الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
42 - باب كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ
2107 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ فِى بَيْعِهِمَا، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا» . قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ. أطرافه 2109، 2111، 2112، 2113، 2116 - تحفة 8522
2108 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِى الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا» . وَزَادَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا بَهْزٌ قَالَ قَالَ هَمَّامٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لأَبِى التَّيَّاحِ فَقَالَ كُنْتُ مَعَ أَبِى الْخَلِيلِ لَمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أطرافه 2079، 2082، 2110، 2114 - تحفة 3427 - 84/ 3
وقد كان يَحْظُرُ بالبال أن في تراجمه سوءَ ترتيبٍ، فإنه قد تعرَّض إلى كيفيات الخِيَار قبل تقرُّر حقيقته. والذي يَتَبَادَرُ إلى الذهن أن يُتَرْجِمَ أولا على نفس الخيار ثم إلى سائر كيفياته. وتبيَّن آخِرًا أن المصنِّفَ جعل الخِيَارَ في البيع أصلا، وعدمه تَبَعًا على خلاف نظر الحنفية. فإذا كان الخِيَار عنده أصلا، لم يَرَ حاجة إلى تقديمه، لكونه مفروغًا منه عنده، ودخل في فروعه.
2107 -
قوله: (إن المُتَبَايِعَيْنِ بالخِيَار في بَيْعِهِمَا ما لم يتفرَّقا، أو يكون البيعُ خِيَارًا)، وفي لفظَ:(أو يقول أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ، وربما قال: أو يكونُ بيعَ خِيَارٍ)، اعلم أن الخِيَارَ عندنا: إمَّا خيار الشرط، أو الرؤية، أو العَيْب، أو خيار القَبُول. ولا عِدَةَ بخِيَار المَجْلِس، وهو مذهب مالك، واعتبر به الشَّافِعيَّة، وأحمد، وقالوا: إن للعَاقِدَيْن خِيَارًا بعد الإِيجاب والقَبُول أيضًا يُسَمَّى بخِيَار المَجْلِس. وذا يَقْتَصِرُ على المَجْلِس فقط، فكلٌّ منهما في مُكْنَةٍ بين فَسْخ البيع وإمضائه، ما داما في المَجْلِس، فإذا تفرَّقا عنه لم يَبْقَ لهما هذا الخِيَار، وتحتَّم البيع. وقال الحنفيةُ: إن البيعَ يَتِمُّ بالإِيجاب والقَبُول، فإذا فَرَغَا منه لم يَبْقَ لهما خيارٌ لزوميٌّ في الرَّدِّ والقَبُول، إلا أن يكونا شَرَطَا الخيار.
ثم قال الشافعيةُ: إن خِيَار المَجْلِسِ ينتهي بقول أحدهما للآخر: اخْتَرْ، فإذا قال أحدهما للآخر: اخْتَرْ، وقال له الآخر: اخْتَرْتُ، تمَّ العقدُ، وانتهى الخِيَار الذي كان لهما في المَجْلِسِ، عند القائل به، ولم يَبْقَ لهما بعد ذلك خِيَارٌ تفرَّقا عن المجلس، أو لا، إلا أن يكونا شَرَطَا خِيَارَ الشرط. فحينئذٍ يبقى الخِيَارُ بعد المَجْلِس أيضًا.
فالحاصل أن القول: «اخْتَرْ اخْتَرْ» لقصر الخيار الممتدّ إلى المَجْلِسِ، وشَرْطِ الخِيَار لامتداده إلى ما وراء المَجْلِسِ أيضًا. وبهذا تبيَّن شرح الحديث: فإن حملنا قوله: «أو يكون البيع خِيَارًا» على خِيَارِ الشرط يكون لامتداده إلى ما وراء المَجْلِسِ. وإن أردنا منه القول: «اختر» ، فهو لقصره في المَجْلِسِ.
قلتُ: والظاهر من قوله: «أو يكون البيع خِيَارًا» : هو خِيَار الشرط، كما في اللفظ الآخر:
«أو يكون بيعَ خِيَارٍ» بالإِضافة، فإنه يَدُلُّ على التنويع، وحملُه على القول:«اخْتَرْ اخْتَرْ» ، ركيكٌ. ولمَّا ورد هذا القول أيضًا في بعض الروايات، وَجَبَ علينا أن نتكلَّم عليه.
