الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
39 - كِتَابُ الكَفَالَة
1 - باب الْكَفَالَةِ فِى الْقَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا
واعلم أن الكَفَالَةَ على نحوين: كفالةٌ بالنفس، ويكون فيها كَفِيلٌ، ومَكْفُولٌ له، وبه. وكَفَالَةٌ بالمال، وفيها مَكْفُولٌ عنه أيضًا مع سائر الألقاب.
ثم القرضُ والدينُ يفترقان. فالقرضُ ما يأخذه الرجل لحوائجه، ويُعَدُّ إعانةً في الحال. والدينُ ما يَلْزَمُ في المُعَاوَضَات والمعاملات. ثم التأجيلُ لا يَلْزَمُ في باب القرض، فَلِلْمُقْرِضِ أن يُطَالِبَهُ قبل حلول الأجل، بخلاف الدين، فإنه يَقْبَلُ التأجيل، وليس لصاحب الدين أن يُطَالَبَ من عليه الدين قبل حلول الأجل. ولفظه في الفِقْهِ: أن تأجيلَ القرض ليس بصحيحٍ. ولم يَفْهَمْهُ بعضُهم، فَحَمَلَهُ على الإِثم، أي إن التأجيلَ في القرض معصيةٌ، وليس بصحيحٍ. بل معناه: أنه ليس بلازمٍ، لا أنه معصيةٌ. وكذا لا تَصِحُّ الكَفَالَةُ في القرض، لأنه من باب الاعتماد، فإن لم يكن له اعتماد عليه ينبغي أن لا يُقْرِضَهُ. بخلاف الدين، فإنه مضمونٌ بنفسه، على ما فُصِّلَ في الفِقْهِ.
2290 -
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ - رضى الله عنه - بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُلِ كَفِيلًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ، وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ. وَقَالَ جَرِيرٌ وَالأَشْعَثُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِى الْمُرْتَدِّينَ اسْتَتِبْهُمْ، وَكَفِّلْهُمْ. فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ. وَقَالَ حَمَّادٌ إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَكَمُ يَضْمَنُ. تحفة 10435
2290 -
قوله: (جَارِيَةِ امْرَأتِهِ) أي كانت مملوكةً لزوجته، ولم تَكُنْ مملوكةً للزوج. وحاصلُ تلك القصة
(1)
: أن رجلا وَطِىء جاريةَ امرأته، فأراد السَّاعي أن يُقِيمَ عليه الحدَّ. فقال
(1)
وتفصيلُه على ما أخرجه الشيخ بدر الدين رحمه الله بإِسنادِ سَرَدَهُ: "أن عمر بن الخطاب بَعَثَهُ مُصَدِّقًا على سعد بن هُذَيْم -اسم قبيلة- فأتى حمزة بمال ليُصْدِقَه، فإذا رجلٌ يقول لامرأته: أدِّي صدقةَ مال مَوْلَاكِ، وإذا المرأةُ تقول له: بل أنتَ، فأدِّ صدقةَ مال ابنك. فسأله حمزةُ عن أمرها، وقولهما. فأخْبرَ أن ذلك الرجل زوج تلك المرأة، وأنه وَقَعَ على جاريةٍ لها، فَوَلَدَتْ ولدًا، فأَعْتَقَتْهُ امرأته. قالوا: فهذا المال لابنه من جاريتها، فقال له حمزةُ: لأرْجِمَنَّكَ بالحجارة، فقيل له: أصْلَحَكَ الله! إن أمرَهُ قد رُفِعَ إلى عمر بن الخطاب فجلده عمر مائة، ولم يَرَ عليه الرجم. فأخذ حمزةُ بالرجل كفيلًا حتى يَقْدُمَ على عمر، فيسأله عمَّا ذُكِرَ من جلد عمر إياه، ولم يَرَ عليه رجمًا.
فصدَّقهم عمر بذلك من قولهم، وقال: إنما دَرَأ عنه الرجم عُذْرُهُ بالجهالة. اهـ.
