الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم اعلم أنَّ العمرةَ عندنا سنةٌ في المشهور
(1)
، وفي قول: واجبةٌ. ويردُ على الأول أنَّ النصَّ لم يفرق بين الحج والعمرة، وأمر بإِتمامهما. وأجيبَ أنَّ المأمورَ به الإِتمامُ بعد الشروع، ولا خلاف فيه، فإنَّها تجبُ عندنا بعد الشروع مطلقًا، وهو حكم سائر التطوعات.
33 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَاّ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَكَرِهَ عُثْمَانُ - رضى الله عنه - أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ.
= ثم وجدت مثله عند الخَطَّابي في "معالمه"، قال: قد رُوي عن عمر أنه قال: "أُفصُلوا بين الحج والعمرة، فإنه أتمُّ لحجكم وعمرتكم"، ويُشبه أن يكون ذلك على معنى الإِرشاد، وتحرِّي الأجر، ليكثرَ السعيُ والعمل، ويتكررَ القصدُ إلى البيت. كما رُوي عن عثمان أنه سُئل عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال:"إنَّ أتم الحج والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحج، فلو أفردتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين، كان أفضل".
قلت: ومن ههنا فليعتبر المُعتَبِر أن دَرْك مذاهب الصحابة ليس بهينِ، وذلك لكون أكثرِها تنقلُ مجملةُ، فيبقى الأمرُ فيها على الإِبهام، نعم، من اتصلَ به العملُ، وتناوله الناسُ، وتَدَاوَلوه، وفَحَصُوه، ونقَّحوه، يظهرُ حال مذهبِهِ لهذه المُمَارسة، ألا ترى أن ابن عباس نُسب إليه جوازُ متعة النكاح، حتى صار في الأشعار، والأمثال! فإذا فُتِّشَ عنه ظهرَ خلافُه، وإن كان بقي فيه بعضُ تفردٍ بعدُ، فإنَّه قال: إنه كالميتة للمضطر، ولا اضطرارَ فيه عند غيره، فإِنَّ له أن يصومَ والصومُ له وِجَاءٌ. وكنسبة عدمِ جوازِ التيمم للجُنُب إلى ابن مسعود، وعمر كشفه مناظرته مع أبي موسى، ولا يُبعدُ أن يكونَ من هذا الباب نِسبة التطبيق إليه. وكذا ما نُسب إليه في الموقف مع الإِمام، ولا غَرْو أن يكونَ ما نُسب إلى أبي ذرٍ في تعريف الكنز من هذا القبيل.
وبالجملة رأينا عمرَ، وعثمان قد تفردا في النهي عن التمتع، ثم إذا حققنا الحال، علمنا أنهما لم يتفردا في شيء، غير أنهما أشارا بالناس ما رأيا فيه نصحًا لهم، وفي ذلك عبرةٌ لأولي الأبصار، فينبغي لمن كان فيه خير أن لا يتبادرَ في الطعن على الصحابة بنسبتهم إلى التفرُّدِ، والشذوذ بمجرد ظنه، وخَرصِه، ولو لم يظهر له أمرٌ لوجَبَ عليه أن يتوقَّفَ فيه، حتى يظهرَ حالُه. إنما أريدَ به الردَّ على من جعلوا يعدِّدون تفردات ابن مسعود، لأنهم رأوه لم يوافقهم فيما اختاروه، هيهات هيهات، فعليهم إما أن يقلدوه، أو يتركوه على أُسوَتِهِ من النبي صلى الله عليه وسلم، ليتبعه مَن شاء الله أن يتبعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإنما أطنبتُ فيه الكلام، لتحفظه كالضابِطَةِ، ولتكون على ذكرٍ منه، عند نقل مذهب السلف. والله تعالى أعلم.
(1)
قال العلامة المارديني: إتمامُ الشيءِ إنما يكونُ بعد الدخول فيه. وعند خصومهِ إذا دخل فيهما، وجبا. وفي "الاستذكار" ورُوي عن ابن مسعود قال:"الحجُّ فريضةٌ، والعمرةُ تطوعٌ". وهو قول الشَّعْبي، وأبي حنيفة، وأصحابه، وأبي ثور، وداود. ومعنى الآية عندهم وجوب إتمامهما على مَنْ دخلَ فيهما، ولا يقال: أتم إلا لمن دخل في العمل.