فاعلم أنهم افْتَرَقُوا في شرح الحديث على فِرْقَتَيْنِ: فقال الشافعيةُ: إن المراد من التفرُّق هو التفرُّق بالأبدان، فهما على خِيَارهما قبل التفرُّق بالأبدان، وإن كانا فَرَغَا عن منطق الإِيجاب والقَبُول. ثم إن هذا الخِيَار إمَّا ينتهي ب-:«اخْتَرْ اخْتَرْ» ، أو يمتدُّ إلى ما وراء المَجْلِسِ حسبما اقتضى كلامهما.
وقال محمد منَّا: هذا على الافتراق بالأقوال، فإذا قال البائعُ: قد بِعْتُ منك، وقال المشتري: قد قَبِلْتُ، فقد تفرَّقا، وانقطع خِيَارُهُما. لأن الذي كان لهما من الخِيَارِ: هو ما كان للبائع أن يُبْطِلَ قوله للمشتري: وقد بِعْتُكَ هذا العبد بألف درهمٍ، قبل قَبُول المشتري، فإذا قَبِلَ المشتري، فقد تفرَّق هو والبائع، وانقطع الخيارُ. فهذا كما ذكر الله عز وجل في الطلاق {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، فكأنّ الزوجَ إذا قال للمرأة: قد طَلَّقْتُكِ على كذا وكذا، فقالت المرأة: قد قَبِلْتُ، فقد بانت، وتفرَّقا بذلك القول، وإن لم يتفرَّقا بأبدانهما. فكذلك إذا قال الرجل للرجل: قد بعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال المشتري قد قبلتُ، فقد تفرّقا بذلك القول، وإن لم يتفرّقا بأبدانهما، كذا ذكره الطَّحَاوِيُّ. ونظيره قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] أي التفرُّق عن الكلمة، وفي الكُتُب: افترقوا عن كلمةٍ واحدةٍ.
قلتُ: والأَوْلَى عندي أن يُقَال: إن المراد من التفرُّق هو التفرُّق بالأبدان، كما هو عندهم، لكنه كِنَايةٌ عن التفرُّق بالأول، والفراغ عن العقد، لأنهما بعد فراغهما عن العقد في مُكْنَةٍ من التفرُّق بالأبدان، فالتفرُّق بالأبدان مُكَنَّى به، والتفرُّق بالأقوال مُكَنَّى عنه. وقد مرَّ منا عن قريبٍ: أن اللفظ في الكناية لا يَخْرُجُ عن المعنى الموضوع له، وإن كان الغرضُ في لوازمه، وروادفه. وإن شِئْتَ قُلْتَ: إن التفرُّقَ بالأبدان عنوانٌ للتفرُّق بالأقوال، وصادق عليه صدق العنوان على المُعَنْوَن.
وبالجملة إذا كان التفرُّقُ كنايةً عن الفراغ، لم يَبْقَ فيه بُعْدُ لغةٍ أيضًا، ومن ههنا تبيَّن سرُّ تعبير الفراغ عن التفرُّق في القرآن أيضًا. ثم إن ما ذكره الطَّحَاويُّ في تقرير كلام محمد هو الصواب عندي، وإليه تُرْشِدُ عبارته في «موطئه» . فما فَهِمَهُ ملا الهداد في «حاشية الهداية» صوابٌ، وأمَّا ما ذَكَرَهُ ابن الهُمَام في «شرحه» ، فبعيدٌ عندي. فإنه حمل التفرُّق بالأقوال على تفريقهما في الصَّفْقَة، فيقول هذا شيئًا، وهذا شيئًا، نحو إن قال البائع: بِعْتُه بمئة، وادَّعَى المشتري أنه باعه بخمسين مثلا، فهذا هو التفرُّق المَعْنِي في الحديث عنده.
وإنما حمل الشيخ ابن الهُمَام على المعنى المذكور، لِمَا اشتهر عن محمد: أن التفرُّقَ عنده على التفرُّق بالأقوال، فَحَمَلَهُ على الاختلاف في الأقوال، وليس بصوابٍ، فإن محمدًا لم يُرِدْ من التفرُّق بالأقوال ما فَهِمَهُ، فالصواب ما فَهِمَهُ ملا الهداد.
