الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِى صَدْرِى، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا افْتَحْ. قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ». طرفاه 349، 3342 - تحفة 11901
1637 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - هُوَ ابْنُ سَلَامٍ - أَخْبَرَنَا الْفَزَارِىُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ الشَّعْبِىِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - حَدَّثَهُ قَالَ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ. قَالَ عَاصِمٌ فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلَاّ عَلَى بَعِيرٍ. طرفه 5617 - تحفة 5767
واعلم أنه قد علم العلماء وعلمت الأمة: أنَّ ماءَ زمزم لما شُرِبَ له، فحفِظَه كلٌّ في زمن حجِّة، ودعا بما بلغت إليه أمنيَّتُه، فذكر الحافظ أنه دعا أنْ يُرزَق حفظَ الذهبي، فلما تَشرَّفَ من زيارة البيت ثانيًا، رأى أنَّ حفظَه قد فاق عليه. وكذلك دعا السيوطي أنْ يرزقَ الحَذَاقَةَ في ستة فنون. قلتُ: وتلك الفنون تكون من فنون الدين، وإلا فالفنون العقلية، فإنَّه كان قائلا بعدم جوازها. وهكذا الشيخ ابن الهُمَام، لمَّا بلَغَه دعا بأن يُرزقَ الاستقامة على الدين، والوفاة على السنة البيضاء، ويا له من دعاءٍ سبقَ الأدعية كلها. أقول: ولعل مراد الحافظ من زيادة الحفظِ على الذهبي في حق المتون، والعلل، أما في حقِّ الرجال، فلا أراه فَاق عليه.
ثم إن الشيخ ابن الهُمَام كما اقتفى الحافظَ في دعائه، كذلك اقتفاه في التصنيف أيضًا، حيث صنَّفَ في سفر الحج رسالةً في أحكام الصلاة سَمَّاها «زاد الفقير، وهي رسالة جيدة في أحكام الصلاة. ولعله قد كان بلغه أنَّ الحافظ أيضًا صنف رسالة في سفره، سماها «نُخْبَة الفِكَر» . ولعل الشيخ استجَازَ من الحافظ كتابته، ولا أراه أنْ يكونَ لقيه، وذلك لأنه نقلَ روايَتَه في «الفتح» عن الحافظ، وذكره: عن لفظ شيخنا، فهذا يدل على تلمذةٍ، ولا أقلَّ من أنْ تكونَ كتابته، والله أعلم.
1636 -
قوله: (جبرائيل)«إيل» بالعبريّة: الله، و «الجبرة»: القوّة، و «الميكاء»: الماء، و «الإسراف»: الصّوْر. ذكر الشيخ الأكبر أن لله تعالى أسماءً إيلية، وإلهيّة: والإبلية تُستعمل في الملائكة كجبرائيل، وغيره، والإلهية تُستعمل في سائر خلقه.
قوله: (ممتلىء حكمة وإيمانًا)
…
إلخ، وتلك كانت حقيقةُ الإِيمان على ما مر تحقيقها. ولا ريب أنَّ تلك الحقيقة لا تذهبُ ذرةً منها، إلى جهنم. والله تعالى أعلم بالصواب.
