الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجاله سبعة:
الأول: عبد الرحمن بن المُبارك بن عبد الله العيْشي الطُّفاوي ويقال: السّدوسي أبو بكر، ويقال: أبو محمَّد البَصْريّ الخُلْقاني.
قال أبو حاتم: ثقة. ووثقه العِجليّ، وأبو بكر البزار في "مسنده" وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وفي "الزهرة" روى عنه البخاري عشرة أحاديث.
روى عن: وُهيْب بن خالد، وأبي عَوانة، وفُضيل بن سليمان، وحمّاد بن زيد، ويحيى بن سعيد القطّان، وغيرهم.
وروى عنه: البُخاري، وأبو داود، والنّسائي بواسطة، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن سُفيان، ومعاذ بن المُثنى، وأحمد بن إبراهيم الدّوْرقيّ، وغيرهم.
مات سنة ثمان أو تسع وعشرين ومئتين.
وليس في الستة عبد الرحمن بن المبارك سواه.
والطُّفاوي في نسبه نسبة إلى طُفاوة -بضم الطاء- حي من قيس عَيْلان، وهي طُفاوة بنت جرم بن ربان أم ثعلبة، ومعاوية وعامر أولاد أعصر بن سعد بن قيس عَيْلان ولا خلاف أنهم نُسبوا إلى أمهم، وأنهم من أولاد أعصر، وإن اختلفوا في أسماء أولادها. وقيل: إن طُفاوة اسمه الحارث بن أعْصُر، إليه ينسب كل طُفاوي، وحكي أن راسبا وطفاوة اختصموا إلى هَبَنَّقَة الذي يُضرب به المثل في الحمق كل منهما يدعي رجلًا أنه منهم، فقال: القوه في نهر البصرة فإن طفا فطُفاويّ، وإن رسب فراسِبيّ: فقال الرجل: لا حاجة لي بالحيين وانصرف يعدو. والخُلقاني في نسبه بالضم والسكون نسبة إلى بيع خُلقان الثياب بالضم. والعَيْشي في نسبه بفتحِ العين وسكون الياء آخر الحروف، وبالشين المعجمة نسبة
لعائشة بنت تيْم الله. وقد يؤتى بذلك نسبة إلى عائشة بنت طلحة أحَدِ العَشرَة كعُبَيد الله بن محمَّد بن جَعْفر.
هذا الذي قاله الشيخ زكريا في شرح ألْفيَّة العراقيّ. وقال النّوويّ: إنه نسبة إلى عائش بالتذكير بن مالك بن تيم الله بن ثَعْلبة. وكان الأصل فيه العائِشِيّ، ولكنهم خففوه.
ووافقه في تاج العروس على أن اسمه عائش بالتذكير، فقال: وبنو عائش بن مالك بن تيم الله إليه ينسب الصّعق بن حَزْن العائشيّ وغيره من العائشيِّين، لكنه لم يجعل النسبة إليه عَيْشيّ كما فعل النوويّ.
وقال بعد ذلك: وبنو عائشة بطن، والنسبة إليهم عائِشِيّ، ولا تقل العَيْشيّ، ثم قال بعد ذلك: وعُبيد الله بن محمَّد بن حَفْص العَيْشيّ نسبة إلى جدّته عائشة، سمع حمّاد بن سَلَمَة.
قلت: فتحصل من كلامه أنه موافق في أن النسبة لعائشة بنت طلحة عَيْشيّ، ومخالف في النسبة إلى عائش بن مالك، فإنه جعله مذكرًا لا مؤنثًا، كما قال الشيخ زكريا.
والغالب أن هذه النسبة خاصة بالبصريين كما أن الغالب في الشاميين العَنْسيّ بفتح العين وسكون النون نسبة إلى عَنْس حيٍ من اليمن، لَقَب زيد بن مالك بن أُدد، منهم عَمرو بن هانىء العَنْسي، تابعيٌ.
والغالب في الكوفيين العَبْسيّ، بفتح العين وسكون الباء الموحدة، نسبة إلى عَبْس بن بَغِيض بن رَيْت، أبو قبيلة من غَطَفان، منهم عُبيد الله بن موسى العَبْسي وإلى هذا أشار العراقي في "ألفيته" بقوله:
في الشام عَنْسيٌّ بنونٍ وَبِيا
…
في كوفةٍ، والشينُ واليا غَلَبا
والسّدوسي في نسبه مرّ الكلام عليه في قتادة بن دُعامة اهـ.
الثاني: حماد بن زيد بن دِرهم أبو إسماعيل الأزرق الأزْديّ البَصريّ الجَهْضميّ، مولى جَرير بن حازم. قال ابن مَهديّ: ما رأيت أحفظ منه ولا أعلم بالسنة، ولا أفقه بالبصرة، وقال أيضًا: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سُفيان الثَّوريّ بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعيّ بالشام، وحمّاد بن زيد بالبصرة.
وقال أيضًا: ما رأيت أعلم من هؤلاء، فذكرهم، سوى الأوزاعي، وقال أحمد حمّاد بن زيد، إمام من أئمة المسلمين من أهل الدين والإِسلام: وهو أحب إليّ من حمّاد بن سَلَمة وعبد الوارث. وقال ابن سعد: كان حماد بن زيد ثقة ثبتًا حجة كثير الحديث عثمانيا وأنشد فيه ابن المبارك:
أيُّها الطّالبُ علمًا .... إيْتِ حمّادَ بنَ زَيدِ
فَخُذ العِلمَ بحلْمٍ
…
ثُمَّ قَيِّدهُ بِقيدِ
وَدَع البِدْعَة من آ .... ثار عَمرو بن عُبيد
وقال قطر بن حَمَّاد: دخلت على مالك فلم يسألني عن أحد من أهل البصرة إلَّا عن حمّاد بن زيد.