وبالجملة ليس مدلول العبارة عند محمد أيضًا إلا التفرُّق بالأبدان، إلا أن مناط الحكم عنده هو فراغهم عن الإِيجاب والقَبُول، وهذا هو الذي عَنَاه من التفرُّق بالأقوال، لا كما فَهِمَه ابن الهُمَام: أنه عبارةٌ عن عدم ارتباط الإِيجاب والقَبُول.
وقال عيسى بن أَبَان: الفُرْقَةُ التي تَقْطَعُ الخِيَارَ المذكور في هذه الآثار هي الفُرْقَةُ بالأبدان، وذلك لأن الرجلَ إذا قال للرجلِ: قد بِعْتُكَ عبدي هذا بألف درهم، فللمُخَاطَبِ بذلك القول أن يَقْبَلَ ما لم يُفَارِقْ صاحبه، فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يَقْبَلَ. قال: ولولا أن هذا الحديث جاء، ما عَلِمْنَا ما يَقْطَعُ ما للمُخَاطَب من قَبُول المخاطبة التي خاطبه بها صاحبه، وأَوْجَبَ له بها البيع. فلمَّا جاء هذا الحديث، عَلِمْنَا أن افتراقَ أبدانهما بعد المخاطبة بالبيع يَقْطَعُ قَبُول تلك المخاطبة. وقد رُوِيَ هذا التفسير عن أبي يوسف، كذا في الطحاويِّ.
فالفُرْقَةُ على هذا التقدير هي الفُرْقَةُ بالأبدان، كما قال الشافعيةُ، إلا أنهم أرادوا من الخِيَار خِيَارَ المَجْلِسِ، وأراد منه أبو يوسف خِيَارَ القَبُول. وقد عَلِمْنَا من كلامه كلِّيَّةً، وهي: أن المَجْلِسَ جامعٌ للمتفرِّقات، فهما على خِيَارٍ بين القَبُول والرَّدِّ، وزيادة الثمن ونُقْصَانِهِ ما دام المَجْلِسُ باقيًا، فإذا تفرَّقا عن المَجْلِسِ انقطع الخيارُ، وتمَّ البيعُ. ولا يَرْتَبِطُ بعد المَجْلِسِ قَبُولُه من إيجابه، بل يحتاج إلى إيجابٍ مُسْتَأْنفٍ، بخلافه في المَجْلِسِ، فإن القَبُولَ يَرْتَبِطُ مع الإِيجاب، وما ذاك إلا لكون المَجْلِسَ جامعًا للمتفرِّقات. وحينئذٍ شرح قوله: أو «يَخْتَارَا» أي يَخْتَارَا البيعَ بالإِيجاب والقَبُول، فحينئذٍ يتمُّ العقدُ؛ ولا يبقى له خيارُ القَبُول في المَجْلِسِ أيضًا. ومعنى قوله:«إلا أن يكون بيعَ خِيَارٍ» ، أي فحينئذٍ يمتدُّ خِيَارُه إلى ما وراء المَجْلِسِ، ولا ينتهي بالإِيجاب والقَبُول. ولولا هذا الشرط لانتهى بعد القَبُول، وتمَّ العقدُ بتًا.
فتحصَّل من المجموع ثلاثة شروح: شرحٌ للحجازيين وشرحٌ لمحمد، وشرحٌ لأبي يوسف، وتبيَّن في ضِمْنِه الجواب عن الحديث أيضًا. ومحصَّل الخلاف بيننا وبين الشافعيِّ: أن الخِيَارَ عنده بعد اختتام الإِيجاب والقَبُول، يبقى إلى المَجْلِسِ، وهو عندنا في نفس الإِيجاب والقَبُول، لا بعدهما. وقال فاضلٌ من الحنفية في شرح الحديث بجميع ما قاله الشافعيةُ، إلا أنه حَمَل خِيَارَ المَجْلِسِ على الاستحباب، لا على الوجوب. فإذا كان المَجْلِسُ باقيًا، وأراد المشتري أن يَرُدَّ على البائع بَيْعَهُ، يُسْتَحَبُّ له أن يَرُدَّه، فإن الإِقالةَ مُسْتَحَبَّةٌ في الأحوال كلِّها، فلا مخالفة فيه للمذهب. وحينئذٍ لا خلافَ بيننا وبين الشافعية، إلا أنهم أخذوا هذا الخِيَار على الوجوب، وحَمَلْنَاهُ على الاستحباب
(1)
.