77 - باب طَوَافِ الْقَارِنِ
1638 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا» . فَقَدِمْتُ مَكَّةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا أَرْسَلَنِى مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ،
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ» . فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ، بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. أطرافه 294، 305، 316، 317، 319، 328، 1516، 1518، 1556، 1560، 1561، 1562، 1650، 1709، 1720، 1733، 1757، 1762، 1771، 1772، 1783، 1786، 1787، 1788، 2952، 2984، 4395، 4401، 4408، 5329، 5548، 5559، 6157، 7229 - تحفة 16591 - 192/ 2
1639 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - دَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَظَهْرُهُ فِى الدَّارِ، فَقَالَ إِنِّى لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ، فَيَصُدُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَلَوْ أَقَمْتَ. فَقَالَ قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنْ حِيلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ثُمَّ قَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِى حَجًّا. قَالَ ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. أطرافه 1640، 1693، 1708، 1729، 1806، 1807، 1808، 1810، 1812، 1813، 4183، 4184، 4185 - تحفة 7523
1640 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَرَادَ الْحَجَّ عَامَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ. فَقِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ. فَقَالَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إِذًا أَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنِّى أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَاّ وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِى. وَأَهْدَى هَدْيًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. أطرافه 1639، 1693، 1708، 1729، 1806، 1807، 1808، 1810، 1812، 1813، 4183، 4184، 4185 - تحفة 8279
واعلم أنَّ القارن عندنا يطوفُ طوافين ويسعى سعيين، فإنَّه قد أحرم بإِحرامين، فيطوف لحجه، ويسعى له، وكذلك يطوف لعمرَتِهِ ويسعى لها. غير أنَّ المعتمرَ يتحلَّلُ بعد الفراغ عن أفعال العمرة، وهذا يبقى حرامًا إلى يوم النحر لمكان إحرام الحج، وإن كان فرغ من أفعال العمرة. ولا فرق بعدها بينه وبين المفرد عندنا أيضًا، فيطوف للزيارة طوافًا واحدًا، وللصَّدَر طوافًا واحدًا، ويحلق حلقًا واحدًا، ثم يخرجُ من إحراميه معًا. وإنَّما الكلامُ في تعدُّد الطوافِ والسعي عند دخوله مكة، فحسب، فقلنا: إن عليه طوافين وسعيين. وقال الإِمام الشافعي: إنه يطوف طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا للقُدُوم، ثم يطوف يوم النحر عن حجه وعمرتِهِ طوافًا واحدًا.
وبعبارة أخرى إنه لا فرقَ بين القَارِن والمفرِدِ عنده إلا بحَسَب الإِحرام، فإن القارن يُحرم بهما، والمفرد يُحرم بالحج فقط. أما بحسب المناسك فقال: إن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة، يعني به أنَّ أفعالها دخلتْ في أفعال الحج، فطوافُه عن واحدٍ ينوبُ عن آخر. وقلنا: إن دخولَها إنَّما هو في زمان الحج، لا في أفعاله، فيأتي بها منفردًا، وبالحج منفردًا، ولا تتداخل العبادتان من غير الجِنس.
وبعبارة أخرى إن العمرةَ أربعة أفعال: الإِحرام، والإِحلال، والطواف، والسعي. وقد قلنا بتداخل اثنين منها، فإِحرام القارن وإحلاله واحدٌ عندنا أيضًا، ولا تداخُلَ في الطواف والسعي، لأنهُما مقصودان، وقال الشافعية بالتداخل فيهما أيضًا، فلم تبق العمرةُ عندهم إلا كالعنقاء
(1)
.
إذا علمتَ هذا، فاعلم أنَّ الشافعي تمسك من قوله:«أما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا» فإنه يدل على أنَّ القاَرنين طافوا طوافًا واحدًا، وحُسِبَ ذلك عن نُسُكَيْهم الحج والعمرة.
قلتُ: وظاهِرُه يخالفُ الأئمة كلهم، بل يخالف الشافعية أيضًا، فإنَّه لا نِزَاع في أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم طاف ثلاثة أطوفة في الحج: طوافًا حين قدِمَ، وطوافًا آخر يوم النحر، ثم طوافًا للصَّدَر، فعلى الشافعية أيضًا أنْ يطلُبُوا له سبيلا. فقالوا: معناه طوافٌ واحد للحج والعمرة. وقلنا: بل للحِلِّ منهما، وسيأتي تقريره، فإذا ثبت أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ومن كانوا على إحرامه، لم يكتَفُوا بالطواف الواحد، بل طافوا ثلاثة أطوفة، لم يبق النصُّ حجةً لهم، ونزل الأمر إلى تخاريج المشايخ.
فخرَّجَ الشافعية طوافه الأول كان للقُدُوم. وقلنا: إنه كان للعمرة، وإنما لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم للقدوم، لئلا يزيد عدد أطوفَتِهِ صلى الله عليه وسلم على أطوفة سائر الناس الحاجين معه عامئذٍ، فإنَّه كان فيهم مفردُون ومتمتعون، وليس لهم إلا ثلاثة أطوفة، فلو زاد النبي صلى الله عليه وسلم رابعًا لاختل عليهم مناسكهم، فاستحبَّ أنْ تبقى شاكلَتَه، كشاكلة سائر الناس، ولذا لم يطف للنفل إلا في الليل على ما مر من البيهقي، وإن نفاه البخاري، لأنه ليس في النفل استتباع، وإنما هو حاله الانفرادي.
