الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والأربعون
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِىَ الْقَلْبُ".
قد ادّعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح فمُسَلَّم، وإلا فقد رواه الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر وعمار، وفي "الكبير" له عن ابن عباس، وفي "الترغيب" للأصبهاني من حديث واثلة، وفي أسانيدها مقال.
وادعى أيضًا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي، وليس كما قال، فقد رواه عن النعمان أيضًا خَيْثَمة بن عبد الرحمن عند أحمد، وغيره، وعبد الملك بن عُمير عند أبي عَوانة وغيره، وسِماك بن حَرْب عند الطّبراني، لكنه مشهور عن الشعبي، رواه عنه جم غفير من الكوفيين، وعبد الله بن عَوْن من البصريين.
قوله: "الحلال بينٌ، والحرام بينٌ" أي: في عينهما ووصفهما، يعني: أنهما ظاهران بالنظر إلى ما دل عليهما بلا شبهة.
وقوله: "وبينهما مُشَبَّهات" أي: أمور مشبهات -بتشديد الموحدة
المفتوحة- أي: شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين، وفي رواية الأصيلي:"مشتَبِهات" -بتاء مفتوحة وموحدة مكسورة- أي: اكتسبت الشبهة من وجهين متعارضين، وفي رواية الدارِميّ:"متشابهات" وفي رواية الطَّبرَيّ: "متَشَبِّهات" -بفتح المثناه الفوقية والشين المعجمة وتشديد الموحدة المكسورة- وفي رواية "مُشْبِهات" بضم الميم وسكون الشين المعجمة وكسر الموحدة الخفيفة.
قال العيني: والكل من اشتبه الأمر إذا لم يتضح، ويقال: اشتُبه إذا أشكل، ومنه {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} وقوله:"لا يَعْلَمُها كثير من النَّاسِ" أي: لا يعلم حكمها أمن الحلال هي أم من الحرام كثير من الناس، وجاء واضحًا في رواية الترمذي:"لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام"، ومفهوم قوله:"كثير" أن معرفة حكمها ممكن للقليل من الناس، وهم المجتهدون إما بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة، ولم يكن نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد وألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فالمشبهات على هذا في حق غيرهم، وقد يقع لهم، حيث لا يظهر ترجيح لأحد الدليلين.
واختلف في حكم الشُّبُهات، فقيل: التحريم، وهو مردود، وقيل: الكراهة، وقيل: الوقف، وهو كالخلاف في الأشياء قبل ورود الشرع، والأصح عدم الحكم بشيء؛ لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، وقيل: الحل والإباحة، وقيل: المنع، وقيل: الوقف. وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء:
الأول: تعارض الأدلة.
ثانيها: اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى. قلت: الفرق بينهما أن الأول تعارضت الأدلة وتكافأت. والثاني ما فيه خلاف من غير نظر إلى تكافىء الأدلة.
ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه، لأنه يَجْتَنِبُه جانبا الفعل والترك.
رابعها: المباح الذي هو من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.
قال في "الفتح": والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول، لما أخرجه المصنف في البيوع عن الشعبي في هذا الحديث:"فمن تركَ ما شبه عليه من الإثم كانَ لما استبانَ له أَترَك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أو شك أن يواقع ما استبان" ثم قال: ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما يأتي قريبًا، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه.
وقوله: "فمن اتّقى المشبّهات" أي: حذر منها، والاختلاف في لفظها بين الرواة نظير التي قبلها، لكن عند مسلم والإسماعيلي:"الشُّبُهات" بالضم، جمع شبهة.
وقوله: "أستبرأ لدينه وعرضه" استبرأ بالهمزة بوزن استفعل من البراءة، أي برَّأَ دينه من النقص، وعرضه من الطعن فيه، لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات، لم يسلم من قول من يطعن فيه. وللأصيلي:"لعرضه ودينه".
وفي الحديث دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين، ومراعاة المروءة.
