الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني عشر
19 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» .
قوله: "يوشِك" بكسر الشين المعجمة أي يُسرع وزنًا ومعنى، ويجوز فتح الشين في لغة رديئة.
وقوله: "أن يكون خير مال المسلم" يجوز في خير الرفع والنصب، فإن كان غنم بالرفع فالنصب، وإلا فالرفع، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر، ويقدر في يكون ضمير الشأن، لكن لم تجىء به الرواية، والأشهر في الرواية غنم بالرفع.
وقوله: "شَعَفَ الجبال" بفتح المعجمة، والعين المهملة، جمع شَعَفة كأكَمة وأكَم، وهي رؤوس الجبال، ووقع عند بعض رواة الموطأ شُعَب بضم أوله وفتح ثانيه جمع شعبة، وهي ما انفرج بين جبلين، ويجوز في يتبع تشديد التاء وإسكانها.
وقوله: "مواقعَ القَطْر" بكسر قاف مواقع كمواضع وزنًا ومعنى، عطف على شَعَف، والقطر المطر، والمواقع هي بطون الأودية، وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى.
وقوله: "يفرُّ بدينه" جملة حالية، وذو الحال إما الضمير المستتر في يتبع، أو المسلم لوجود شرط جواز الحال من المضاف إليه وهو شدة الملابسة، فكأنه جزء منه، ويجوز أن تكون استئنافية، والباء في بدينه سببية، أو بمعنى مع، أي يفر بسبب دينه، أو معه.
وقوله: "من الفتن" أي طلبًا لسلامة لا لقصد دنيوي، ومن ابتدائية.
قال النّووي في الاستدلال بهذا الحديث: للترجمة نظر، لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينًا وإنما هو صيانة للدين. قال: فلعله لما رآه صيانة للدين أطلق عليه اسم الدين، وقال غيره: إن أريد بمن كونها جنسية أو تبعيضية فالنظر متجه، وإن أريد كونها ابتدائية أي: الفرار من الفتنة منشؤه الدين فلا يتجه النظر.
وفي معنى هذا الحديث ما أخرجه البخاري في الرقاق عن أبي سعيد أيضًا، قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال:"رجلٌ جاهد بنفسه وماله، ورجل في شِعْب من الشِّعاب، يعبدُ ربه ويدعُ الناس من شره".
والحديثان دالّان على فضل العُزلة لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العُزلة، فالعزلة عند الفتنة ممدوحةٌ إلا لقادر على إزالتها، فتجب الخلطة عينًا أو كفاية بحسب الحال والإِمكان، واختلف فيها عند عدم الفتنة، فقال الجمهور بتفضيل الصحبة لتعلمه، وتعليمه، وعبادته، وأدبه، وتحسين خُلُقه بحلم واحتمال وتواضع ومعرفة أحكام لازمة، وتكثير سواد المسلمين، وعيادة مريضهم، وتشييع جنازتهم، وحضور الجُمَع والجماعات، واختار آخرون العزلة لتحقق السلامة، وليعمل بما علم، ويأنس بدوام ذكره، فبالصحبة والعزلة كمال المرء.
وقال الجُنَيْد نفعنا الله ببركته: مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة. وقال الخطّابي: لو لم يكن في العزلة إلا السلامة من الغِيبة ورؤية المنكر الذي لا يقدِرُ على إزالته لكان في ذلك خير كثير. وقال البُخاري: العزلة راحة
من خِلاط السوء. ورواه ابن أبي شَيْبة عن عُمر، وقد تجب العزلة لفقيه لا يسلم دينه بالصحبة، وتجب الصحبة لمن عرف الحق فاتبعه والباطل فاجتنبه، وتجب على من جهل ذلك ليعلمه. وقال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلِبُ على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى. وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين، ومنهم من يترجح، وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فممن تتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر، فيجب عليه إما عينًا وإما كفاية بحسب الحال والإِمكان، وممن يترجح من يغلِبُ على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يُطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة ترجحت العُزلة لما ينشأ فيها غالبًا من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
وفي حديث أبي سعيد هذا عند البخاري في الرقاق: "يأتي على الناس زمانٌ خير مال المسلم الخ" قال في "الفتح": ولفظه هنا صريح في أن المراد بخيرية العُزلة أن تقع في آخر الزمان، وأما زمنه عليه الصلاة والسلام فكان الجهاد فيه مطلوبًا حتى كان يجب على الأعيان إذا خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غازيًا أن يخرج معه إلا من كان معذورًا، وأما من بعده فيَخْتَلِف ذلك باختلاف الأحوال. وقال الخَطّابي: إن العزلة والاختلاط يختلفان باختلاف متعلقاتهما، فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعلق بطاعة الأئمة وأمور الدين، وعكسها في عكسه، وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان فَمَن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق المسلمين من العيادة وشهود