الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
84 - بابُ تَفْسِيرِ الْعَرَايَا
وَقَالَ مَالِكٌ الْعَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِىَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ، ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْرٍ. وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ الْعَرِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَاّ بِالْكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، لَا يَكُونُ بِالْجِزَافِ. وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ بِالأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِى حَدِيثِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - كَانَتِ الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِىَ الرَّجُلُ فِى مَالِهِ النَّخْلَةَ وَالنَّخْلَتَيْنِ. وَقَالَ يَزِيدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا، رُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنَ التَّمْرِ. تحفة 8410
2192 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رضى الله عنهم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِى الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْعَرَايَا نَخَلَاتٌ مَعْلُومَاتٌ تَأْتِيهَا فَتَشْتَرِيهَا. أطرافه 2173، 2184، 2188، 2380 - تحفة 3723 - 100/ 3
واعلم أن معاملات العرب بالعَرَايا كانت على عِدَّة أوجه، ذكرها الحافظُ في «الفتح» ، وثلاثٌ منها مختاراتٌ للأئمة أيضًا. فعند الإِمام الأعظم العَرِيَّةُ: اسم لعطية ثمرة النخل على عادة العرب، فإن أهل النخل منهم كانوا يَتَطوَّعُون على من لا ثمرَ له في الموسم، ثم إذا كانوا يتأذُّون من دخول المُعْرَى له عليهم يَعْطُونَهم تمرًا آخر مكانه، ليُخَلِّي ثماره للمُعْرِي خاصةً.
وأما عند مالك، فعنه تفسيران: أحدهما: ما عن الإِمام الأعظم بعينه، إلا أنه خالفه في تخريجه، وجعل المُبَادلَة المذكورةَ بيعًا، واعتبره إمامُنا هِبَةً. ثم إن المُعَامَلَةَ المذكورةَ تَقْتَصِرُ عنده بين المُعْرِي والمُعْرَى له، ولا تجري بين غيرهما. وثانيهما: ما في «موطئه» ، وهو أن تكون لرجلٍ عدَّةُ نخلٍ في حديقةِ رجلٍ، فتحرَّج صاحبُ البستان في دخوله في الموسم، واصطلح أن يبيع ثمرة نخيله منه بكذا من التمر، لتخلص له ثمرة البستان كلِّه. وحاصلُه: أن العَرِيَّةَ بيعٌ عنده على التفسيرين.
وقال الشافعيُّ: إن الناس كانوا فقراء، ليست عندهم دَرَاهِمَ ولا دنانير، فإذا جاء الموسمُ شَكُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم مما رابهم. فلمَّا رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم اشتياقَهم إلى الرُّطَب، ولا ثمنَ عندهم لِيَشْتَروا به، أباح لهم أن يَشْتَرُوا الرُّطَبَ بالتمر، ولما كانت الحاجةُ تندفع بخمسة أَوْسُق خصَّصه بها. ولذا قال الشافعيةُ: إن العَرِيَّةَ لا تجوز إلا في هذا المقدار، أو أقل. ولا تجوز فيما زاد على ذلك، إلا أن تكونَ بصفقاتٍ. فإذا كانت بصفقاتٍ، فتَجُوزُ عندهم، ولو في ألوفٍ من الأَوْسَاقِ. ثم إنهم يَشْتَرِطُوا الكَيْلَ في التمر، والخَرْصَ في الثمر. وذلك لأن الكَيْلَ إذا فَاتَ عنهم في الثمر، لكونه على رؤوس الأشجار، عَدَلُوا إلى الخَرْصِ، ليَقْرُبَ إلى الواقع شيئًا، ولا يبقى جِزَافًا مَحْضًا. لأن التمرَ بالرُّطَب مُزَابنةٌ عندهم، وهي حرامٌ بالنصِّ. وإنما أَبَاحَها الشرعُ لهم في خمسة أَوْسُقٍ خاصةً، فضيَّقُوا فيه. ثم إن هذه المعاملة في هذا المقدار تجري بين كل
رجلين، ولا اختصاصَ لها بالمُعْرِي والمُعْرَى له، كما هو عند مالك. هذا هو تفصيل المذاهب، وتفسير العَرَايا.