ولما كان طواف القدوم سنة لم تجب بتركه جِنَاية عندنا، وأقرَّ به الطحاوي أيضًا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف للقدوم عامئذ. وإن حملناه على التداخل بين طواف القدوم والعمرة، فله أيضًا وجه، وإذن لا نحتاج إلى أن ندعي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يطف للقدوم، بل لنا أن نقول بالتداخل. ولكني لم أجد أحدًا من الفقهاء كتب التداخل، نعم، صرَّحُوا أن تركَ القدوم لا يوجب الدم لكونه سنة، ولا دم بتركها، أما الثاني فهو للزيارة، وعندهم للحج والعمرة، فلا فرقَ إلا في التخريج.
فنقول في الجواب: إن الطواف بهذه الصفة بأن يقعَ الواحدُ عن الحج والعمرة معًا ليس إلا واحدًا، لا أريد به النيابة، أو البدلية، بل المرادُ أنَّ المحلَّ كانَ محل طوافين، ثم طاف فيه طوافًا واحدًا، على حد قوله:
*وخيل قد دلفت لهم بخيل
…
تحية بينهم ضرب وجيع
(1)
قلت: ومن ههنا تبيَّنَ لك السرَ في أفضلية القِرَان عندنا، وأفضلية الإِفراد عنده، فإنَّ القِرَان عندنا تَرَفُّقٌ بالنُّسُكين، وإتيانٌ بالعبادتين. أما الإفرادُ، فهو عبادة واحدةٌ، فكيف تفضُلُ على عبادة تضمَّنَت عبادتين؟ فإنَّ العَطَايا على متن البلايا. وأما الشافعي، فلما لم يكن عنده بينهما فرقٌ إلا في الإِحرام، لم تبق مزيةٌ للقِرَان على الإِفراد عنده.
فساغ له أن يذهب إلى أفضلية الإِفراد، فاعلمه.
لا يريد به بدليةَ الضربِ الوجيع، ولا نيابته مكانَ التحية، بل كونه حلَّ محل التحية. وهكذا أقولُ في عدد الأطوفة: إنه كان محل طوافين للحج والعمرة، ولكنه طاف في المحل الذي اقتضى طوافين، طوافًا واحدًا فقط، دون التعرض إلى البدلية والنيابة. وههنا لفظ آخر لابن عمر، وهو قوله:«طاف لهما طوافًا واحدًا» ، وهو أصرحُ لهم، وأدلُّ على مرادهم، بخلاف حديث عائشة، فإنَّه لم يكن في حديثهما لفظ:«لهما» ، وهو يُشير إلى تخريجهم أنَّ الطوافَ الواحد كان للحج والعمرة، وإن كان لغيرهما طواف آخر أيضًا.
وجوابه أنه لم لا يجوز أن يكون المرادُ من طواف الحج طوافُه للقدوم، دون الزيارة، كما فهمه الشافعية، وحينئذٍ معناه أنه طاف للقدوم والعمرة طوافًا واحدًا، وذلك صحيحٌ عندنا أيضًا. وفي بعض الروايات عن ابن عمر ما يدل على ذلك، أن التداخل إنما كان بين طوافه للعمرة والقدوم، دون الزيارة، كما في قوله في الحديث الآخر من ذلك الباب، ورأى أنْ قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، فإنه صريحٌ في أنه جعل طواف القدوم طوافه للحج والعمرة، ونحن نلتزم التداخل بينهما أيضًا.
ولنا أن نقول: إن هذا التخريج اجتهادٌ منه فقط، ولا نص عنده، وإنما يقومُ ذلك حجة علينا، إذا ثبت بيانًا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فكله من مقاييس الرواة. ولا يمكن الاطلاع على نية أحد إلا من جهته، فمن أخبرك أن طوافَه يوم النحر كان لحجته وعمرته، ولم يكن لحجته فقط، فهذا تخريج منه لا غير. نعم، لو أتيت بنص من صاحب الحج أنه كان كذلك لكان لك حجة، ثم إنك إنْ تمسكت من اجتهاد هؤلاء الرواة، فلنا أيضًا أن نحتجَّ باجتهادِ عليَ، أعلم الناس بمناسِك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفانا سلفًا وقدوة.