(1)
قلتُ: وقد تكلَّم الطَّحَاويُّ على الحديث المذكور في "معاني الآثار"، وأضبط منه في "مشكل الآثار". وأنا آتيكَ ببعضٍ منه، كما في "المعتصر"، عن جابر بن عبد الله أنه قال:"اشترى النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أعرابي -قال: حَسِبْتُ أن أبا الزُّبَيْر قال: من عاصم بن صَعْصَعَة- حملَ قَرَظٍ، أو حمل خبط، فلمَّا وَجَبَ له، قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم: اختر. قال الأعرابيُّ: إن رأيتُ مثل اليوم قط بيعًا خُيِّرَ بائِعُه، ممن أنت؟ قال: من قريش. في قوله: "اختر" دليلٌ على وجوب البيع قبل التخيير. وقد يحتجُّ به من قال بالخِيَارِ حتى يتفرَّقا بدنًا، وقد ذكرنا وَجْهَهُ، واستدللنا عليه بحديث اللَّيث. =
والحافظ نقله في «الفتح» ، ولم يَرْضَ به، كما أنه لم يَرُدَّه أيضًا، وهو المختارُ عند شيخنا - شيخ الهند - محمود حسن رحمه الله
(1)
، ويُؤَيِّدُهُ ما عند أبي داود:«حتى يتخايرا ثلاثًا» ، فإن
= وإنما خيَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي، ليكون له ثواب "من أقال نادمًا بيعته". ورُوِيَ أن ذلك كان قبل مبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقبل النبوة. ورُوِيَ عن طاوس، عن أبيه، قال:"ابتاع النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة من أعرابيٍّ بعيرًا أو غيره، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد البيع: اختر، فنظر الأعرابيُّ إليه فقال: لعَمرِ الله ممن أنت؟ فلمَّا كان الإِسلام جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد البيع الخيارَ"، وهذا على الاختيار لا على الوجوب، والله تعالى أعلم. انتهى. قلتُ: وهذا عَيْنُ ما أجاب به شيخُ الهند، وراجع بَسطَهُ من "المعتصر".
(1)
قلتُ: وعندي تقريرٌ من بعض فضلاء تلامذة حضرة شيخ الهند، فأريد أن أعرِّبه لك من هذا الموضع، لتزدادَ بصيرةً في فَهْم كلامه رحمه الله تعالى. وحاصلهُ: أن المرادَ من الخِيَار عند الحنفية خيار القَبُول، ولكن لا يُلَائِمُهُ قوله:"أو يخَتارا"، وكذا لا يُلَائِمُهُ فعل ابن عمر، فإنه يُوجِبُ ترك الاستحباب على الأقل، وهو أيضًا بعيدٌ من شأنه الرفيع. أمَّا ما أورد عليه الترمذيُّ بأنه لا يكون، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"ولا يَحِلُّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله". اهـ. على هذا التقدير معنى، فليس بواردٍ، لأنا نقول: إن له معنىً صحيحًا، وهو: أن البائعَ قد يَسْبِقُ على لسانه من ثمن المبيع ما هو أقل منه، فيقول: خمسة دراهم، مكان العشرة، فأرشد الشرعُ المشتري أن لا يُعَجِّل في الفُرْقَة بالأقوال، ولا يتسارع بالقَبُول حتى يُمهِلَهُ. فإن كان الثمن هو الثمن، فله أن يَقبَلَهُ، وإن كان سبق عن لسانه، والثمن فوقه، فإن شاء أخذه بذلك الثمن، وإن شاء رَدَّهُ، ومثله كثيرًا ما يقع في البِيَاعَات.
وحينئذٍ تكون الاستقالة على المعنى اللَّغوي: الفسخُ مطلقًا، فإن الإِقالةَ اصطلاحًا لا تكون إلَّا بعد تمام العقد، وهذا تقريره على المشهور. وأمَّا المختار عنده: أن الحديثَ محمله محمل الشافعية. ونقول: إن الخيارَ ثابتٌ عندنا أيضًا، لكنه مشروطٌ برضاء صاحبه. فإن في الخِيَارِ مراتب: منها ما تَثْبُتُ ولا تتوقَّف على رضاء أحدٍ، وتلك أعلى مراتبه.