أما الترجيحُ لمذهبنا، فمن أوجهٍ: الأول: أنه اتفق أهلُ اللغة كافةً، على أن العَرِيَّةَ من العَارِيَّةِ: اسم لهبة ثمار النخيل. وَوَافَقَنَا عليه صاحب: «القاموس» أيضًا، مع كونه شافعيًا متعصِّبًا، فإنه يُرَاعي مذهبه في بيان اللغة أيضًا. نعم هو مُعْتقِدٌ لأبي حنيفة أيضًا، وقد كان بعضُ أهل زمانه كَتَبَ رسالةً في مثالب أبي حنيفة، ونَسَبَها إليه. فلمَّا بلغ أمرها إليه، تبرَّأ منه، وقال: إنها افتراءٌ عليّ، وأنا أخضع دون جلالة قدره، وأمر بحرقها. والأسفُ كل الأسف على أن داهيةَ التعصُّب قد أَلَمَّت في باب الجرح والتعديل أيضًا، فَيُسَامِحُون عمَّن وافقهم في المذهب، ويُمَاكِسُون فيمن خالفهم. كالذهبيِّ، فإنه يُرَاعي الحنبلية، ولا يَغْفِرُ للأشعرية. وأمَّا الحافظُ، فإنه لا يُغْمِضُ عن الحنفية، وكأنها عنده ذنبٌ ليس فوقها ذنبٌ.
وبعد، فإنهم لمعذورون، لأنه من يسمع يُخِلُّ، فإذا لم يَبْلُغْهُمْ من الحنفية إلا أنهم أصحاب بَدِعةٍ وقياسٍ، وأُشْرِبَ به قلوبهم، لم يتكلَّموا إلا ما ناسب بما أُخْبِرُوا به، ولم يتحمَّلوه إلا ما حمِّلَ إليهم. ولكن من جرَّب الحال منهم، وحقَّق الأمر، فحاشاه أن يُطِيلَ لسانه في شأنهم. وكفاك محمد، وأبو يوسف من تلامذته. فأمَّا محمد، فهو الذي تخرَّج عليه الشافعيُّ، وقال فيه: إنه كان يَمْلأُ العينَ والقلبَ. وكان إذا تكلَّم فكأنما نَزَلَ الوحيُ. وأمَّا أبو يوسف، فأمرُه معروفٌ، وقد قدَّمنا بعض الكلام في أوائل كتاب العلم.
وبالجملة: إن انتهى الأمرُ إلى اللغة، فهي للحنفية خاصةً، وليس لغيرهم فيها حَظٌّ. وراجع ما عندهم من أنواع الهِبَةُ، فإنهم سَمُّوا هِبَةَ الحيوان الحلوب: منحةً، وهِبَة الثمار: عَرِيَّةً، إلى غير ذلك. وقد نقل الطحاويُّ بيتًا عن شعرائهم يَمْدَحُ الأنصار، يَدُلُّ على كونها هِبَةً، وفي النسخة سقط من الكاتب، وأنقله بعد التصحيح:
*وليست بسَنْهَاءَ ولا رَجَبِيَّةٍ
…
ولكن عَرَايا في السنين الجوائح
يقول: إن أشجارَهم ليست بسنهاء التي تُثْمِرُ في سنةٍ مرةً، وليست مما تُلْقَى حولها الشِّيَاك أيضًا، ولكنها عَرَايا تُوهَبُ للمساكين عند حاجتهم، فكأنه عنى بها التصدُّق، والهِبة. ولو كانت العَرِيَّةُ بيعًا، لم يكن فيها مدحٌ لهم.
ولنا أيضًا أثرُ زيد بن ثابت، أخرجع الطحاويُّ، قال:«رخَّص في العَرَايا في النخلة، والنخلتين تُوهَبَان للرجل، فيبيعها يَخْرِصَها تمرًا» ، فأَخْبَرَ بأن العَرِيَّة هِبَةٌ. وزيدُ بن ثابتٍ، وما زيد بن ثابت هو مدنيٌّ، ومن أصحاب النخيل، وهو أعلم بالعَرَايا، لأن صاحبَ البيت أَدْرَى بما فيه. أمَّا غيرُه ممن ليسوا بأصحاب النخيل، كابن عمر، فإنهم لا يُوَازُونَه في هذا الباب. ولا أُنْكِرُ تفاسيرهم، فإنها كلَّها مَرْوِيَّةٌ عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
أمَّا المرفوعَ فلا مَزِيَّةَ فيه لأحدهما على الآخر، فقد عَلِمْتَ أن الباء في قوله صلى الله عليه وسلم «بمثل خَرْصِها» للتصوير عندنا، وللعِوَض عندهم. فقالوا: معناه العَرَايا هي بيعُ التمر عوض الرُّطَب المَخْروصَةِ بمثلها. وقلنا: معناه هو البيعُ، بأن يَخْرُص الرُّطَب، فيبيعها خَرْصًا. أمَّا العِوَض،
فلم يُذْكَر في الحديث، فإن كان نقدًا، فلا خلافَ فيه لأحدٍ. وعند الترمذيِّ في حديث العَرِيَّة:«ونهى عن بيع كل ثمرٍ بِخَرْصِها» ، مع أنه لو كان بالدينار والدراهم، جاز إجماعًا. فالنهيُ فيه للشَّفعقَةِ بالاتفاق، فلم يَخْلُصْ الحديثُ لأحدٍ، وتُوزَنا فيه وزنَ المثقال.