ثم إن قوله: ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، لا يستقيم على مذهب الشافعية، فإنَّ الطوافَ الأول عندهم للقدوم، ولا دخل للعمرة عندهم فيه، فما هذا التعرُّض إليه، إلا أن يقال: إن طوافَ العمرة يصح أن يدخل عندهم في القدوم أيضًا، كما يصح أنْ يدخل في الزيارة، كما في «مختصر المُزَني» ، وهو - خال الطحاوي - وإن كان في عامة كتبهم أنه لا يدخل إلا في الزيارة.
وجملة الكلام: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أول ما دخلَ مكة بدأ بالطواف، وهذا القدر متفقٌ عليه، ثم هو طوافٌ للقدوم عند الشافعية، وطواف للعمرة عندنا سَوَاء. قلتُ: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ترك طواف القدوم ليكون شأنُه وشأن الناس في المناسك سَوَاء، أو التزمت تداخله في العمرة، أو قلت: إن الطوافَ الواحدَ حلَّ محل الطوافين، فذلك كله إليك، فإنَّ المعنى واحدٌ، والاختلافُ في الأنظار لا غير.
وأحسن الأجوبة ما أجاب به شيخنا ومولانا محمود الحسن: أن عائشة إنما أرادت من قولها: «الطواف الواحد» ، طافوا طوافًا واحدًا الطواف للحل منهما، ولا ريبَ أنه واحدٌ عندنا أيضًا، لأنَّ إحرامَهُما لمّا كان واحدًا، وجب أن يكون الإِحلال عنهما أيضًا واحدًا، وهو بطواف الزيارة. فالقارن إذا طاف طواف الزيارة، حل من إحراميه، والذي يدلك على هذا المعنى ما
روته عائشة في البخاري ومسلم: «فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبالصفا، والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافُوا، طوافًا آخر، بعد أن رَجَعُوا من مِنىً لحجهم، وأما الذين كانوا جَمَعوا الحجَّ والعمرةَ، فإنما طافوا طوافًا واحدًا» . انتهى.
وهذا صريح في أنَّ محطَّ كلامها الفرقُ بين القَارِنين، وغيرهم في حق الحِل. تعني به أنَّ المتمتعين حلوا من عمرتهم بطوافِها، ثم حلُّوا من إحرام الحج بطوافه، واحتاجوا إلى طوافين: طواف للحِلِّ عن عمرتهم، وطواف آخر للحل عن حجهم. وأما الذين كانوا جَمَعُوا الحج والعمرة، فلم يحلوا منهما إلا بطواف واحدًا، ولم يطوفوا للحل طوافين، كالمتمتعين.
وأصرح منه ما عند مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان معه هَدْيٌ، فليهل بالحج مع عمرتِهِ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا» . وكذا ما عند البخاري في باب ركوب البدن، «ثم لم يَحْلِل من شيءٍ حَرُم منه حتى قضى حجه» ، وفيه:«فطاف لهما طوافًا واحدًا، فلم يحلّ حتى حلَّ منهما جميعًا» ، كل ذلك دليلٌ على أنَّ المقصودَ الأصلي بيان الحِلِّ دونَ وحدة الطواف أو تعدده، كما فهمه الشافعية.
ثم العجب أنهم شرحوا قول ابن عمر: «ما شأنُ الحجِّ والعمرة إلا واحدًا» أيضًا بمثله، فقالوا: معناه إذا كان التحلل للحصر جائزًا في العمرة - مع أنها غير محدودةٍ بوقتٍ - فهو في الحج أولى بالجواز، - كذا قاله القَسْطلاني - فإذا كان عندهم شأن الحج والعمرة واحدًا - يعني في الحِلِ - فكذلك عندنا معنى طوافهما، فإنَّه أيضًا واحدًا - يعني لأجل الحِل منهما - لكنهم نسوه ههنا، أو تناسوه:
*أصمٌ عن الشيء الذي لا أريدهُ
…
وأسمعُ خلقِ الله حينَ أُريدُ
وعندنا قول ابن عمر في حق المانع، أي ما يمنعُ عن العمرة، فهو يمنعُ عن الحج أيضًا، كما يؤيده السياق.
