الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسعي. أما الطوافُ، فلكونه في المسجد
(1)
؛ وأما السعيُ فلكونه مترتبًا عليه، فعليهن أن يغتسلنَ لدفعِ الأذى، وتحصيلِ النظافة، وتخفيف النجاسة، ثم يفعلن كما يفعل الحاج، غير أنهنَّ لا يَطُفنَ بالبيت. ومن ههنا تبين نوع آخر من الغُسل، وهو ما لا يفيدُ الطهارةَ غير النظافة، فلا يُباح لهنَّ بهذا الغُسل مسُّ المصحف وغيره.
قوله: (وما أهل لغير الله به)، وراجع الفرق بينه وبين قوله: وأهلّ به لغير الله من «تفسير ابن كثير» .
1556 -
قوله: (فأهللنا بعمرة)، هذا حال المتمتعين فقط، لا حالُ الجميع.
قوله: (انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة)، قال الشافعية: إن أم المؤمنين عائشة كانت قارنةً، فَوَرَدَ عليهم الامتشاط. فقالوا: إنه محمولٌ على الامتشاط بالتخفيف، بحيث لا يؤدي إلى نقض الأشعار، وكذا أوّلوا قوله:«ودعي العمرة» ، وقالوا: معناه: اتركي أفعال العمرة لا إحرامها. وقال الحنفية: إنها كانت معتمرة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم حين حاضت أن تخرجَ من عمرتها، وتفعل ما يفعلُه الحلال، فأمرها بالامتشاط، فهو صريح في نقض الإِحرام. ومما يدلُّك على أن الامتشاطَ عندهم كان معهودًا للإِحلال، ما أخرجه البخاري عن أبي موسى في الباب التالي، قال:«فأحللتُ، فأتيت امرأةً من قومي فَمَشَطَتْني»
…
إلخ، فإن كان امتشاطُه للإِحلال، فكذلك امتشاطُ عائشة، وحملُه على غير ذلك تكلُّفٌ بارد. ومما يدل على رفضِ عمرتِها، أمرُ النبي صلى الله عليه وسلم إياها بعد الفراغ عن الحج، أن تعتمرَ عمرةً أخرى مكان المفروضة. وحملَه الشافعية على أن أمره كان لتطييب خاطرها، وسيجىء الكلام.
قوله: (وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة)، وسيجىء ما لَه وما عليه عن قريب.
32 - باب مَنْ أَهَلَّ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم كَإِهْلَالِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم
-
قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم.
1557 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّىُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ - رضى الله عنه - أَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا - رضى الله عنه - أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ. أطرافه 1568، 1570، 1651، 1785، 2506، 4352، 7230، 7367 تحفة 2457، 2462
قيدُ
(2)
«في زمن النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقيٌّ وليس مَحَطًا للحكم. ومُحصَّلُ كلامه تحقيقُ التعليق في
(1)
قلت: وهذا على المشهور، وإلا فالمختار عند الشيخ أنَّ المنعَ لفُقدان الطهارة، وهي من واجبات الطواف عندنا. فلو فرضنا جوازَ الطوافِ من خارج المسجد، فالمنعُ لهؤلاء بحالِهِ، فانكشف أن المَنَاطَ هذا لا ذاك.
(2)
قال الحافظ: فجاز الإِحرامُ على الإِبهام، لكن لا يلزمُ منه جوازُ تعليقه، إلا على فعلِ مَنْ يتحقق أن يعرفَه، كما وَقَعَ في حديثي الباب. وأما مطلقُ الإِحرام على الإِبهام فهو جائزٌ، ثم يصرِفُه المحرم كما شاء، لكونه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك، وهذا قول الجمهور. وعن المالكية: لا يصح الإِحرام على الإِبهام، وهو قول الكوفيين. قال ابن المُنَيِّر: وكأنه مذهب البخاري، لأنه أشار بالترجمة إلى أن ذلك خاصٌّ بذلك الزمن، لأن عليًا، وأبا موسى لم =
الإِحرام، أي إذا أهلَّ كإِهلال فلان هل يصيرُ بذلك مُحرمًا أو لا؟ فنسب النووي إلينا: أنه لا يكون محرمًا عندنا، وهو سهوٌ، فإنَّه يصح عندنا
(1)
، غيرَ أنه يجبُ عليه أن يعين إحدى العبادتين: الحج، أو العمرة، قبل الدخول في الأفعال. والنووي لم يحقق مذهبَ الحنفية، حتى أظن أنه غَلِطَ في نقل مذهبنا في نحو مئة مسألة. بخلاف الحافظ ابن حجر، فإِني لا أذكر خطأه في ذلك إلا في مسألة - من باب الزكاة - وعند الشافعية يصيرُ محرمًا بعين ذلك الإِحرام. فالفرق بيننا وبينهم أنه يصيرُ بالتعليق محرِمًا بأصل الإِحرام عندنا، فله أنْ يُعيِّن قبل الدخول ما شاء، وعندهم يصيرُ محرمًا بعين ذلك الإِحرام. وتمسكوا بإِحرام علي، قلنا: فماذا تقولون في إحرام أبي موسى، فإِنه كان أهلَّ كما أهلَّ به علي، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحل؟ وأما عليٌّ فإنَّما لم يأمُرْه النبي صلى الله عليه وسلم به لمكان الهَدْي عنده.