ونقول أيضًا: إن التمرَ والرُّطَبَ من الأموال الزَّبَوِيَّة، ويُنَاسِبُ فيها الإِطلاق، فَقُلْنا بالحرمة مطلقًا، ولم نُجِرْ فيها التخصيص. وعلى هذا، فأحاديثُ النهي عن المُزَابنة على عمومها عندنا، بلا تخصيصٍ، والاستثناءُ فيها منقطعٌ، لعدم دخول العَرَايا في المُسْتَثْنَى منه. ويَلْزَمُ على الشافعية مخالفةُ اللغة، ومخالفةُ ما عند شعرائهم فيه، ومخالفةُ أعلم رجلٍ في هذا الموضوغ، وإجراءُ التخصيص في الأموال الرِّبوية.
فإن قلتَ: يَرِدُ عليكم استثناء العَرَايا من البيع، فإن ظاهرَه كونها بيعًا، وثانيًا الرجوع في الهِبَة، وثالثًا لا معنى لتخصيص خمسة أَوْسُق على مذهبكم، فإن هِبَةَ الخمسة والرجوعَ عنها، كهبة ألف أَوْسُقٍ، والرجوعِ عنها. قلتُ: أمَّا ما قُلْتَ من استثناء العَرَايَا من البيع، فقد سَمِعْتَ آنفًا أنه استثناءٌ منقطعٌ عندنا، ونزيدك إيضاحًا، فنقول: إن العَرِيَّةَ على مذهب الحنفية استردادٌ للهبة الأولى، واستئنافٌ في الِبَة الثانية. ولكنه تخريجٌ ونظرٌ، وليس في الظاهر إلا استبدال الرُّطَب بالتمر، ولا رَيْبَ أنه بيع حِسًّا، وإن عبَّرناه استردادًا، واستئنافًا على الأصل. وحينئذٍ لا بِدَعَ في كونها مستثناةً من البيع، ولا حَجْر في التغبيرات والعبارات، فإنها تأتي في مبنيةً على الحسِّ. وقد نبَّهناك مِرَارًا أنه ليس على الرُّواة إخراج العبارات كاشفةً عن تخريج المسائل أيضًا. وإنما هم بصدد النقل المجرَّد، فَيُخَرِّجُون عباراتهم على ما سَنَحَ لهم في ذلك الحال. وعلى هذا فالأشجار بعد العَرِيَّة إذا نُسِبَتْ إلى المَعْرَى له، كأنها مِلْكُهُ، ثم ردَّها المُعْرَى له إلى المالك، بعوضٍ من التمر، كأنه يبيعها منه، صارت صورتُها صورةَ البيع فطعًا، سواء سمَّيته استردادًا، أو هِبةً، أو ما بدا لك. فإن الراوي لا بحثَ له من أن تخاريجك فيه ماذا.
ومن ههنا انحلت عُقْدةٌ أخرى في حديث جابر عند البخاري، قال جابر، في بيان صفة صلاته صلى الله عليه وسلم في الخوف:«كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أربعٌ، وللقوم ركعتان» . اهـ. وهذا لا يَصِحُّ على مذهب الحنفية، وحَمْلُه على حال الإِقامة باطلٌ، كما ذكرناه في تقرير الترمذي. وجواب الطحاويِّ نافذٌ. والجواب على ما ظَهَرَ لي: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلاها في ذات الرِّقَاع على الصفة المختارة عند الشافعية، فصلَّى بطائفةٍ ركعةً، ثم ثَبَتَ قائمًا حتى أَتَمُّوا لأنفسهم، وجاءت الأخرى، فصلَّى بهم كذلك، فاعتبر الراوي ركعته صلى الله عليه وسلم ركعةً، ومُكْثَةُ بقدر ما أَتَمُّوا لأنفسهم ركعةً أخرى، فعبَّر عنه بالركعتين. وكانت الركعتان في الحقيقة لمن خلفه صلى الله عليه وسلم وإنما نَسَبَهُمَا إليه أيضًا لتأخيره بتلك المدَّة، ومُكْثِهِ فيها، فإذا تضمَّنت ركعته صلى الله عليه وسلم ركعتيهم، تضمَّنت ركعتاه لأربعهم لا مَحَالة. وهذا وإن كان يرى تأويلا في بادىء النظر، لكنه مُؤَيَّدٌ بما يُرْوَى عن جابر في عين تلك القصة.
