الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالأَرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إِلَاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَاّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا». قَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. إِلَاّ الإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ. قَالَ قَالَ «إِلَاّ الإِذْخِرَ» . أطرافه 1349، 1587، 1833، 2090، 2433، 2783، 2825، 3077، 3189، 4313 - تحفة 5748 - 19/ 3
قوله: (ولكن جهاد ونية) أي إن مكة صارت دارَ الإِسلام، فلا هجرة منها بعد اليوم، لكن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، فإِذا دُعيتم إليه فاخرجوا بالنية الحسنة.
11 - باب الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ
وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ.
1835 -
حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عَمْرٌو أَوَّلُ شَىْءٍ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ حَدَّثَنِى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا. أطرافه 1938، 1939، 2103، 2278، 2279، 5691، 5694، 5695، 5699، 5700، 5701 - تحفة 5739
1836 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِى عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ - رضى الله عنه - قَالَ احْتَجَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُحْرِمٌ بِلَحْىِ جَمَلٍ فِى وَسَطِ رَأْسِهِ. طرفه 5698 - تحفة 9156
فإِن حَلَق الشعر تصدَّقَ، وإلا لا.
12 - باب تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ
1837 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِىُّ حَدَّثَنِى عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. أطرافه 4258، 4259، 5114 - تحفة 5903
ذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم جوازِ نكاح المحرم. وذهب أبو حنيفة إلى جوازِهِ، غير أنه قال: إنه لا يدخل بها ما لم يَحل. وللجمهور حديث النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا، أخرجه مسلم، وغيره:«لا يَنْكِح المحرم، ولا يُنكَح» .
قلنا: إن النكاحِ كالخِطبة، فإذا لم تكن الخِطبة عندكم على معنى البطلان، فكذلك النكاح، وإنما النهيُ عنه، لأنَّ الأليقَ بشأن المحرم، أن لا يشتغِلَ بمثل هذه الأمور، ولا يقصِدُ بسفره إلا الحج. وأنت تعلَم أن النكاح لم يُشرع إلا لمقاصِدِه من الجماع وغيره، فإذا نُهي عن الجماع نُهي عن النكاح، لا لمعنى النهي فيه، بل لأنه إذا تزوج ربما أمكن أن تطمعَ نفسُه فيما نَهى الله عنه أيضًا. والمقصودُ في هذا السفر أن ينقطعَ إلى الله بشراشره، ولا تتحدثَ نفسُه بشيءٍ
سوى ذكرُه، فيكون له جِوار إلى الله، وصُراخ بالتلبية لا غير، وحداثَةُ عهده بالنكاح يخالِفُ هذا التبتل.
هذا هو معنى النهي عندنا، ألا ترى أنه نُهي أن يخطِب، وأنت لا تقوله: إنه حرام، بل تحمِلُه على معنَى ما حملنا عليه الجملَة الثانية، فالقولُ بصحة الخِطبة، وبطلان النكاح فكٌّ في النظام، ونقضٌ للاتساق.
ثم نقول: إن أصلَ النزاع في تزوجه صلى الله عليه وسلم ميمونة، واختلفت فيه الروايات، ففي بعضها:«أنه تزوجها وهو حلال» ، كما يرويه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هو الرسولُ بينهما، ويزيد بن الأصم، وهو ابن أخت ميمونة. وترويه هي أيضًا. مع أنَّها صاحبةُ الواقعة. وفي بعض الروايات:«أنه تزوجها وهو محرم» ، كما يرويه ابن عباس، واحتج الخصوم بالأولى، والحنفية بالثانية.
والجواب أنَّا نُسلِّمُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلَ أبا رافع للخِطبة، ولكنَّ ميمونةَ كانت وكَّلت بأمر نكاحها عباسًا، فكان هو العاقد، وأنت تعلمُ أنَّ الرسول سفيرٌ محضٌ، بخلاف الوكيل، فإنَّه يتولَّى أمر النكاح، وبلسانه يجري العقد والفسخ، فالعبرةُ به أولى. ومن ههنا تبين أن قولَ ميمونة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوَّجَها وهو حلالٌ، لا يوازي قول ابن العاقد، فإنَّها إذا فوضت أمرها إلى غيرها، لم تعلم بأمر النكاح إلا عند البناء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك حلالا.
