الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
63 - باب بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ نَهَى عَنْهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم.
2146 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِى مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ وَعَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. أطرافه 368، 584، 588، 1993، 2145، 5819، 5821 - تحفة 13964، 13827
2147 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ - رضى الله عنه - قَالَ نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. أطرافه 367، 1991، 2144، 5820، 5822، 6284 - تحفة 4154
64 - باب النَّهْىِ لِلْبَائِعِ أَنْ لَا يُحَفِّلَ الإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ
وَالْمُصَرَّاةُ الَّتِى صُرِّىَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ، وَجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أَيَّامًا. وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ يُقَالُ مِنْهُ صَرَّيْتُ الْمَاءَ.
2148 -
حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ» . وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ وَمُوسَى بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم «صَاعَ تَمْرٍ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَهْوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلَاثًا، وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ. أطرافه 2140، 2150، 2151، 2160، 2162، 2723، 2727، 5144، 5152، 6601 - تحفة 13634، 14500، 14629
2149 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِى يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً، فَرَدَّهَا فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا. وَنَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُلَقَّى الْبُيُوعُ. طرفه 2164 - تحفة 9377
2150 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» . أطرافه 2140، 2148، 2151، 2160، 2162، 2723، 2727، 5144، 5152، 6601 - تحفة 13802 - 93/ 3
65 - باب إِنْ شَاءَ رَدَّ الْمُصَرَّاةَ وَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ
2151 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا الْمَكِّىُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي
زِيَادٌ أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ» . أطرافه 2140، 2148، 2150، 2160، 2162، 2723، 2727، 5144، 5152، 6601 - تحفة 12227
قيل: أصل المُصَرَّاة مَصْرُورَة، كما أن أصل {دَسَّاهَا} [الشمس: 10] دسَّسها، فصارت - دسَّاها
(1)
. والمصنِّفُ أيضًا توجَّه إلى بيان الاشتقاق. كما هو دَأْبُهُ.
واعلم أن التَّصْرِيَةَ عيبٌ عند الشافعيِّ، وأحمد، فجاز للمشتري أن يَرُدَّ به على البائع، إلا أنه يَرُدُّ معه صاعًا من تمرٍ، لحديث أبي هريرة. وقال أبو يوسف: يَرُدُّه، ويَرُدُّ معه قيمةَ اللبن، كائنةً ما كانت.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: لا يَرُدُّه، لأن الحَلْب عَيْبٌ في الحيوان، والمبيعُ إذا كان مَعِيبًا، ثم حدث فيه عَيْبٌ آخر عند المشتري، امتنع رَدُّه، فليس له إلا الرُّجُوعَ بالنقصان. والحديثُ وَارِدٌ علينا، وأجاب عنه
(2)
بعضُ الحنفية: إن الحديثَ إذا رَوَاه راوٍ غير فقيهٍ، وعَارَضَهِ
(1)
