الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإقبال على الله تعالى، بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة. قال ابن الجوزيّ: إنما أحب الدائم لمعنيين، أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. ثانيهما: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب كل يوم ووقت، كمن لازم يومًا كاملًا ثم انقطع، وهذا الحديث فيه من مزيد شفقته عليه الصلاة والسلام ورأفته بأمته، حيث أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه من غير مشقة، جزاه الله عنا ما هو أهله، والتعبير بأحب هنا يقتضي أن ما لم يداوم عليه صاحبه من الدين محبوبٌ، ولا يكون هذا إلا في العمل ضرورة لأن ترك الإيمان كفر، وفي الحديث الدلالة على استعمال المجاز، وفضيلة المداومة على العمل.
رجاله خمسة:
الأول محمد بن المثنى وقد مر في التاسع من كتاب الإيمان هذا.
والثاني يحيى بن سعيد القطان، وقد مر في السادس منه أيضًا، ومر هشام بن عروة، وأبوه عروة، وعائشة أم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي.
وفي الحديث قلت فلانة ولم يسمها البخاري، وسماها مالك في "الموطأ"، ومسلم، وهي الحولاء بنت تُوَيْت بن حبيب بن أسد بن عبد العُزّى، وتُوَيْت -بضم التاء- مصغر، وكانت امرأة صالحة عابدة مهاجرة، وهي من وهي أمنا خديجة رضي الله عنها.
وهذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ"، ومسلم، والنسائي في الإيمان عن شعيب بن يوسف.
باب زيادة الإِيمان ونقصانه، وقول الله تعالى:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص.
باب بالإضافة لتاليه قطعًا، وقد تقدم له قبل هذا بأبواب عديدة باب تفاضل أهل الإِيمان في الأعمال، وأورد فيه حديث أبي سعيد الخُدْري بمعنى حديث أنس الذي أورده هنا، فتعقب عليه بأنه تكرار، وأجيب عنه بأن الحديث لما كانت الزيادة والنقصان فيه باعتبار الأعمال، أو باعتبار التصديق، ترجم لكل مني الاحتمالين، وخص حديث أبي سعيد بالأعمال لأن سياقه ليس فيه تفاوت في المَوْزُونات، بخلاف حديث أنس الآتي، ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب من وزن الشعيرة والبُرّة والذَّرّة.
قوله: "وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وإنما أعاد المصنف الآيتين المذكورتين في هذا الباب، وقد مرتا في أول كتاب الإيمان ليوطىء بهما معنى الكمال المذكور في الآية الثالثة، لأن الاستدلال بهما نصٌّ في الزيادة، وهو يستلزم النقص، وأما الكمال فليس نصًّا في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله الزيادة، ومن ثم قال المصنف: "فإذا تركَ شيئًا من الكمال فهو ناقص" ولهذه النكتة عدل في التعبير بالآية الثالثة عن أسلوب الآيتين، حيث قال أولًا: "وقول الله" وقال ثانيًا: "وقال"، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأن آية:{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينُكُمْ} لا دليل فيها على مراده، لأن الإكمال إن كان بمعنى إظهار الحجة على المخالفين، أو بمعنى إظهار أهل الدين على المشركين، فلا حجة للمصنف فيه، وإن كان بمعنى إكمال الفرائض لزم عليه أنه كان قبل ذلك ناقصًا، وأن من مات من الصحابة قبل نزول الآية كان إيمانه ناقصًا، وليس الأمر كذلك؛ لأن الإيمان لم يزل تامًّا، ويوضح دفع هذا الاعتراض جواب أبي بكر بن العربي بأن النقص أمر نسبيّ، لكن منه ما يترتب عليه الذم، ومنه ما لا يترتب، فالأول ما نقصه بالاختيار، كمن علم وظائف الدين ثم تركها عمدًا، والثاني ما نقصه بغير اختيار، كمن لم يعلم أو لم يكلف، فهذا لا يُذم، بل يُحمد من جهة أنه كان قلبه مطمئنًا، بأنه لو زيد لقبِلَ، ولو كُلِّف لعَملَ، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض، ومحصله
أن النقص بالنسبة إليهم صوريٌّ نسبيٌّ، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى، وهذا نظير قول من يقول: إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، لاشتماله على ما لم يقع في الكتب التي قبله من الأحكام، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملًا، وتجدد في شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكمليةُ أمر نسبي كما تقرر، وقد وقع الاستدلال بهذه الآية لسفيان بن عُيينة بنظير ما أشار إليه البخاري، أخرجه أبو نُعَيْم في "الحلية" في ترجمته عن عمرو بن عُثمان الرَّقّي، قال: قيل لابن عُيينةَ: إن قومًا يقولون: الإيمان كلامٌ، فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام، فأُمر الناس أن يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا دماءَهم وأموالهم، فلما علم الله صدقهم أمرهم بالصلاة، ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار، فذكر الأركان إلى أن قال: فلما علم الله ما تتابَع عليهم من الفرائضِ، وقبولهم، قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، فمن ترك شيئًا من ذلكَ كسلًا أو مُجونًا أدّبناه عليه، وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحدًا كان كافرًا.
وتبعه أبو عُبيد في كتاب "الإيمان" له، وزاد: إن بعض المخالفين لما أُلزم بذلك أجاب بأن الإيمان ليس هو مجموع الدين، إنما الدين ثلاثة أجزاء، الإيمان جزء، والأعمال جزءان لأنها فرائض ونوافل، وتعقبه بأنه خلاف ظاهر القرآن، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} والإِسلام حيث أطلق مفردًا دخل فيه الإيمان كما مر تقريره.