1558 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ الْخَلَاّلُ الْهُذَلِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ سَمِعْتُ مَرْوَانَ الأَصْفَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَدِمَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ «بِمَا أَهْلَلْتَ» . قَالَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ «لَوْلَا أَنَّ مَعِى الْهَدْىَ لأَحْلَلْتُ» . وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِىُّ» . قَالَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ» . تحفة 1585، 2457 - 173/ 2
1559 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَنِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ وَهْوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ «بِمَا أَهْلَلْتَ» . قُلْتُ أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْىٍ» . قُلْتُ لَا. فَأَمَرَنِى فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَمَرَنِى فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِى فَمَشَطَتْنِى، أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِى، فَقَدِمَ عُمَرُ - رضى الله عنه - فَقَالَ إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ قَالَ اللَّهُ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْىَ. أطرافه 1565، 1724، 1795، 4346، 4397 - تحفة 9008، 10469، 10583
= يكن عندهما أصلٌ يرجعان إليه في كيفية الإِحرام، فأحالاه على النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الآن فقد استقرت الأحكام، وعُرِفت مراتبُ الإِحرام، فلا يصح ذلك. والله أعلم.
وكأنه أخذ الإِشارة عن تقييده بزمن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. قلت: ففي عبارة الحافظ تصريح بأن مذهبَ الكوفيين عدمُ صحة الإِحرام على الإِبهام، فإن كان المراد منهم أبو حنيفة، ومن تبعه، فهو خلاف الواقع، وإن كان غير هؤلاء، فهو أعلم به.
(1)
قال الخَطَّابي: وفيه -أي إحرام علي- دليلٌ على أنَّ الإِحرامَ مُبهمًا من غير تعيين، جائزٌ، وأن صاحِبَهُ بالخيار، إن شاء صَرَفه إلى الحج والعمرة معًا، وإن شاء صَرَفه إلى أحدهما دون الآخر. وأنه ليس كالصلاة التي لا تُجزىء إلا بأن يُعيِّن مع العقد والإِحرام. اهـ.
1558 -
قوله: (لولا أن معي الهدي لأحللت) فيه دَلالة على أن المانعَ من إحلاله صلى الله عليه وسلم لم يكن إحرامه للقِرَان، كما قلنا، بل كان وجودَ الهَدْي، وهو المنقولُ في عذرِ عدم إحلاله صلى الله عليه وسلم عامة. والمناسبُ على نظر الحنفية أن يقول: لولا أني جمعت بين الحج والعمرة لأحللت، فإنَّ المؤثّرَ حقيقةً عندنا هو إحرامُه للقِرَان، فإنَّه لو لم يكن ساق الهَدْي لما أحلَّ أيضًا.
والجواب: أنه اعتذرَ بالسَوْق، ليتَّضحَ عذرُه لمن لم يكن أهدَى، ليعلموا أنه منَعَه عن الإِحلال الهَدْي، ولا شك أنَّ له مدخلا أيضًا، وأنه لولاه لوافَقَهم في الحِلِّ
(1)
. ومن ههنا ظهر الجواب عما تمسك به الحنابلة، حيث قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قَارِنًا، لكنه تمنى أنْ لو كان متمتعًا، ولا ريبَ أنَّ الفضلَ يكونُ فيما تمناه، وذلك أنه تمنى التمتعَ ليكون موافِقًا لهم في الإِحرام، فلا يَعسُرُ عليهم الحِلُّ في البيْنِ، لا لكونه أفضلَ عنده، فقم بالفرقِ بين المقامين، ولا تعجل
(2)
.
