الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشَّكِّ عندنا يومُ غَيْمٍ، الْتَبَسَتْ فيه الغُرَّةُ فقلتُ: يُسْتَحَبُّ في الصوم، واقْتَدَيْتُ بالحديث فيما إذا كان الشَّكُّ بلا وجهٍ وجيهٍ، وبهذا الطريق حَصَلَ الائتساءُ بالصحابة، والعملُ بالحديث كلاهما. وبعبارةٍ أخرى: إن يومَ الشَّكِّ عندنا يومُ غَيْمٍ الْتَبَسَتْ فيه الغُرَّةُ، وصومُه مُسْتَحَبٌّ عندنا للخواصِّ، وهم الذين لهم تمييزٌ في النِّيَّة، وإن كان مكروهًا للعوامِّ. فجعل عامتُهم الكراهةَ أصلا ومذهبًا، واسْتَثْنَوا منه الخواصَّ، وجعلتُ هؤلاء أصلا، والعوامَّ مستثنىً عن حكمهم. فهذا تغييرٌ في التعبير لا غير، وحينئذٍ لا تَرِدُ علينا الآثارُ.
وهذا كما غيَّرْتُ تعبيرَهم إلى أن للمدينة حَرَمًا. إلا أن أحكامَه ليست كأحكام حرم مكَّة، فلم تَرِدْ علينا الأحاديثُ التي فيها صَدْعٌ بكون الحرم للمدينة أيضًا. فهكذا قلتُ في صوم يوم الشَّكِّ أيضًا، لأنه لما كان مُسْتَحَبَّا للخواصِّ على المذهب، فلا بِدْعَ في أن نُقَرِّرَ مذهبنا بالاستحباب، ثم نجعله مكروهًا للعوامِّ، لئلا تَرِدَ علينا تلك الآثار. بقي الحديثُ المرفوعُ، فلنا أن نَحْمِلَهُ فيما إذا شَكَّ الناسُ في يوم الصَّحْو، وهو يوم الشَّكِّ عند ابن تَيْمِيَة.
1906 -
قوله: (فإن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له) فالفطرُ والصومُ عندنا يَدُورُ بالرؤية حقيقةً، أو نقلها المعتبر شرعًا. ولا عِبْرَةَ عندنا بالتقويم، واعْتَبَرَهُ أحمد. وعلى هذا قُلْنَا: إن معنى قوله: «فَاقْدُرُوا له» ، أي أَكْمِلُوا عِدَّته ثلاثين، كما في الرواية الأخرى. وقال أحمد: معناه اعْمَلُوا بالتقويم. قلتُ: وقال ابن وَهْبَان بعبرة التقويم أيضًا، إذا كان حسابُه صحيحًا لا يُخْطِىءُ عمَّا في الخارج.
1910، 1911 - قوله:(آلَى من نِسَائِهِ)
…
إلخ، وهو إيلاءٌ لُغَوِيٌّ، وكفَّارةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم تكن لإِيلائه، فإنه برَّ فيه، ولم يَحْنَثْ. وإنما كان عن تحريم العسل، وهو يمينٌ عندنا. فإن قُلْتَ
(1)
: كيف آلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا مع النهي عن مُهَاجَرَة مسلمٍ فوق ثلاث؟ قلتُ: كانت أزواجه صلى الله عليه وسلم تسعةً، والمَهَاجَرَة بكلَ منهنَّ ثلاثًا بالترتيب، كانت ركيلة، فَهَاجَرَ كلَّهنَّ بهذا الحساب معًا، فَحَصَلَ بضرب الثلاثة في التسعة شهرٌ.
قوله: (الشَّهْرَ يكون تِسْعًا وعِشْرِين)، أي قد يكون تِسْعًا وعشرين، ولهذا قدَّم الشَّهْرَ. وراجع «دلائل الإِعجاز» من فوائد تقديم المسند.
12 - بابٌ شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَهْوَ تَمَامٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَجْتَمِعَانِ كِلَاهُمَا نَاقِصٌ.