ويدل على صحة هذا التأويل، الإِجماعُ على أنَّ مَنْ دخل في حجةٍ أو عمرةٍ مفترضًا أو متطوعًا، ثم أفسد، أنه يجبُ عليه إتمامهما، ثم القضاء. وهذا الإِجماعُ أولى بتأويل الآية، ممن ذهب إلى إيجاب العمرة. اهـ. "الجوهر النقي".
هذا الباب في الميقاتِ الزماني، كما أن الباب السابق كان في الميقات المكاني. وهي عند فقهائنا: شوال، وذو القَعدة، وعشرُ ليالٍ من ذي الحجة. فمن وقفَ ليلةَ النحرِ بعرفة، فقد أدرك الحجّ ومن فات عنه الوقوف من تلك الليلة أيضًا، فقد فات عنه الحج، ولذا قال تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ، ولم يقل: فمن حج فيهن، فإنَّ افتراضَ الحجِّ يتلعقُ بهنَّ فقط، وإن كان بعضُ المناسكِ، كالرمي وغيره، بعد تلك العشر أيضًا.
والمراد من العشرةِ عند الشافعية عشرةُ أيامٍ. وقد مر أنَّ المرادَ عندنا الليالي. وأما عند مالك، فذو الحِجة بتمامها، وهو ظاهر قوله تعالى:{أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فإنه أقلُّ الجمع، ولعله أخَذَها بتمامِهَا لكون الأضحية تصحُّ عندَه، إلى آخر الشهر. فلمّا بقيَ بعضُ أحكامِهِ إلى آخر الشهر، اعتبر كلَّ الشهر من أشهر الحج.
قيل في توجيه الجمع على مذهب الجمهور: إن معناه الحج في أشهرٍ معلوماتٍ، فلم يقتض الاستيعابَ فرقًا بين حذف «في» ، وذكرها، كما ذكروه في قوله: أنت طالقٌ غدًا، وفي غدٍ. ثم إن قول ابن عمر: عشر من ذي الحِجة، بدون التاء، يوافقنا. ولو كان المراد به الأيام لأتى بالتاء، قال تعالى:{سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7] ثم إن الرَّفَثَ والفسوقَ، وإن كان ممنوعًا في سائر الأيام، غير أنه في تلك الأيام أشد، كذا في «المدارك» .
قوله: (وقال ابن عباس) من السنة أن لا يُحرِم بالحج إلا في أشهر الحج، وهي مسألة كراهيةِ تقديمِ الإِحرام على الميقات الزماني.
قوله: (وكره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان)
…
إلخ، وقِصَّتُه أنَّ عامِلَه كان نذر لئنْ فتحَ اللهُ عليه كَرْمان ليحجنَّ إلى بيت الله محرِمًا، ففتح اللهُ تعالى له فأوفى بنذره، وأحرم من كرمان، فَعَاب ذلك عثمان، وقال:«إنك جاهدت في سبيل الله وغزوت، ثم صَغَّرْت أمر الحج» ، ومراده أنك أحرمتَ من بُعدٍ بعيد، وما خشيت الجنايات في الحج. وحينئذٍ تبين لي أن نهيَه إنما كان من أجل مخافة الجنايات، وراجع «الأسماء والكنى» للدُّوْلابي
(1)
. وحرر ابن أمير حاج أنَّ التمتعَ قد يفضُلُ القِرَان بالعوارضِ، كما في هذه القِصة، فإنَّ المتمتعَ يُحِلُّ بعد العمرة، فيأمنَ عن الجِنَايات، بخلاف القارن، فإنَّه التمادي إحرامه لا يأمنُ عنها. والاحترازُ من الجناياتِ أحبُّ من لتمادي في الإِحرام.
(1)
قلت: أما قصته فقد أخرَجها الحافظ من "تاريخ مرو"، قال: لما فتحَ عبدُ الله بن عامر خُراسان، قال: لأجعلن شكري لله أنْ أخرجَ من موضعي هذا محرمًا، فأحرم من نيسابور، فلما قَدِمَ على عثمان لامه على ما صَنعَ.
وأخرجها عن عبد الرزاق، قال: أحرم عبد الله بن عامر من خُرَاسان، فقدِمَ على عثمان فلامَهُ، وقال:"غزوتَ وهانَ عليك نُسُكك". وقد كشفَ الشيخ ما المرادُ من هَوانِ الحج. وأما مناسبةُ هذا الأثر، فقال الحافظ: إنَّ بين خُرَاسان ومكة أكثرُ من مسافة أشهُرِ الحج، فيستلزمُ أن يكونَ أحرمَ في غير أشهر الحج، فكرِه ذلك عثمان، وإلا فظاهره يتعلَّقُ بكراهة الإِحرام قبل الميقات، فيكونُ من متعلّق الميقات المكاني لا الزماني.