قوله: (قال عمر: أن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمرنا بالتمام، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}) تفرَّق الناسُ في بيان مرادِ عمر. وتقرير كلامِهِ على آراء. فقال قائل: إنه كان ينهى عن فسخ الحج إلى العمرة، كما هو مذهب الجمهور، فإنَّه كان مخصوصًا بتلك السنة، كما يدل عليه ما رُوي عن أبي ذر، عند مسلم:«أنه كان خاصًا بذلك العام، ولم يكن للأبد» . وأجاز أحمد لمن بعدَه أيضًا. وشدد فيه الحافظ ابن تيمية وتلميذه، فاختارا الوجوب، حتى ذَكَر أن الحجَّ ينفسخُ إلى العمرة بمجرد رؤية البيت، أراد أو لم يرد.
وهذا كما قال ابن تيمية في شرح قوله صلى الله عليه وسلم «إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، فقد أفطر الصائم» ، أي حُكمًا من جهة الشرع، سواء أفطرَ أو لم يُفطر، فكذلك الحاجُّ إذا دخل مكة شرَّفَها الله تعالى، ووقع بصرُه على البيت، فقد انفسخَ حجُّه وصار عمرةً. وحينئذٍ فتقريرُ كلامه أن الله تعالى يأمرنا بالتمام، أي بعدم فسخ الحج، على خلاف مذهب أحمد. وهذا هو الذي فهمه أكثر الشارحين وذهب جماعةٌ: منهم النووي، أنه كان يَنهى عن القِرَان والتمتع،
(1)
قلت: أي مَنَعَه عن الحِلِّ أمران: وأظهرهما السَّوْق، فإنَّه محسوسٌ مُبْصَرٌ. والثاني: إحرامُه للقِرَان، وهو أمر باطني، يعلُمه المُحرم نفسُه لا غيره، فكَرِه أن يحل، وهو يسوق الهَدْي أيضًا، فإنَّه هيئةُ المناقِض فعلَه، فلم يكن يليقُ بشأنه العظيم.
(2)
قلت: قال الخَطَّابي: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "لأهللت بعمرة"، أي لتفردت بعمرة، أكون بها متمتعًا، يُطيِّبُ بذلك نفوسَ أصحابه الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج، فتكون دَلالته على معنى الجواز، لا على معنى الاختيار:"معالم السنن"، وقال في شرح قوله صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت"
…
إلخ: إنما أراد بهذا القول -والله أعلم- استطابَة نفوسهم، وذلك أنه كان يشقُّ عليهم أن يُحِلُّوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرمٌ، ولم يعجبهم أنْ يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ويتركوا الائتساءَ به، والكونَ معه، على كل حال من أحواله، فقال عند ذلك هذا القول، لئلا يجدوا في أنفسهم من ذلك، وليعلموا أن الأفضلَ لهم ما دَعاهم إليه، وأمرَهم به، وأنه لولا أن السنةَ مَنْ ساقَ الهَدْي أن لا يَحلّ حتى يبلغَ الهَدْي مَحِلَّه، لكان أسوتهم في الإِحلال يُطيِّبُ بذلك نفوسهم، ويحمدُ به صنيعُهم وفعلُهم. اهـ.
وكان يأمرُهم بالإِفراد، وحينئذٍ فمحطُّ الإِتمام النهيُ عن هذين، كأنه رآهما خلافَ الإِتمام.
قلتُ: والذي ظَهَر لي أن الأمر ليس كما فهمه الشارحون، ولا كما زعمه النووي، بل أراد عمرُ أنْ لا يصيرَ البيتُ مهجورًا، فإِن في القِرَان والتمتُّع أداءً للنُّسُكين في سفرٍ، سواء تحلل في البين أو لا. وذلك يوجبُ أن لا يتردد الناسُ إليه بخلافهم في الإِفراد، فإنَّه يجبُ عليهم العوْدُ إليه ثانيًا للعمرة، فأحبَّ أن يزارَ البيتُ مرةً بعد أخرى. وحينئذ فتقرير كلامه، حسَبَ مُرَامه، ما ذكره عبد الله ابن عمر، عند الطحاوي، قال:«إتمام العمرة أن تُفْرِدُوها من أشهر الحج، والحج أشهرٌ معلومات، فأخلِصُوا فيهنَّ الحجَّ، واعتمروا فيما سواهُنَّ من الشهور» ، فأراد عمر بذلك تمامَ العمرة، لقول الله عز وجل:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} اهـ. وعلى هذا، معنى الإِتمامُ أنْ لا يعتمرَ في أشهر الحج، وأن يفصِل بينهما، كما عند الطحاوي عن عمر:«أُفْصلُوا بين حجكم وعمرتكم. فإنَّه أتمُّ لحجكم، وأتمُّ لعمرته أن يعتمرَ في غير أشهر الحج» . اهـ.
