الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فيه ذكر الإنذار والتعذير
من الصحاح
4273 -
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علّمني يومي هذا: كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلفت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي، ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشًا، فقلت: يا رب إذًا يَثْلِغوا رأسي فيدعوه خبزة؟، قال: استخرجهم كما أخرجوك، واغزهم نعزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك مَنْ عصاك".
قلت: رواه مسلم في آخر الكتاب من حديث عياض بن حمار المجاشعي وقد تقدم الكلام عليه في باب الشفقة والرحمة على الخلق. (1)
ونحلته: بالنون والحاء المهملة أي أعطيته، والنحلة: بالكسر العطية من غير عوض ولا استحقاق، وفي الكلام حذف أي: قال الله: كل مال أعطيته عبدًا من عبادي فهو له حلال، والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي وغير ذلك، وإنها لم تصر حرامًا بتحريمهم.
قوله تعالى: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، أي: مسلمين، وقيل: طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين متهيئين لقبول الهداية، والمراد حين أخذ عليهم العهد في الذر، وقال: ألست بربكم قالوا بلى.
(1) أخرجه مسلم (2865).
قوله تعالى: (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم) هكذا هو عند أكثر رواة مسلم بالجيم، ورواه الحافظ أبو علي الغساني فاختالتهم بالخاء المعجمة، والأول أصح، وأوضح أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطن، كذا فسره كثيرون، قيل: ومعناه بالخاء على رواية من رواه بها أي يحبسونهم ويصدونهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، المقت أشد البغض، والمراد بهذا المقت والبغض ما قبل البعثة، والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل.
قوله تعالى: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) معناه: لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده والصبر في الله وغير ذلك، وأبتلي بك من أرسلتك إليهم، فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعاته، ومن يخالف فيتأبد بالعداوة والكفر، ومن ينافق، والمراد أن الله يمتحنهم ليصير ذلك واقعًا بارزًا، فإن الله تعالى إنما يعاقب العباد على ما وقع منهم لا على ما يعلمه قبل وقوعه، وإلا فهو تعالى عالم بجميع الأشياء قبل وقوعها، وهذا نحو قوله:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} ، أي نعلمهم فاعلين ذلك متصفين به.
قوله تعالى: لا يغسله الماء، معناه: محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على عمر الأزمان، وقيل: معناه لا يبطل بالنسخ، وعبر بالغسل عن النسخ.
وأما قوله تعالى: تقرؤه نائمًا ويقظان، أي يكون محفوظًا لك في حالتي النوم واليقظة، وقيل: تقرؤه في يسر وسهولة.
قوله صلى الله عليه وسلم: رب إذًا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، هي بالثاء المثلثة أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أي يكسر.
قوله تعالى: واغزهم نغزك، بضم النون أي نعينك يقال: غزيت فلانًا إذا جهزته للغزو وهيأت له أسبابه (1).
قوله تعالى: وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله، أي نبعث من الملائكة خمسة أمثالهم كما فعل يوم بدر.
4274 -
قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا، فجعل ينادي:"يا بني فهر! يا بني عدي! " لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم كنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلا صدقًا. قال:"فإني نذير لكم بين يدَيْ عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ".
قلت: رواه البخاري في التفسير في سبأ ومسلم في الإيمان كلاهما من حديث ابن عباس. (2)
قوله: تبًّا لك، التب: الهلاك ونصبه بعامل محذوف.
4275 -
ويروى: "نادى: يا بني عبد مناف! إنما مثلي ومثلكم، كمثل رجل رأى العدوّ، فانطلق يَرْبأ أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف: يا صباحاه".
قلت: هذه الرواية رواها مسلم في الإيمان من حديث قبيصة بن مخارق (3) وزهير بن عمر وقالا: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى رضفة من جبل فعلا أعلاها حجرًا ثم نادى: يا بني عبد مناف .... الحديث، ولم يخرج ذلك البخاري ولا أخرج عن قبيصة ولا عن زهير في كتابه شيئًا.
(1) انظر: المنهاج للنووي (17/ 287 - 289).
(2)
أخرجه البخاري (4770)، ومسلم (208).
(3)
أخرجه مسلم (207).
قوله صلى الله عليه وسلم: يربأ هو بفتح الياء آخر الحروف وسكون الراء المهملة وفتح الباء الموحدة والهمزة ومعنى يربأ يرأب، قال في النهاية (1) يقال: ربأت القوم وارتبأ بهم إذا ربئتهم أي تحفظهم من عدوهم، والاسم الربيئة وهو العين. والطليعة، ويا صباحاه: كلمة تستعمل للإنذار بأمر مخوف.
4276 -
قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا فاجتمعوا، فعم وخص، فقال:"يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة ابن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها".
- وفي رواية: "يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمَّد! سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا".
قلت: الحديث والرواية رواهما الشيخان: البخاري في تفسير سورة الشعراء، ولفظ الرواية له، ومسلم في الإيمان ولفظ الحديث له كلاهما من حديث أبي هريرة (2)، والبلال: جمع بلل، والعرب يطلقون النداوة على الصلة كما تطلق اليبس على القطيعة؛ لأنهم رأوا بعض الأشياء تتصل وتختلط بالندواة ويحصل بينها التجافي والتفريق باليبس، استعار البلل لمعنى الوصل واليبس لمعنى القطيعة.
(1) النهاية (2/ 179)، والمنهاج للنووي (3/ 101).
(2)
أخرجه البخاري (4771)، ومسلم (204 - 206).