1912 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم. وَحَدَّثَنِى مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ
(1)
وفي تقرير الفاضل عبد العزيز: أن الشيخ ابن الهُمَام صرَّح بجواز المُهَاجَرَة في أقلِّ من مدَّة الإيلاء، فاسترَحْنَا عن الجواب. قلت: وقلَّبْتُ الأوراق من هذا الباب، فلم أجده فيه. ولعلَّه من سَبقَه القلم، أو من خطأ نظري، فلينظره من باب القَسَم.
عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ أَخْبَرَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ شَهْرَا عِيدٍ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ» . طرفاه 1908، 5302 - تحفة 11677
قال أحمد في «تفسيره» : أي لا يَنْقُصَان عددًا في سنةٍ واحدةٍ. فإن نَقَصَ هذا. وإن تَمَّ هذا تَمَّ هذا، نَقَصَ هذا. وردَّ عليه الطَّحَاوِيُّ
(1)
، وقال: وهو خلافُ الواقع، فإنه وَقَع مرَّةً نحوه في عهده، فَنَقَصَ كلاهما معًا. قلتُ: وحينئذٍ يُحْمَلُ قول أحمد على الأكثر. وقال إسحاق: معناه لا يَنْقُصَان بحَسَب الأجر، فالشهرُ الناقصُ منهما كالتامِّ منهما. ويُرَدُّ عليه أن هذا معقولٌ في رمضان، لأن وظيفةَ الصِّيَامِ تَسْتَوْعِبُه، فيمكن أن يكونَ تسعٌ وعشرون منه كالثلاثين في الأجر. إلا أنه لا يُعْقَلُ في ذي الحِجَّة، فإنه لا عبادةَ في النصف منه. نعم يَصِحُّ عند مالك، لأن الأضْحِيَةَ عنده جائزةٌ إلى آخر الشهر في روايةٍ.
وقال السيوطي: إن الأشهرَ أوتارٌ وأشفاعَ. فالأوتارُ منها تكون تسعًا وعشرين، والأشفاعُ ثلاثين، هكذا عند علماء الحساب. وأمَّا ما يُوجَدُ خلافه، فهو من الخطأ في الرُّؤْية. فكأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم َخْبَرَ بما في الواقع، لا أنه ذكر حكمًا شرعيًا. فلا يمكن أن يَنْقُصَ شهر رمضان، وذي الحِجَّة كلاهما، فإن الأوَّلَ من الأَوْتَار، والثاني من الأَشْفَاع، فلا بد أن يَنْقُصَ الأوَّل، ويتِمَّ الثاني، فصَحَّ قوله:«شهرا عيدٍ لا يَنْقُصَان» .
قلتُ: وراجعت له الزيج، فتبيَّن منه أن الأشفاعَ والأوتارَ من مصطلحاتهم باعتبار فنِّهم، فاعتبروها ناقصةً وتامةً بحَسَبِ موضوعهم، لا أنها كذلك عندهم في الخارج، والواقع. ثم إن ستة أشهرٍ تكون تسعًا وعشرين، وستةً منها ثلاثين عند علماء الحساب. ولا يُشْتَرَطُ عندهم التَّوَالي، ويمكن أن تتوالى ثلاثةُ أشهرٍ منها ناقصةً، وحينئذٍ جواب السيوطي، كما ترى.
وقد أجاب عنه الطِيبيُّ أيضًا، وأجاد، وحاصله: أن العيدَ من ذي الحِجَّة، وإن كان في العاشرة خاصةً، إلا أنه اشتهر في العُرْفِ وصفُ هذا الشهر كلِّه بالعيد، وإن لم نُدْرِكْ وجهه. وهذا كما أن عيدَ الفِطْرِ في أول يومٍ من شوال، إلا أنه نُسِبَ إلى رمضانَ لمناسبةٍ، فَعَدَّ رمضانَ أحد شهري عيدٍ، فكما أن كون يومًا من شوال عيدًا تناول الشَّهْرَ كلَّه، كذلك صار ذو الحِجَّة كلُّه عيدًا بيومٍ واحدٍ
(2)
.