ثم اعلم أن الإِفراد على نوعين: الأول ما هو المشهور. والثاني: ما ذكره محمد في «موطئه» : وهو الإِفراد في السفرين. ولا ريب أنَّ الثاني أفضلُ من القِرَان، صرح به محمد، ولم يَنْقل فيه خلافًا عن الشيخين، فهو المذهب عندي. أما الخلاف في المفاضلة بين الإِفراد والقِرَان والتمتع، فهو بمعناه المشهور، أما في المعنى الذي ذكرناه، فلا خلاف فيه، وهذا الذي أحبَّهُ عمر، وأراده من إفراد الحج، ولا خلافَ فيه لأحدٍ، كما علمت هذا في نهيه عن القران.
بقي نهيُه عن التمتع، فلعله كان مفضولا عنده، لأنه يوجبُ التحلُّل في البين، مع أن المطلوبَ تمادي الإِحرام. وهذا هو الذي كرهه الصحابة حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحلَّلوا ويفسخوا حجَّهم إلى العمرة، كما يدل عليه قولهم عند مسلم:«ومَذَاكِيرُنا تقطر المنيَّ» أي كيف نتحللُ، ونجامعُ نساءَنا، ونحن على شرف الحج، فأيُّ حلَ هذا؟ فالكراهة لهذا، لا كما ذكره الشارحون، كما يدل عليه ما عند مسلم، والنسائي فقال عمر: قد علمت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد فعله، ولكن كرهتُ أن يظلوا معرِّسين بهنَّ في الأرَاك، ثم يَرُوحوا بالحج تقطُرُ رؤوسهم.
وبالجملة: نهيُه عن التمتع كان لكراهةِ الحِلِّ، وانقطاع الإِحرام، وحينئذٍ فتقريرُ كلامه {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ}
…
إلخ، أي لا تُحِلوا في البين، فعبَّر عن الحل في التمتع بعدم الإِتمام.
وصار الحاصل: أن لا تمتعوا، لأنه يوجبُ انقطاعَ الإِحرام المستلزِمِ لعدم الإِتمام. وتحصل من مجموع الكلام: أن القِرَان والتمتعَ يوجبان تركَ الإِتمام. أما القِرَانُ فلأن الإِتمامَ عبارةٌ عن إفراد الحج في أشهر الحج، والقرانُ يخالفه. وأما التمتعُ، فلكونه موجِبًا للحل في البين. فإن قلتَ: فلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم آلافًا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالتحلل مع كونه مكروهًا؟ قلتُ: ردًا لأمر الجاهلية، وتشريعُه عَمَلا، وتوكيدُه فعلا وقولا، فإنَّه كان أواخِرَ أوانِهِ في الدنيا، فأراد أنْ يجعلَ شعائرَ الجاهليةِ كلَّها تحت قدميه، ويَرى الناسُ عِيَانًا أنَّ التمتعَ جائزٌ
في أشهر الحج، وليس كما تزعُم العرب: أن العمرةَ فيها من أفجرِ الفجور. ثم استقر اجتهاد عمر رَضي الله تعالى عنه على فضل الإِفراد، كما مر تقريره
(1)
.
والذي يفيدُ ثلجَ الصدر في هذا المقام، أن عمر لم يكن ينهى عن القِرَان. وما رواه الطحاوي عن ابن عباس، قال: يقولون: إن عمر رضي الله تعالى عنه نَهى عن المُتعة، قال عمر: لو اعتمرتُ في عام مرتين، ثم حججتُ لجعلتها مع حجَّتي. اهـ. أي لو وقع في نفسي أنْ أعتمرَ عُمرتين، لجعلت إحدَاها مع حجتي، فأحرمت بالقِرَان، وهذا صريح في كون القِرَان أحبُّ عنده من الإِفراد في سفر.