أما ابن عباس فكان ابن العاقد، فعنده زيادةُ خبرٍ، ووثاقةٌ على ما فعله أبوه. ويروى هو أنه تزوجها وهو محرمٌ، مع أنه خِلاف أمر الحج، فلا يقول إلا أن يكون عنده علمٌ كالعيان، ولذا رجح البخاري حديثَه، ولم يخرج حديثَ الخصوم، وإن أخرجه مسلم، فالبخاري وافَقَنَا في المسألة. وهذا من دأبه القديم، أنه إذا اختارَ جانبًا ذهب يهدِر الجانب الآخر، ويجعله كأنه لم يكنْ شيئًا مذكورًا، فلا يخرجُ له حديثًا، كأنه أمرٌ لم تَرِدْ به الشريعة.
وكذا يزيد بن الأصم لا يعارضُ حديثه حديث ابن عباس، حتى قال عمرو بن دِينار حين روى ابن شهابٍ حديثَ يزيد: أتجعلُ أعرابيًا بوالا على عقبيه، إلى ابن عباس؟، وهي خالة ابن عباس أيضًا، كذا في «الدارقطني» .
وههنا دقيقةٌ أخرى قلّ من تنبه لها، وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يباشر العقدَ بنفسه الشريفة، بل وكل به عباسًا، احترازًا عن صورة العقد بنفسه، وهو محرم، فأحبَّ أن يعقِدَ غيره، لئلا يكون ناكحًا صورةً، فاحترز عنها بقدر الإِمكان، فسبحان الله هذه مدارك الأنبياء عليهم السلام، ولا ينكشفُ الغِطاء عن وجه المقصود ما لم يتبين أنَّ تزوُّجه كان ذاهبًا إلى مكة أو آيبًا منها، فإن كان الأول، تعيَّن كونه في الإِحرام، وإن كان الثاني فلا يكون إلا وهو حلال. وقد ذكر الطحاوي في «مشكلة» في تحرير القِصة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا رافع إلى ميمونة للخِطبة، وكانت بمكة، فوكلت
أمرها إلى عباس
(1)
، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وخرج عباس من مكة ليستقبلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فتلاقيا بسَرِفٍ، فنكحها إياه في سرف، كما هو عند أبي داود.
وإن كان يخالفه مع عند مالك في «موطئه» ، ففيه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه، ورجلا من الأنصار، فزوَّجاه ميمونةَ بنت الحارث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، قبل أنْ يخرج» . اهـ. أي إلى مكة لعمرة القضاء، إلا أن الأكثر والأشهر كما عند أبي داود.
وسَرِف موضع بعشرة أميال من مكة. وكان ذلك في عمرة القضاء، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قاضاهم في عمرة الحُدَيْبِيَة أنه يعتمرُ من قابل، ويقيمُ بها ثلاثًا، فما يدل على أنَّ أمر تزوُّجِها بسَرِفٍ إنما
(1)
قال العلامة المارديني: وفي "الاستذكار": قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرمٌ. وفي "التمهيد" ذكر الأثرم عن أبي عبيدة قال: لما فرغ صلى الله عليه وسلم من خيبر توجه إلى مكة معتمرًا، سنة سبع، وقدم عليه جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، وخطب عليه ميمونة بنت الحارث، وكانت أختها لأمها أسماء بنت عميس عنده، وأختها لأبيها، وأمها أم الفضل تحت العباس، فأجابت جعفرًا، وجعلت أمرها إلى العباس، فأنكحها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فلما رجع بنى بها بسَرف حلالًا، وجعْلُها أمرَها إلى العباس مشهور، ذكره موسى بن عقبة أيضًا. وذكره ابن إسحاق، قال: وقيل: جعلت أمرَها إلى أم الفضل، فجعلت أمَّ الفضل أمرها إلى العباس. وفي "الاستيعاب" لأبي عمر، ذكر سنيد عن زيد بن الحباب عن أبي معشر عن شرحبيل بن سعد، قال: لقي العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجُحْفة حين اعتمر عمرةَ العقبة، فقال: يا رسول الله تأيَّمتْ ميمونة، هل لك أن تتزوجها؟ فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، فلما أن قدم مكة أقام ثلاثًا
…
الحديث.