(1)
قال الطحاويُّ في "مشكله": حدثنا إبراهيم بن أبي داود: حدثنا فَرْوَة بن أبي المَغْرَاء: حدثنا القاسم بن مالك المُزَني، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبى بَكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ شهرٍ حرامٍ ثلاثون يومًا، وثلاثون ليلةً"، فكان هذا عندنا ليس بشيء، إذ كان عبد الرحمن بن إسحاق لا يُقَاوِمُ خالد الحَذاء في إمامته في الرواية، ولا في ضبطه فيها، ولا في إتقانه لها. وأيضًا كان العِيَان قد دفع ذلك، وبالله التوفيق.
(2)
قلتُ: ولا أدري بالضبط ماذا ألقى علينا الشيخُ من مراد الطيبي، وماذا كتبتُ؟ فرأيتُ أن أَنْقُلَ عبارته من نسخة قلمية، مع سَقْطٍ فيها من الناسخ، وهذا نصُّه: قيل: فيه وجوهٌ: فمنهم من قال: لا يَنْقُصَان معًا في سنةٍ واحدةٍ، حَمَلُوه على غالب الأمر. ومنهم قال: إنه أراد بفضل العمل في العشر من ذي الحِجَّة في الأجر والثواب من شهر رمضانَ. ومن قائلٍ ثالثٍ: إنهما لا يكونان نَاقِصَيْن في الحكم، وإن نقصا في العدد، أي لا يَعْتَرِضُ في قلوبكم شَكٌّ إذ صُمتُم تسعة وعشرين يومًا، وأن يقع في شهر الحجِّ خطأٌ، لم يكن في نُسُككم هو نقصٌ. =
قلتُ: إن أخذت تماميتهما باعتبار الأجر، فله وجهٌ أيضًا. أمَّا في رمضان، فظاهرٌ. وأمَّا في ذي الحِجَّة، فلأن العبادةَ في العشر منها منصوصٌ. وما عُلِمَ بعد السَّبْرِ أنها هي التكبيرُ، والصِّيَام. وأمَّا للحاجِّ فله ما وُظِّفَ له في تلك الأيام. فإذا عَلِمْتَ أن أفضلَ عبادتها الصيامُ، تَبَيَّنْتَ أن إطلاق العشرة لا يَصِحُّ عليها. فإن الصِّيَامَ وإن كان مُسْتَحَبَّا في تسعةٍ منها، لكنه في العاشرة حرامٌ، فما وجهُ إطلاق العشر؟ والذي ظَهَرَ لي: أن الإِمساكَ إلى الزوال - وهو وقتُ أكله من أضحيته - مستحبٌّ في العاشرة أيضًا. فهذا الصومُ الناقصُ اعتبره الشرعُ تامًا، فصَحَّ أن
= أقول: وظاهرُ سياق الحديث في بيان اختصاص الشهرين عزيمةٌ ليست في سائرها. وليس المرادُ أن ثوابَ الطاعة في سائرها قد يَنقُض دونهما. فينبغي أن يُحمَلَ على الحكم، ورفع الجُنَاح، والحرجِ ممَّا عسى أن يَقَعَ فيه خطأٌ في الحكم لاختصاصهما بالعيدين، وجواز احتمال الخطأ فيهما. ومن ثم لم يَقُلْ: شهرُ رمضانَ، وذي الحِجَّة. انتهى.
