الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُوجِبَ تغييرًا لعقيدة السلف، هو الذي يُعَبَّر عنه بالتفسير بالرأي. وإلا فإن كُنْتَ عَارِفًا باللغة. وبالأدوات التي لا بُدَّ منها لبيان مراد القرآن، فَلَكَ أن تفسِّره بما رَأَيْتَ، ما لم يُؤَدِّ إلى تغييرٍ في عقيدةٍ، أو تبديلٍ في مسألةٍ مُسَلَّمةٍ.
هذا، فإذا رأيتَ أنهم سَلَكوا هذا المسلك أنكرتَ النَّسْخَ رأسًا. وادَّعَيْتَ أن النَّسْخَ لم يَرِدْ في القرآن رأسًا - أعني بالنسخ: كون الآيةُ منسوخةً في جميع ما حَوَتْهُ بحيث لا تَبْقَى معمولةً في جزئيَ من جزئياتها - فذلك عندي غير واقعٍ. وما من أيةٍ مَنْسُوخَة إلا وهي معمولةٌ بوجهٍ من الوجوه، وجهةٍ من الجهات، وإليه أشار مُعَاذ
(1)
في آخر حديثه المارِّ بقوله: «وثَبَتَ الطعامُ في الشيخ الكبير
…
إلخ، أي إن حكم الفِدْيَة في حقِّ هؤلاء إنما هو تحت هذه الآية. قلتُ: والفِدْيَةُ عندنا باقيةٌ في ست مسائل، ذكرها الفقهاءُ.
وبالجملة إن جنسَ الفِدْيَة لم يُنْسَخْ بالكُلِّية، فهي باقيةٌ إلى الآن في عِدَّة مسائل. وليس لها مَأْخَذٌ عندي غير تلك الآية، فدَلَّ على أنها لم تُنْسَخْ، بمعنى عدم بقاء حكمها في محلَ ونحوه.
وقد فسَّرْنَا بقيةَ الآيات أيضًا: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] إلخ، إشارة إلى تكبيرات العيدين. ونقل الطحاويُّ عن السلف: أنهم كانوا يَجْهَرُون بالتكبير في عيد الفِطْرِ أيضًا، وإن لم يكن في كُتُب الفِقْه. فاحْتَوَتِ الآيةُ على ما فسَّرْنَاها: على الحكم في الأيام المعدودات، وبيان الرُّخْصَةِ فيها بالفِدْيَةِ، ومسألةِ المريض والمسافر، وافتراضِ رمضان، وبقاءِ الرُّخْصَةِ للمريض والمسافر، مع عدم بقاء الفِدْيَةِ للمُطِيقِ، وسُنَّةِ التكبير عند الذهاب إلى المُصلَّى، أو مطلقًا، فاحفظه. فإن المُفَسِّرين أطالوا الكلامَ فيها، فإنه أَشْكَلَ عليهم حكمُ الفِدَاء للمُطِيقِ، وتكرار الآية، فاضْطَرُّوا إلى التوجيهات. وفيما قرَّرنا لك غُنْيَةٌ عنها.
1891 -
قوله: (فأَخْبَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شرائعَ الإِسْلامِ)، قد مرَّ الكلامُ فيه في «كتاب الإِيمان» مبسوطًا، فراجعه.
2 - بابُ فَضْلِ الصَّوْمِ
1894 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّى صَائِمٌ. مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى، الصِّيَامُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» . أطرافه 1904، 5927، 7492، 7538 - تحفة 13817
(1)
وعند الطحاويِّ في "مشكله" عن ابن عباس يقول: " {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ليست بمنسوخةٍ، وهو الشيخُ الكبيرُ، والمرأةُ الكبيرةُ، لا يستطيعان أن يَصُوما، فَيُطْعِمَان مكان كل يومِ مسكينًا". اهـ. وهكذا قال ابن العربي في "العارضة".