ولنا أنّه ثبت عن علي، وابن مسعود، ومجاهد بأسانيد قوية عند الطحاوي
(1)
: أن القَارِن
(1)
قال الدارقطني في "سننه" حدثنا أبو محمد بن صاعد: حدثنا محمد بن يحيى الأزدي: حدثنا عبد الله بن داود عن شُعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف عن عِمران بن حصين أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين، ثم قال الدارقطني: يقال: إن محمد بن يحيى حدث بهذا الحديث من حفظِهِ، فَوهِمَ في متنه. والصواب بهذا الإِسناد أنه عليه الصلاة والسلام قَرَنَ الحج والعمرة، وليس فيه ذكر للطواف، ولا للسعي. وقد حدث به محمد بن يحيى على الصواب مرارًا، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي. قلت: قوله: حدث به من حفظه، فوهم لم يَنْسِبْه إلى أحد ممن يُعتمد عليه، وكذا قوله: إنه رجع عنه؛ والظاهر أنَّ المرادَ أنه سكت عنه، وإذا ذكر هذه الزيادةَ مرةً وسكت عنها مرة لعذر لا تُترك الزيادة، ولو كان في الحديثِ علةٌ أُخرى غير هذا لذكره الدارقطني ظاهرًا. وفي "المحلى" لابن حزم: روينا من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النَّخَعي أن الصبي بن معبد قَرَنَ بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى سعيين، ولم يحل بينهما، وأهدَى، وأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فقال:"هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم". انتهى كلامه. والنَّخَعي وإن لم يُدرك عمر، ولا الصبي، فقد قال أبو عمر في أوائل "التمهيد": وكل من عُرِفَ، فإنَّه لا يأخذُ إلا عن ثقةٍ، فتدليسُه وترسيلُه مقبولٌ، فمراسيل سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النَخَعي عندهم صحاح
…
إلخ "الجوهر النقي". =
يطوفُ طوافين، ويسعى سعيين، وهل تعرف عليًا من هو؟!:
= قلت: فثبت من كلام العلامة تعدد الطواف والسعي للقارن كلاهما، ولله الحمد، وإنما اكتفينا بهذا القدر لأن لنا في اقتداء علي، وابن مسعود، كفاية، وأثرهما قد رُوي من غير وجه، بعضه ضعيف، وبعضه قوي، وقد أتى العلامة بأسانيدهما ما لا شك في ثبوتها، فليراجع "الجوهر النقي".
وعندي مذكرة للشيخ رحمه الله في طواف القارن، وكنت قد نقلتُها من قبل، ووقع في النقل سقط أيضًا، ومع هذا اغتنمت ذكرها هنا بلفظه فليُغتنم، وليستدرك السقط من أمكن له ذلك (*).
قال: حديث ابن عمر، "ثم قدم، فطاف لهما طوافًا واحدًا"، أكثر ألفاظِهِ وطرقِهِ تدل على أنه الطواف عند القدوم، وكان واحدًا لهما، وهو من باب قوله:"ما شأن الحج والعمرة إلا واحدًا، فكذا إحرامهما، وإحلالهما لا غيرهما، سواء كان للعمرة، واندَرَج فيه القدوم، كما عند الحنفية، أو عكسه كما هو مذهب الشافعية، على ما حُكي عن "مختصر المُزَني"، وكذلك هو في "الأم"، وإنما تركه ليكونَ أمرُ الناس واحدًا في ثلاثة أطواقه.
ونظرنا نظير ترجمة البخاري: باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة، ثم خرج، هل يجزئه من طواف الوداع، وما عند البخاري: عن ابن عمر أنه طاف طوافًا واحدًا، ثم يقبل، ثم يأتي مِنىً -يعني يوم النحر- ودفعه عبد الرزاق، قال: حدثنا عبيد الله (**)، وما عنده: 243، وكان يقول: لا يحل حتى يطوف طوافًا واحدًا يوم يدخل مكة، ظاهر في أنَّه طواف يوم النحر، وعليه مشى في "الفتح""والإِرشاد"، فعندهم هذا الطواف لهما، وعندنا للحِل منهما، وراجع ما نقله في "الفتح" من طواف القارن عن مالك، وفي "الأم" من باب الاضطباع أنه للحل فتوى ابن عباس في خلاف الترتيب من "الفتح" تكلم في إسناده هناك، وسكت. وأرجعه محمد في "الموطأ" على قول أبي حنيفة، إلى خَصلة، وهي سُوءُ الترتيب في الحلق، وراجع "الجوهر النقي"(وفي كلام الطحاوي أن طواف الزيارة إنما هو في حال الإِحرام)، وعند مسلم في رواية القطان، "ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل منهما حتى أحل منهما بحجة يوم النحر"، وفي رواية: وكان يقول: "من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد، ولم يحل حتى يحل منهما جميعًا"، فهذه على المحمل الأول.