ومنها ما تَثبُتُ وتتوقَّف على رضاء الآخر، كما في الإقالة، وتلك دونها، فهذه المرتبة هي المراد ههنا. وحينئذٍ معنى الحديث: أن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرَّقا، أي بخيارٍ يتوقَّف على رضاء الآخر، وَيصِيرُ ذلك إقالة يُحْرِزُ بها صاحبُها أجرَها، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"من أقال مسلمًا في بَيعَتِهِ، أقال الله عثراته يوم القيامة" -بالمعنى-.
فإن قلتَ: إذا حملتَ الحديثَ على الإِقالة، فما معنى التقييد بالمَجْلِسِ. فإنها مُستَحَبَّةٌ في الأحوال كلِّها، مع أن الحديثَ ورد في الخِيَار الذي يكون في المَجلِسِ. قلتُ: هَبْ، ولكن هذا الخِيَار أوْكَدُ في المَجْلِسِ، وإن اسْتُحِبَّ له أن يُقِيلَ بعد المَجْلِسِ أيضًا. وذلك لأن المجلسَ إذا لم يتبدَّل، والمبيع لم يَزَلْ بعينه لم يتصرف فيه المشتري بشيء، ثم أراد أن يرده لما رأى فيه مصلحة، فحينئذٍ أولى له أن يقيله، ويرد منه بيعه، فإن إباءَه حينئذٍ أبعدُ عن المروءة، كيف! وأنه لم يَدْخُل في سلعته نَقصًا، فأيُّ حرجٍ في الإِقالة؟ بخلاف ما إذا تبدَّل المَجْلِسُ، فإنه لا يأمن من أن يكون تصرَّف فيه بشيءٍ، لأنه غابت سلعته عن مرآه حينئذٍ، وإن اسْتُحِبَّتْ له الإِقالة أيضًا، لكنها لا تتأكَّدُ تأكُّدَه فيما إذا لم يتفرَّقا عن المَجْلِسِ. هدا هو الوجه فيما علمنا، لا أن البيعَ لا يَنعَقِدُ قبل التفرُّق بالأبدان، كما فَهِمُوه. وحينئذٍ لا تَرِدُ عليه قصة أبي بَرزَة الأَسلَمِيِّ، لأنه إنما أمره برد البيع، لكونه أقرب إلى المروءة، ومقتضى الإسلام، حيث لم يتفرَّقا عن مجلس العقد، فماله لا يَقِيلُ من أخيه، فذلك الذي أراده أبو بَرزة -والله تعالى أعلم- لا أن البيعَ لم يَتِمَّ عنده. ولو لم نَحمِلْهَا على هذا المعنى، لم يَستَقِمْ على مذهب الشافعية أيضًا، فإنهما وإن بَقِيَا في السفينة من ليلتهما، لكن لا بدَّ أن يكونا قاما لحوائجهما، وبذلك تتبدَّلُ المجلسُ عند الشافعية أيضًا، فَيلْزَمُ أن لا يكون الخيار لهما عنده أيضًا، ولكنه أراد -والله تعالى أعلم- أنكما لمَّا كنتما في سفينةٍ واحدةٍ، فلم تفرقتما تفرُّقًا يُوجبُ الإِباء عن ردِّ البيع، فيُستَحَبُّ له أن يرضى بالإِقالة، ولا يُرْهِقُ أخاه من أمره عُسْرًا. وحينئذٍ معنى قوله:"لا يَحِلُّ له أن يُفَارِقَه"، أي لا يَحِل له على وجه =
الكلَّ حملوه على الاستحباب دون الوجوب.
أمَّا قولُهم: إن ابن عمر راوي الحديث، ومذهبُه ما ذَهَبَ إليه الشافعيةُ: أن المرادَ من الفُرْقَةِ الفرقةُ بالأبدان. فقيل في جوابه
(1)
: إنه من رَوَى لك هذا، ولا حُجَّةَ لك في افتراقه بعد
= الكمال، فإن الحِلَّ أيضًا على مراتب. فقد وَرَد في الحديث:"أن الصدقة لا تَحِلُّ لذي مِرَّة سَوِيِّ"، وفي آخر:"أنها لا تَحِلُّ لغني"، وفي آخر: "أنها لا تَحِلُّ لمن عنده قوت يومه وليلته.