فليُصَحِّح الناظرُ عبارتَه، ثم ليُمعِن النظرَ في مراده. والذي فَهِمتُه من ظاهر عبارته: أن في الشهرَين معنًى ليس في غيرهما، وهو العِيدِيَّة، وربَّما يقعُ فيها الخطأ عند اختلاف الأَهِلَّة. فنبَّه على أن هذين الشهرين لا يَنقُصان أجرًا، وإن وَقَعَ الخطأُ فيهما. وهو الحكم في سائر الأشهر، إلَّا أنه خصص رمضانَ، وذا الحِجَّة بالذكر لاشتمالهما على عبادةٍ مخصوصةٍ، وعيد المسلمين والناسُ يتساءلون فيهما عن الأَهِلَّة، وتَذهَبُ الأوهامُ إلى نُقصان الأجر فيهما عند اختلاف الأَهِلَّة، فالدخيل في عدم النقصان هو العِيديَّة. ولعلَّ هذا الذي أراده الشيخُ مع بيان النُّكتَةِ لكون رمضانَ وذي الحِجة شهري عيد. والله تعالى أعلم.
قلت: وقد تكلَّم عليه الطحاويُّ أيضًا في "مشكله"، ولعلَّه أيضًا يَؤُولُ إليه مع بعض تَغَايُر. قال: فاحتجنا إلى معنى قوله: "شهرا عيدٍ لا يَنْقُصَان"، ما هو؟ فوجدنا هذين الشهرين، وهما: رمضان، وذو الحِجَّة، تبينان عمَّا سواهما من الشهور، لأن أحدهما الصِّيَامَ، وليس في غيره من الشهور، فكان موهومًا أن يَقَعَ في قلوب قومٍ، أنهما إذا كانا تسعًا وعشرين، نَقَصَ بذلك الصومُ الذي في أحدهما، والحجُّ الذي في الآخر عمَّا يكونان عليه إذا كانا ثلاثين ثلاثين. فأعلمهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إنهما لا يَنْقُصَان، وإن كانا تسعًا وعشرين، غير ما يكون فيهما من هاتين العبادتين، وأن هاتين العبادتين كاملتين فيهما، وإن كان في العدد كذلك، ككمالهما فيهما إذا كانا ثلاثين ثلاثين
…
إلخ.
قلت: ولكنه لم يَظْهَر من كلامه معنى نقصان الحجِّ، إذا كان الشهر تسعًا وعشرين. أما الصِّيامُ في رمضانَ، فظاهرٌ. وقد ظَهَرَ من كلام الطِيبي: أن الخطأ فيه يمكن أن يكون باعتبار يوم الحجِّ، والله تعالى أعلم بالصواب.
ثم ظَهَرَ من مراد الطِيبي أن لهذين الشهرين خصيصة ليست لغيرهما من الشهور، وهي العِيدِيَّة، فإِنها في هذين فقط، وإذًا لا بُدَّ أن يكونَ الحديثُ راجعًا إلى معنى المختصِّ بهما، وهو أن أوهامَ الناس إنما تتوجَّه إلى نُقْصَان في هذين، لمكان العيدين فيهما، فَيَزْعُمُون: لعلَّهم غَلِطُوا في عيدهم، لمكان اختلاف الأَهِلَّة، فهداهم الشرعُ أن لا نقصَ في هذين الشهرين، وليس هذا النقص راجعًا إلى عدد الأيام، بمعنى أن تِسعًا وعشرين منهما يساوي ثلاثين في الأجر، بل إلى نُقصَانٍ في عيدهم.
فإذن هو على حد قوله صلى الله عليه وسلم، عند الترمذي، عن أبي هريرة مرفوعًا، قال:"الصومُ يوم تَصُومُون، والفِطرُ يوم تَفطِرُون، والأَضحَى يوم تُضَحُّون". قال الترمذي: وفسَّر بعضُ أهل العلم هذا الحديث، فقال: إنما معنى هذا: الصومُ والفِطرُ مع الجماعة، وعِظَم الناس. اهـ.
قلت: فالمعنى أن التردُّدَ، وإجراءَ الوساوس في باب العيدين غَلَطٌ، فنفي النقصان عن هذين، على معنى النقص في نفس العِيدِيَّة لا غير. والله تعالى أعلم بمراد عباده.