وقال يزيد بن زُريع، وقد سئِل: ما تقول في حمّاد بن زَيْد، وحمّاد ابن سَلَمة أيهما أثبت؟ قال: حمّاد بن زَيْد. وكان الآخر رجلًا صالحًا.
وقال وكيع، وقد قيل له أيهما أحفظ؟ حماد بن زيد. ما كنا نُشَبهه إلا بمِسعَر. وقال يحيى بن يحيى النَّيْسابوريّ: حماد بن زيد ما رأيت أحفظَ منه. وقال يحيى بن معين: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث، وابن عَليّة والثَّقفيّ وابن عُيينة، وقال أيضًا؛ ليس أحدٌ أثبتَ في أيّوب منه. وقال أيضًا: من الناس جميعًا. فالقول قوله في أيوب.
وقال أبو زرعة حماد بن زيد أثبت من حماد بن سَلَمة بكثير، وأصح
حديثًا، وأتقنُ، وقال أبو عاصم: مات حماد بن زيد يَوم مات ولا أعلم له في الإِسلام نظيرًا في هيئته ودَلِّه.
وقال خالد بن خِداش: كان من عُقلاء الناس، وذوي الألباب، وقال يزيدُ بن زُريع يوم مات: اليوم ماتَ سيد المسلمين. وقال أبو الوليد: ترون حماد بن زيد دون شُعبة في الحديث.
وقال عبد الله بن مُعاوية الجُمَحيّ: حدثنا حماد بن زيد بن دِرهم وحمادُ بن سَلَمة بن دينار وفَضْل ابن سَلَمة على ابن زيد كفضل الدينار على الدرهم.
وقال ابن حِبّان في الثقات، وقد وَهِم من زعم أن بينهما كما بين الدينار والدرهم إلا أن يكون القائل أراد فضل ما بينهما مثل الدينار والدرهم في الفضل والدين لأن حماد بن سلمة كان أفْضل وأدْيَنَ وأورع من حماد ابن زيد.
وقال يعقوب بن شَيْبة: حماد بن زيد أثْبتُ من ابن سَلَمة، وكلٌ ثقة، غير أن ابن زَيْد معروف بأنه يُقصِّر في الأسانيد، ويُوقفُ المرفوع، كثير الشك بِتوقِّيه، وكان جليلا لم يكن له كتاب يُرجع إليه، فكان أحيانا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانا يهاب الحديث ولا يرفعه، وكان يُعَدُّ من المُتَثَبِّتين في أيّوب خاصةً.
حدثني الحارث بن مِسكين عن ابن عُيَيْنة قال: لربما رأيت الثَّوريّ جاثيًا بين يدي حماد بن زيد.
وقال ابن أبي خَيْثمة: سأل إنسانٌ عُبيد الله بن عُمر: كان حمّادٌ أُمِّيًّا؟ قال: أنا رأيته وأتيته يوم مطر وهو يكتب ثم ينفخ فيه ليجف. قال: وسمعت يحيى يقول: لم يكن أحد يكتب عند أيّوب إلَّا حماد بن زيد.
وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه رضيت به الأئمة والمعتمدُ في حديث يرويه حماد ويخالفه غيره، عليه، والمرفوع إليه. قال ابن مَنْجَوَيه وابن
حبّان: كان ضريرًا، ولكن ما مر قريبا من أنه يكتب، يدل على أن العمى طرأ عليه.
روى عن: ثابت البَنَانيّ وأنس بن سِيرين وعبد العزيز بن صَهيب وعاصم الأحْول وأبي حازم سَلَمة بن دينار وعَمرو بن دينار وصالح بن كَيْسان وهِشام بن عُروة وعُبيد الله بن عَمرو وغيرهم من التابعين فمن بعدهم.
وروى عنه: ابن المُبارك وابن مَهديّ وابن وَهْب والقطّان وابن عُيينة، وهو من أقرانه، والثَّوريّ، وهو أكبر منه، إبراهيم بن أبي عَبْلة، وهو في عِداد شُيُوخه، ومُسَدِّد وسُليمان بن حَرب وعفّان وعليّ بن المَدينيّ، وقُتيبة وخلق آخرهم الهَيْثم بن سَهل التَّسْتُريّ مع ضعفه.
ولد سنة ثمان وتسعين، ومات في رمضان سنة تسع وسبعين ومئة.
وليس في الستة حماد بن زيد سواه. وأما حماد فكثير، والأزْديّ مرّ الكلام عليه في السادس من بدء الوحي، ومر الكلام على البصري في الثالث من كتاب الإِيْمان، والجَهْضميّ في نسبه نسبةً إلى جَهضَم كجعْفَر، وهو ابن عَوْف بن مالك بن فَهْم بن غَنم بن دَوْس بن عَدْنان.
وقيل: جَهْضم بن جُذَيمة الأبرش بن مالك، وإليه ينسب الجَهْضَميُّون، والجهاضِم أيضًا محلّة بالبصرة، نُسبت إليهم، وهم اثنا عشر فخذًا: مَعن وسُليمة وهَناءة وجَهْضَم وشَبابَة وفَرْهُود وجُرْموز ومَسْلمة وعمرو وظالِم والحارِث.
ونَصْرُ بن علي الجهضميّ نسب إلى هذه المَحَلّة: أحد شيوخ البخاريّ ومسلم.
وأبو جهضم موسى بن سالم مولى بني هاشم، روى عن الباقِر، وروى عنه حماد بن زيد ويحيى بن آدم.
قلت: يحتمل عندي أن يكون حماد بن زيد أيضًا منسوبًا إلى هذه
المحلة، لأنه بَصْريّ والمحلة بالبصرة أيضًا، وإن كان جَهْضَم بطنًا من الأزْد، وقد مر أنه أزْديّ، ومر الكلام على المُتَّفق والمُفْترق في الرابع من بدء الوحي مُستوفى.
