضح لدَيّ في هذا المطلب أنه محمولٌ على العَرِيَّة، وتفصيلُه ينبني على مقدمةٍ، وهي أن زكاةَ السَّوائم، والخارج من الأرض من حقوق بيت المال، فيأخُذَها الساعي ويرفعها إليه، وليس لأصحاب الأموالِ أن يدفَعُوها إلى المساكين بأنفسهم. أما زكاةُ الثمارِ الرَّطْبة فيلزم من كُتُب الحنفيةِ أنَّه يجوزُ دفعُها للمالكين أيضًا، ولا يجب دفعُها إلى بيت المال، وإن لم يكتُبُوه، بشكل المسألة، فإِنها مما يَتَسَارعُ إليه الفساد، فيتعسَّر حملُها إلى بيت المال، أو يتعذر، فيصرفها المالك في مصارفها بنفسه. كما قال الشيخ ابن الهمام في قوله صلى الله عليه وسلم «ليس في الحضْراوات صدقة» .
إنَّ النفي فيه محمول على صدقةٍ تُرفع إلى بيت المال، فلا دليلَ فيه على نفي الصدقة رأسًا. فخرجَ منه أن المسألةَ فيما يتسارعُ إليه الفساد، أن لا ترفعَ زكاتُه إلى بيت المال، بل يؤديها صاحبها بنفسه. وفيه إشارة إلى أن إطلاقَ الصدقة في عُرفهم كان على صدقة تُرفع إلى بيت المال. وأما ما كان يصرِفه الرجل بنفسه فلم تكن تُسمَّى صدقة، وهذا عرف معقول. فإِن بيتَ المال إذا لم يأخُذْها وتركها إلى المالكين لينفقوها في سُبُل الخير كيف شاءوا، صارت في نظره كأن لم تكن، لم يبق له عنها بحث. فهي عفو بمعنى عدم أخذها منهم، لا بمعنى عدم الوجوب رأسًا.
كيف! والله سبحانه قد أوجب فيه العُشرَ عندنا. وبعبارة أخرى أنه إذا لم تظهر، لوجوبها ثمرةٌ لبيت المال صارَ كأنه لم يجب في نظره، فصحَّ التعبيرُ بالعفو مرة، ونفي الصدقة أخرى. ومن ههنا ظهر لك شرح آخر لقوله صلى الله عليه وسلم «عَفَوت عن صدقةِ الخيل» ، فلعله لم يرد بذلك نفيَ الزكاة رأسًا، بل عدم وجوب أدائها إلى بيت المال على شاكلة الأموال الباطنة، فصار عفوًا بهذا المعنى.
إذا علمت هذا، فاعلم أن العربَ قد جرت عادتهم بأنهم كانوا يُعيرون أشجارًا للفقراء ليأكلوا من رطبها، فأباح لهم الشرع أن يفعَلُوها في خمسة أوسق، ثم أمر عامِليه أن لا يأخذوا منها شيئًا، لأنه يُؤدي إلى تثنية الزكاة في سنة. أو امتناعِ الناس عن الإِنفاق بأنفسهم، وكان مما لا بُد لهم بحَسَب عاداتهم، فعفى عنهم لهذا. وحينئذٍ صارت شاكلتُه شاكلة قوله صلى الله عليه وسلم «عفوت عن صدقة الخيل» ، وقوله صلى الله عليه وسلم «وليس في الخضراوات صدقة» على شرحنا. فإنَّ الزكاةَ في كلها منفية باعتبار رفعِها إلى بيت المال، لا لعدم وجوبها.
بقي مطالبة البرهان، على أن تلك الخمسة هي التي في باب العَرِيَّة، أو غيرها، وأنَّ عدمَ أخذ الزكاة من هذه الخمسة لكونها عَرِيَّة، أو لعدم وجوب الزكاة فيها. فأقول وبالله التوفيق: أما إن خمسة أوْسُق هذه هي التي فيها العَرِيَّة، فلما أخرجه الطحاوي: ص 212 عن أبي هريرة مرفوعًا «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العَرَايا في خمسة أوْسُق، أو فيما دون خمسة أوسق»
…
إلخ، فلما رأيتُ أنه رخص فيه بالعَرِيَّة في هذه الأوسق، ثم رأيت في باب الزكاة
تلك بعينِها لم توجب فيها صدقة، قلتُ: ما بالُ هذه اعتبرت في الموضعين: خمسة ههنا، وخمسة هنالك؟ وحينئذ تَحدَّس لي أنَّ بينهما ربطًا لا محالة، أَوْجَب الرُّخصةَ فيها في الموضعين.