وحاصل الجميع. أن الصدقةَ إنما تَلِيقُ بمن لا يكون مُكتَسِبًا، مُعتَمِلًا، ولا يكون عنده شيءٌ يأكله ذو كبدٍ. وأمَّا من كان ذو مرَّة سوي، فأولَى له أن يَكتَسِبَ من أعمال يديه، وهذا الذي يَليقُ بشأنه، وهو مراد قوله: لا تَحِلُّ له". نعم من كان غنيًا ذا نصَاب، فهذا هو الذي لا تَحِلُّ له الصدقةُ أصلًا، ففي الحِلِّ مراتب، فصدق قوله: لا يَحِلُّ له أن يُفَارِقَ صاحبَه بحَسَبِ مرتبة من الحِلُ، أي لا يَحِلُّ له الحِلُّ كلُّه، وإن حلَّ بنوعٍ من الحِلِّ، ولكن حَلَّ الذي لا يكون حِلًّا من جميع الوجوه، لا ينبغي أن يُسمَّى حِلًّا، فنزل الحِلُّ الناقص منزلة المعدوم، وجاء النفيُ رأسًا.
وبالجملة إن المفارقةَ بالأبدان مخافةَ الإِقالة أبعدُ من المروءة، وإعراضٌ عن قوله صلى الله عليه وسلم:"من أقال مسلمًا"
…
إلخ.
فالخِيَارُ الذي يبقى في المَجلِسِ بعد تمام العقد، هو الذي لا يَستَبِدُّ به أحدهما. والسِّرُّ في ذلك أن الشرعَ إنما أراد أن يَتِمَّ العقدُ عن تراضٍ، كما أخرجه الترمذيُّ مرفوعًا، قال:"لا يَتَفَرَقَنَّ عن بيع إلَّا عن تراضٍ". اهـ. فهذا هو غرض الشارع، ولذا حثَّهما على أن لا يتفرَّقا عن المَجْلِسِ خشيةَ الإِقالة، ولكن عليهما أن يَنظُرَا في أمرهما، حتى إذا أطمأَنَّا في عقدهما، وتَرَاضَيَا من كل وجهٍ، فحينئذٍ إن بدا أن يتفرَّقا عن المَجلِسِ، فلهما ذلك. فالمقصودُ هو الفُرْقَة على التراضي لا غير.
ألا تَرَى أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم خيَّر أعرابيًا بعد البيع، كما عند الترمذي، مع أنه لم يكن له خيار، وذلك لأنه أراد أن يكون صاحبه في اطمئنان نفسٍ، وبرد قلبٍ، فإن رأى أن يَبِيعَ باع، وإن بدا له أن يَفْسَخَ فَسَخَ. ولا يَضطَرِبُ في أنه قد سبق منه القول، فلا يتمكَّن من الرجوع. ولو أمعنتَ النظر في قوله:"أو يختارا"، لوجدتَ المعنى، فإنه يَدُلُّ على أن نقض هذا الخيار وإبرامه بأيدي المُتَعَاقِدَين، ولذا لو قال أحدُهما للآخر: اختَرْ اختَرْ، بَطَلَ خيارُ المَجلِسِ، ولا يبقى بعده. فدَلَّ على أنه ليس من جهة نفس البيع، ولكنه نظرٌ في حال العاقدين، وتحصيلٌ لتمام التراضي. فإنه، وإن حَصَلَ بالعقد والإِيجاب والقَبُول أيضًا، لكن الذي يَحْصُلُ بعد التدبُّر، أتمُّ منه ما يَحْصُل في حال العقد، فرغَّب الشارع في أن لا يتفرَّق اثنان إلَّا بعد تمام التراضي.
فثَبَتَ ممّا ذكرنا: أن خِيَارَ المَجلِسِ لا دَخل له في تمام العقد. فإذا أَوْجَبَ أحدُهما، وقَبِلَهُ الآخرُ، فقد تمَّ العقدُ، ولم يَبقَ خيارٌ أصلًا، ولكنه يَثْبُتُ له الخيارُ في المَجلِسِ تحصيلًا لكمال التراضي، تبرُّعًا ومروءةً.