قال الشيخُ: اختلف أهلُ العلم واللغة في تفسير المُصَرَّاة، ومن أين أخِذَت واشْتَقْت؟ فقال الشافعيُّ: التَّصْرِيَة أن تُرْبَطَ أَخْلَاف الناقة والشاة، وتُتْرَكَ من الحلب اليومين والثلاثة، حتى يَجْتَمِعَ لها لبنٌ، فيراه مشتَريها كثيرًا، ويزيد في ثمنها لِمَا يرى من كثرة لبنها. فإذا حَلَبَها بعد تلك الحَلْبة حَلْبَةً، أو اثنتين، عَرَفَ أن ذلك ليس بلبنها، وهذا غرورٌ للمشتري. وقال أبو عُبَيْد: المُصَرَّاة: الناقةُ، أو البقرةُ، أو الشاةُ التي قد صُرِّي اللبنُ في ضَرْعِهَا، يعني: حُقِنَ فيه، وجُمِعَ أيامًا، فلم يُحْلَبْ. وأصلُ التَّصْرِيَة: حبسُ الماء وجمعه، يقالُ منه: صرَّيْتُ الماءَ. ويُقَال: إنما سُمِّيَت مُصَرَّاة، كأنها مياه اجتمعت. قال أبو عُبَيْد: ولو كان من الربط لكان مَصْرُورَة، أو مُصَرَّرةً. قال الشيخ: كأنه يريد به ردًا على الشافعيِّ. قال الشيخُ: قول أبي عُبَيْد حسنٌ، وقولُ الشافعيِّ صحيح. والعربُ تَصُرُّ ضروعَ الحَلُوبات إذا أرسلتها تَسْرَحُ، وُيسَمُّون ذلك الرباط: صِرَارًا، فإذا رَاحَتْ حُلَّت تلك الأَصِرَّة، وحُلِبَتْ. ومن هذا حديث أبي سعيد الخُدْرِي، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. قال: "لا يَحِلُّ لرجلٍ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر أن يَحُلَّ صِرَار ناقةٍ بغير إذن صاحبها، فإنه خَاتِمُ أهلها عليها، ومن هذا قول عنترة:
العبدُ لا يُحْسِنُ الكَرَّ
…
إنما يُحْسِنُ الحَلْبَ والصَرَّ
وقال مالك بن نُوَيْرَة: وكان بنو يَرْبُوع جمعوا صدقاتهم ليوَجِهُوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم من ذلك، ورَدَّ على كل رجلٍ منهم صدقتهم، وقال: أنا جُنّةٌ لكم مما تَكرَهُون، وقال:
وقلتُ: خُذُوها هذه صَدَقَاتُكم
…
مُصَرَّرَةٌ أَخْلَافها لم تُجَدَّد
سأجعل نفسي دون ما تجدونه
…
وأرهنكم يومًا بما قلته يدي
قال الشيخُ، وقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ المصَرَّاةُ أصله المَصْرُورَة، أبدل إحدى الرَّاءين ياءً، كقولهم: تقضى البازي.
وأصله تفضض كَرِهُوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنسٍ واحدٍ في كلمةٍ واحدةٍ، فأَبدَلُوا حرفًا منها بحرفٍ آخرَ ليس من جنسها، قال العجاج:
تقضى البازي إذا البازي كسر
ومن هذا الباب قول الله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 10]، أي أَخمَلَهَا بمنع الخير، وأصله من دسَّسها. ومثلُ هذا في الكلام كثيرٌ - "خطَّابي".
(2)
قال ابن العربي: قال أصحابُ أبي حنيفة: هذا الحديثُ لا حُجَّةَ فيه، لأنه يُخَالِفُ الأصولَ في ثمانية أوجه: الأولى: أنه أوْجَبَ الردَّ من غير عَيْبٍ ولا شرطٍ. الثاني: أنه قدَّر الخِيَار بثلاثة أيام، والثالث حُكمًا لا يتقدَّر بمدةٍ، إنما يتقدَّر الثالث بالشرط. قلتُ: ولعلَّ لفظَ الثالث سهوٌ من الكاتب في المَوْضِعَيْن. الثالثُ: أنه أوْجَبَ =
القياسُ، يُتْرَكُ العملُ به، ويُعْمَلُ بالقياس. فلمَّا كان حديثُ أبي هُرَيْرَة مُخَالِفًا للقياس، ورواه من هو غير فقيهٍ، عَدَلْنا إلى القياس، وعَمِلْنا به.
= الرَّدَّ بعد ذهاب جزءٍ من البيع. الرابعُ: أَوْجَبَ عليه البدل، وهو العِوَضُ عن اللبن، مع قيام المُبْدَل، وهو اللبنُ.
الخامسُ: أنه قدَّره بالتمر، أو بالطعام، والمُتلَفَاتُ إنما تُضْمَنُ بأمثالها، أو قيمتها بالنقد. السادسُ: أن اللبنَ من ذوات الأمثال، فحُكِمَ بضمانه في هذا الخبر بالقيمة. السابعُ: أنه يُؤَدِّي إلى الربا، لأنه إن باعها بصاعٍ، ثم دفع اللبنَ وصاعًا، أدَّى إلى صاعٍ وعينٍ بصاعٍ؛ الثامنُ: أنه يُؤدِّي إلى أن يجتمعَ عنده العِوَضُ والمُعَوَّضُ، لأنه إذا باعها بصاعٍ وردَّها بصاعٍ، صار عنده شاةٌ وصاعان، فاجتمع العِوَضُ والمُعَوَّضُ. قلتُ: وفي العبارة سقطٌ، ثم أجاب عن الوجوه كلِّها.