وفي آخره: فخرج فبنى بسَرِف بها، فلما جعلت أمرها إلى غيرها، يُحتملُ أن يخفى عليها الوقت. الذي عقد فيه العباس، فلم تعلم به إلا في الوقت الذي بنى بها، وعلِمَ ابن عباس أنه كان قبل ذلك، فالرجوع إليه أولى، كيف! وقد تأيد برواية أبي هريرة، وعائشة؛ وذكر ابن إسحاق في "مغازيه"، والطحاوي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام تزوجها وهو محرمٌ، فأقام بمكة ثلاثًا، فأتاه حويطب في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا: قد انقضى أجلك، فاخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني. فعرَّستُ بين أظهركم، فصنعنا لكم طعامًا، فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا. فخَرج وخرجَ بميمونة، حتى عرَّس بها بسَرِف. وقال الطحاوي:"رُوي عن عائشة ما يوافق ابن عباس. رَوى ذلك عنها من لا يَطعنُ أحدٌ فيه، ثم ذكر هذا السند، ثم قال: "وكل هؤلاء أئمة يحتج برواياتهم"، وقال في "مشكل الحديث": لم يختلف في ذلك عن عائشة.
قال الطحاوي: في "كتاب مشكل الحديث": حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني: حدثنا خالد بن عبد الرحمن الخراساني: حدثنا كامل أبو العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم" قال الطحاوي: وهذا مما لا نعلم أيضًا عن أبي هريرة فيه خلافًا. انتهى كلامه. والكيساني وثقه أبو سعيدٍ السَّمعَاني، وخالد وثقوه، كذا في "التهذيب" للمِزِّي، وكامل وثقه ابن مَعِين، والعِجلي، وذكره ابن شاهين في "الثقات".
وأخرج له الحكم في "المستدرك". وقال الطحاوي أيضًا: حدثنا روح بن الفرج: حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا ابن أبي فديك: حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر، سألت أنس بن مالك عن نكاح المحرم. فقال: وما بأس به، هل هو إلا كالبيع. وروح وثقه الخطيب، وأخرج له صاحبُ "المستدرك". وإجازةُ نكاح المحرم يُروى عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعن أبيه، وعن جده. وقال ابن حزم: أجازَه طائفةٌ: صح ذلك عن ابن عباس، وروي عن ابن مسعود، ومعاذ، وبه قال عطاء، والقاسم بن محمد، وعِكرمة، والنَّخَعي. وأبو حنيفة. وسفيان. اهـ. "الجوهر النقي".
كان حين قدومِهِ إلى مكة، ما أخرجه الطحاوي عن ابن عباس:«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونةَ بنت الحارث، وهو حرام، فأقام بمكة ثلاثًا» ، فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا: إنه قد انقضى أجلك، فاخرج عنا، فقال:«فما عليكم لو تركتموني فعرَّستُ بين أظهركم، فصنعنا لكم طعامًا، فحضرتموه» ، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا، فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم وخرج بميمونة حتى عرس بسَرِف سرف. اهـ.
ففيه دليل على أنَّه قد كان تزوجها من قبلُ حين دخل مكة، ولذا دَعاهم إلى الوليمة، ولما لم يتركوه إلا أن يخرج، نزل بسَرِف، وأولم بها، وكذا يدل عليه ما عند الترمذي:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلالٌ، وبنى بها حلالا. وماتت بسَرِف، ودفناها في الظلة التي بنى بها فيها» اهـ.