فقد أخرج البخاريُّ: عن صالح بن خَوَّات، عمن شَهِدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرِّقَاع صلاةَ الخوف: «أن طائفةً صفَّت معه، وطائفةً وِجَاه العدو، فصلَّى بالتي معه ركعةً، ثم ثَبَتَ قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم. ثم انصرفوا، فصفُّوا وِجَاه العدو. وجاءت الطائفةُ الأخرى، فصلَّى بهم
الركعةَ التي بقيت من صلاته، ثم ثَبَتَ جالسًا، وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم». اهـ.
فهذا صريحٌ في أن القومَ فَرَغُوا بعد ركعتين ركعتين، وأمَّا النبيُ صلى الله عليه وسلم فلم يَفْرُغ عن صلاته حتى فَرَغُوا جميعًا. فكانت لهم ركعتان ركعتان، وكانت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أيضًا ركعتان، كما ذكره الراوي ههنا، إلا أنه لمَّا مَكَثَ بعد ركعةٍ بقدر ركعةٍ، وانتظر القوم عبَّر عنه الراوي هناك بالركعة، وعَدَّ له أربع ركعات بهذا الطريق. ولا بُدَّ، فإن الواقعةَ واحدةٌ، فلعلَّك عَلِمْتَ الآن حال تعبير الرواة أنه لا يُبْنَى على مسألةٍ فقهيةٍ فقط، بل يأتي على عبارات وملاحظ تَسْنَخُ لهم عند الرواية.
وأمَّا الجوابُ عن الرجوع في الهِبَةِ. والدليلُ على أنه لا بُدَّ في قبض الثمار من الجِذَاذِ ما رواه الطحاويُّ: «أنه لمَّا احْتَضَرَ أبو بكر قال: إني قد كنتُ أَعْطَيْتُكَ ثمارًا في الغابة، فلو كنتَ جَذَذْتُها لكانت لك، إلا أنك ما جَذَذْتَهَا إلى الآن، فهي حينئذٍ ميراثٌ للورثة» بالمعنى. وبه أَفْتَى عمر. فَدَلَّ على أن الهِبَةَ لا تَتِمُّ إلا بالقبض، وأن الثمارَ لا قبضَ فيها إلا بالُجُجِذَاذِ.
أما قولك: إنه لا معنى لتخصيص خمسة أَوْسُق على مذهبكم، فنقول: أمَّا أولا فكما ذكره الطحاويُّ: أنه ليس فيه ما ينفي أن يكونَ حكمُ ما هو أكثر من ذلك، كحكمه في خمسة أَوْسُق. وإنما يكون ذلك لو قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا تكون العَرِيَّة إلا في خمسة أَوْسُق، أو فيما دون خمسة أَوْسُق. فإذا كان الحديثُ: «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رخَّص في بيع العَرَايا
(1)
في خمسة أَوْسُقٍ، أو فيما دون خمسة أَوْسُقٍ»، فذلك يحتمل أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رخَّص فيه لقومٍ في عَرِيَّةٍ لهم، هذا مقدارها. فنقل أبو هُرَيْرَة ذلك، وأخبر الرُّخْصَة فيما كانت. ولا ينفي ذلك أن تكونَ تلك الرخصة جاريةً فيما هو أكثر من ذلك. اهـ.
وأمَّا ثانيًا، فعلى ما أقول: إن المعاملةَ المذكورةَ لمَّا كانت بيعًا حِسًّا ناسب فيها التضييق، لئلا تقوم أصلا للمعاملات الرِّبَوِيَّة. فإن الشافعيةَ أيضًا قَصَرُوها على خمسة أَوْسُقٍ، غير أنهم جعلوها استثناءً من معاملة الرِّبا حقيقةً. ونحن قَصَرْنَاها على المقدارِ المذكور لمظنَّة جريان الربا فيما عَدَاها. ثم لو سَلَّمْنَا أن العَرِيَّةَ هي البيعُ دون الهِبَةِ، فقد أُخْرِجَتْ لها صورة الجواز على مسائلِ الحنفية أيضًا، وهي: أن بيع الععرِيَّة على نحوين: الأول: أن يقولَ: بِعْتُ ثمارَ هذه الشجرة التي أَخْرُصُهَا خمسة أَوْسُق، بدل كذا من التمر. والثاني: أن يقولَ: بِعْتُ خمسة أَوْسُقٍ من ثمار هذه الشجرة، بدل كذا من التمر. والأول لا يجوز، بخلاف الثاني، وهو المحمل عندي.