قلتُ: قد كَثُرَ شَغْبُ الخصوم من كل جانب، مع أني لا أرى فيها أمرًا غريبًا، بل أرى أن أصحابَنا قد سَلَكُوا في الأبواب كلِّها ذلك المَسْلَك، ونِعْمَ المسلكُ هُوَ، أعني العملُ بالضابطة الكُلِّيةِ الواردةِ في الباب، وتركُ العملِ بجزئياتٍ وردت على خلاف تلك. والمرادُ بالترك هو التوقُّف في العمل بها، أو إبداء تأويلها بنحوٍ. وترى صنيعهم هذا مُطَّرِدًا في جملة الأبواب إن شاء الله تعالى. فقد عَمِلُوا بحديث أبي أيُّوب، وَتَركُوا العملَ بحديث ابن عمر في مسألة الاستقبال والاستدبار. وكذا في مسألة المواقيت عَمِلُوا بسنَّةٍ فاشيةٍ، وضابطةٍ كُلِّيةٍ، ولم يخصِّصُوها بوقائعَ متفرِّقة، فعَمِلُوا بعموم أحاديث النهي في الأوقات المكروهة، ما لم يَعْمَلْ به الآخرون، ولم يَرْضُوا أن يَتْرِكُوه بحالٍ.
ومن هذا الباب أنهم لم يَرخِّصُوا بالركعتين والإِمام يَخطُبُ، لمَّا وجده مخالفًا لضابطة الاستماع يوم الجمعة عند الخُطبَة. ولم يُرَخصُوا بالكلام قليلًا كان أو كثيرًا، ناسيًا كان أو عامدًا، لأجل حديث ذي اليدين، فإنه لا يَزِيدُ على كونه واقعةً، مع ورود ضابطةٍ كُلِّيةٍ في الباب:"أن الصلاةَ لا يَصْلُحُ فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هي ذكرُ الله، والتسبيحُ، والتهليلُ، وقراءةُ القرآن الكريم". وكذا لم يَقُولُوا بتعدُّد الركوع في صلاة الكسوف، وكأنهم رأوا سبيله سبيل الجزئيات في عدم انكشاف الوجه، فَعمِلُوا بضابطةٍ كُلِّيةٍ في الصلاة. وهكذا فَعَلُوا في الصلاة على الغائب، وعلى القبر، وفي المسجد، فإن المُسْتَنَدَ في كلِّها جزئياتٌ لم تَنْكَشِفْ وجوهها. وهو صنيعُهم في مسألة موت المُحْرم، فإنهم رَأوا سبيله سبيل المُحِلِّين، ولم يَضَعُوا له سنةً جديدةً، لقوله صلى الله عليه وسلم في مُحرِمٍ خاصةً:"لا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ".
أمَّا في المعاملات، فَطَرَدُوا فيها على ذلك، كما لا يَخفَى. اهـ. فقد تَرَكُوا حديثَ ليلة البعير، لحديث:"نهى عن بيعٍ وشرطٍ"، وقد قرَّرنا تلك الأحاديث في هذه الأمالي.
ومن هذا الباب حديث أبي هريرة هذا، فإنه لا يَلتَئِم مع سائر أحاديث باب التضمين، فإن الضَّمَانَ لم يُعهَدْ في الشرع إلَّا بالمِثلِ، أو بالقيمة. وليس ضمان اللبن بصاعٍ من التمر في شيءٍ منهما، فصار كالجزئيات التي لم تَنْكَشِفْ وجوهها. ولَسْنَا مُتَفَرِّدِين في ذلك الصنيع، فإن مثل مالك أيضًا فَعَلَهُ، فإنه ترك العملَ بحديث الخيار، وقال: إن التفرُّقَ بالأبدان مجهولٌ لا نَعْلَمُ حدَّه، فلم يَعْمَلْ به. وهكذا حديث أبي هُرَيْرَة عند البخاري:"الظهر يُركَبُ بنفقته إذا كان مَرْهونًا"
…
إلخ.
قال ابن عبد البَرِّ: هذا الحديث عند جمهور الفقهاء يُعَارِضُه أصولٌ مُجمَعٌ عليها، وآثارٌ ثابتةٌ لا يُختَلَفُ في صحتها.
ثم ذَهَبَ إلى نسخه، كما ذكره الحافظ في "الفتح".