قلت: المحافظة على الدين والعرض وغيرهما من تمام الكليات الست التي هي: النفس، والعمل والنسب، والمال واجبة في كل ملة
من ملل الرسل المتقدمين، وهي مترتبة في آكدية الوجوب، فآكدها حفظ الدين، ولهذا وجب قتل من ارتد عن الدين، ويليه حفظ النفس ولذا أوجب الله القصاص حفظًا لدماء المسلمين، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ويلي ذلك حفظ العقل، ولذلك أوجب الله الحد على شارب الخمر، ويلي ذلك حفظ النسب ولذلك أوجب الله الحد على الزاني، ويلي ذلك حفظ المال، ولذلك أوجب الله القطع في السرقة وفي المحاربة أو القتل أو الصلب، والعرض والمال في مرتبة واحدة، ولأجل وجوب حفظ العرض أوجب الله حد القذف على من رمى مسلمًا بالغًا عفيفًا بالزِّنى أو نفاه عن أبيه أو جده، ونظم في مراقي السعود الأمور الستة مشيرًا إلى ترتيبها بقوله:
دينٌ ونفسٌ ثم عقلٌ نَسَبُ
…
مالٌ إلى ضرورةٍ تنتسبُ
فرتِّبَنْ ولْتعطِفَنْ مساويا
…
عِرْضًا على المالِ تكُنْ مُوافِيا
فحِفظُها حتمٌ على الإنسانِ
…
في كلِّ شِرْعَةٍ منَ الأديانِ
والعِرْض -بكسر العين-: النفس وجانب الرجل الذي يصونه من نفسه وحَسَبه أن يُنتقص ويُثلب، أو سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره أَو موضع المدح والذم، أو ما يُفْتَخَر به من حسب وشرف، وقد يُراد به الآباء والأجداد والخليقة المحمودة إلى غيره.
وبفتح العين عرض الأعمال يوم القيامة، وضد الطول، ومفرد العروض.
وبالضم الجانب والناحية، يقال في عُرض هذا الحائط، أي: في جانبه وناحيته. ونظم بعضهم هذه المعاني فقال:
العَرضُ ضدُّ الطولِ والعَرضُ غدا
…
ومفردُ العَروض فتحُهُ بدا
والعِرْضُ بالكسرِ بمعنى النفسِ
…
والضم للجانبِ دونَ لَبْسِ
وقوله: "ومن وقع في الشبهات" فيه أيضًا ما تقدم من اختلاف الرواة.
وقوله: "كراع يرعى حول الحمى" وقع في جميع نسخ البخاري هكذا
محذوف جواب الشرط إن أعربت مَنْ شرطية، وقد ثبت المحذوف في رواية الدارمِيّ عن أبي نُعَيْم شيخ البخاري فيه، فقال:"ومَنْ وقع في الشُّبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى". ويمكن إعراب مَنْ في سياق البخاري موصولة، فلا يكون فيه حذف، إذ التقدير: والذي وقع في الشبهات مثل راعٍ يرعى، والأول أولى لثبوت المحذوف في "صحيح" مسلم وغيره من طريق زكريّاء التي أخرجه المؤلف منها، وعلى هذا فقوله:"كراع يرعى" جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل، للتنبيه بالشاهد على الغائب.
والحمى: المَحْمِى، أطلق المصدر على اسم المفعول. وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة كانوا يستعوون كلبًا على موضع عال، وحيث انتهى صوته يحمونه لمواشيهم، ويتوعدون من يرعى فيه بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوية المراقب لرضى الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعدُهُ أسلمُ له ولو اشتد حذره، وغير الخائف المراقب يقرب منه، ويرعى من جوانبه، فلا يأمن من أن تنفرد الفاذَّةُ فتقع فيه بغير أختياره، أو يُمْحِل المكان الذي هو فيه، ويقع الخصب في الحمى، فلا يملك نفسه أن يقع فيه.
ولما جاء الإِسلام، بطل ما كان يفعله رؤساء العرب من الحمى، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرجه البخاري في المساقاة:"لا حمى إلا لله في رسوله" وصار الحمى خاصًّا بالخلفاء، قيل: والولاة، وهو أن يحمي الخليفة موضعًا لرعي مواشي الصدقة ومواشي فقراء المسلمين، وقد حمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم النقيع -بالنون- وهو على عشرين فرسخًا من المدينة، وقدره ميل في ثمانية أميال، وحمى عمر رضي الله تعالى عنه الرَّبَذَة -بالتحريك- وهو موضع معروف بين مكة والمدينة، واستعمل عليه مولاه هنيّ، أخرجه في "الموطأ" بطوله آخر
الكتاب، وأخرجه البخاري في الجهاد كذلك بطوله، ولم أر هل حمى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أو لم يحم.
وقد ادّعى أبو عَمرو الدّاني أن التمثيل من كلام الشعبي، وأنه مدرج في الحديث، ولعل مستنده ما في رواية ابن الجارود والإسماعيلي عن ابن عَوْن أنه قال في آخر هذا الحديث: لا أدري المثل من قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو من قول الشعبي. وتردُّدُ ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجًا، لأن الأثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يقدح شك بعضهم فيه، وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرواة كأبي فَرْوة عن الشعبي لا يقدح فيمن أثبته لأنّهم حفاظ، ولعل هذا هو السر في حذف البخاري للجواب ليصير ما قبل المثل مرتبطًا به، فيسلم من دعوى الإدراج. ومما يقوي عدم الإِدراج رواية ابن حِبّان الآتية قريبًا، فإن فيها التصريح برفع الجميع، وكذا ثبوت المثل مرفوعًا في رواية ابن عباس، وعمار بن ياسر، وقوله:"يوشِكُ أن يُواقعه" بضم الياء وكسر الشين، أي: يسرع ويقرب من أن يقع فيه، ماضيه أوْشك. وعند ابن حِبّان من الزيادة:"اجعلوا بينَكُم وبين الحرام سترةً من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه".