والفرق أنه باع على الأول ثمارها خَرْصًا، فإن خرجت خمسة أَوْسُقِ فذاك، وإلا فلا ضمان عليه، لأنه لم يبع خمسة أوسق، ولكنه باع ثمارها، سواء خرجت بهذا المقدار، أو لا،
(1)
قلتُ: وإطلاقُ البيع على العَرَايا في هذه الرواية لعلَّه مأخوذٌ من استثنائها من البيع، فإنه ليس من النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وإنما هو من لفظ الراوي، يحكي عن رُخَصِهِ صلى الله عليه وسلم في العَرَايا. فاعلمه.
والخرص لا يطابق الواقع دائمًا، ففيه احتمال الربا، لأنه بيع التمر بالتمر، ولا بد فيه من التساوي، وذلك معدوم في هذا الفصل، بخلاف الثاني، فإنه عقد على خمسة أوسق، وليس الخرص فيه إلا في الذهن، فإنه خرصها في ذهنه أن ثمار هذه الشجرة تكون خمسة أَوْسُقٍ، ثم باعها منه. فليس الخَرْصُ في الخارج، وهو لحفظه في ذهنه فقط. فإذا أَسْلَمَ إليه يَكِيلُها لا مَحَالة، ليُسْلِمَ إليه خمسة أَوْسُق، فلا احتمال فيه للربا. وعلى هذا لم يَرِدْ العقدُ على المَخْرُوص، بل وَقَعَ على المعيَّن،، ولا بأسَ بكون هذا المعيَّن مَخْرُوصًا في أول الأمر في ذهنه، بل هو مفيدٌ. أمَّا في الخارج، فلا يسْلِمُ إليه إلا مكيلة. ثم الكيلُ وإن لم يكن معروفًا في الرُّطَب فيما بينهم لتعسُّره فيها، ولكنه إذا تحمَّله على نفسه والتزمه وَجَبَ عليه أن يَكِيلَها. حينئذٍ جَازَتْ العَرِيَّةُ بيعًا على مسائلنا أيضًا. وجملةُ الكلام: أن المبيعَ في العَرِيَّة عندهم مَخْرُوصٌ أولا وآخرًا، وعندنا مخروصٌ أولا، وفي الذهن فقط، ومعيَّنٌ آخِرًا، وعند التسليم. فإن ادَّعَيْتَ بجوازها، لم يُخَالِف مسائلنا بشيءٍ.
ثم اعلم أن تلك عند أبي عُبَيْد هي التي اسْتُثْنِيَت في باب الزكاة في قوله صلى الله عليه وسلم «ليس فيما دون خمسة أَوْسُقٍ صَدَقةٌ بعينها» فيكون عنده تفسيرًا لأربعًا
(1)
.
(1)
قلتُ: وكان شيخي يَنْقُلُه عن أبي عُبَيد، إلَّا أن كتابَه المعروف "بكتاب الأموال" لم يكن طُبعَ يومئذٍ، فلم أكن أحْصُل منه غير الطَّلِّ. حتى إذا جاءنا مطبوعًا بعد وفاة الشيخ. فَرَاجَعْتُ كلامَه، فانكشف الحال على جليته.
قال أبو عُبَيْد: وأمَّا تفسيرُ الآخر، فهو: أن العَرَايا هي النخلات يستَثْنِيها الرجلُ من حائطه إذا باع ثمرته، فلا يُدْخِلُها في البيع، ولكنه يُبقِيها لنفسه وعِيَاله. فتلك الثُّنْيا لا تُخْرَصُ عليه، لأنه قد عُفِي لهم عمَّا يأكلون تلك الأيام. فهي العَرَايا سُمِّيَت بذلك في هذا التفسير، لأنها أُعْرِيَتْ من أن تباعَ، أو تُخرَصَ في الصدقة. فأَرْخَصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأهل الحاجة والمسكنة، الذين لا وَرِقَ لهم، ولا ذهب، وهم يَقْدِرُون على التمر: أن يَبتَاعُوا بتمرهم من ثمار هذه العَرَايا بِخَرْصِهَا. فعل ذلك بهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ترفُّقًا بأهل الفاقة الذين لا يَقدِرُون على الرُّطَب ليُشَارِكُوا الناسَ فيه، فيصيبوا منه معهم. ولم يرخِّص لهم أن يَبْتَاعُوا منه ما يكون لتجارةٍ، ولا لادخارٍ.