ونعيد هنا الكلام على قسم منه لتعلقه بحماد وهو ما يقع الاتفاق فيه في اسم فقط أو كنية أو نسبة فيقع في السند واحد منهم باسمه أو كنيته أو نسبته فقط، مهملا عن ذكر أبيه، أو غيره مما يتميز به عن المشارك له فيما يرويه، فيُشكِل الأمر فيه ويلْتَبس.
وللخطيب فيه كتاب مفيد سماه المُكْمل في بَيان المُهْمل. نحو: حماد إذا أُهمل مما يتميز به فإن يكن المطلق له ابن حَرب أو عارِم فالمراد به حماد بن زيد هذا، وإن أطلقه التَّبوذكيّ أو عفّان أو حجّاج بن مُنهال، فالمراد به حمّاد بن سَلَمة، وأشار العراقيّ إلى ذلك بقوله:
ومنه ما في اسمٍ فقَطْ ويُشْكِل
…
كنحْوِ حمّاد إذا ما يُهملُ
فإن يَكُ ابنَ حربٍ أو عارِمٍ قد
…
أطلقه فهو ابن زيد أوْ وَرد
عن التَّبُوذكيّ أو عَفّانِ
…
أو ابن مُنهالٍ فذاك الثاني
الثالث: أيّوب السّخْتيانيّ، وقد مر في التاسع من كتاب الإِيْمان.
الرابع: يونُس بن عُبيد بن دينار العَبديّ، مولاهم أبو عُبيد البَصريّ. رأى أنسًا.
قال هشام بن حسّان ما رأيت أحدًا يطلب وجه الله تعالى إلا يونُس ابن عبيد. وقال ابن سعدٍ: كان ثقة كثير الحديث، قال: ما كتبت شيئًا قط. ولما مات حمله بنو العبّاس على أعناقهم، وقال سُفيان بن حَسَن: حدّثني الثقة يونُس بن عُبيد. وقال ابن حِبان في الثقات: كان من سادات أهل زمانه علمًا وفضلًا وحفظًا وإتقانًا وسنّة وبُغضا لأهل البدع مع التَّقشُّف الشديد، والفقه في الدين، والحفظ الكثير.
وقال خوُيلٌ خَتَنُ شُعبة: سمعتُ يونُس بن عُبيد يقول لابنه: أنهاك عن الرِّياء والسَّرقة وشُرْب الخمر، ولأنْ تلقى الله تعالى بهنّ أحب إلي من أن تلقاه برأي عَمرو بن عُبيد وأصحابه.
وقال ابن شَوْذب: اجتمع يونس بن عبيد وابن عَوْن، فتذَاكرا الحلال والحرام، فكلاهما قال: ما أعلم في مالي درهمًا حلالًا. وقال ابن عائشة عن شيخ له التقى يونُس وأيوبَ، فلمّا وَلى يونس قال أيوب: قَبّح الله العيشَ بعدك. وقال حمّاد بن زَيْد: كان يونُس بن عبيد يحدثنا ثم يستغفر الله ثلاثًا.
وقال مُؤمَّل بنُ إسماعيل: جاءَ رَجُلٌ شاميُّ إلى سوق الخَزَّازين فقال: عندك مطرفٌ بأربع مئة؟ فقال يونس: عندنا بمئتين، ثم قام إلى الصلاة ورجع، فوجد ابن أخيه باع المِطرف من الشاميّ بأربع مئة، فقال يونس يا عَبد الله: هذا المطرف الذي قد عَرضتُ عليك بمائتين، فإن شئت خذه وخذ مئتين، وإن شِئت فدعه، قال: من أنت؟ قال: أنا يونس بن عبيد. قال: فوالله إنا كنا في نحو العدُوّ، فإذا اشتد علينا الأمر قلنا: اللهمَّ رب يونس فَرِّج عنا، فيفرج عنا، فقال سبحان الله سبحان الله.
وقال سعيد بن عامر: قال يُونُس: هانَ علي أن آخذ ناقصًا وغلبني أن أُعطى راجحًا، وقال ابن أبي مطيع: ما كان يونس بأكثرهم صلاةً ولا صوما ولكن لا والله ما حُضِرَ حق من حقوق الله تعالى، إلا وهو متهىِّء له.
وقال النَّضر بن شُميل: غلا الخَزُّ في موضع، وكان يونس خَزّازًا فعلم بذلك، واشترى متاعا بثلاثين ألفًا، ثم قال لصاحبه: هل كنت علمت أن المتاع غلا هناك؟ قال: لا، ولو علمت لم أبع، فقال هلُمَّ إلى مالي، وخذ مالك، فرَدَّهُ عليه.
وقال بِشر بن المُفضَّل: جاءت امرأة بمِطرف خزٍّ إلى يونس بن عبيد، فألقته إليه تعرضه عليه في السوق، فنظر إليها، فقال لها: بكم؟ فقالت: بستين درهمًا، فألقاه إلى جار له فقال: كيف تراه؟ قال: بعشرين ومئة.
قال: إلى ذلك ثمنه. فقال لها: أتسْتأمِرِي أهلَكِ في بَيْعه بخمس وعشرين ومئة.
وقال إسحاق بن إبراهيم: نظر يونُس بن عُبيد إلى قدميه عند موته، فبكى، فقيل له، فقال: قدماي لم تَغْبرّا في سبيل الله تعالى.
وقال سُليمان بن عبد الملك جاره: ما رأيتُ رجلًا قط كان أشد استغفارًا من يونس. وقال حماد بن زيد: سمعته يقول: عمدنا إلى ما فيه صلاح الناس فكتبناه وعمدْنا إلى ما يُصْلحنا فتركناه، وقال أبو جعفر حسن. قلت ليونس بن عبيد: مررت بقومٍ يختصمون في القَدَر، فقال: لو هَمَّتْهُم ذنوبهم ما اختصموا في القَدَر، وقال خُوَيْل بن واقِد الصّفَّار: سمعتُ رجلًا سأل يونس بن عبيد: فقال جارٌ لي معتزلي مريض أَعودُه؟ فقال: أما لحِسبةٍ فلا، وقال يزيد بن رُزَيْع، ما منعني أن أحمل عن يونُس أكثر مما حملَتُ عنه إلا أني لم أكتب عنه إلا ما قال: سمعت أو سألت أو حدثنا الحسن.