وكذا الشافعيُّ لم يَعْمَلْ بحديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين في المدينة، وبحديث الإِبراد، وبحديث السِّعَاية مع صحتها. وبابُ التأويل واسعٌ، ولا يَعْجِزُ عنه أحدٌ. فإن ترك الحنفية حديثَ أبي هريرة هذا لزعمهم أنه يُخَالِفُ سائر باب التضمين، فماذا أَذْنَبُوا؟ ثم لِيُعْلَمَ أنه فَرقٌ بين ترك العمل بحديثٍ، والتوقُّف عنه، وبين ردْ الحديث.
وحاشا للحنفية أن يقولوا برَدِّ حديثٍ ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كيف! وحقُّ الرسول أَقدَمُ، ولكنهم إذا توقَّفُوا عن العمل =
قلتُ: وهذا الجواب باطلٌ لا يُلْتَفَتُ إليه، ولم يَزَلْ مَطْعَنًا للخصوم منذ زمنٍ قديم. ولمثل هذا اشْتَهَرَ أن الحنفيةَ يُقَدِّمُون الرأيَ على الحديث. وحَاشَاهُم أن يَقُولُوا بمثله، فإن هذه المسألة لم يَصِحَّ نقلها عن أبي حنيفة، ولا عن أحدٍ من أصحابه. نعم نُسِبَتْ إلى عيسى ابن أَبَان - المعاصر للشافعي - وهي أيضًا محلُّ تردُّدٍ عندي. كيف وقد قال المُزَني: إن أبا حنيفة أَتْبَعُ للأثر من محمد، وأبي يوسف. فلعلَّ تكون بين يديه جزئياتٌ، ومسائلُ تَدُلُّ على هذا المعنى.
وبالجملة هذا الجواب أَوْلَى أن لا يُذْكَرَ في الكُتُبِ، وإن ذكره بعضُهم، ومن يَجْتَرِيءُ على أبي هُرَيْرَة فيقول: إنه كان غيرُ فقيهٍ؟ ولو سلَّمنا، فقد يَرْويه أفقههم، أعني ابن مسعود أيضًا، فيعود المَحْذُورُ. وأجاب عنه الطحاويُّ بالمعارضة بحديث:«الخَرَاج بالضَّمَان»
(1)
.
= بحديثٍ لوجوهٍ لاحت لهم، أو من أجل سُنَّةٍ تقرَّرت عندهم، أَرَىَ الخصومَ يَرْمُونَهم بردِّ الحديث، فهذا من تحامُلِهم علينا. أَلَا ترى أن الترمذيَّ ذكر في "علله الصغرى" أني ذكرت حديثين صحيحين في كتابي لم يَعْمَل بهما أحدٌ من الأمة، وما ذلك إلَّا لعدم إدراكهم وجههما. والسرُّ في ذلك: أن عمل المجتهد بحديثٍ لا يكون كعمل المقلِّد به، فإنه يَنظُرُ إلى معانيه، ومبانيه، وعلله، وسائر أسبابه، وأنه هل يَرْتَبِطُ مع سائر الأصول، أو يُنَاقِضُها، فتارة يعمِّمُه، وأخرى يُخَصِّصُه.
وبالجملة ليس دَأبُه العملَ بالجزئيات المنتشرة على أي وجهٍ وُجِدَتْ، إنما هو وظيفةُ المقلِّد، أي العمل بالجزئيات المنقولة عن إمامه، وإنما همُّ المجتهد في إرجاع الجزئياتِ المتناسبةِ إلى أصلٍ واحدٍ، ودَرْجِهَا تحت ضابطةٍ تُنَاسِبُها. وكذا دَأبُه مع الأصول، ليس رَدَّ بعضها على بعضٍ، فمراعاة التَّوَافُق بين الأصول، وإلحاق الجزئيات بضوابطها من وظيفة الاجتهاد، وليس من وظيفته أنه إذا مرَّ بحديثٍ عَمِلَ به بدون إمعانٍ في معناه ومبناه، وقد وَجَدْنا نحوه بين السلف أيضًا. فإن أبا هُرَيْرَة لمَّا روى حديث الوضوء مما مَسَّت النار، قال له ابن عباس: "أَنَتَوَضَّأُ من الحميم، أَنَتَوَضَّأُ من الدهن؟! وما ذلك لإِمعانه في معنى الحديث، وحاشا أن يُعَارِضَ حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم بشيءٍ.