قال أبو عُبَيْد: فهذا التأويلُ أَصَحُّ في المعنى عندي من الأول، لأن له شَاهِدَين في الحديث. أمَّا أحدهما، فشيءٌ كان مالك يُحَدِّثُهُ عن داود بن الحُصَيْن، عن أبي سُفْيَان -مولى ابن أبي حمد- وفي نسخةٍ: -مولى ابني أحمد- عن أبي هُرَيْرَة: "أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ في العَرَايا بِخَرْصِهَا، خمسة أَوسُقٍ، أو ما دون خمسة أَوْسُقٍ". كان مالك يقول: الشَّكُّ من داود، حدَّثنيه ابن بُكَيْر عنه.
قال أبو عُبَيد: وأَحْسِبُ أن المحفوظَ منهما إنما هو ما دون خمسة أَوْسقٍ، لأن توقيتَه صلى الله عليه وسلم ذلك، وتركه الرُّخصة في خمسة أَوْسُقٍ تبيِّن لك أنه إنما أَذِنَ في قدر ما لا يَلْزَمه الصدقة. لأن سنته "أن لا صدقةَ في أقلِّ من خمسة أَوْسُقٍ، وأن لا صَدَقَةَ في العَرَايا" فهذه تلك بعينها. والحديث يُصَدِّق بعضُه بعضًا. وتقليله ذلك يُخبِرُك أنه إنما أَرْخَصَ لهم في قدر ما يأكلون فقط، فهذا أحد الشَّاهِدَيْن
…
إلخ، ولعل في الجملة الأخيرة سَقطٌ، فتبيَّن منه أن ما دون الخمسة في العَرِيَّة هي التي عفا عنها في باب الزكاة عنده.
وحينئذٍ ظَهَرَ لك وجهٌ لسقوط الصدقة عمّا دون خمسة أَوْسُقٍ في باب الزكاة، وهو: أنه كان هذا المقدار مشغولًا بحوائجهم يَحْفَظُونَهُ لأنفسهم، وعِيَالهم، ولمن نزل عليهم. لا أن الصدقةَ لا تَجِبُ فيه، وأن لها نِصَابًا عند الشرع لا تَجِبُ إلَّا عند وجوده. فالصدقةُ واجبةٌ في كل ما خَرَجَ من الأرض عندنا، إلَّا أن قدر خمسة أَوْسُق يكون مشغولًا بحوائجهم، مهَيأً لأكلهم وضيفهم، فَسَقَطَت عن هذا المقدار. وقد قال الخطابيُّ نحوه بعينه في شرح حديث =
هذا الذي أردنا إلقاءه عليك من تفسير العَرَايا، وما يتعلَّق بها، والآن نشرح ألفاظ الترجمة.
قوله: (وقال ابنُ إدْرِيس) المراد منه الشافعي.
قوله: (العَرِيَّةُ لا تكونُ إلا بالكَيْل من التمر، يَدًا بيدٍ، ولا تكُون بالجِزَاف)، يعني به أن التمر يُعْطَى للمُعْري، ويكون مَقْبُوضًا. أمَّا الثمارُ، فلا سبيلَ فيها إلا بالتَّخْلِيةَ.
قوله: (بالأَوْسُق المُوَسَّقَةِ)
…
إلخ، وهو كقوله:{وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران: 14]، ففيه معنى التأكيد. ومُقْتَضَى اللفظ كونه معاملةً من الطرفين، نحو كون الكَيْلِ من طرفٍ، والخَرْصُ من طرفٍ آخر، فحصلت التقوية، كما أراده المصنِّف.
قوله: (العَرَايا نخلٌ)
…
إلخ، والمراد به ثمار النخل.
2192 -
قوله: (رخَّصَ في العَرَايا أن تُبَاع بِخَرْصِها كَيْلا)، والبائعَ عند الشافعيِّ: هو صاحبُ النخل المُعْرِي. وعند أبي حنيفة، ومالك: المُعْرَى له، غير أن بيعَه للمُعْرِي بيعٌ حقيقةً عند مالك، ومبادلةٌ، واستبدالٌ فقط عند أبي حنيفة. فيكون بيعًا صورةً لا غير، على ما عَلِمْتَ تفصيله. وقد مرَّ أيضًا: أن الباء في قوله: «بِخَرْصِها» للتصوير عندنا، والبدلُ غير مذكورٍ، فيمكن أن يكونَ الدراهمَ والدنانيرَ، كما يُؤَيِّدُه ما عند النَّسائي. وهي عند الشافعيِّ للبدل، فيكون المَخْرُوصُ عِوَضًا، وبَدَلا. وقد ذكرنا شيئًا يتعلَّق به في آخر كتاب المساقاة إيضًا، فراجعه
(1)
.
= أبي داود مرفوعًا: "أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إذا خَرَصتُم فَجُذُّوا ودعوا الثُّلث، فإن لم تدعوا أو تَجُذُّوا الثُّلث، فدعوا الربع". اهـ.