والحاصل: أن أكثرَ الروايات على هذا المحمل، ولذا استشكله في "الفتح"، وما عند البخاري، فلعله على المحمل الثاني. فقد جاءت الروايات على كلا المحملين، ولا يضر الحنفية. ورواية الدَّرَاوَرْدِي عند الترمذي إن كانت كلمة "حتى" فيها للغاية، فعلى المحمل الأول، وإن كانت بمعنى "كي" فعلى المعنى الثاني، ولا يلومُ أنْ تحمل الروايات كلها على معنى. وهذا إنما كان ابن عمر يفعله إذا كان قادمًا، وإذا كان مقيمًا بمكة، فكان يفعل ما في "الموطأ" من باب إهلال أهل مكة، ومن بها من غيرهم، وفعل ذلك عبد الله بن عمر، فكان يُهل لهلال ذي الحَجة من مكة، ويؤخر الطوافَ بالبيت، والسعيَ بين الصفا والمروة، حتى يرجع من مِنىً. اهـ.
فإن قلت: إذا كان الإجزاء بالطواف الواحد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما اعتناءُ الرواة بفعل ابن عمر؟ قلت شاهدوا فعلَه، ومنه أخذوا أنَه قال:"هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله". اهـ. وقال مالك قبله: وقد فعل ذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أهلوا بالحج، فأخَّرُوا الطواف بالبيت، والسعيَ بين الصفا والمروة، حتى رجعوا من مِنىً. اهـ.
وهذا ردٌّ على صاحب "الهدي" في زعمه أن المتمتعين في ذلك العام لم يسعَوا ثانيًا، وذلك يجوز في رواية عن أحمد. ويرد عليه أيضًا ما عند البخاري عن ابن عباس، وما عند أبي داود، وكذا ما عند الطَّيَالسي من حديث جابر في الطواف الواحد، والسعي الواحد، ولو متمتعًا على رواية أبي داود، فمحمولٌ على معنىً أنه لم يسع كلهم على طريق سلب العموم لا عمومه، أي مع الأمير جماعة، بل كل على حِيَاله ارسالًا بعد قطع التلبية، فإنها لا تليقُ عند الجمرة. وكأن القطع عندهما للإِشارة إلى الإِرسال. =
*هذا الذي تعرِفُ البطحاءُ وطأَتَه،
…
والبيتُ يعرِفِهُ والحِلُّ والحَرَمُ!
= ثم إن كل من حَمَلَ حديث جابر عند مسلم: "لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة، إلا طوافًا واحدًا"، طوافَه الأول على السعي، ولم يفرق بين مَنْ كان قارنًا، أو مفردًا، وبين من كان متمتعًا، فكأنه أراد كون السعي لنُسُك واحد واحدًا، أي لا يتكرر السعي لنسك واحد. (وراجع حديث:"الاستجمارتو، والسعي من النهاية، وتكراره لنسك واحد، غير مشروع عند الحنفية أيضًا، كما في "الدر المختار"، وكذا تكرار الرَّمَل. وراجع "فتاوى ابن تيمية"، أو يريدُ أنَّ السعيَ كان للحج، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم للعمرةِ بعد ختم الأشوَاط على المروة، إذ ذاك سعيًا.
وكان القياس أن يستأنِفَ، ولم يرو نفيُ السعي الثاني في يوم النحر، فما فُعِلَ للحج احتُسِبَ للعمرة، وهو نادر فحكوه، وأرادُوا هذا)، فإذا كان هناك نُسُكان لزم سعيان، كالمتمتع، وبهذه الإِرادة يَصدُقُ حديث جابر على كل محرمٍ، ويتعينُ أن يكونَ مرادُهم ذلك، فإنَّ بعضهم، كالبيهقي، على ما في "الجوهر النقي" يَحمِلُ الطواف في بعض الروايات على السعي، ويزعم أن هذا كاف في رفع الإِشكال، مع إنَّ عندهم يلزمُ السعي الثاني للمتمتع.
