الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والأربعون
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: "إِنِّى خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ".
قوله: "خرج يخبر" أي: من حجرته، ويخبر إما استئناف أو حال مقدرة لأن الخبر وقع بعد الخروج، على حد:{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي: مقدرين الخلود.
وقوله: "بليلة القدر" أي: بتعيينها، وقد مر الكلام على القدر مستوفى في باب قيام ليلة القدر من الإيمان.
وقوله: "فتلاحى رجلان من المسلمين" -بفتح الحاء- من تلاحى، وهو من التلاحي -بكسرها-، وهو التنازع والمخاصمة، والرجلان عبد الله بن أبي حَدْرد، وكعب بن مالك، وقد عرف الثاني في السادس والأربعين من استقبال القبلة، والأول في الستين منه.
وقوله: "لأخبرَكم" بنصب الراء بأن المقدرة بعد لام التعليل، والضمير مفعول أخبر الأول.
وقوله: "بليلة القدر" سد مسد الثاني والثالث، أي: لأخبركم بأن ليلة القدر هي ليلة كذا.
وقوله: "فرُفِعت" أي: رُفع بيانها أو علمها من قلبي، بمعنى نسيتها، لا أنها رفعت أصلًا، لقوله الآتي:"التمسوها" فلو كان المرافى رفع وجودها لم يأمرهم بطلبها.
ويبين المراد بالرفع حديث مسلم عن أبي سعيد، قال:"فجاء رجلان يحتقّان" بتشديد القاف، أي: يدعي كل منهما أنه المحق "معهما الشيطان" فدل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية، أي: الحرمان، وأن المكان الذي يحضره الشيطان ترفع منه البركة والخير، وإنما كانت المخاصمة في طلب الحق مذمومة لوقوعها في المسجد، وهو محل الذكر لا اللغو، وفي الوقت المخصوص بالذكر لا اللغو وهو شهر رمضان، فالذم لما عرض فيها لا لذاتها، ثم إنها مستلزمة لرفع الصوت، ورفعه بحضرته عليه الصلاة والسلام منهي عنه، لقوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
…
وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.
ومن هنا تتضح مناسبة هذا الحديث للترجمة ومطابقتها له، وقد خفيت على كثير من العلماء، فإن قيل:{وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} يقتضي المؤاخذة بالعمل الذي لا قصد فيه، فالجواب: إن المراد وأنتم لا تشعرون بالإحباط، لاعتقادكم صغر الذنب، فقد يعلم المرء الذنب، ولكن لا يعلم أنه كبيرة، كما قيل في قوله:"إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير" أي: عندهما، ثم قال:"وإنه لكبيرٌ" أي: في نفس الأمر.
وأجاب أبو بكر بن العربي بأن المؤاخذة تحصلُ بما لم يُقصد في الثاني إذا قصد في الأول، لأن مراعاة القصد إنما هي في الأول، ثم يسترسل حكم النية الأولى على مؤتنف العمل، وإن عزب القصد خيرًا كان أو شرًا.
وقوله: "وعسى أن يكون خيرًا" أي: وإن كان عدم الرفع أزيدُ خيرًا وأولى منه، لأنه متحقق فيه، لكن في الرفع خير مرجو، لاستلزامه مزيد الثواب، لكونه سببًا لزيادة الاجتهاد في التماسها، وإنما حصل ذلك ببركة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقوله: "في السبع والتسع .. إلخ" في أكثر الروايات بتقديم السبع التي أولها السين، وفيها إشارة إلى أن رجاءها في السبع أقوى للاهتمام
بتقديمها، وفي رواية أبي نُعَيْم بتقديم التسع على ترتيب التدلّي.
واختلف في المراد بالتسع وغيرها، فقيل: لتسع بقين من الشهر، فتكون ليلة إحدى أو اثنتين وعشرين بحسب تمام الشهر ونقصانه. وقيل: لتسع يمضين من العشر الأواخر، فتكون ليلة تسع وعشرين، وعليه: فقدله: في تسع، أي: وعشرين، وسبع وعشرين، وخمس وعشرين.
وفي رواية لأحمد: "في تاسعة تبقى" وهذه ترجح الوجه الأول.
وأخرج البخاري عن ابن عباس في الاعتكاف هي في العشر الأواخر في تسع يمضين أو في سبع بقين بتأخير السين في الأول وتقديمها في الثاني، وبلفظ المضي في الأول والبقاء في الثاني، وبلفظ المضي فيهما.
ولأبي داود من حديثه بلفظ: "تاسعة تبقى، سابعة تبقى، خامسة تبقى" قال مالك في "المدونة": تاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين
…
إلخ.
وقد وقع سبب آخر لنسيانها فيما أخرجه مسلم عن أبي هُريرة، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:"أريتُ ليلة القدرِ، ثم أيقظني بعضُ أهلي فنسيتها" فإما أن يُحمل على التعدد، بأن تكون الرؤيا في حديث أبي هريرة منامًا فيكون سبب النسيان الإيقاظ، وتكون الرؤية في حديث غيره في اليقظة، فيكون سبب النسيان ما ذُكر من المخاصمة، أو يحمل على اتحاد القصة، ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين، ويحتمل أن يكون المعنى: أيقظني بعض أهلي، فسمعت تلاحي الرجلين، فقمت لأحجز بينهما، فنسيتها للاشتغال بهما.
وقد روى عبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيِّب أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "ألا أخبرُكُم بليلةِ القدر" قالوا: بلى. فسكت ساعة ثم قال: "لقد قلت لكم وأنا أعلمها، ثم أنسيتها" فلم يذكر سبب النسيان، وهو مما يقوي الحمل على التعدد اهـ.