له آخرون: إن هذه قصةٌ قد رُفِعَتْ مرَّةً إلى عمر، وسَبَقَ فيه قضاؤه، فَأَخَذَ عليه الساعي كفيلا منه للاعتماد، ليتحقَّقَه حين يَرْجِعَ إلى عمر. فلمَّا رَجَعَ إليه صدَّقهم عمر، وعَذَرَ الرجلَ على اعتذاره بعدم العلم بالمسألة، فإنه ظنَّ أن جاريةَ الزوجة كجاريته، فَيَحِلُّ له وطؤها. كالوطء من جاريته. واعتبره الحنفيةُ أيضًا شبهةً دَارِئَةً للحدِّ، إلا أن الرجمَ إذا سَقَطَ عنه، سَقَطَ رأسًا. وليس عليه الجلدُ، وإنما جلده عمر تعزيرًا، وراجع الهامش. وكيفما كان، خَرَجَ منه أصلٌ لاعتبار الشُّبُهَات. أمَّا إنها متى تُعْتَبَرُ، ومتى لا تُعْتَبَرُ، فأمرٌ مَوْكُولٌ إلى المجتهدين.
وكذا فيه ما يَدُلُّ على صحة الكَفَالَةِ في الحدود. ولكن يُخَالِفُهُ ما في «الكنز» : وبطلت الكَفَالَةُ بحدٍ وقَوَدٍ. قلتُ: معناه: لا يُجِيرُ بالكَفَالَةِ في هذا الباب. فإن سَمَحَ بها أحدٌ قُبِلَتْ في الديانة، ولا تكون له أحكامٌ في الفِقْهِ، لأن الكَفَالَةَ الفقهيةَ في الكَفَالَةِ بالنفس لا تكون ههنا إلا باستيفاء الحدود والقصاص منه. وذا لا يُتَصَوَّرُ فيها، فلا يكونُ لها حكمٌ في القضاء. وإنما هي من الأمور البيِّنة التي يَفْعَلُهَا الناسُ على الاعتماد فيما بينهم، على نظير الخَرْصِ، فإن كلامَ الطحاويِّ يُوهِمُ نفيه. قلتُ: لا رَيْبَ في كونه مفيدًا، إلا أنه ليس بحُجَّةٍ في القضاء، فهو من هذا الباب. ولذا قُلْتُ: إن الأبوابَ الكثيرةَ تُوجَدُ فيما بينهم على المُسَامَحَةِ، ولا تَجِدُ لها أثرًا في الفِقْهِ، وكان هذا مهمًا لو تعرَّض إليه أحدٌ.
قوله: (فَأَخَذَ حَمْزَةُ من الرَّجُلِ كُفَلاءَ)، أي كفلاء بالنفس.
قوله: (قد جَلَدَهُ)، أي قَبْلَ ذلك.
قوله: (وقال جريرٌ والأَشْعَثُ)
…
إلخ، وقصَّتُه: أن عبد الله بن مسعود كان بالكُوفَة، فأخبره رجلٌ أنه رأى جماعةً من الناس منهم عبد الله ابن النوَّاحة في مكان كذا، كانوا يَذْكُرُون مُسَيْلَمَةَ الكذَّاب. فأرسل إليهم ابن مسعود، وأمرهم بأسرهم
…
إلخ، فَقَتَلَ عبد الله ابن النوَّاحة، ولم يَسْتَتِبْهُ
(1)
.
قوله: (وقال حمَّادٌ)
…
إلخ، وحمَّادٌ هذا أستاذُ أبي حنيفة. ولا أَكَادُ
(2)
أَفْهَمُ ماذا حمل
(1)
قال الحافظُ العيني: أخرجها البيهقيُّ من طريق أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّب، قال:"صلَّيت الغَدَاةَ مع عبد الله بن مسعود، فلمَّا سلَّم، قام رجلٌ فأخبره: أنه انتهى إلى مسجد بني حَنِيفَة، فَسَمِعَ مؤذِّنَ عبد الله بن النوَّاحة يَشْهَدُ أن مُسَيْلَمَةَ رسولُ الله. فقال عبد الله: عليَّ بابن النوَّاحة وأصحابه، فجيء بهم، فأمر قَرَظة بن كعب، فضَرَبَ عُنُقَ ابن النوَّاحة. ثم استشار في أولئك النَّفر، فأشار إليه عديُّ بن حاتم بقتلهم. فقام جريرٌ والأشْعَثُ، فقالا: بل استتبهم، وكَفِّلْهم عشائرهم" .... إلخ. قلتُ: قال الشيخ رحمه الله: وقد كان عبد الله بن النواحة هذا ما جاء مرَّة في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم قاصدًا من مُسَيْلَمَةَ، فلم يقتله لأن من سُنَّة القاتل أنه لا يُقْتَلُ. وإنما قَتَلَه ابن مسعود، لأنه لم يَكُنْ قاصدًا إذ ذاك. قلتُ: تلك القصة أخرجها أحمد، كما في "المشكاة"، من باب الأمان: عن ابن مسعود، قال: "جاء ابن النوَّاحة، وابن أُثالٍ رسولا مُسَيْلَمَةَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: أَتَشْهَدَان
…
إلى قوله: لو كُنْتُ قاتلًا رسولًا لقتلتكما، قال عبد الله: فَمَضَتِ السُّنَّةُ أن الرسولَ لا يُقْتَلُ.