ومن هذا المعنى انتزع القباري شيخ ابن المنير قوله: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه، وهذا منزِعٌ حسن، والمعنى: إن الحلال حيث يُخشى أن يؤول فعله مطلقًا إلى مكروه أو محرم، ينبغي اجتنابه كالإكثار مثلًا من الطيبات، فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مشاهد بالعيان، فمن تعاطى ما نُهِي عنه أظلم قلبه لفقدان الورع، وأعلى الورع ترك الحلال مخافة الحرام، كترك ابن أدْهَم أجرته لشكه في وفاء عمله، وطوى على جوع شديد، قاله القَسْطَلّاني.
وقوله: إن هذا هو أعلى الورع مخالف لما فسر به العلماء الورِع والأوْرع، فإنهم قالوا: الورع هو الذي يتقي الشبهات خوف الوقوع في المحرمات، والأورع هو الذي يتقي بعض المباحات خوف الوقوع في الشبهات، ويمكن أن يكون فعل ابن أدهم من هذا المعنى الأخير.
وقد قال البخاري في كتاب البيوع في باب تفسير الشبهات: قال حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئًا أهون من الورع، دع ما يَريبُك إلى ما لا يريبُك.
ومن الورع ما حكاه العَيْني عن أبي حنيفة وسُفيان الثوري أنهما قالا: لأنْ أخِرَّ من السماء أهونُ عليَّ من أن أُفتي بتحريمِ قليل النبيذِ، وما شربته قط، ولا أشربه. فعملا بالترجيح في الفتيا، وتورعا عنه في أنفسهما.
وقال بعض المحققين: من حكم الحكيم أن يوسع على المسلمين في الأحكام، ويضيق على نفسه، يعني به هذا المعنى.
قلت: أدركت والدي رحمه الله تعالى جاريًا على هذا السَّنن في عباداته، آخذًا على نفسه بالتضييق، لا يترخص في شيء منها، بل يعمل دائمًا بالأشق الأحْمَز، ويفتي الناس دائمًا بما فيه لهم رخصة، مخافة أن يتكاسلوا عن العمل بالأشق، فيتركوا العمل رأسًا.
ثم قال: ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى إمكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح، وهذا الالتفات ينشأ من القول بان المُصيب واحد، وهو مشهور مذهب مالك، ومنه ثار القول في مذهبه بمراعاة الخلاف، وكذلك كان الشافعي رحمه الله تعالى أيضًا يراعي الخلاف، حيث لا تفوت به سنة في مذهبهم.
قلت: هذا القيد شرط في مراعاته عندنا معاشر المالكية، ويشترط عندنا أن لا تؤدي مراعاته إلى ارتكاب مكروه.
ومن الورع ما في القَسْطَلّاني من أن أخت بشر الحافي قالت لأحمد ابن حنبل: إنا نغزِل على سطوحنا، فيمر بنا مشاعل الظاهرية، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها. قال: من أنت عافاك الله؟ قالت: أخت بشر الحافي، فبكى، وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزِلي في شعاعها.
قال: ومكث مالك بن دينار بالبصرة أربعين سنة لم يأكل من ثمارها حتى مات.
قال: وأقامت السيدة بديعة الإيجيّة من أهل عصرنا بمكة أكثر من ثلاثين سنة، لم تأكل من اللحوم والثمار وغيرها المجلوبة من بجيْلة، لما قيل: إنهم لا يورِّثون البنات، وامتنع أبوها نور الدين من تناول ثمر المدينة لما ذُكر أنهم لا يزكون.
قلت: لعل امتناع مالك بن دينار السابق من أكل تمر البصرة من أجل هذا المعنى، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: "ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمىً" ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف تنبيه تدل على تحقق ما بعدها، وتدخل على الجملتين، نحو:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} ، {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} وإفادتها التحقيق من أجل تركيبها من الهمزة ولا، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، نحو:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} . قال الزّمخشريّ: ولكونها بهذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، نحو:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} .