ونظيرُه النزولُ في الأَبْطَح، ذهب بعضُ الصحابة إلى استحبابه، وقال آخرون: إنه ليس من النُّسُك في شيءٍ، وإنما كان مَنْزِلًا نزله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما أَطْنَبْتُ فيه الكلامَ لأني وَجَدْتُ كثيرًا من الناس لا يفرِّقون بين الوظيفتين، فَيُلْزِمُون المجتهدَ ما يَلْزَمُ على المقلد. وقد نبَّه عليه الحافظ فضل الله التُورِبِشتِي في ذيل كلامه في مسألة الإشعار، في باب الحج. وهو مهمٌّ جدًا، فلذا اعْتَنَيتُ به، ليعلمه من لم يَعْلَمْ، وَيعْمَلَ به من لم يَعْمَل، فلا يُطِيلُ لسانه على الأئمة المجتهدين في مواضع الخلاف، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
قلتُ: وحاصلُه: أن اللبنَ الذي احتلبه المشتري قد كان بعضُه في مِلْكِ البائع قبل الشراء، وحَدَثَ بعضُه في مِلْكِ المشتري، فلا يَخْلُو أن الصَّاعَ الذي تُوجِبُه على مشتري المُصَرَّاة أن يَرُدَّه إلى البائع، إمَّا أن يكون عِوَضًا عن مجموع اللِّبَنِ، أو عمَّا كان في وقت وقوع البيع خاصةً. فإن كان الأوَّلُ يَلْزَمُ عليك أن لا يكون الخَرَاجُ بالضَّمَانِ، فإن اللِّبن الذي حَدَث في مِلْكِ المشتري لكونه في ضمانه يكون له على حديث:"الخَرَاج بالضمان"، فكيف يتحمَّل المشتري صاعَ التمر، عِوَضًا عنه. ألَا ترى أنه لو رَدَّها على البائع بعَيْبٍ غير التحفيل، لا ضمانَ عليه عند الشافعية لمَّا شَرِبَ من لبنه، لهذا الحديث، فما له يتحمَّل الغرامةَ في عيبِ التحفيل؟ وإن كان الثاني -أي ذلك الصاع- عِوَضًا مما كان في ضَرْعِها وقت البيع، يَلْزَمُ عليك بيع الكائي بالكائي، وقد نهى عنه، وذلك لأن هذا اللبن ليس ملكًا للمشتري، لا بحكم البيع، ولا بحكم الحديث: الخراج بالضمان، فيكون للبائع، فإذا شربه المشتري، وأتلفه صار دينًا في ذمته لنقض البيع، وكذا صار الصاع أيضًا دينًا عليه، عوضًا عنه، وهذا هو بيع اللبن بالصاع دينًا، وهو غير جائز مطلقًا، فعلى أي الوجهين كان يلزم عليك ترك أحد الحديثين، إما حديث: =
والجواب عندي: أن الحديثَ محمولٌ على الدِّيَانة دون القضاء، لِمَا في «فتح القدير» ، في باب الإِقالة: أن الغَرَرَ، إمَّا قوليٌّ، أو فعليٌّ، فإن كان الغَرَرُ قوليًّا، فالإِقالةُ واجبةٌ بحكم القاضي. وإن كان الثاني تَجِبُ عليه الإِقالةُ دِيَانةً، ولا يَدْخُلُ في القضاء. كيف وأن الخِدَعَاتِ أشياءٌ مستورةٌ، ليس إلى علمها سبيلٌ، فلا يُمْكِنُ أن تَدْخُلَ تحت القضاء. فالتَّصْرِيةُ أيضًا خَدِيعةٌ، ويَجِبُ فيها على البائع أن يُقِيلَ المشتري ديانةً، وإن لم يَجِبْ قضاءً.
وحينئذٍ فالحديثُ مُتَأَت على مسائلنا أيضًا، ولم أَرَ أحدًا منهم كَتَبَ أنه مُوَافِقٌ لنا. وادَّعَيْتُ من عند نفسي: أن الحديث لا يُخَالِفَ مسائلنا أصلا، لأن التَّصْرِيَة غَرَرٌ فِعْليٌّ، وفيه الرَّدُّ ديانةً على نصِّ «فتح القدير» . وهكذا أقول فيما إذا اشترى سلعةً، فلم يُؤَدِّ ثمنها حتى أَفْلَسَ: إنه يكون فيه أسوة للغُرَمَاءِ عندنا قضاءً، ويَجِبُ عليه أن يَرُدَّ المبيعَ إلى البائع خِفْيَةً ديانةً، فإنه أحقُّ به، لكنه حكم الدِّيَانة دون القضاء. وأوَّله الطحاويُّ في هذا الحديث أيضًا، وحَمَلَهُ على العَوَارِي.