(2)
قال العلَّامةُ المَارْدِينِي، في باب من قتل من ارتدَّ عن الإِسلام رجلًا أو امرأةً:"وحكى أبو عمر في "كتاب الانتقاء" في فضائل الثلاثة الفقهاء"، عن حاتم بن داود، قال: قلتُ للفضل بن موسى البُنَانِيِّ: ما تقول في هؤلاء =
البخاريَّ على أنه يأْخُذُ عن حمَّاد، وإبراهيم النَّخَعي، ولا يأْخُذُ عن أبي حنيفة. ولا أَعْرِفُ فيه شيئًا غير أنه بَسَطَ الفِقْهَ أمَّا رميُه بالإرْجَاء، فقد رُمِيَ به حمَّاد أيضًا، وليس إلا من إرجاف المُرْجِفِينَ. وإنما الإِرجاءُ الباطلُ: أن يقولَ بعدم الاحتياج إلى العمل. وأمَّا من يقولُ بعدم جزئية الأعمال، فمن يستطيعُ أن يَحْكْمَ عليه بالإِرْجَاء وهذا الذي قال به الإِمام الأعظم. وأمَّا النحوُ الأولُ، فحاشاه أن يقولَ به.
قوله: (إذا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فمات، فلا شيْءَ عليه)، أي لأنه كان كفيلا بالنفس، وهي تَبْطُلُ بالموت. أمَّا الحَكَمُ بن عُيَيْنَة، فقال: إن عليه الضَّمَان.
2291 -
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِى جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ ائْتِنِى بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ فَأْتِنِى بِالْكَفِيلِ. قَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِى الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا، يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِى أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِى كَفِيلًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِىَ بِكَ، وَسَأَلَنِى شَهِيدًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِىَ بِكَ، وَأَنِّى جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا، أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِى لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّى أَسْتَوْدِعُكَهَا. فَرَمَى بِهَا فِى الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهْوَ فِى ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا، يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِى فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِى طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِى أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَىَّ بِشَىْءٍ قَالَ أُخْبِرُكَ أَنِّى لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِى جِئْتُ فِيهِ. قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِى بَعَثْتَ فِى الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا» . أطرافه 1498، 2063، 2404، 2430، 2734، 6261 - تحفة 13630 - 125/ 3
= الذين يَقَعُونَ في حقِّ أبي حنيفة؟ فقال: إن أبا حنيفة جاءهم بما يَعْقِلُونَهُ من العلم، وما لا يَعْقِلُونَه، ولم يَترُك لهم شيئًا، فَحَسَدوه". اهـ. "للجوهر النقي" قلتُ: وإنما اعْتَنَيْتُ بهذا النقل، لكونه في غير المحل. وبسطه في "فواتح الرحموت" في الذب عن أبي حنيفة، وذكر نحوًا من هذه الكلمات أيضًا. فراجعه. وذكر في "آكام المرجان" بكاء الجنِّ على وفاته، وقولهم.
ذَهبَ الفِقْهُ ولا فِقْهَ لكم
…
فاتقوا الله، وكُونُوا خَلَفا
مات نعمان فمن هذا الذي
…
يُحْيى الليلَ إذا ما سَدِفا
وكانت وفاته سنة خمسين ومائة ببغداد. اهـ. وليست تلك مَنْقَبةٌ تَلِيقُ بشأنه، فإنه أرفع من ذلك، ولكن الشيء بالشيء يُذْكَر.