وقال أحمد وابن معِين والنّسائي: ثقة. وقال عثمان الدارمِيّ: قلت لابن مَعين: يونُس أحب إليك في الحَسَن أو حُمَيْد؟ فقال: كلاهما.
وقال ابن المَدينيّ: يونُس بن عُبيدٍ أثبت في الحسن من ابن عَوْن، وقال أبو زُرعة يونس أحب إلي في الحسن من قتادة لأن يونس من أصحاب الحسن وقَتَادة ليس من أقران يونُس، ويونس أحب إلي من هشام بن حَسّان. وكذا قال أبو حاتم وزاد: هو ثقة أكبر من سليمان التَّيْميّ، ولا يبلغ التيمي منزلة يونس.
وقال سَلَمة بن عَلْقمة: جالست يونس بن عُبيد، فما استطعت أن آخذ عليه كلمة.
روى عن إبراهيم التّيمي وثابت البَنَانيّ والحَسَن البَصْريّ، ومحمد ابن سيرين، وعبد الرحمن بن أبي بَكْرة، ونافع مولى ابن عُمر، وعطاء ابن أبي رَباح، وعطاء بن فرّوخ، وجماعة.
وروى عنه: ابنه عبد الله، وشُعبة، والثَّوريّ، ووُهيب، والحمّادان، ويزيد، وابن عُليّة، وبِشْر بن المُفضّل، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وآخرون.
ولد قبل الحارث. ومات سنة تسع وثلاثين ومئة، وقيل سنة أربعين.
وفي الستة يونس بن عُبيد سواه، واحدٌ، الثَّقفي مولى محمَّد بن القاسم. روى عن البَراء بن عازِب. وفي الرواة يونُس بن عُبيد الثقفي أيضًا. وهو الذي خاصم معاوية في زياد لأن زيادًا كان ينتمي إلى عُبيد قبل استلحاق معاوية له، وأما يونس بن عبيد العُمريّ فالصحيح أن اسم أبيه عبد الله.
الخامس: الحسن بن أبي الحسن أبو سَعيد الأنصاريّ البصريّ مولى زيد بن ثابت. ويقال مولى أبي اليُسْر الأنصاريّ، وقيل: مولى جابر بن عبد الله، واسم أبيه أبي الحسن يَسَار، وأُمه خَيْرَةُ بالخاء المعجمة والياء الساكنة آخر الحروف، مولاة أم سَلَمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت تقصُّ للنساء، دخل عليها يوما وفي يدها كُرّاثةٌ تأكلها، فقال لها: يا أمّاه، ألقِ هذه البقلة الخبيثة من يدك، فقالت له: يا بُني، إنك شيخ قد كبرت وخرفت، قال: يا أماه أيُنا أكبر؟.
وأكثر كلامه حِكَمٌ وبلاغة، وهو أحد أئمة الهُدى والسنة، قال ابن سَعْد: ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه، نشأ بوادي القُرَى وكان فصيحًا، وقيل إن أمه كانت تغيب عنه فيبكي فتعطيه أم سَلَمة ثديها تُعَلِّلُه به إلى أن تجيء أمه فيَدِر ثديها فيشربه، وكانوا يروْن أن تلك الفصاحة والحكمة من بركتها.
قال ابن سعد أيضًا: كان الحسن جامعًا عالمًا رفيعًا فقيهًا ثقةً مأمونًا عابدًا ناسكًا كثير العلم، فصيحًا جميلًا وسيمًا. وكل ما أسند من حديثه، وروى عمن سمع فهو حجة وما أرْسَل فليس بحجة.
وقال أنس بن مالك: سلوا الحسن فإنه حَفِظ ونَسِينا، وقال سليمان التَّيْمي: الحَسَن شيخ أهل البصرة. وقال مَطَر الورّاق: كان جابر رجل أهل البصرة، فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان في الآخرة، فهو يُخبر عمّا رأى وعاين.
وقال عاصم الأحول: قلت للشَّعبيّ: لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت إلى البصرة فاقرأ الحسن مني السلام. قلت: ما أعرفه. قال: إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينك وأهيبه في صدرك، فاقرأه مني السلام: قال: فما عَدّى أن دَخَل المسجد فرأى الحسن والناس حوله جلوس، فأتاه فسلم عليه.
وقال قتادة ما جالست فقيهًا قَطّ إلا رأيت فضل الحسن عليه.
وقال أيّوب: ما رأت عيناي رجلًا قط كان أفقه من الحسن. وقال بَكر المُزَنيّ: من سرّه أن ينظر إلى أعلم عالم أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا الذي هو أعلم منه.
وقال يونس بن عبيد: إن كان الرجل ليرى الحسن لا يسمع كلامه ولا يرى علمه فينتفع به. وقال هو أيضًا وحُميد الطّويل: رأينا الفقهاء فما رأينا أحدًا أكمل مروءة من الحسن. وقال الحَجّاج بن أرطَأة: سألت عطاء ابن أبي رَبَاح فقال لي: عليك بالحسن ذاك، إمام ضخم يُقتدى به.
وقال الربيع بن أنس: اختلفت إلى الحسن عَشْر سنين أو ما شاء الله، فليس من يوم إلا وأسمع منه ما لم أسمع قبل ذلك. وقال الأعمش ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها وكان إذا ذُكر عند الباقر قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
وقال يونس بن عُبيد: ما رأيت رجلًا أصدق بما يقول منه ولا أطول حُزْنًا وقال ابن عَوْن؛ كنت أشبّهُ لهجة الحسن بلهجة رُؤْبَة في الفصاحة.