هذا ما فهمته من تقريره، ولعَمْرِي هو تقريرٌ أَنيقٌ في غاية المتانة، فاغتنمه غنيمةٌ باردةٌ.
(1)
وفي "المعتصر": فيَحْتَمِلُ أن يكونَ التفرُّقُ الذي حَكَى نافع عنه استعماله إياه، إنما كان يَستَعْمِلُهُ احتياطًا من قول غيره، لاحتمال الحديث له، مخافةَ أن يَلْحَقَهُ فيه من غيره خلاف ما يريده في بيعه. وأمَّا الجوابُ عن قصة أبي بَرْزَة الأسلَمِيِّ، فأجاب عنه الطَّحَاوِيُّ، كما فيه: أنه لا يَصِحُّ الاحتجاح في إثبات الخيار بعد العقد بهذا. ولا يقول أبو بَرْزَة: "وما أراكما تَفَرَّقْتُمَا"، لأنهما قد أقاما بعد البيع مدةً يتحقَّقُ تفرُّقهما بَدَنًا، ولو إلى حاجة الإِنسان، أو إلى صلاة، مما لو وقع مثله في صَرْفٍ تَصَارَفَاهُ قبل القبض لفسد الصَّرْف. فكذلك لو كان الخيارُ واجبًا بعد عقد البيع لقطعته هذه الأشياء. فدَلَّ أن التفرُّق عند أبي بَرْزَة لم يكن التفرُّق بالأبدان.
ثم أخرج الطحاويُّ في لفظ أبي بَرْزَة: "البيِّعَان بالخيار ما لم يتفرَّقا، وكانا في خِبَاءٍ" ورُوِيَ عن سَمُرَة بن جُنْدَب مرفوعًا:
"البيِّعَان بالخيار ما لم يتفرَّقا، ويأخذ كلُّ واحدٍ منهما ما رَضِي من البيع"
…
إلخ. واحفظ لفظ: "ما رضي من البيع"، فإنه يُشعِرُ بأن العمود في هذا الباب هو رضاء العاقِدَيْن. ليبارك لهما في بيعهما. ولذا خيَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعرابيًا، كما مرَّ. وجملة المقال بعد هذا الإطناب والإِسهاب: أن الخيارَ عندهم لازم على شاكلة المسألة، وعندنا لتحصيل الرضاء وتحتُّمه، وذاك أمرٌ قد يحتاج إليه بعد العقد، كما في الإقالة، فخيَّره الشرعَ، وحرَّضه عليه لذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.
العقد، لأنه يجوز أن تكون تلك الفُرْقَة عنده على الاستحباب، فيكون يُفَارِقُ صاحبَه استحبابًا. كيف ولو لم نَحْمِلْهُ على هذا المعنى، لَزِمَ أن يكون مرتكبًا لأمر حرامٍ عندكم، والعياذ بالله. أليس قد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «ولا يَحِلُّ له أن يُفَارِقَ صاحبَه، خَشْيَةَ أن يَسْتَقِيله» ، وهذا الحق واجبٌ عندكم، ومُسْتَحَبٌّ عندنا، فَيَلْزَمُ عليكم ترك الحق الواجب، فلا حُجَّةَ لكم في فعل ابن عمر.
قلتُ: أمَّا كون خيار المَجْلِسِ مُسْتَحَبًّا عندنا، فذاك أمرٌ أوجده المتأخِّرون من عندهم على طريق المعارضة، وليس منقولا عن الإِمام. كما أن ترك الفاتحة للمقتدي رُوِي عن الإِمام، أمَّا إن هذا الترك في أيِّ مرتبةٍ هو؟ فذلك أمرٌ أوجده المتأخِّرون، وليس مَرْوِيًّا عن الإِمام، فذهب ابن الهُمَام أنها مكروهةٌ تحريمًا. وزَعَمَ الناسُ أن تلك الكراهة مَرْويّةٌ عن الإِمام، مع أنا لا نجدها مَرْوِيَّةً عن إمامنا في موضعٍ. غير أن النهيَ عن القراءة إذا نُقِلَ عنه، ذهبت أذهانُ الناس تَبْحَثُ عن مراتبه، فحملها بعضُهم على الكراهة. فهكذا الأمرُ في استحباب خِيَار المَجْلِسِ، فإنه لم يُنْقَلْ عن إمامنا، وإنما قاله المتأخِّرون احتمالا وبحثًا، على طَوْرِ المعارضة لا على طريق المذهب.