والواو في "وإن لكل" عطف علي مقدر، أي: ألا إن الأمر كما تقدم، وإن لكل ملك حمى. قوله:"ألا إنَّ حِمَى اللهِ محارمُه" وفي رواية أبي ذر: "وإنَّ" بالواو، وفي رواية غير المستملي زيادة:"في أرضه" والمراد بالمحارم فعل المنهي المحرم، أو ترك المأمور به الواجب، ولذا وقع في رواية أبي فَرْوة التعبير بالمعاصي بدل المحارم، وهذا من باب التمثيل
والتشبيه للشاهد بالغائب، فشبه المكلف بالراعي، والنفس البهيمية بالأنعام، والمشبهات بما حول الحمى، والمحارم بالحمى، وتناول المشبهات بالرتع حول الحمى، ووجه التشبيه حصول العقاب بعدم الاحتراز عن ذلك، كما أن الراعي إذا جره رعيه حول الحمى إلى وقوعه في الحمى استحق العقاب بسبب ذلك، فكذلك من أكثر من الشبهات، وتعرض لمقدماتها وقع في الحرام، فاستحق العقاب بسبب ذلك.
ووجه ذكر الواو وتركها هنا، وذكرها في قوله الآتي "ألا وإن في الجسد" هو أن وجه حذفها هنا كمال الانقطاع بين حمى الملوك وحمى الله تعالى، لبعد المناسبة بينهما، وأما وجه ذكرها فبالنظر إلى وجود التناسب بين الجملتين، من حيث ذكر الحمى فيهما، فكان بينهما كمال الاتحاد، وأما وجه ذكرها في الأخير فبالنظر إلى وجود المناسبة بين الجملتين، نظرًا إلى أن الأصل في الاتقاء والوقوع هو ما كان بالقلب، لأنه عماد الأمر وملاكه، وبه قوامه ونظامه، وعليه تنبني فروعه، وبه تتم أصوله.
وقوله: "ألا وإنَّ في الجسد مضغة،
…
إلخ" هذه الزيادة لم تذكر إلا في رواية الشعبي، ولا هي في أكثر الروايات عنه، بل تفرد بها زكرياء المذكور عنه في "الصحيحين"، وتابعه مجاهد عند أحمد، ومغيرة وغيره عند الطبراني، وعبر في بعض رواياته عن الصلاح والفساد بالصحة والسقم.
وقوله: "مضغة" أي: قدر ما يُمْضَغُ، وعبر بها عن مقدار القلب في الرؤية، وسُمي القلبُ قلبًا لتقلبه في الأمور، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرًا ما يقول:"لا ومُقَلِّب القلوب"، وكان يقول في دعائه:"يا مقلبَ القلوب ثبتْ قلبي على دينك". وقال القائل:
ما سُمّيَ القلبُ إلّا من تقلُّبِهِ
…
فاحذَرْ على القلبِ من قلبٍ وتحويلٍ
وقيل: لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه. ويقال: إنه أول
نقطة تكون من النطفة. وقيل: سمي بذلك لأنه وضع في الجسد مقلوبًا.
وقوله: "إذا صلَحت وإذا فسدَت" بفتح عينهما، وتضم في المضارعٍ، وبضم عين صلح في الماضي أيضًا، والتعبير بإذا لتحقق الوقوع غالبًا، وقد تأتي بمعنى إن كما هنا، وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، ويصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، ولذا ورد في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلًا يكثر الحركة في صلاته، فقال:"لو خَشَعَ قلب هذا لخشعت جوارحه" ومنه تظهر القُوى، وتنبعث الأرواح، وينشأ الإدراك، ويبتدىء التعقل.
واستدل به على أن العقل في القلب، وهو قول الجمهور، ويدل عليه قوله تعالى:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} قال المفسرون: أي: عقل، وعُبِّر عنه بالقلب لأنه محل استقراره. وقال أبو حنيفة: في الدماغ، ووافقته الأطباء محتجين بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل، ورد هذا بان الدماغ آلة عندهم، وفساد الألة يقتضي فساده.
وفي الحديث تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرًا فيه، والمراد المعنى المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه، وقد عظم العلماء موقع هذا الحديث وعدوه من الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإِسلام المنظومة في قول القائل:
عُمدةُ الدين عندَنا كلماتٌ
…
مسنداتٌ مِن قولِ خير البريّهْ
اتَّقِ المُشْبهاَتِ وازْهَدْ ودَعْ ما
…
ليسَ يعنيكَ واعمَلَّنْ بنيّه
وقد تكلمنا على هذا في أول الكلام على حديث: "إنما الأعمال بالنيات" وذكرنا هناك أن أبا داود أبدل حديث الزهد بحديث: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه".
وقال في "الفتح" هنا: إنه أبدله بحديث: "ما نهيتكم عنه