وقال العِجليّ: تابعيّ ثقة، رجل صالح، صاحب سنّة، قدِم مكة
فأجلسوه واجتمع الناس إليه، وفيهم طاوُوس ومُجاهد وعطاء وعَمرو بن شُعيب، فحدّثهم، فقالوا، أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط.
وقال أبو عَمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، والحجاج بن يوسف الثقفي. فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن.
وكان من أجمل أهل البصرة حتى سقط عن دابته، فحدث بأنفه ما حدث.
ومن كلامه: ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت.
ولما وَلِي عُمر بن هُبيرة الفَزاريّ العراق وأضيفت إليه خراسان، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سِيرين والشّعبيّ، وذلك في سنة ثلاث ومئة، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولّاني ما ترون، فيَكتُب إليّ بالأمر من أمره فأُقَلِّده ما تَقَلّده من ذلك الأمر، فما ترون؟ فقال ابن سيرين والشعبيّ قولًا فيه تقية، فقال ابن هُبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هُبيرة، خفِ الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله. إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله. وأوشك أن يبعث إليك ملكا فيُزيلك عن سريرك، ويُخرجك من سَعَة قَصْر إلى ضِيقِ قبر، ثم لا يُنجيك إلا عملك، يا ابن هُبيرة، إنْ تَعْص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدينه وعباده، فلا تَرْكبَنَّ دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فأجازهم ابن هُبيرة وأضْعَف جائزة الحسن، فقال الشعبيُّ لابن سيرين: سَفْسَفْنا له فَسَفْسفَ لنا.
ورأى الحسن يومًا رجلًا وسيمًا حسن الهيئة، فقيل له: إنه يَسخَرُ للملوك ويحبونه، فقال: لله أبوه، ما رأيت أحدا طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا.
ويقال إنه أغمي عليه عند موته، ثم أفاق، فقال: لقد نبَّهتُموني من جَنّات وعيون ومقام كريم. وقيل قبل موت الحسن لابن سيرين: رأيت كأنّ طائرًا أخذ أحسن حصاة بالمسجد، فقال: إن صَدَقت رُؤياك مات الحسن. فلم يكن إلا قليل حتى مات الحسن.
وقال ابن حِبّان في الثقات، احْتَلَم سنة سبع وثلاثين، وأدرك بعض صفّين، ورأى مئة وعشرين صحابيًا، وكان يُدلِّس.
وكان من أفصح أهل البصرة وأجملهم وأعبدهم وأفقههم.
وقال ابن المدينيّ: مُرْسلات يحيى بن أبي كثير شبه الريح، ومرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها.
قال أبو زُرعة: كل شيء قال الحسن فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدتُ له أصلًا ثابتا ما عدا أربعة أحاديث.
وقال يونس بن عُبيد: قلت للحسن: يا أبا سعيد، إنك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت لم تدركه، فقال: يا ابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك به، إني في زمان كما ترى، وكان في عمل الحجاج، كل شيء سمعتني أقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن عليّ، غير أني لا أستطيع أن أذكر عليا.
وقال الدّارقطني: مراسيله فيها ضَعْف، وقال الذّهبي: كان الحسن كثير التدليس، فإذا قيل في حديث: عن فلان، ضَعَّف احتجاجه، ولا سيما عمن قيل إنه لم يسمع منه كأبي هريرة ونحوه.
وروى قتادة عنه: الخيرُ ليس بقَدَر، والشر ليس بقدر. قال أيّوب: فناظرته في هذه الكلمة، فقال: لا أعود.
وقال حُميد الطويل: سمعته يقول: خلق الله الشياطين وخلق الخير وخلق الشر. وقال حُميد أيضًا: قرأت القرآن على الحسن ففسره على إثبات القدر. وقال ابن عَوْف: سمعت الحسن يقول: من كَذّب بالقدر فقد كفر.
ولم يحج الحسن إلا حجتين. كان رضي الله عنه شجاعًا من أشجع أهل زمانه، وكان عرضُ زنده شبرًا. وقال: غزونا خُراسان ومعنا ثلاث مئة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الفُضَيل بن عِياض: سألت هشام بن حسّان كم أدرك الحسن من الصحابة؟ فقال: مئة وثلاثين. قال: وابن سيرين؟ قال: ثلاثين. قيل: إنما سمع من ابن عمر حديثًا واحدًا ولم يسمع من ابن عباس ولا من عائشة رضي الله عنهما، ولا من جابر بن عبد الله. وقال أبو زُرعة: لم يسمع الحسن من أبي هريرة ولا رآه. ومن قال في الحديث عن الحسن حدثنا أبو هريرة فقد أخطأ. وسُئِل: أَلَقِي الحسن أحدًا من البدريين؟ قال: رآهم رؤية، رأى عثمان وعليا. قيل له: سمع منهما؟ قال: لا، كان الحسن يوم بويع علي رضي الله عنه، ابن أربع عشرة سنة، رأى عليًا بالمدينة، ثم رجع علي إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك.
وقال أبو رَجَاء: قلت للحسن: متى خرجت من المدينة؟ قال: عام صفّين، قلت: متى احتلمت؟ قال: عام صفين.
وقال ابن مَعين: إنه لم يسمع من أبي بَكْرة، وكذلك قال الدارقطني.
وقال إن بينه معه الأحنف، واحتج بما رواه البخاريّ هنا، وذهب غيرهما إلى صحة سماعه منه واستُدل بما أخرجه البخاري أيضًا في الفتن، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا سيدٌ. ففي هذا الحديث قال الحسن: ولقد سمعتُ أبا بَكرة يقول: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، قال البخاري: قال ابن المدِينيّ: إنما صح عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث.