وهذا قد قاله البيهقي، كابن القيم. في حديث عائشة، "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا". اهـ. وراجع ما في "الفتح" وما عند مالك في دخول الحائض مكة، وإفراد الحج أيضًا، من البخاري و"المسند"، وما عند الطحاوي في طواف القارن عن ابن عمر، وإذا لبى من مكة بها، لم يرمل بالبيت، وأخَّرَ الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر، وكان لا يرمل يوم النحر. اهـ. وكأنه أخذه من تركه صلى الله عليه وسلم الرَّمَل إذ ذاك، وإنما كان تركه لكونه طاف راكبًا.
وفي "رد المختار" عن "غاية السروجي" أن القارن لا يَرمُل ثانيًا، وهو خلاف ما عليه الأكثر أنه في كل طوافٍ بعده سعيٌ، وطوافه راكبًا للاشتكاء، كما في "التخريج"، وخلافه ص 749 ج 2 على خلاف ظاهر هشيم عن يزيد بن أبي زياد في "المسند" ص 214 - ج 1، وحجامته محرمًا بلحى الجمل، إنما كان في إحدى عمره، كما في "الهدي" لا في حجة الوداع، كما في "الفتح"، وراجعه ص 155 - ج 4، [كما في "الأم - والهدي"، وعبد الرحمن بن أذينة عند الطحاوي، ذكره البخاري، وزياد بن مالك في "الكسائي"، وأبا الفراء السلمي في "الطبقات" والمنفعة، ومالك بن الحارث بها، وفي "التهذيب" وفي "اللسان" من عبد الرحمن، وأبيه أبي نصر بن عمرو)، وما في "الفتح" حَلَفَ طاوسٌ ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته، إلا طوافًا واحدًا. اهـ. فطاوس ممن يروي أن طوافه صلى الله عليه وسلم للزيارة إنما كان بالليل، ومع هذا يوجه بما مر. وفي "الجوهر النقي" عن "مسند الشافعي" عن عطاء أنه عليه الصلاة والسلام سعى في عُمَرِه كلهن الأربع بالبيت والصفا والمروة. اهـ. ومثله في "الفتح" من حديث أبي سعيد عند الحاكم، بإسقاط عمرة الحُدَيبِية، ولعل عطاء أرادَ بالعمرة الرابعة حجَته تغليبًا. ورأيته في "الأم" ونسخة -الهند، ومصر- من "المسند" بزيادة: إلا أنهم رووه في الأولى والرابعة من الحديبية، ولعله أراد بالأولى والرابعة عُمرة الحديبية، صعودًا وهبوطًا في التعداد. وراجع الروايات، طواف الراكب في "الأم"، فهي شافية في تعدد سعيه صلى الله عليه وسلم، وص 214 من "التلخيص"، وأبو الطفيل وُلد عام أُحد، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على راحلته، وهو غلامٌ شابٌ، كما في "المسند" وأبي داود.
واعلم أنَّه كان القياس أن يطوفَ القارِنُ طوافين عند القدوم للعمرة والحج، ولم يقع هناك إلا واحد فحكوه، لا يحتاج إلى اعتبار التداخل أيضًا، بل حَكوا ما وقع. وأما المتمتع فانفَصَل فيه أحدهما عن الآخر، وتميَّز، فقوله:"كفاه طواف واحد"، أي لم يقع إلا واحدٌ، سواء اعتُبر عنهما، أو عن العمرة فقط. وقولها:"وأما الذين جمعوا بين الحج، فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا"، أي عنهما وعنهما، لا بالإِفراد على حدة، كما يقال: لا بد من اثنين واثنين.
فقيل: كفى واحد، أي في الموضعين، لا أريد التكرارَ في واحد، إنما أريد تَنَاولَه للاثنين من الطواف ضربة، فالواحدُ مرتين، وفي كل مرة عنهما، ولا تريد الوحدة عددًا. وراجع في عدم الفسخ خلافَه، و"الفتح" نظيرًا، وراجع "الفتح"، وفي أطوفته ماشيًا: من "الصحيح". =