وتعجب الراوي على كون الأمور الثلاثة في موضع واحد. قال مولانا شيخ الهند: وإنَّما يصحُّ التعجب إذا كانت تلك الوقائعُ في أسفارٍ كذلك، فالمعنى أنه تزوجها وهو ذاهب إلى مكة، وبنى بها وهو راجع إلى المدينة، ثم ماتت بها في سَفْرةٍ أخرى، وهذا مما يتعجب منه لا محالة، فإِذا ثبت أنَّه تزوجها في سفره إلى مكة، ثبتَ أنه تزوجها وهو محرمٌ، لأنك قد علمت أن سَرِفَ قريبٌ من مكة، وميقاتُ أهل المدينة ذو الحليفة، فلا بد أن يكون محرمًا عند سَرِف، وإلا يلزمُ مجاوزةُ الميقات بدون إحرام.
فإِن قلت: فكيف بأمر أبي قتادة
(1)
؟ فإنه اصطاد حِمارًا وحشيًا، وقد كان دَخَلَ الميقاتَ،
(1)
يقول العبد الضعيف: وفي قصة أبي قتادة إشكالٌ من وجوه:
الأول في مجاوزةِ أبي قَتَادة عن الميقاتِ بدون إحرام. ويتضِحُ جوابه مما ذكره الحافظ في سياق القِصة، قال: وحاصل القصة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما خرج في عمرة الحديبية، فبلغ الرَّوحَاء، وهي من ذي الحُلَيفة على أربعة وثلاثين ميلًا، أخبروه بأن عدوًا من المشركين بوادي غيقة، يُخشى منهم أن يقصدوا غرته، فجهز طائفةً من أصحابه. فيهم أبو قَتَادة إلى جهتهم ليأمن شرُّهم، فلما أمنوا ذلك، لحقَ أبو قتادة وأصحابه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأحرموا، إلا هو، فاستمر حلالًا، لأنه إما لم يجاوز الميقات، وإما لم يقصد العمرة.
قلت: والثاني جواب على طور الشافعية، فإنَّ نية العمرة أو الحج شرطٌ عندهم لوجوب الإِحرام، وبهذا يرتفعُ الإِشكال الذي نَكره أبو بكر الأثرم. قال: كنتُ أسمعُ أصحابنا يتعجبون من هذا الحديث، ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات، وهو غير محرمٍ، ولا يدرون ما وجهه، قال: حتى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد، فيها:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرمنا، فلما كنا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في وجه"
…
الحديث. قال: فإذا أبو قتادة إنما جاز له ذلك، لأنه لم يخرج يريدُ مكة. قلت: وهذه الرواية التي أشار إليها تقتضي أن أبا قتادة لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وليس كذلك لما بيناه. ثم وجدتُ في "صحيح ابن حبان"، والبزار، من طريق عياض بن عبد الله عن أبي سعيد، قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادةَ على الصدقة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، وهم محرمون حتى نزلوا بعُسفَان"، فهذا سببٌ آخر، ويُحتمل جمعهما؛ والذي يظهرُ أن أبا قتادة إنما أخر الإِحرام لأنه لم يتحقق أنه يدخل مكة، فسَاغ له التأخير.
وقد استُدِل بقصة أبي قَتَادة على جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن لم يرد حجًا ولا عمرة. وقيل: كانت هذه القصة قبل أن يُوَقِّت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت. وأما قول عياض ومن تبعه: إن أبا قتادة لم يكن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وإنما بعثه أهل المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلِمُونه أن بعضَ العربِ قصدوا الإِغارة على المدينة، فهو ضعيفٌ =
ولذا كان أصحابه محرمين؟ قلنا: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه لحاجة، فذهب إلى طريقٍ غير طريقهم، ولم يتفق له المرور بميقاتهم، فلذا كان هو حلالا، وأصحابه محرمين.