1894 -
قوله: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ)، ويتَّضِحُ مراده مما رواه ابن حِبَّان في «صحيحه» ، وأحمد في «مسنده»: «أن الميتَ إذا أُقْبِرَ في حُفْرَته، تأتيه الصلاةُ عن يمينه، والصيامُ عن شماله، والقرآنُ من قِبَل رأسه، والصدقةُ من رِجْلَيْهِ
…
» إلخ - بالمعنى. وحينئذٍ تبيَّن أن كونه جُنَّةً ليس بمعنى المحافظ فقط، فإن الصلاة أيضًا تَحْفَظه، فلم تظهَرْ فيه خاصةً. بل بمعنى أنه يكون وِقايةً له من العذاب، ويكون في شماله، كما أن الجُنَّةَ تكون فيها، فكأنه يتمثَّل جُنَّةً له. وجعله عند مسلم:«ضياء» ، فلم تَنْكَشِفْ منه تلك الحقيقة. والأَرْجَحُ عندي لفظُ الترمذيِّ، والبخاريّ:«إن الصومَ جُنَّةٌ» ، وهذا الذي يُؤَدِّي خاصته وحقيقته، فعليه الاعتمادُ. وإذن تكون الصلاةُ كالبرهان على إيمانه، لأن البرهانَ يكون في اليمين، فهي كالشاهد للمدَّعي، وكالسيف للمُبارِز. أمَّا الصيامُ فهو كالحَلِف للمدَّعَى عليه. والجُنَّةِ للقرين يُفِيدُ الاتقاء، وبراءة الذمة.
وحينئذٍ تبيَّن أن كون الصلاة برهانًا، والصيامُ جُنَّةً ليس جِزافًا، ومجازًا بنوع تَخَيُّلٍ فقط، بل الصلاة أَوْلَى أن تُسَمَّى بالبرهان، والصيامُ بالجُنَّةِ للمعنى المختصِّ بهما. فَرَاعه، ولا تَعُدَّه تافهًا، فإن الحديث قد أدَّى فيه سرًا عظيمًا. وعند النَّسائي:«الصومُ جُنَّةٌ ما لم يَخْرِقْهَا» . أمَّا قوله: «فإن امرؤٌ قَاتَلَهُ، أو شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إني صائمٌ» مرتين، فهو صورةٌ لحفظ صومه، لئلا يَخْرِقَ مِجَنَّهُ، وهذا القولُ إمَّا بالقلب، أو اللسان.
قوله: (ولا يَجْهَلْ) الجهلُ قد يكون مُقَابِلا للعِلْم، وقد يكون مُقَابِلا للحِلْم، ويَصِحُّ بالمعنيين.
قوله: (لَخلُوفُ فَمِ الصَّائِم)، لا دليلَ فيه للشافعية على كراهة السِّوَاك بعد الزوال. كما أنه لا دليلَ في حديث وزن ماء الوضوء على كراهة استعمال المنديل، فإنه يُوزَن حيث كان، وهو مختار المصنِّفِ، كما يَتَّضِحُ من تراجمه. وإليه مال النَّسائي، ولعلَّه تعلَّمه من شيخه، فترجم بالرُّخْصَةِ في السِّوَاك بالعشي.
قوله: (الصِّيامُ لي وأنا أَجْزِي به)
…
إلخ، قد مرَّ تحقيقُ معناه مبسوطًا.
وحاصله: أن الحديثَ له عِدَّة سياقات. ففي لفظٍ: «كلُّ عمل ابن آدم يُضَاعَفُ: الحسنةُ بعشرة أمثالها إلى سبع مئة ضِعْفٍ. قال الله عز وجل: إلا الصومَ فإنه لي، وأنا أجْزِي به» . وعند البخاري في آخره: «لكلِّ عملٍ كفَّارةٌ، والصوم لي، وأنا أَجْزِي به» وفي لفظٍ: «كل عمل ابن آدم له إلا الصومَ، فإنه لي، وأنا أَجْزِي به»
(1)
.
(1)
وفي تقرير الشيخ عند الفاضل عبد العزيز: أنه تبيَّن لي أن الاستثناءَ فيه مُدْرَجٌ، فلا أتَعَرَّضُ إلى الإِيرادات التي تَرِدُ بعد لحاظ الاستثناء المذكور. نعم أَذْكُرُ وجهًا لكون الصومُ له تعالى دون سائر العبادات، وقد قَرَأَهُ بعضُهم:"وأنا أُجزي به" -مجهولًا- وحينئذٍ يكون كنايةٌ عن رؤيته تعالى. وقد نظمه الشيخ يعقوب الكَشْمِيرِي تلميذ التلميذ للعارف الجامي، وتلميذ الحافظ ابن حَجَر المكي الشافعي، في الحديث:(جودر روزه إمساك ازماسوا است، جزائش أكرحق بود خودسرا است)، انتهى تعريبه. وقد مرَّ تفصيلُ الكلام.