قال الباجيّ: الحسن المذكور في هذا الحديث الذي قال فيه سمعت أبا بكرة إنما هو الحسن بن علي رضي الله عنهما، وليس بالحسن البصري، وما قاله غير صحيح.
رأى عليًا وطَلْحة وعائشة، وكتب للربيع بن زياد والي خُراسان في زمن معاوية.
روى عن: أُبيّ بن كعب وسعد بن عُبادة وعمر بن الخطاب، ولم يدركهم، وروى عن: ثَوْبان وعمّار بن ياسر وعثمان بن أبي العاص، ومعاوية ومَعْقل بن يسار، وأنس وجابر، وخلق كثير من الصحابة والتابعين.
وروى عنه: حُميد الطّويل، ويزيد بن أبي مريم، وأيوب وقَتادة، وعَوْف الأعرابيّ، وجرير بن حازم، وشَيْبان النَّحْويّ، وابن عون، وخالد الحذّاء، ويونس بن عبيد، ومَعْبَد بن هلال، وآخرون من آخرهم يزيد ابن إبراهيم التّستريّ، ومعاوية بن عبد الكريم الثَّقفيّ المعروف بالضّال.
مات رضي الله عنه مَسْتَهلّ رجب سنة عشر ومئة، وكانت جنازته مشهورة. قال حُميد الطويل: توفي عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره وحملناه بعد صلاة الجمعة، ودفنّاه فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تقم صلاة العصر بالجامع ولا أعلم أنها تُركت منذ كان الإِسلام إلا يومئذ، لأنهم تبعوا الجنازة كلهم، حتى إنه لم يبقَ في المسجد من يصلي العصر.
وليس في الستة الحسن بن أبي الحسن سواه، وأما الحسن فكثير، والبصري في نسبه مر الكلام عليه في الثالث من كتاب الإِيْمان.
السادس: الأحْنف بن قَيْس بن معاوية بن حُصَيْن بن عُبادة بن النّزّال ابن مُرّة بن عُبيد بن الحارث بن عَمرو بن كَعْب بن سَعْد بن زَيْد منَاة بن تميم التّميميّ أبو بحر، واسمه الضحاك. وقيل: صخر. وقيل الحارث
المعروف بالأحنف الذي يضرب به المثل في الحِلْم.
ولد رضي الله عنه أحْنَف، والأحنف الأعوج من الحَنَف، وهو الاعوجاج في الرِّجل، وهو أن يَنْفَتل إحدى الإِبهامين من إحدى الرِّجْلين على الأخرى. وقيل: هو الذي يمشي على وَحْشيِّ رِجْله، أي: ظهرها.
ولد ملتصق الألْيتين حتى شُق ما بينهما، وكان أعور ذهبت عينه في فتح سَمَرْقند، وقيل: ذهبت بالجُدريّ، وكان متراكب الأسنان، صغير الرأس، مائل الذَّقن. وكان أطلس أي لا شعر في وجهه، وهو أحد الطُّلس الأربعة، والآخرون: شُريح القاضي، وعبد الله بن الزُّبير، وقيس ابن سَعد بن عبادة.
كُنّي بابنه بحر. وكان مَصعُوفًا أي: فيه رِعْدة، وقد قيل له: لم لم تتأدب بأخلاق أبيك؟ قال: من الكسل. ومات وانقطع عَقِبُه.
كان الأحنف رضي الله عنه، من سادات التابعين، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسْلم، وقيل: أسلم على عهده ولم يره. ويُروى بسند فيه لِين: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعى له.
وروى ابن قُتيبة لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني تميم يدعوهم إلى الإِسلام، كان الأحنف فيهم، ولم يجيبوا إلى اتباعه، فقال لهم الأحنف: إنه ليدعوكم إلى مكارم الأخلاق، وينهاكم عن ملَائمِها، فأسْلموا وأسلم الأحنف. والصحيح أنه لم يفِد على النبي صلى الله عليه وسلم، ووفد على عمر رضي الله عنه.
وهو الذي افتتح مَرْو الرُّوذ، وكان في جيشه الإِمامان الحَسن وابن سيرين.
ذكره ابن سَعْد في الطبقة الأولى من أهل البصرة، وقال: كان ثقة مأمونًا قليل الحديث. وقال الحسن: ما رأيت شريف قومٍ أفضل من
الأحنف. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مُصعب بن الزُّبير يوم موته: ذهب اليوم الحزم والرأي.
وروى أحمد في الزهد: أن الأحنف بلّغه رجلان دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم له، فسجد.
كان سيد قومه، موصوفًا بالدهاء والحلم والعلم، قال فيه الثَّوريّ: ما وُزِن عقل الأحنف بعقل إلا وَزَنه. شهد صفين مع علي رضي الله عنه. ولم يشهد وقعة الجمل مع أحد من الفريقين.
ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوما فقال له معاوية: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حَزَازة في قلبي إلى يوم القيامة، فقال له: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها وإن تَدْن من الحرب فترًا نَدْنُ منه شبرا، وإن تمش إليها نُهَرول إليها، ثم قام وخرج. وكانت أخت معاوية من وراء الحجاب تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ فقال: هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مئة ألف لا يدرون فيم غضب.
وسُئل عن الحِلم ما هو فقال: الذلّ مع الصبر. وكان يقول إذا عجب النَّاس من حلمه: إني لأجد ما تجدون، ولكني صبور. ومن طريق الحسن عن الأحنف قال: لستُ بحليم، ولكني مُتحالمٌ، وكان يقول: وجدتُ الحِلم أنْصر لي من الرجال.