ولم أزلْ أتفكَّر فيه حتى ظهر لي أنَّ الشرعَ لما رخصه بالعَرِيَّة في تلك المِقْدَار بنفسه نظرًا إلى أنه يتصدق فيها بنفسه، وجب له أنْ يُخففَ الصدقة عنها، كي لا يؤدي إلى تثنية الزكاة في سنة واحدة. وحينئذٍ حكم ذِهني أن خمسةَ أوْسُق في باب الزكاة هي التي رخصَ فيها في البيوع. ومن ههنا ظهر وجهُ اختلافهم في وجوب العشرِ في خمسةِ أوسقٍ، وذلك أنَّ صدقَتَها لمّا لم تكن ترفعُ إلى بيت المال حمله بعضهم على نفيها في هذا المقدار مطلقًا، وحمل بعضهم على أنَّ صدقَتَها وإن لم تُرفعْ إلى بيت المال، لكنها لم تخل عن إيجاب حق، قالوا بالعشر، كالحلب يوم ورود المواشي، تركه الشارع إلى حسبة المالكين، ولم يدخل فيه. فكذلك الصدقة في خمسة أوْسُق.
ثم لم أزل أطلب له نقلا، فوجدت في «كتاب الأموال» لأبي عبيد
(1)
أن الخمسة في باب الزكاة هي خمس العَرَايا، فلله الحمد على التَّوَاردِ.
وأبو عُبيد هذا تلميذُ محمد، ومعاصرٌ لأحمد، وابن مَعِيْن.
ثم إنهم إن اختلفوا في تفسير العَرِيَّة، فذلك بحثٌ آخر يجيءُ في موضعه. فثبت الأمر الأول.
وأما إن التخفيف فيها نظرًا إلى كونها عَرِيَّة لا لنفي الزكاة رأسًا، فقد كشفه ما عند الطحاوي: ص 315 عن مكحول بإِسناد جيد مرسلا: «خففوا في الصدقات، فإنَّ في المال العَرِيَّة، والوصية» ، وهو في «مراسيل أبي داود» ، و «التمهيد» لأبي عمر، إلا أنَّ لفظ أبي داود:«الواطئة» ، وأبي عمر و «الوطية» ، بدل «الوصية» ، وهي ما تَطَأُه الأرجل، ولعل الصواب، كما في «المراسيل» . فدل على أنَّ أمرَ التخفيف في الصدقات لم يكن، لأنه لا زكاةَ فيها، بل لكونها العَرِيَّة فيها، وبه أمر الخلفاء أيضًا، كما أخرجه البيهقي
(2)
أن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما
(1)
قال أبو عبيد: ذيل تشييد تفسير الشافعية أن له شاهدين، فذكر أحدهما أن توقيته صلى الله عليه وسلم ذلك، وتركه الرخصة في خمسةِ أوسق يبين لك أنَّه إنما أذِنَ في قدرِ ما لا يلزمه الصدقة، لأن سنته أن لا صدقة في أقل من خمسة أوسق، وأن لا صدقة في العَرَايا، فهذه تلك بأعينها، والحديث يصدق بعضه بعضًا، إلخ. ص 489 "كتاب الأموال".
(2)
قلت: وأخرج الطحاوي في باب الخرص عن سعيد بن المسيب، قال: بعث عمر بن الخطاب سهلَ بن أبي خيثمة يَخرصُ على الناس، فأمره إذا وجدَ القوم في نخلهم أن لا يَخرصْ عليهم ما يأكلون، فدلَّ على أنَّه لا زكاة في هذا المقدار، بمعنى كونِهِ مشغولًا بحاجتهم، ومن حاجاتهم العَرِيَّة، فرفعت عنها الصدقة أيضًا، بمعنى أنها لا تؤخذ منهم وفي "كتاب الأموال" ص 487 عن مكحول، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَثَ الخَرَّاص، قال:"خففوا، فإنَّ في المال العَرِيَّة والوطية"، وعن الأوزاعي، قال: بلغنا عن عمر بن الخطاب، قال:"خففوا على الناس في الخرص، فإن في المال العَرِيَّة والواطئة، والأكلة" قال أبو عُبيد: وفي بعض الحديث الوَطأة، وبعضهم يقول: الوطئة، فأما الوطئة فليس بشيء، وأما الواطئة والوطأة فهما جميعًا السَّابلة، سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين. وقوله: والأكلة: هم أرباب الثمار، وأهلوهم من لصق بهم، فكان معهم.