ونظيرُه ما في الفِقْهِ: أن فرسًا لأحدٍ لو هَرَبَ إلى دار الحرب، ثم حيِزَ في الغنيمة، فإن أخذه مالكه قبل التقسيم يأخذه مجَّانًا، وإلا فيأخذه بالقيمة. فَدَلَّ على بقاء حقِّه بعد التقسيم أيضًا في الجملة، وإن لم يَبْقَ مِلْكُه، فانكشف أن حقَّ المِلْكِ قد يبقى بعد زوال المِلْكِ أيضًا. وهكذا فيما إذا أَفْلَسَ المشتري، ينقطع مِلْكُ البائع عن المبيع، ويبقى حقُّ المِلْكِ، ولذا يَجِبُ عليه دِيَانةً أن يَرُدَّه عليه خِفْيَةً. أمَّا في القضاء، فهو أسوةٌ للغُرَمَاء، لانقطاع المِلْكِ.
ثم اعلم أن الزيادةَ في المبيع إمَّا متَّصِلَةٌ، كصَبْغِ الثوب، أو مُنْفَصِلَةٌ. والمُنْفَصِلَةُ إمَّا مُتَوَلِّدَةٌ، أو غير مُتَوَلِّدَةٍ، وكلٌّ منها قبل القَبْضِ أو بعده. ومِصْدَاقُ الحديث:«الخراج بالضمان» الزيادةُ الغيرُ المُتَوَلِّدة. وهي فيما نحن فيه: مُتَوَلِّدَةٌ مُنْفَصِلَةٌ، ولا رَدَّ فيها عندنا في عامة كُتُبِنَا. وفي «الوجيز» ، و «التهذيب» ، و «الحاوي»: إنه يَرُدُّه عند التراضي. قلتُ: فما في عامة الكُتُبِ حكم القضاء، وفي تلك حكم الدِّيَانَةِ، وقد نَظَمْتُهُ في بيتين:
*بِزِيَادَةِ المُنْفَصِل المُتَوَلِّد
…
أو عَكْسِهِ، مُتَعَيِّبٌ لم يَرْدُد،
*ثم في «التهذيب» ، و «الوجيز» و «الحـ
…
ـاوي» الجواز بالتراضي يُحْمَل
وراجع التفصيلَ من «البحر» . ومن ههنا أقول: إني لا أرضى بجواب الطحاويِّ، لأنه عارضٌ بحديثٍ عامَ، يمكن أن يُخَرَّج له وجوهٌ، ومحاملٌ. وحديثُ المُصَرَّاة حديثٌ خاصٌّ، فلا يُعَارِضُهُ. وإنما الطريق أن يُؤْتَى بمعارضٍ من هذا الباب الخاصِّ.
= الخراج بالضمان، أو حديث النهي عن بيع الكائي بالكائي. وقال عيسى بن أَبَان: إنه منسوخٌ بنسخ العقوبات في الأموال، وكانت العقوبات في الذنوب يُؤَاخَذُ بها الأموال في زمن، فإن البائعَ إذا حَفَّل المبيع، فقد غرَّ المشتري، فكانت عقوبةٌ: أن يَجعَلَ اللبنَ المحلوبَ في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمرٍ، أنه يمكن أن يساوي أَصْوُعًا منه في القيمة. فإذا نُسِخَ التعزيرُ بالغرامات المالية، نُسِخَ حديث الباب أيضًا. ثم قال الطحاوي: إنه الأولى في وجه النسخ، أن يُقَال: إنه منسوخٌ بحديث النهي عن بيع الكائي بالكائي. يقول العبدُ الضعيفُ: وكان كلام الطحاويِّ دقيقًا من هذا الموضع، فشرحته على ما فَهِمتُه من نفسي، تيسرًا للطلبة. والله تعالى أعلى بحقيقة الحال.