هذا ما عند الحافظ، أما عند الشيخ فقد علمت أنه لا يتعلق بمسألة الميقات مطلقًا، وإن كان فباعتبارِ لزومِ الجِنَايَات.
1560 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِىُّ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيَالِى الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ قَالَتْ فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ «مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْىٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْىُ فَلَا» . قَالَتْ فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَتْ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ، وَكَانَ مَعَهُمُ الْهَدْىُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِى فَقَالَ «مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهْ» . قُلْتُ سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ. قَالَ «وَمَا شَأْنُكِ» . قُلْتُ لَا أُصَلِّى. قَالَ «فَلَا يَضِيرُكِ، إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِى فِى حَجَّتِكِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا» . قَالَتْ فَخَرَجْنَا فِى حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَطَهَرْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ قَالَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِى النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ، وَنَزَلْنَا مَعَهُ فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ «اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا، ثُمَّ ائْتِيَا هَا هُنَا، فَإِنِّى أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِى» . - قَالَتْ - فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ، وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ فَقَالَ «هَلْ فَرَغْتُمْ» . فَقُلْتُ نَعَمْ. فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِى أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ. ضَيْرُ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا، وَيُقَالُ ضَارَ يَضُورُ ضَوْرًا وَضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا. أطرافه 294، 305، 316، 317، 319، 328، 1516، 1518، 1556، 1561، 1562، 1638، 1650، 1709، 170، 1733، 1757، 1762، 1771، 1772، 1783، 1786، 1787، 1788، 2952، 2984، 4395، 4401، 4408، 5329، 5548، 5559، 6157، 7229 - تحفة 17434 - 174/ 2
1560 -
قوله: (فنزلنا بسرف، قالت: فخرج إلى أصحابه، فقال: «من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل»)
…
إلخ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خيَّرهم في أول أمرِهم، ثم أمرَهم ثانيًا قبل شروعهم في الأفعال حين بلغَ مكةَ شرَّفها الله تعالى، فلم يعمل به أحدٌ منهم، فلما رآهم امتنعوا عنه غَضِبَ عليهم، وعزمَ عليهم حين صعد المروةَ. وإنما غضبَ عليهم لأنهم أَبَوا أنْ يأتوا بما كان أمرَهم به، وتنزَّهُوا عن رخصتِهِ. وفي مثله وردَ الغضبُ.
كما وقع في بعض من أرادوا أن يمتنِعُوا عن النكاح، ويخرجوا إلى الصُّعُدات، فقال لهم:«أنا أخشاكم لله وأتقاكم» ، وكما غضب على من صام في السفر، فقال:«ليس من البر الصيام في السفر» ، وكما غَضبَ على أمهاتِ المؤمنين في الاعتكاف، حين رأى خيمتين في المسجد، فقال:«آلبِرَّ تُرِدْنَ؟» . فقد يحل الغضب على ترك الرخصةِ أيضًا، فإنْ قلتُ: كيف يلتئم قوله في هذه الرواية: «فالآخذ بها والتارك لها» ، مع ما ورد في بعض الروايات:«لم يعمل به أحد» ؟ قلتَ: كانت تلك معاملة ألوفٍ من الصحابة، وفي مثلها تأتي الاعتبارات كلها.
قوله: (فلم يقدروا على العمرة) أراد بها العمرةَ المنفصلةَ عن الحج، بحيث يتخلل الحِلُّ بينهما، وإلا فلا ريبَ أنَّ القارنين كلهم قد أتوا بأفعال العمرة.