بقي الجواب عن فعل ابن عمر، فأقولُ: إنه وإن كان راوي الحديث، لكنه فعله فقط، ولا يَدُلُّ على كونه تَعَامُلا فيما بين الصحابة أيضًا. حتى نُقِلَ عن مالك: أنه كان يَشْرَحُ هذا الحديث، إذ جاءه ابن أبي ذِئْب، وكلَّمه فيه، فقال له مالك: ليس
(1)
العملُ عليه في بلدتنا، وأَمَرَ بإِخراجه
(1)
قال الخطَّابيُّ بعد ما قرَّر مذهبه: وأمَّا مالك، فإن أكثر شيء سَمِعْتُ أصحابَه يحتجُّون به في رَدِّ الحديث، هو أنه قال: ليس عليه العمل عندنا، وليس للتفرُّق حدٌّ محدودٌ يُعْلَمُ. ثم رَدَّ عليه، حتى قال: وأمَّا قوله: فليس للتفرُّق حدٌّ يُعْلَم، فليس الأمرُ على ما توهَّمه. والأصلُ في هذا ونظائره أن يُرْجَعَ إلى عادة الناس وعُرْفِهم، وُيعْتَبَرَ حال المكان الذي هما فيه مجتمعان: فإذا كانا في بيتٍ، فإن التفرُّقَ إنما يَقَعُ بخروج أحدهما منه، ولو كانا في دارٍ واسعةٍ، فانتقل أحدُهما عن مجلسه إلى بيتٍ، أو صُفَّةٍ، أو نحو ذلك، فإنه قد فارق صاحبَه. وإن كانا في سوقٍ، أو على حانوتٍ، فهو بأن يُوَلِّي عن صاحبه، ويَخطُو خطوات ونحوها.
وهذا كالعُرْفِ الجاري، والعادة المعلومة في التقابُض، وهو يختلف في الأشياء: فمنها ما يكون بالتقابُض فيه بأن يَجْعَلَ الشيءَ في يده، ومنها ما يكون بالتَّخْلِيَة بينه وبين المبيع. وكذلك الأمرُ في الحِرْزِ الذي يتعلَّق به وجوب قطع اليد: فإن منه ما يكون بالإغلاق والإقفال، ومنه ما يكون بيتًا وحِجَابًا، ومنها ما يكون بالشرائح، ونحوها، وكل منها حِرْزٌ على نحو ما جَرَت به العادةُ.
والعُرْفُ أمرٌ لا يُنْكِرُهُ مالك، بل يقول به، وربما ترقَّى في استعماله إلى أشياء لا يقول بها غيره، وذلك من مذهبه معروفٌ، فكيف صار إلى تركه في أحق المواضع به! حتى يَتْرُكَ له الحديث الصحيح؟! والله يغفر لنا وله. وإن كان ابن أبي ذِئْب يَستَعْظِمُ هذا الصنيع من مالك، وكان يتوعَّده بأمرٍ لا أحبُّ أن أحكيه، والقصة في ذلك عنه مشهورة. اهـ.
قلتُ: وجهالة الحدِّ في باب التفرُّق، كجهالة القُلَّتَيْنِ في حديث ابن عمر، فاحتاجوا إلى تحديدٍ في الموضعين، وقد ألزموا بها في الموضعين، وإنما اعتنيتُ بالعبارة المذكورة، لِتَعْلَمَ قدر الافتراق عند الشافعية، ثم تَنْظُرَ في أن ما ألزمه الحنفيةُ على الشافعية في قصة أبي بَرْزَة الأسْلَمِيِّ المارَّة، هل يَلْزَمُ عليهم أم لا؟ فإن الافتراق عندهم لا يَحْصُلُ بمجرد القيام، بل كما أن الافتراقَ من البيت يكون بالخروج، كذلك يُمْكِنُ أن يكونَ الافتراقَ من السفينة عندهم. وحينئذٍ لا يَلْزَمُ عليهم ما ألزموا، ويكون لجوابه طريق آخر. والله تعالى أعلم بالصواب. =