كانا يأمران سُعاتهما، أن لا يخرُصُوا خُمس العَرَايا. وبمثله شرحوا ما عند أبي داود: ص 226: «إذا خَرَصتُم فجُزوا ودعوا الثُّلث، فإنْ لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» . ونقل الخَطَّابي أنه قال في «شرحه» : إن معناه أن اتركوا لهم ذلك ليتصدقوا منه على جيرانهم، ومن يطلب منهم، لا أنه لا زكاة عليهم في ذلك. اهـ.
فلما جاز لهم أن يحملوا رفعَ الصدقةِ عن الثلث والربع، رعاية لهم ليتصدقوا على الجيران، لا لانتفاء الزكاة فيها، جاز لنا أيضًا أن نحملَ نفي الصدقة في خمسةِ أوْسُق لمعنى العَرِيَّة، لا لعدم الزكاة فيها. والعَرِيَّة عندنا أيضًا تصدقٌ على الققراء، فإِن هم جوَّزوا التخفيف في الثلث الذي أمكن أن يزيد على خمسة أوسُقٍ بمرّات، فقد جوّزناه في أقل منه، فلم جلبوا علينا؟
وحينئذٍ خرج جزءُ الجواب من نفس الحديث، أعني كونَ تلك الخمسة من العَرِيَّة، وأن نفَي الصدقة عنها نظرًا إلى العَرِيَّة، وهذا ما كنا نريده.
ومحصل الجواب أن النفي في حديث أبي سعيد ليس لثبوت النِّصاب في الثمار، وأن خمسة أوسق تبقى في ناحية بيته، لا تجبُ عليه فريضة الله، بل لأنه يتصدَّقُ فيها بنفسه، فلا تُؤخذ منه صدقة ترفعُ إلى بيت المال. وأما حديث ابن عمر فبيانٌ للواجبِ في نفس الأمر، سواء رُفع إلى بيت المال، أو أمر بأدائه بنفسه، فلا تعارض أصلا.
ثم إني تمسكتُ للمذهب بما عند الطحاوي: ص 213 بإِسناد قوي، ولم أر أحدًا منهم تمسك به عن جابر بن عبد الله:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العَرِيَّة في الوَسْق، والوَسْقين، والثلاثة، والأربعة؛ وقال: في كل عشرة أقناء قنو، يُوضع في المسجد للمساكين» . اهـ. والقِنَوْ: العِذْق بما فيه من الرطب. ومرادُه عندي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما أجاز بالعَرِيَّة إلى أربعة أوْسُق. وأما المسألة فيما زاد فهي كما ذكرها فيما بعد، أعني إيجاب العُشر، حتى أوجب في عشرة أَقْنَاء قِنوًا. وحينئذ صار الحديثُ صريحًا فيما رامه الحنفية.
وإنما لم يتمسك به الطحاوي، ولم يخرجه في باب الزكاة لأنه يمكن أن يكون الأمرُ بوضع الأَقْنَاء من تلك الأَوْسُق التي أجاز فيها بالعَرِيَّة، وحينئذ لا يكون القِنْو زكاةً، وعشر إبل من العرية.
وأما ما قررت من المراد، فالاستدلال منه قائم.
ثم إن الحديث أخرجه ابن أبي شيبة متنًا وسندًا في «مصنفه» ، ومر عليه الحافظ في موضعين، ولم ينقله بتمامِهِ، بل قال بعد قطعة منه
…
الحديث. وأنا أعلمُ ما يريدُ، ولعله تفطَّنَ أن الجملة الأخيرةَ تنفعُ الحنفية، فأراد أن يتركَهم في غَفْلة. وقد جربتهُ مِرارًا في مثل هذه المواضع. وهذا الحديث أخرجه أبو داود: أيضًا في باب حقوق المال إلا أن لفظه: «أمر من كل جادّ عشرةِ أوسقٍ من التمر بقِنْوٍ يعلق في المسجد للمساكين» . اهـ. فانقلب منه مرادُه، ولم تبق