ثم الظاهرُ أن نهي عثمان أيضًا كان من هذا القبيل. ولا نرى به أن يكونَ نهيٌ عن أمرٍ قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم كيف وأن عليًا لم يتَّبِعْه في ذلك، وأبى إلا أنْ يفعلَ ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يفعله
(2)
.
(1)
قلت: هذا غايةُ ما فهمتُ بعد تفكيرٍ بالغٍ، ثم لا أثقُ بنفسي، على أني أدركتُ حقيقةَ المراد، فإنِّي أخذتُ ما أخذت من مضبطي، وكان فيها سقطات، ومحوٌ وإثبات، فعليك أنْ تحررَ الكلام. والله أعلم.
(2)
قلت: وملخص ما دار بينهما من الكلام: أن عثمانَ كان يراهما جائزين، وإنما نَهى عنهما ليُعمل بالأفضل، لكن خشي على أن يَحمِلَ غيره النهيَ على التحريم، فأشاع جوازَ ذلك، وكل منهما مجتهدٌ، مأجورٌ. انتهى ما قاله الحافظ ملخصًا.
قلتُ: نعم، ذلك هو الظن بعثمان، غير أني لم أر أحدًا منهم أتى عليه برواية، كما أتوا به في قصة عمر، فجلَّ الخطْبُ لذلك. وجزى الله تعالى عنا علامة العصر الشيخ شَبيِّر أحمد دام ظله، وقد جزى، حيث أبرزَ لنا روايةً واضحةً في ذلك، فلم يترك موضعَ رَيبٍ لمرتابٍ، ووضح الأمرَ بعدها على جليته.
قال الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين": والصواب -إعلام الموفقين- المطبوع مع كتاب "حادي الأرواح": قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عبَّاد عن عبيد الله بن الزبير، قال: إنا والله مع عثمان بن عفان بالجُحْفة إذ قال عثمان -وذُكِرَ له التمتع بالعمرةِ إلى الحج-: "أتموا الحج، وأخلصوه في أشهر الحج، فلو أخرتُم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين، كان أفضل، فإنَّ الله قد أوسع في الخير"، فقال له علي:"عمدتَ إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورخصةٍ رخّص اللهُ بها في كتابه تضيِّقُ عليهم فيها، وتنهى عنها"، وكانت لذي الحاجة، والنائي الدار، ثم أهل عليٌّ بعمرة وحج معًا، فأقبل عثمان بن عفان على الناس، فقال: أَنهيتَ عنها؟ إني لم أنه عنها، إنما كان رأيًا أشرتُ به، فمن شاء أخذه، ومن شاء تركه.
قلت: الآن انبلج الفجرُ لكلِ ذي عينين، وتحقق أنه لم يُرد في ذلك غير ما أراده عمر، بل تبعه فيه. وقد ذكر الحافظ في باب من لبى بالحج وسماه: أن عمرَ هو أول من نَهَى عنه، وكان مَنْ بعدَه كان تابعًا له في ذلك. ففي مسلم أيضًا أنَّ ابن الزبير كان ينهى عنها، وابن عباس يأمر بها، فسألوا جابرًا، فأشار إلى أنَّ أولَ من نهى عنها عمر.
قلت: ورواية "الإِعلام" فيه عبيد الله بن الزبير، والظاهرُ أنه عبد الله بن الزبير، ولعله تعلم النهيَ عن عثمان، كما مر قصته معه. وهكذا وجدنَاه في نُسخة الشيخ العلامة المذكور مصححًا عبد الله بن الزبير، ولمّا علمتَ من مداركِ الخلفاءِ، فانظر إلى مقالة محمد، حيث استحب الإِفراد في سفرين، وجعله أفضلَ المناسك، وحينئذ لا تملك نفسكَ إلا أنْ تُجريَ لسانكَ بأنه كان رجلًا يملأ العينَ والقلب، قاله الشافعي فيه.
ويؤيد ما ذكره ابن القيم في "الإعلام" ما أخرجه الحافظ عن النسائي عن سعيد بن المُسيَّب بلفظ: "نهى عثمان عن التمتع"، وزاد فيه:"فلبَّى عليٌّ وأصحابهُ بالعمرة، فلم ينههم عثمان"، فقال له علي:"ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع"؟ قال: "بلى"، ففيه دليل على أنَّ نهيَه لم يكن تحريمًا، بل كان مشورةً لهم. وحمله السِّنْدِي على الرجوع، وليس بجيدٍ. =