وكان يقول: ما تعلمت الحِلم إلا من قيس بن عاصم المِنْقريّ، لأنه قَتَل ابن أخ له بَعْض بنيه فأُتي بالقاتل يقاد إليه مكتوفًا. فقال: ذَعَرْتُم الفتى ثم أقبل على الفتى وقال له: يا بُنيّ، بئس ما فعلت، نقَصت عَدْوَك، وأوهنت عَضُدك، وأشْمتَّ عدوَّك، وأسأت بقومك، خلّوا سبيله، واحملوا إلى أم المقتول ديته، فإنها غريبة. ثم انصرف القاتل وما حَلّ قَيْس حَبْوته، ولا تغيّر وجهه.
ومن كلامه: جَنّبوا مجلسنا ذكر الطّعام والنّساء فإني لأُبْغض الرجل يكون وصّافا لفرجه وبطنه، وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه.
ومن كلامه: ما دخلتُ بين اثنين قَطُّ حتى يُدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من الملوك إلا أن يكون داعيا لي، وما حَلَلتُ حَبْوتي إلى ما يقوم الناس إليه. ومن كلامه: ما خان شريف، ولا كذب عاقل، ولا اغتاب مؤمن، وقال: ما ادَخَرَت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتي للأحياء أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب والآداب.
وقال: كثرة الضحك تُذْهب الهَيْبة، وكثرة المِزاح تُذْهب المروءة، ومن لَزِم شيئًا عُرف به. وسمع رجلًا يقول: لا أبالي أمدِحْتُ أم ذُمِمت. فقال له: لقد استرحت من حيث تعب الكرام.
ومن كلامه: ألا أدلكم على المَحْمَدَة بلا مرْزية؟ الخُلُق السّجِيع، والكف عن القبيح. ألا أُخبركم بأدواء الأدواء؟ الخُلُق الدنيء واللسان البذيء.
وروي أن معاوية رضي الله عنه، لما نَصَّب ولده يزيد لولاية العهد، أقعده في قبة حمراء فجعل الناس يسلّمون على معاوية، ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية. فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك إن لم تُوَلّ هذا لأمور المؤمنين أضعتها، والأحنف ابن قيس جالس، فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحْر؟ فقال: أخاف الله إن كذبتُ، وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك عن الطاعة خيرًا، وأمر له بألوف. فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، وقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن شَرّ من خلق الله تعالى هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلا يُطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحْنف: أمْسك عليك، فإن ذا الوجهين خليقٌ أن لا يكون عند الله وجيها.
وكان زياد بن أبيه مدة توليته على العراق كثير الرعاية للأحْنف، ولما تولّى ولده عُبيد الله بعده تغيرت منزلته عنده، وصار يُقدِّم عليه من لا يساويه، ثم إن عبيد الله جمع أعيان العراق وفيهم الأحنف، وتوجه بهم إلى الشام للسلام على معاوية، فلما وصلوا دخل عبيد الله على معاوية، وأعلمه بوصول رؤساء العراق، فقال أدخلهم إليّ أوّلًا فأولًا على قدر مراتبهم عندك، فخرج إليهم وأدخلهم على الترتيب، وكان آخر من دخل الأحنف، فلما رآه معاوية، وكان يعرف منزلته، ويبالغ في إكرامه لتقدمه وسيادته، قال له: إليّ يا أبا بحر، وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه يسأله عن حاله ويحدثه، وأعرض عن غيره، ثم إن أهل العراق أخذوا في الثناء على عبيد الله والأحْنف ساكت، فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بَحْر؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم، فقال: اشهدوا عليّ أني قد عزلت عنكم عبيد الله، وقوموا وانظروا في أمير أوَلِّيه عليكم، وترجعون إليّ بعد ثلاثة أيّام. فلما خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإِمارة لأنفسهم، وفيهم من عيّن الإِمارة لغيره، وسعوا في السر مع خواص معاوية أن يفعل لهم ذلك، ثم اجتمعوا بعد ثلاثة أيّام فدخلوا عليه، فأجلسهم على ترتيبهم في المجلس الأول، وأخذ الأحنف إليه كما فعل أوّلا، وحادَثَه ساعة، ثم قال: ما فعلتم فيما انفصلتم عليه؟ فجعل كل واحد يذكر شخصًا، وطال حديثهم في ذلك، وأفضى إلى منازعة وجدال، والأحْنف ساكت، ولم يكن في الأيام الثلاثة تحدث مع أحد في شيء، فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بَحْر؟ فقال: إن ولّيت أحدًا من أهل بيتك لم نجد من يَعْدِل عبيد الله، ولا يسد مَسَدّه، وإن وليت من غيرهم، فذلك إلى رأيك، ولم يكن في الحاضرين الذين بالغوا في المجلس الأول في الثناء على عبيد الله من ذكره في هذا المجلس، ولا سأل عَوْدهُ إليهم، فلما سمع معاوية مقالة الأحْنف قال: اشهدوا عليّ أني قد أعدتُ عليكم عبيد الله. فكلٌّ منهم ندم على عدم تعيينه، وعلم معاوية أن شكرهم لعُبيد الله لم يكن لرغبتهم فيه، بل كما جرت العادة في حق
المولى، فلما انفصلت الجماعة من مجلس معاوية خلا بعبيد الله، وقال: كيف ضيّعت مثل هذا الرجل؟ يعني الأحْنف. فإنه عَزَلَك وأعَادك وهو ساكت. وهؤلاء الذين قدمتهم عليه واعتمدت عليهم لم ينفعوك ولا عرّجوا عليك لمّا فوضْتُ الأمر إليهم، فمِثل الأحْنف من يتخذه الإِنسان عونًا وذُخرًا، فلما عادوا إلى العراق أقبل عليه عبيد الله وجعله بطانَتَه، وصاحب سرِّه.