وتوضيحه: أنَّ الرواة إنما يعتدون بالعمرة التي يعقُبُها الحل، وما لا حلَّ بعدها لا يعبرونَ عنها بالعمرة، لكونها غير معتدَّةٍ عندهم، وذلك لأن العمرة إذا صادَفها الحلُّ تميزت عن الحج
حِسًا، بخلاف ما إذا لم يصادفها حِلٌّ، فإنَّها لا تتميزُ عنه كذلك، وإن كانت معتبرةً عند الفقهاء، فإنها إذا تميزت عن الحج بحلَ، لم يسع لهم إخمالها، وإذا لم تتميز جاز لهم أن يغمِضُوا عنها في العبارة، وهو الملحَظُ في قولهم:«إنهم طافوا طوافًا واحدًا» ، لأن طوافَهم للعمرة إذا لم يتميز عن طوافِهم للحج بحلَ في البيْنِ، لفُّهوهما في عبارة واحد، وعبَّرُوا عنهما بطوافٍ واحدةٍ. وقد مر غير مرة أن الرواةَ يعتبرون بالحِسِّ، ولا بحثَ لهم عن الأنظار المعنوية، على عكس أنظارِ الفقهاء، فإنَّ موضوعَهم كشفُ الملاحظ.
قوله: (فمنعت العمرة)، قد علمتَ الخلافَ بيننا وبين الشافعي في إحرام عائشة، فإنَّها كانت معتمرةً عندنا، وقارنةً عندهم، وأنها كانت رفضتْ عمرتُها عندنا، ولم ترفض عندهم. ويؤيدنا اللفظ المذكور، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم لها:«كوني في حجتك»
…
إلخ، وقوله صلى الله عليه وسلم «عسى الله أن يرزقكيها» ، وقوله:«هذه مكان عمرتك» ، وقوله:«وهي عمرتك وانقضي رأسك، وامتشطي» ، وكذلك قول عائشة:«لم أطف بين الصفا والمروة» ، تشكو حُزنها وبثَّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك قولها:«يرجع الناسُ بحجةٍ وعمرةٍ، وأرجع بعمرة فقط» ففي كلها آياتٍ بيناتٌ، على أنها لم تأت بأفعال العمرةِ، ولكنها أفردتْ بالحج، ثم أتت بالعمرة قضاءً مما كانت رفضتها، وأنَّ طوافها للحج لم يُحسَبْ عن طوافها للعمرة. فإن قلنا: إنها كانت قارنةً، وأن طوافها للحجِّ حُسِبَ عن طوافِها للعمرة، كما يقول الشافعي بتداخل العمرة في الحج، لما كان لهذه الأقوال معنىً صحيح
(1)
.
فالعجبُ أنَّها تبكي، وتشكو بثَّها، وتُظهِرُ جَزَعها لعدم عمرتِها، وتضطربُ لفواتها، ثم لا يقول لها النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا الاضطراب، وما هذه الشكوى، فإنَّ عمرتَك قد أديت في الحج، مع أنها ألحت عليه ثلاث مرار في سَرِفٍ، وفي مكة قبل الطواف، وفيها بعد الحجِّ عند العزمِ بالرجوع، ومع ذلك لم يُعْلمها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ القارنَ لا يحتاج إلى الاعتمار مستقلا.
ثم العجب من مثلِ عائشة رضي الله عنها، أنها اضطربت لأمرٍ لم يفعلْه النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا، وإنما كان هذا محلُّ افتخارٍ وابتهاج، أنها وافقت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الأفعال، فإنْ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين، ولم يسع سعيين، فعلى أي أمرٍ كانت تتحسَّر؟ أعلى أمرٍ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل على أنَّها كانت ترى الناس فائزين بالطوافين، كما نطقت به أيضًا، حيث قالت:«يرجع الناس بحجةٍ وعمرة»
…
إلخ، ونفسها خائبةً عن إدراك طواف العمرة، فتحسرت لذلك.
(1)
قال العلامة المارديني: وقول عائشة: "ترجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج"، صريح في رفضِ العمرة، إذ لو أدخلت الحجَّ على العمرة لكانت هي وغيرها في ذلك سوَاء، ولما احتاجت إلى عُمرة أخرى بعد العمرة والحج اللذين فعلتهما. وقوله صلى الله عليه وسلم عن عمرتها الأخيرة:"هذه مكان عمرتك، صريح في أنها خرجت من عُمرتها الأولى، ورفضتْها، إذ لا تكون الثانية مكان الأولى إلا والأولى مفقودة. وفي بعض الروايات: "هذه قضاء عن عمرتك". وسيأتي في باب العمرة قبل الحج ما يقوي ذلك. وقال القُدُوري في "التجريد": ما ملخصه: قال الشافعي: لا يعرفُ في الشرع رفضُ العمرة بالحيض. قلنا: ما رفضتها بالحيض، ولكن تعذرت أفعالها، وكانت ترفضها بالوقوف، فأمرها بتعجيل الرفضِ. اهـ. "الجوهر النقي".