وما قالوا: إن المواقيتَ لم تكن تعينت بعد، فلا يلزمُ مرورُه منها بدون إحرام، فذاك مردودٌ بحديث البخاري، فإِنه يدل على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لعمرة الحُدَيْبِيَة السنة السادسة، أحرمَ من ذي الحُلَيْفة، فدل على تَعيُّنِ الميقات. وإذا ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، ثبت أنه لا بأس بتزوج المحرم، وهذا ما أردنا. وتأوَّل ابن حِبان حديثَ ابن عباس، فقال: إن المحرم بمعنى الداخل في الحَرَمِ، كقولهم: أعرق وأنجد، وكقول الشاعر:
*قتلوا ابنَ عفانَ الخليفةَ مُحرِمًا
…
فدعا، فلم أرَ مِثْلَهُ مخْذَولا
ومعلوم أنه لم يكن إذ ذاك محرِمًا من الإِحرام، كيف وأنه كان بالمدينة، فمعناه أنه كان داخل الحرم. قلتُ: وردَّه الأَصمعي، وهو عند الرشيد، كما حكاه الخطيب في «تاريخه» ، وقال: أين أنت من مرادِ الشاعر، ليس فيه المحرمُ على ما أردت، بل معناه ذي حُرمة، على حد قوله:
*قتلوا كِسْرى بليلٍ مُحْرِمًا،
…
فتولَّى، ولم يمتع بالكَفَنِ
والأَصمعي هو عند الملك اللغوي، من رواة مسلم. ومما يدلك على أنَّ المحرمَ ليس بمعنى الداخل في الحرم ما عند مسلم، قال يزيد بن الأصم:«نكحها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو حلال» . وقال ابن عباس: «إنه نكحها وهو محرم» ، فدل التقابل على أن المرادَ من الإِحرام ضد الحلال، كيف وقد صح عن عائشة أنَّه نكحها وهو محرم، ونحوه رُوي عن أبي هريرة، فكيف يمكنُ أنْ يتفقَ هؤلاء كلهم على اللغة العربية؟ نعم، للمجادِل مجال وسيعٌ.
= مخالف لما ثبت في هذه الطريق الصحيحة، طريق عثمان بن موهب الآتية بعد بابين، كما أشرت إليها قبل، اهـ. من باب إذا صار الحلال
…
إلخ.
والثاني ما توجه إليه شيخ الشريعة والطريقة، الحبر العلامة خليل أحمد قُدِّس سِرُّه في شرحه على أبي داود، الشهير بـ "بذل المجهود"، ومنشأه ما في بعض سياق البخاري في قِصة أبي قَتَادة، هكذا "فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة، فقال: خُذوا ساحلَ البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحلَ البحر، فلما انصرفوا أحرمُوا كلهم، إلا أبا قتادة لم يحرم". قال الشيخ -شارح أبي داود- قُدِّس سِرُّه: سياق حديث البخاري هذا مشكلٌ، لأنه يخالف جميعَ السياقات التي أخرجها البخاري، وغيره، فإنه يدل على أن أبا قتادة، ومن معه خرجوا إلى ساحل البحر، وكلهم لم يُحرموا، فلما انصرفوا من ساحل البحر أحرموا كلهم، إلا أبا قتادة، فإنَّه لم يحرم: وجميع السياقات تدلُّ على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من أصحابه كلهم أحرموا من الميقات. إلا أبا قتادة فإنَّه لم يحرم.
وتأوَّلَه القسطلَّاني بأن قوله: "فلما انصرفوا". شرط ليس جَزَاؤه قوله: "أحرموا كلهم إلا أبو قتادة"، بل جزاؤه قوله:"فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمار وحش". وتقديرُ العبارة: فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا، وكانوا قد أحرموا كلهم من الميقات، إلا أبو قتادة، فإنَّه لم يُحرم من ذي الحُلَيفة. قال الشارح قُدِّس سِرُّه: ولم أر أحدًا منهم تعرض إلى دفع الإِشكال المذكور غيره، فجزاه الله تعالى خيرًا. انتهى ملخصًا.