قال الخطَّابيُّ: قيل: اتركوا لهم ذلك ليتصدَّقوا منه على جيرانهم، ومن يَطلُبُ منهم. لا أنه لا زكاةَ عليهم في ذلك. اهـ. فإذا جَازَ استثناء الثلث، والربع الذي قد يزيد على خمسة أَوْسُق بمراتب، فالخمسة أَوْسُق لا تُستَثنَى في باب الزكاة لعين تلك العلَّة. والله تعالى أعلم.
(1)
قلتُ: وأحسنُ ممَّن رأيتُ قرَّر مسألة العَرِيَّة، ونبَّه على الفروق بين المذاهب مع بيان عُمْدَةِ كلٍّ، هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القُرْطبي في "بداية المجتهد": اختلف الفقهاءُ في معنى العَرِيَّة، والرُّخْصَة التي أتت فيها في السُّنة. فحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي: أن العَرِيَّة في مذهب مالك هي: أن يَهَبَ الرجلُ ثمرةَ نخلةٍ، أو نَخَلات من حائطه لرجلٍ بعينه. فيجوز للمُعْرِي شراءها من المُعْرَى له بِخَرْصِها تمرًا على شروط أربعة:
أحدها: أن تُزْهى. والثاني أن تكونَ خمسة أوسُق فما دون، فإن زادت فلا يجوز. والثالث: أن يعطيه التمر الذي يشتريها به عند الجُذَاذ، فإن أعطاه نقدًا لم يَجُزْ. والرابع أن يكونَ التمر من صنفِ ثمر العَرِيَّة ونوعها.
فعلى مذهب مالك: الرُّخْصَة في العَرِيَّة إنما هي في حقِّ المُعْرِي فقط. والرخصة فيها إنما هي استثناءها من المُزَابنة -وهي بيعُ الرُطَب بالتمرِ الجافِّ الذي وَرَدَ النهيُ عنه- ومن صنفي الرِّبا أيضًا -أعني التفاضل والنَّسأ- وذلك أن بيعَ ثمرٍ معلومٍ الكَيْلِ بثمرٍ معلومٍ بالتخمين، وهو الخَرْصُ، فَيَدْخُلُه بيع الجنس الواحد متفاضلًا، وهو أيضًا ثمرٌ بثمرٍ إلى أجلٍ. فهذا هو مذهب مالك، فيما هي العَرِيَّة؟ وما هي الرخصة فيها؟ ولمن الرخصة فيها؟.
وأمَّا الشافعيُّ، فمعنى الرخصة الواردة عنده فيها ليست للمُعْرِي خاصةً، وإنما هي لكلِّ أحدٍ من الناس أراد أن يشتري هذا القدر من الثمر، أعني الخمسة أَوْسُق، أو ما دون ذلك بتمرٍ مثلها. وروى: أن الرُّخصَة فيها إنما هي =
...........................
= معلَّقةٌ بهذا القدر من التمر لضرورة الناس أن يأكلوا رُطبًا، وذلك لمن ليس عنده رُطَبٌ ولا تمرٌ يشتري به الرُّطَب.
والشافعيُّ يشترط في إعطاء التمر الذي يُبَاعُ به العَرِيَّة أن يكونَ نقدًا، ويقول: إن تفرَّقا قبل القبض فَسَدَ البيع.
والعَرِيَّةُ جائزةٌ عند مالك في كل ما يَيْبَسُ، ويُدَّخَرُ. وهي عند الشافعي: في التمر والعنب فقط. ولا خِلَافَ في جوازها فيما دون الخمسة الأَوْسُق عند مالك، والشافعي. وعنهما الخِلَافُ، إذا كانت خمسة أَوْسُقٍ، فرُوِي الجوازُ عنهما والمنع. والأَشْهَرُ عند مالك الجواز. فالشافعيُّ يُخَالِفُ مالكًا في العَرِيَّةِ في أربعة مواضع: أحدها: في سبب الرُّخصة، كما قلنا. والثاني: أن العَرِيَّةَ التي رخَّص فيها ليست هِبَة، وإنما سُمِّيَتْ هبةٌ على التجوُّز. والثالثُ: في اشتراط النقد عند البيع. والرابع: في محلها، فهي عنده، كما قلنا، في التمر والعنب فقط، وعند مالك في كل ما يُدَّخَرُ وَييْبَسُ.
وأمَّا أحمد بن حنبل، فَيُوَافِقُ مالكًا في أن العَرِيَّةَ عنده هي الهِبَةُ، ويُخَالِفُهُ في أن الرُّخصةَ إنما هي عنده فيها للموهوب له، أعني المُعْرَى له لا المُعْرِي. وذلك أنه يَرَى أن له أن يَبِيعَها ممن شاء بهذه الصفة، لا من المُعْرِي خاصة، كما ذهب إليه مالك.