وبقي الأحْنف إلى زمن مُصْعب بن الزُّبير رضي الله عنهما. فخرج معه إلى الكوفة، ومات بها سنة سبع وستين على الصحيح، وقيل سنة إحدى وسبعين، وقيل سبع وسبعين، وقيل ثمان وستين، وكان قد كبر جدًّا ودفن بالثُّوَيَّة موضع بظاهر الكوفة، فيه قبور جماعة من الصحابة، وغيرهم.
وحكى عبد الرحمن بن عِمارة بن عُقْبة بن أبي مُعَيْط قال: حضرت جنازة الأحْنف بالكوفة فكنت ممن نزل قبره، فلما سويته وجدته قد فُسِح له في قبره مد بصري، فأخبرت أصحابي بذلك، فلم يروا ما رأيت.
روى عن: عمر وعثمان وعلي وسَعد وابن مسعود وأبي ذر وغيرهم.
وروى عنه: الحسن البصريّ وأبو العلاء ابن الشِّخِّيْر وطَلْق بن حَبِيب وغيرهم. وليس في الستة الأحْنف سواه.
السابع: أبو بَكرة: واسمه نُفَيع بن مَسْروح على الصحيح، لما رُوي أنه قال: أنا من إخوانكم في الدين، وأنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبى الناس إلَّا أن ينسبوني فأنا نُفَيع بن مَسْرُوح.
ونفيع بالتصغير وهو مولى الحارث بن كَلَدَة بفتحات، طبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه ابن الحارث بن كَلَدَة، وكلدة بن عُمر بن عِلَاج بن أبي سَلَمة بن عبد العُزّى بن غِيَرَة، بكسر الغين وفتح الياء آخر الحروف، ابن عوف بن قَسِيّ، بفتح القاف وكسر السين المهملة، وهو ثَقيفُ بن
مُنبِّه وأمُّه سُميّة أمَة للحارث بن كَلَدة، وهو أخو زياد لأُمِّه، ولما استلحقه معاوية، ورضي بذلك، آلى أبو بكرة يمينا أنْ لا يكلمه أبدًا، وقال: هذا زَنّى أمَّه، وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سُمَيّة رأت أبا سُفيان قط، وَيْله ما يصنع بأم حَبِيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؟ أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته وإن رآها فيا لها مصيبة يهتِك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حُرْمةً عظيمة.
وحج زياد في زمن معاوية، ودخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبة، ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك، وقيل: إنها حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها. وقيل: إنه حج ولم يزُر من أجل قول أبي بكرة، وقال: جزى الله أبا بكرة خيرًا فما يَدَعُ النصيحة على حال.
وأبو بكرة ممن نزل يوم الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف في بَكْرة، فكُنّي من أجل ذلك بأبي بَكْرة، وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معدود في مواليه، وكان من فضلاء الصحابة وصالحيهم. كان مثل النَّصْل من العبادة حتى مات.
وقال الحسن البَصْريّ: لم يترك البصرة من الصحابة ممن سكنها أفضل من عِمران بت حُصَين وأبي بَكرة، وكان أولاده أشرافًا بالبصرة بالولايات والعلم، وله عَقيبٌ كثير.
كان قد شهد على المُغيرة في ثلاثة، ونَكَلَ زياد، والثلاثة هم: هو ونافع بن الحارث وشِبل بن مَعْبد وحَدَّهم عمر رضي الله عنه إذ لم تتم شهادتهم، ولم يجلد زيادًا لأنه نكل، ثم استتابهُم، فتاب الاثنان، فجازت شهادتهما، وأبى أبو بَكرة أن يَتوب، وقال لعمر، لما قال له: تُبْ لتقبل شهادتك: إنما تَسْلبُني لتقبل شهادتي؟ قال: أجل، قال: لا جَرَم، لا أشهد بين اثنين ابدًا ما بقيت في الدنيا.
قال سعيد بن المُسيِّب: وكان أفضل القوم، وقال العجليّ: كان من خيار الصحابة وعن الحسن البصري قال: مرّ أنس بن مالك وقد بعثه زياد
إلى أبي بكرة يعاتبه، فانطلقتُ معه، فدخلنا على الشيخ وهو مريض، فأبلغه عنه فقال: إنه يقول: ألم أستعمل عُبيد الله على فارس وروادا على دار الرزق وعبد الرحمن على الديوان؟ فقال أبو بكرة: هل زاد على أن أدخلهم النار؟ فقال له أنس؛ إني لا أعلمه إلا مجتهدًا، فقال الشيخ: أقعدوني، إني لا أعلمه إلا مجتهدًا، وأهل حَرَوْرَاء قد اجتهدوا فأصابوا أو أخطأوا. قال أنس: فرجعنا مخصومين.
له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة واثنان وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاريّ بخمسة، ومسلم بحديث واحد.
وروى عنه: أولاده عُبيد الله وعبد الرحمن ومُسلم وعبد العزيز، والحسن البصريّ، وأبو عثمان النّهْديّ، ورِبعيّ ابن خِراش والأحْنف بن قيس وابن سيرين وأشْعثُ بن تَرْمُلة وغيرهم.
مات بالبصرة في ولاية زياد سنة خمسين. يقال مات هو والحسن بن علي في سنة واحدة. وقيل مات بعد الحسن سنة إحدى وخمسين، وصلى عليه أبو بَرْزة الأسْلميّ، وكان أوصى بذلك.
وقال أبو نُعيم: أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما. وليس في الستة ولا في الصحابة أبو بَكرة سواه. وفي الستة نُفَيع سواه ثلاثة.
نُفَيع بن الحارث أبو داود الأعمى الهَمْداني الدّارميّ، روى عن عِمران بن حُصين.
ونُفَيْع بن رافع الصائغ أبو رافع المَدَنيّ نزيل البصرة، مولى ابنة عمر، وقيل مولى ابنة العجْماء، أدرك الجاهلية، روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم.
ونُفيع مُكاتب أمِّ سَلَمَة، روى عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت.
لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ورُوَاته كلهم