وأما أبو حنيفة، فَيُوافِقُ مالكًا في أن العَرِيَّةَ هي الهِبَةُ، ويُخَالِفُه في صفة الرُّخصةُ. وذلك أن الرُّخصةَ عنده فيها ليست هي من باب استثنائها من المُزَابنة، ولا هي في الجملة في البيع، وإنما الرُّخصةُ عنده فيها على باب رجوع الواهب في هبته، إذا كان الموهوب له لم يَقبِضْها. وليست عنده ببيع، وإنما هي رجوعٌ في الهِبَةِ على صفةٍ مخصوصةٍ، وهو أن يُعْطِي بدلها تمرًا بِخَرْصِهَا. وعُمْدَةُ مذهب مالك في العَرِيَّة: أنها بالصفة التي ذَكَرَ سُنَّتَها المشهورةَ عندهم بالمدينة، قالوا: وأصلُ هذا أن الرجل كان يَهَبُ النَخَلات من حائطه، فَيَشُقُّ عليه دخول الموهوب له عليه، فأُبِيحَ له أن يشتريها بِخَرْصِهَا تمرًا عند الجُذَاذ.
ومن الحُجَّة له في أن الرُّخصةَ إنما هي للمُعْرِي: "حديث سَهْل بن أبي حَثْمة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بيع الثمر بالرطب. إلَّا أنه رخَّص في العَرِيَّة أن تُبَاع بِخَرْصِهَا، يَأْكُلُهَا أَهُلُها رُطَبًا". قالوا: فقوله: "يأكُلُهَا رُطبًا": دليلٌ على أن ذلك خاصٌّ بمُعْرِيها، لأنهم في ظاهر هذا القول أهلها. ويمكن أن يُقَالَ: إن أهلها هم الذين اشتروها، كائنًا من كان، لكن قوله: رطبًا هو تعليل، لا يناسب المعري، وعلى مذهب الشافعي هو مناسب، وهم الذين ليس عندهم رُطبٌ ولا تَمْرٌ يشترونها به، ولذلك كانت الحُجَّة للشافعي.
وأمَّا أن العَرِيَّة عنده هي الهِبَةُ، فالدليلُ على ذلك من اللغة، فإن أهلَ اللغة قالوا: العَرِيَّةُ هي الهِبَةُ. واختلفوا في تسميتها بذلك، فقيل: لأنها عَرِيَتْ من الثمن، وقيل: إنها مأخوذةٌ من عَرَوْتُ الرجل أعْروه، إذا سألته، ومنه قوله تعالى:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] وإنما اشترطَ مالك نقد الثمن عند الجُذَاذِ -أعني تأخيره إلى ذلك الوقت- لأنه تمرٌ وَرَدَ الشرطُ بِخَرْصِهِ، فكان من سُنَّته أن يتأجَّلَ إلى الجُذاذ، أصلُه الزكاة، وفيه ضعفٌ، لأنه مصادمةٌ بالقياس لأصل السُّنة. وعنده أنه إذا تطوَّعَ بعد تمام العقد بتعجيل التمر جَازَ.
وأمَّا اشتراطُه جوازها في الخمسة الأَوسُق، أو فيما دونها، فلِمَا رواه عن أبي هُرَيْرَة:"أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ في بيع العَرَايا بخَرْصِها فيما دون خمسة أَوْسُقٍ، أو في خمسة أوْسُقٍ". وإنما كان عن مالك في الخمس الأوْسُق روايتان، للشَّكِّ الواقع في هذا الحديث من الراوي. وأمَّا اشتراطُه أن يكونَ من ذلك الصنف بعينه، إذا يَبِس، فَلِمَا رُوِيَ عن زيد بن ثابت:"أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رخَّص لصاحب العَرِيَّة أن يَبِيعَها بِخَرْصِهَا تمرًا"، أخرجه مسلم. وأما الشافعيُّ فعمدته حديث رافع بن خَدِيج، وسَهْل بن أبي حَثْمَة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نَهَى عن المُزَابنة التمر بالتمر"، إلَّا أصحاب العَرَايا، فإنه أَذِنَ لهم فيه، وقوله فيها:"يَأْكُلُهَا أَهْلُها رُطبًا". والعَرِيَّة عندهم هي اسمٌ لِمَا دون الخمسة الأَوْسُق من التمر، وذلك أنه لمَّا كان العُرْف عندهم أن يَهَبَ الرجل في الغالب من نَخَلاته هذا القدر فما دونه، =